شرح دعاء كميل

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

شرح دعاء كميل

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ولهذا قال معلم هذا الدعاء عليه‌السلام : ( معرفتي بالنورانية معرفة الله عزّ وجلّ ) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من رآني فقد رأىٰ الحقّ ) (٢).

ففي الحقيقة هو تعالىٰ كان سائلاً ومسؤولاً وذاكراً ومذكوراً ، كما قال الشاعر :

لقد كانت دهراً قبل أن يكشف الغطاء

أخالُك أنّي ذاكر لك شاكرُ

فلمّا أضاء الليل أصبحتُ عارفاً

بأنّك مذكور وذكرٌ وذاكرُ (٣)

فإذا كشف عنك غطاؤك ، وحدّد بصرك تُصدّق بقوله تعالىٰ : ( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّـهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) (٤) تصديقاً شهودياً.

( أسْألُكَ )

السؤال يستعمل في الداني بالنسبة إلىٰ العالي ، بخلاف الالتماس فإنّه يستعمل في المساوي ، وأمّا في العرف فاشتهر بعكس ذلك.

( بِرَحْمَتِكَ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ )

المراد بالرحمة هنا : الوجود المطلق الذي هو قسم من مطلق الوجود والمشيئة الفعلية كما ورد : ( إنّ الله خلق الأشياء [ بالمشيئة ] ، والمشيئة بنفسها ) (٥). والوجود المنبسط والفيض المنبسط الذي فاض علىٰ كلّ الماهيات والأعيان الثابتات المرحومة بها ، والفيض المقدس ؛ لأنه بذاته عارٍ عن أحكام الماهيات ، كما أنّ ظهور ذاته تعالىٰ بالأسماء والصفات في المرتبة الواحدية يسمّىٰ بالفيض الأقدس ، لا ما

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٢٦ ، ص ١ ، ح ١.

(٢) « صحيح البخاري » ج ٦ ، كتاب التعبير ، ص ٢٥٦٨ ، ح ٦٥٩٥.

(٣) نُسب هذان البيتان للقيصري ، كما في « المجلي » ص ٢٩٤ ، الهامش.

(٤) « النجم » الآية : ٢٣.

(٥) « الكافي » ج ١ ، ص ١١٠ ، ح ٤ وفيه : ( خلق الله المشيئة بنفسها ، ثمّ خلف الأشياء بالمشيئة ).

٢١
 &

هو عبارة عن رقّة القلب ؛ لأنَّ استعمالها خاصّ بالممكن ، يقال : فلان رحيم ، أي رقيق قلبه ، يعني : إذا رأىٰ فقيراً مثلاً ـ وهو ذو النعمة والسعة ـ يترحم عليه بالإعطاء.

ومن ألقاب ذلك الوجود المطلق الذي عبّرنا به عن الرحمة : النفس الرحماني ، والإبداع ، والإرادة الفعلية ، والحقيقة المحمدية.

بيان مراتب الوجود

وتحقيق ذلك : أنّ للوجود مراتب مختلفة بالشدّة والضعف : الوجود الحقّ ، والوجود المطلق ، والوجود المقيّد.

فالأول : هو الوجود المجرّد عن جميع الأوصاف والألقاب والنعوت.

والثاني : هو صنع الله وفيضه القدس ، ومشيئته الفعلية ، ورحمته الواسعة ، وإبداعه وإرادته الفعلية ، والنفس الرحمانية ، وعرش الرحمن ، الماء الذي به حياة كلّ شيء ، وكلمة ( كن ) التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : ( إنّما يقول لما أراد كونه : كن فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ) (١). وفعل الله ، وبرزح البرازخ ، وغير ذلك من الأوصاف والألقاب.

والثالث : أي الوجود المقيّد : وهو أثره تعالىٰ ، كوجود العقول والنفوس ، والملك والفلك والإنسان والحيوان ، وغير ذلك.

أقسام الرحمة

فإذا عرفت هذا ، فاعلم أنَّ الرحمة رحمانية ورحيمية ، وهي مختصة بأهل التوحيد ، وهم العالمون بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر. وبالجملة ، الذين هداهم الله إلىٰ صراط مستقيم ، وعرّفهم توحيده وأنبياءه وأولياءه وما جاء به النبيون.

والرحمة الرحمانية لا تختص بشيء دون شيء ، بل هي وسعت كلّ شيء ،

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٤ ، ص ٢٥٥.

٢٢
 &

ومرحومة بها جميع الماهيات ، من الدرّة البيضاء إلىٰ الذرّة الهباء ، حتّى أنّ الكافر والكلب والخنزير وإبليس ، وكلّ ما تراه في غاية القذارة والحقارة والملعنة أيضاً مرحومة بها ؛ إذ تلك الرحمة أمر الله الذي يأتمر به كلّ موجود ، وكلام الله الذي لا خالق ولا مخلوق ، وفعل الله الذي اشتمل علىٰ كلّ المفاعيل ، وخطاب الله المتخاطب به جميع الأعيان الثابتة ، وصنع الله الذي كلٌّ مصنوع بذلك الصنع.

فمن كان له عقل صريح وقريحة مستقيمة بعلم أنَّ الصانع هو الله ، والصنع ذلك الوجود ، والمصنوع الموجودات ، وكذلك الآمر والأمر والمؤتمر ، والخالق والخلق المخلوق ، والمتكلم والكلام والمخاطب ، والرحمن والرحمة والمرحوم ، وهكذا ، وفي الحديث القدسي قال : ( رحمتي تغلب علىٰ غضبي ) (١) ، يعني : تعلّق إرادته تعالىٰ بإيصال الرحمة أكثر من تعلّقها بإيصال العقوبة ، فإنَّ الرحمة من مقتضيات صفة الرحمانية والرحيمية ، والغضب ليس كذلك ، بل هو باعتبار المعصية.

وفي الحديث : ( إنّ الله تعالىٰ مائة رحمة ) (٢).

أقول : كأنّه عليه‌السلام أراد الكثرة لا تحديد إذ علمت أنَّ رحمته تعالىٰ صفته ، وصفات الله كلّها غير متناهية ، فإنّه حُقّق في موضعه أنَّ صفاته الحقيقية عين ذاته تعالیٰ ، وذاته غير متناهية عدّة ومدّة وشدّة ، فكذلك صفاته غير متناهية.

ثم إنَّ الشيء في قوله : ( كُلَّ شَيء ) بمعنىٰ : مشيء وجوده وهو الماهية ؛ إذ هي مشيء وجودها.

والباء في قول السائل : ( برحمتك ... ) إلىٰ آخره ، للاستعانة ، ويجوز أن تكون للسببية ، وفيه إشارة إلىٰ أنه مرحوم بكلتا الرحمتين.

أمّا بالرحمة الرحمانية ، فوجوده ومشاعره وأعضاؤه وجوارحه جميعاً شاهدة علىٰ مرحوميته ومرزوقيته من الله تعالىٰ ، إذ ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حين

_____________________________

(١) « الجواهر السنية » ص ١٢٠ ، وفيه : ( رحمتي سبقت غضبي ).

(٢) « بحار الأنوار » ج ٦ ، ص ٢١٩.

٢٣
 &

سُئل عن الرحمن ، قال : ( الرحمن هو الذي يرحم ببسطه الرزق علينا ، والرحيم هو العاطف علينا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا ، وخفف علينا الدين فجعله سهلاً خفيفاً ، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه ) (١).

بيان أرزاق الموجودات

اعلم أنّ جميع الموجودات مرزوقة من الله تعالىٰ ، كلّ علىٰ حسب ما تقتضيه العناية الإلٰهية ، فرزق العقول الكلّية هو مشاهدة جمال الله تعالىٰ وجلاله ، والالتذاذ بالاستغراق في تجلّياته وإشراقاته.

ورزق النفوس : اكتساب الكمالات ، واقتناء العلوم والصناعات.

ورزق الأملاك : التسبيح والتهليل والتقديس ، إذ رزق كلّ شيء ما به يتقوّم ذلك الشيء.

ورزق الأفلاك : هو حركاتها الدورية ، وتشبّهاتها بالملأ الأعلىٰ الوضعية (٢).

ورزق البدن : ما به نشوؤه وكماله ، علىٰ نسبته اللائقة به.

ورزق الحواس : إدراك المحسوسات ، فرزق الباصرة : المبصرات ، والسامعة : المسموعات ، والذائقة : المذوقات ، والشامّة : المشمومات ، واللامسة : الملموسات.

ورزق البنطاسيا : إدراك جميع المحسوسات الظاهرة والباطنة ، غيرما يدرك بالوهم.

ورزق الخيال : ما يأتيه من الحسّ المشترك ويحفظه.

ورزق المتخيلة : درك الصور الجزئية المجرّدة عن المادّة.

ورزق الواهمة : إدراك المعاني الجزئية.

ورزق العاقلة : إدراك المعاني الكلّية.

_____________________________

(١) « التفسير المسوب إلىٰ الإمام العسكري عليه‌السلام » ص ٢٨ ، باختلاف.

(٢) كذا في المخطوط.

٢٤
 &

حتّىٰ أن رزق الماهيات : الوجودات الخاصة.

وأمّا إنّ السائل مرحوم برحمته الرحيمية ، فأيمانه وأسئلته دالّة عليها دلالة واضحة.

( وبِقُوَّتِكَ الَتي قَهَرْتَ بِهَا كُلَّ شَيء )

بيان القوىٰ العشر الظاهرة والباطنة

المراد بالقوّة : القدرة ، لا استعداد الشيء ، كالتي هي قسط الهيولىٰ من مطلق الكمال ، كما عرفت بأنّها جوهر بالقوّة المحضة ، جنسها مضمّن في فصلها ، وفصلها مضمّن في جنسها. ولا من سنخ القوىٰ العشر التي أودعها الله تعالىٰ في الإنسان ، سبعة منها مدركة للجزئيات ، وهي : الواهمة المدركة للمعاني ، والحس المشترك ، والباصرة ، والسامعة ، والذائقة ، والشامّة ، واللامسة. واثنتان منها هما المحرّكة : محرّكة العاملة ومحرّكة الشوقية. وعاشرها : العقل ، أي العاقلة ، وهي المدركة للكلّيات ، وهي منشعبة إلىٰ أربع قوى :

بيان انشعاب العقل إلىٰ أربع قوى

أحدها : هي القوّة الغريزية التي يستعدّ بها الإنسان لإدراك العلوم النظرية ، ويفارق بها البهائم ، فكما أنَّ الحياة تهيئ الجسم للحركات الإرادية والإدراكات الحسيّة ، فكذا القوة الغريزية تهيئ الإنسان للعلوم النظرية والصناعات الفكرية.

الثانية : قوّة يحصل بها العلم بأنّ الاثنين مثلاً أكثر من الواحد ، والشخص الواحد لا يكون في زمانين ومكانين.

والثالثة : قوّة تحصل بها العلوم المستفادة من التجارب بمجاري الأحوال.

والرابعة : قوّة بها يعرف الإنسان عواقب الأمور ، فيقمع الشهوة الداعية إلىٰ اللذّة العاجلة ، ويتحمل المكروه العاجل لسلامة الآجل.

٢٥
 &

فإذا حصلت تلك القوىٰ سُمّيّ صاحبها : عاقلاً ، فالأُولىٰ والثانية حاصلة بالطبع ، والثالثة والرابعة حاصلة بالاكتساب.

وإلىٰ ذلك أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله :

( رأيت العقل عقلين

فمطبوع ومسموعُ

ولم ينفعك مسموع

إذا لم يك مطبوعُ

كما لا تنقع الشمس

وضوء العين ممنوعُ ) (١).

وإنّما لا يجوز إطلاق القوة بهٰذه المعاني علىٰ الله تعالىٰ ؛ إذ جميع ذلك استعدادات وإمكانات وانفعالات وإن نعدّها وجودات ، فكانت من جملة قدرته الفعلية التي سنفصل لك ونبيّن أن جميعها جهات قادريته تعالىٰ.

بل القدرة ـ كالعلم ـ ذات مراتب ، ومرتبة منها هي الواجبة بذاتها ، وهي قدرته الذاتية ، ومرتبة منها عين الوجود المنبسط ، وهي قدرته الفعلية.

وجميع الأشياء مقدورات لله تعالىٰ بهذه القدرة الفعلية ، وانقهارها استهلاكها واضمحلالها تحتها ؛ لأنّها بذواتها ليست أشياء علىٰ حيالها ، ولهذا ورد عن الشرع الأنور : ( لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ).

وقوله : ( وبقوّتك التي قهرت بها كلّ شيء ) أي بقوتك الفعلية التي هي تحت قدرتك الذاتية التي قهرت بها جميع المقدورات. والباء في قوله : ( بها ) سببية ، أو بمعنىٰ : مع.

( وَخَضَعَ لها كُلُّ شَيءٍ ، وذَلَّ لَها كُلُّ شَيء )

الضمائر الثلاثة راجعة إلىٰ القوة. والخضوع ـ كالخشوع ـ : التواضع خوفاً ورجاءً ، وقد يُفرّق بينهما بأنَّ الخضوع يستعمل في البدن ، والخشوع في الصوت (٢).

_____________________________

(١) « ديوان الإمام علي عليه‌السلام » ص ٦١.

(٢) انظر « الفروق اللغوية » ص ٢١٦ ، الرقم : ٨٤٤.

٢٦
 &

مثل قوله تعالىٰ : ( وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ ) (١).

وقد لا يفرق بأنَّ الخضوع ـ أيضاً ـ استعمل في القول والصوت ، كقوله تعالىٰ : ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) (٢).

فقوله : ( وخضع لها كلّ شيء ، وذلّ لها كلّ شيء ) مثل قوله تعالىٰ : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (٣) أي ذلّت وخضعت الوجودات له تعالىٰ ؛ لأنّه مالك رقابها ، وآخذ بناصيتها ، وقيّومها ومقوّمها ، وبفيضه تعالىٰ قوام الأشياء ، وبسببه حياتها.

گر فيض تو يک لمحه بعالم نرس

معلوم ثمود بود ونبود همه کس

( وذلّ ) من الذُل ـ بالضم ـ ضدّ العز ، أي هان لها كلّ شيء. ويحتمل أن يكون من الذِّل ـ بالكسر ـ ضدّ الصعوبة ، أي انقاد لها كلّ شيء.

( وَبِجَبَروتِكَ التي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيء )

وجه تسمية عالم العقول بالجبروت

جبروت : فَعَلُوت ، من الجبر ، وهو تعالىٰ جبار ؛ لأنّه يجبر نقائص الممكنات بإفاضة الخيرات عليها ، ويكسو العناصر صور المركبات ، فيخبر نقصانها. وخصّ استعمالها بعالم العقول ، طولية كانت أو عرضية ، صعودية كانت أو نزولية.

وجه تسمية عالم الأسماء والصفات باللاهوت

كما أنّه خصّ استعمال « اللاهوت » بعالم الأسماء والصفات ، أي عالم الواحدية ، وهو المسمّىٰ في لسان الشرع الأنور بـ ( الأُفق الأعلىٰ ) و ( الأفق المبين ) ، وهو مقام : ( قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ) (٤). وهو منتهىٰ سير السالكين العارفين ، وكان مقام نبيّنا

_____________________________

(١) « طه » الآية : ١٠٨.

(٢) « الأحزاب » الآية : ٣٢.

(٣) « طه » الآية : ١١١.

(٤) « النجم » الآية : ٩.

٢٧
 &

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلىٰ ذلك المقام أشار جبرائيل بقوله : ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) (١) ، كما قيل :

أحمد ار بُگشايد آن پرُ جليل

تا أبد مدهوش ماند جبرئيل

وجه تسمية عالم المثال بالملكوت

وخصّ استعمال « الملكوت » بعالم الباطن من عالم المثال الأعلىٰ والأسفل ، أي عالم النفوس مطلقاً وعالم الصور الصرفة ، وباصطلاح حكماء الإشراق (٢) : عالم المُثل المعلقة.

وجه تسمية عالم الأجسام بالناسوت

وخصّ استعمال « الناسوت » بعالم الطبائع ، أي عالم الجسم والجسماني ، وبعبارة اُخرىٰ : عالم الزمان والزمانيات.

كما أنّ « الملكوت » يطلق علىٰ عالم الدهور أيضاً ، كما قال تعالىٰ : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٣).

فليعلم أنَّ أول ما صدر من الحقّ الحقيقي هو العقل الأول ، والممكن الأشرف الأجلّ ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أول ما خلق الله تعالىٰ العقل ) (٤) ، وبرواية اُخرىٰ : ( أول ما خلق الله نوري ) (٥) ، و ( روحي ) (٦). وهو المسمّىٰ في الكتاب الإلٰهي والفرقان السماوي بـ ( أُمُّ الْكِتَابِ ) ، كقوله تعالىٰ : ( وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٧) ، وبالقلم كقوله : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) (٨).

فهو لاشتماله علىٰ جميع الحقائق ، لكونه بسيط الحقيقة ، جامعاً لكمالات ما

_____________________________

(١) انظر : « بحار الأنوار » ج ١٨ ، ح ٣٨٢.

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنفات شيخ الإشراق » ج ١ ، ص ٢٣٠.

(٣) « الأنعام » الآية : ٧٥.

(٤) « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ٩٧ ، ج ٥٤ ، ص ٣٠٩.

(٥) « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ٩٧ ، ج ٥٤ ، ص ١٧٠.

(٦) « بحار الأنوار » ج ٥٤ ، ص ٣٠٩.

(٧) « الرعد » الآية : ٣٩.

(٨) « القلم » الآية : ١.

٢٨
 &

دونه بنحو اللّف والجمع ، سُمّي بـ ( اُمّ الكتاب ) ؛ إذ الاُمّ بمعنىٰ الأصل ، فهو أصل جميع الكتب ومنبعها ، وكتابيته باعتبار ماهيته.

كما أنَّ عالم العقول بهذا الاعتبار سُمّي بـ « الأرض البيضاء » ، كقوله عليه‌السلام : ( إن لله أرضاً بيضاء مشحونة خلقاً ، يعبدون الله ويسبّحونه ويهللونه ، ولا يعلمون أنّ الله خلق آدم ولا إبليس ) (١) ؛ وذلك لأنّ الوجود المنبسط والرحمة الواسعة تختلف أسماؤه باعتبارات شتىٰ [ في ] نفس الأمرية ، فإنّه مضافاً إلىٰ الله تعالىٰ إيجاده وصنعه كما مرَّ ، ومضافاً إلىٰ الماهية وجودها ، ومن حيث إنّه كالقلم بين أصابع الرحمن يكتب علىٰ صفحات القوابل : « قلم » ومن حيث المثبت في الألواح العالية من اللوح المحفوظ ولوح القدر « كتابه » كما قيل :

بزد آنكه جانش در تجلّى است

همه عالم كتاب حق تعالىٰ است

عرض اعراب وجوهر چون حروف است

مراتب همچو آيات وقوف است

از او هر علمی چون سوره‌ای خاص

يکی زان فاتحه وآن ديگر اخلاص

ومن حيث كونه علّة مؤدّية لوجود المقضي : « قضاء » ، ومن حيث إنه يعيّن شكل المقضي ويقدّر مقداره : قدر.

وبالجملة ، من حيث إنّه كلمة « كن » الوجودية : ( كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (٢).

ثم صدر بتوسّطه العقل الثاني ، ثم الثالث ، إلىٰ العاشر ، وهو المسمّىٰ عند الحكماء بـ « العقل الفعّال » ، وعند العرفاء (٣) بـ « روح القدس » ، وفي لسان الشرع الأطهر بـ ( جبرائيل ).

_____________________________

(١) « عوالي اللآلي » ج ٤ ، ص ١٠٠ ، ح ١٤٤ ، « مختصر بصائر الدرجات » ص ١٢ ، باختلاف.

(٢) « إبراهيم » الآية : ٢٤.

(٣) « الإنسان الكامل » ج ٢ ، ص ٨.

٢٩
 &

وهذا الترتب العلّي بين العقول العشرة علىٰ طريقة حكماء المشّائين (١) ، وأمّا علىٰ مذهب الإشراقيين (٢) لا ترتّب بينها ، بل هي عندهم متكافئة ، ولا نهاية لها.

والعرفاء يسمون العقول : أرباب الأنواع ، فالجبروت اسم لذلك العالم جملة.

فقد عُلم ـ بما ذُكر ـ أنَّ وجود العقول غالب ومقدّم علىٰ كلّ شيء ، لأنّه أصل في التحقق والجعل ، فهو غالب علىٰ جميع الماهيات ، وقاهر عليها بالحقّ بعد الحقّ ، فهو تعالىٰ إذا كان بجبروته ـ التي هي عالم من عوالمه ـ قاهراً علىٰ الأشياء ، فمقهورية الكلّ تحت نور ذاته الظاهرة لا خفاء بها ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (٣).

( وَبِعِزَّتِكَ التي لا يقَومُ لَها شَيءٌ )

العزّة : المغالبة والممانعة ، أو بمعنىٰ القوّة ، وجاءت لندرة الوجود.

وفي القاموس : « عزّ يعزُّ عِزّاً وعزّةً وعزازة ـ بكسرها في الثلاثة ـ : صار عزيزاً ، كمعزّز ، وقوي بعد ذلّة ، وأعزّه وعززه ، والشيءُ : قلّ فلا يكاد يوجد » (٤).

فإن اُخذت بمعنىٰ ندرة الوجود فباعتبار رؤيته تعالىٰ في صورة مظاهره الأكملين النادريّ الوجود الأقلّين ، كما قال عليه‌السلام : ( هؤلاء الأقلون ) (٥).

وقيل :

خليلي قطّاع الفيافي إلىٰ الحمىٰ

كثيرٌ وأما الواصلون قليلُ (٦)

_____________________________

(١) انظر « كتاب المشارع والمطارحات » ضمن « مجموعة مصنفات شيخ الإشراق » ، ج ٢ ، ص ٤٥٠.

(٢) انظر « حكم الإشراق » ضمن « مجموعة مصنفات شيخ الإشراق » ج ١ ، ص ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٣) « الأنعام » الآية : ١٨.

(٤) القاموس المحيط.

(٥) مضمون حديث ورد بألفاظ مختلفة. انظر « بحار الأنوار » ج ٦٥ ، ص ٢٦٥ ، ٢٧٥ ، ج ٩٢ ، ص ٤٥٧.

(٦) نُسب هذا البيت إلىٰ عبد القادر الجيلي. انظر « الصوارم المهرقة » ص ٢٦٩.

٣٠
 &

وإن اُخذت بمعنىٰ القوة بعد الذلّة فمن باب التجريد ، إذ لا أوّليه لعزّته تعالىٰ ، ولا تكون له ذلّة حتّىٰ انصرف منها وصار عزيزاً ووجدت له عزّة بعد ذلّة ، بل هو العزيز المقتدر أزلاً أبداً ، لا يعتريه فترة ، تعالىٰ عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولكنّ الحقّ ، أنّ عزّته تعالىٰ كسائر صفاته الحقيقية عين ذاته ، وكيف كان لها مقاوم ومقابل ، والحال أنّه لا ثاني له تعالىٰ : ( شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١).

( وَبِعَظَمِتَكَ التي مَلأتْ كُلَّ شَيء )

أفعال الله الحسية وفيه ذكر بيان معاني العرش

العظمة : الكبرياء ، والتعظيم : التبجيل والتوقير ، وعظمة الفاعل تظهر بعظمة فعله ، ومن جملة أفعاله « الفلك الأقصىٰ » الذي هو عرش الله تعالىٰ ، إذ للعرش إطلاقات أربع :

قد يطلق العرش ويراد به علمه المحيط.

وقد يطلق ويراد به الفيض المقدّس.

وقد يطلق ويراد به عالم العقل.

وقد يطلق ويراد به الفلك الأطلس.

ولمّا كان هو من حيث الكمية والكيفية أعظم الأجسام ، وصفه تعالىٰ بالعظمة في كلامه المجيد ، وقال : ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (٢). وخصّه بالذكر ؛ إذ جميع الأجسام مشمولة ، وهو محيط بجميعها.

ومن جملة الأجسام : الفلك الثامن الذي يسمّىٰ بـ « الكرسي » ، ويشتمل علىٰ كرات وأجرام منيرة وكواكب مضيئة.

_____________________________

(١) « آل عمران » الآية : ١٨.

(٢) « النمل » الآية : ٢٦.

٣١
 &

بيان مقدار عظم الكواكب الثابتة والسّيارة

وقد حُدّد في علم الهيئة أنَّ أعظم الثوابت المرصودة مقدار جرمه مائتان واثنان وعشرون مثل مقدار جرم الأرض ، وأصغرها مقدار جرمه ثلاثة وعشرون مثل مقدار جرم الأرض. وأنّ مقدار جرم زحل من الكواكب السيارة اثنان وثمانون مثل جرم الأرض ، ومقدار جرم المشتري مائة وثمانون مثل مقدار جرم الأرض ، وأنّ مقدر المريخ ثلاثة أمثال مقدار الأرض ، ومقدار جرم الشمس ثلاثمائة وستة وعشرون مثل مقدار الأرض.

وهكذا سائر الثوابت والسيارات التي قد حدّدت مقاديرها ، ولا يعلم عددها إلّا هو ، وكذا طبقات الأرض ، من الطينية والصرفة ، والطبقة التي صارت مسكن المواليد الثلاثة.

بيان أفعال الله المعنوية

وسائر المركّبات كلّها فعلٌ ؛ إمّا من أفاعيله ـ سبحانه ـ الحسّية ، وإمّا أفعاله المعنوية من العقول والنفوس ، والصور البرزخية التي لا يعلم حسابها إلّا الله تعالىٰ. بل من جملة أفعاله الحسية والمعنوية معاً خلقة الإنسان الذي هو جالس بين الحدّين ، وجامع للحسنيين ، وواسطة بين الإقليمين ، الذي فؤاده بيت يتراءىٰ فيه جميع أفعاله تعالىٰ ، من السماء والسماوي ، والأرض والأرضي ، بل كلّ إنسان مع ما في قلبه في قلب الأناسي الاُخر.

وبالجملة ، فبهذه يظهر عظمة الله تعالىٰ ، والوجود المنبسط الذي قد مرّ أنّه صنع الله وفعله ، طبق وملأ تجاويف الأشياء ، وهو كخيط ينظم شتاتها ، وجامع متفرّقاتها ، بحيث لا يعزب عن حيطته شيء. وقد مرّ أنه في العقل عقل ، وفي النفس نفس ، وفي الجوهر جوهر ، وفي العرض عرض ، وبذاته لا شيء منها.

٣٢
 &

ليس الوجود جوهراً ولا عرض

عند اعتبار ذاته بل بالعرض (١)

( وَبِسُلْطَانِكَ الذي عَلا كُلَّ شَيء )

السلطان : الحجّة والبرهان. وقوله تعالىٰ : ( وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ) (٢) يجوز أن يكون بمعنىٰ الغلبة والتسليط ، ويحتمل أن يكون بمعنىٰ الحجّة ، أي يجعل لكم حجّة وبرهاناً. والسلطنة : القوة والغلبة.

علا يعلو : ارتفع وتفوّق ، وفاق.

وفي القاموس : « السلطان : الحجّة ، وقدرة الملك ـ ويضم لامه ـ والوالي » (٣).

وهاهنا بجميع معانيه صادق عليه تعالىٰ ؛ لأنّ حجّته وبرهانه وسلطنته وغلبته وكذا قدرته وتوليته علت وفاقت علىٰ جميع الأشياء.

ثم إنّ من حججه وبراهينه خلفاءه تعالىٰ في أرضه ، وأمناءه في بلاده الذين افتتحت منهم الباديات ، واختتمت بهم العائدات ، كما ورد : ( بكم فتح الله وبكم يختم ) (٤). فإنّه لمّا كان مقامهم بحسب الروحانية مقام العقول الكلّية ـ وهي وسائط جوده تعالىٰ بحسب النزول ، وروابط الحوادث بالقديم بحسب الصعود ـ كان افتتاح الفيض منهم واختتامه بهم.

فهم عليهم‌السلام ـ بشراشر وجودهم ـ حجج الله تعالىٰ علىٰ عباده ، التي لا تعلوها حجّة سوىٰ ذاته تعالىٰ ؛ إذ عقولهم الصحيحة الكافية المستكفية حجج علىٰ العقول ، ونفوسهم المطمئنة المعلّمة حجج علىٰ النفوس ، وأقوالهم الشافية الوافية حجج للمحبين ، وأفعالهم الخالصة الصافية حجج للعالمين المستكملين المسترشدين.

ومن حججه وبراهينه النفوس المتعلّمة بالأسماء بالقوّة ، كما ورد عن أمير

_____________________________

(١) « شرح المنظومة » للسبزواري ج ٢ ، ص ١٧٢.

(٢) « القصص » الآية : ٣٥.

(٣) « القاموس المحيط » ج ٢ ، ص ٥٣٩ ، مادة « السلط ».

(٤) « بحار الأنوار » ج ٩٨ ، ص ١٥٣ ، ٢١٢.

٣٣
 &

المؤمنين عليه‌السلام : ( الصورة الإنسانيّة هي أكبر حجج الله علىٰ خلقه ، وهي الكتاب الذي كتبه بيده ، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالمين ، وهي المختصر من اللوح المحفوظ ، وهي الشاهدة علىٰ كلّ غائب ، وهي الحجة علىٰ كلّ جاحد ، وهي الطريق المستقيم إلىٰ كلّ خير ، وهي الجسر الممدود بين الجنّة والنار ) (١).

والآيات الفرقانيّة والكلمات الحكميّة والعرفانيّة في هذا الباب كثيرة جداً.

منها قوله تعالىٰ : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) (٢) ، وقوله : ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (٣) ، وقوله تعالىٰ : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (٤) ، وقوله تعالىٰ : ( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ) (٥).

وقوله عليه‌السلام ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) (٦) وقوله : ( أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه ) (٧).

وقال صدر المتألّهين السّبزواري قدس‌سره في النّبراس الذي نظّمه في الفقه :

لا تعد عنك بك للكلّ اتّسا

آسيك فيك دافع عنك الأسىٰ

كلّ الكمال من وجودك اقتبس

منك اثنتا عشرة عيناً تنبجس

وكلّ نادٍ يستضئ من باينه

والقلب نادٍ يستضئ من باطنه

وهذه الأبيات كانت ترجمة كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

دواؤك فيك ولا تبصر

وداؤك منك ولا تشعرُ

وأنت الكتاب المبين الذي

بأحْرُفِه يظهرُ المُضمرُ

أتزعم انّك جرم صغير

وفيك انطوىٰ العالم الأكبرُ (٨)

_____________________________

(١) « المجلي » ص ١٦٩ ، « الحقائق » للكاشاني ص ٣٤٩ ، وفيه عن الصادق عليه‌السلام.

(٢) « الإسراء » الآية : ١٤.

(٣) « الذاريات » الآية ٢١.

(٤) « فصلت » الآية : ٥٣.

(٥) « البقرة » الآية : ٩١.

(٦) « بحار الأنوار » ج ٥٨ ، ص ٩١ ، ج ٦٦ ، ص ٢٩٣.

(٧) « روضة الواعظين » ص ٢٠.

(٨) « ديوان الإمام علي عليه‌السلام » ص ٤٥.

٣٤
 &

وقال قدس‌سره في الأبيات الفارسيّة :

فلك دوران زند بر محمد محور هى

وجود هر عالم مظهر هى

بر آن نقش كه بر لوح از قلم رفت

نوشته دست حق بر دفتر هى

ومن حججه البالغة في تفسير قوله تعالىٰ : ( فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (١) : أنّه تعالىٰ يقول يوم القيامة للعبد : ( عبدي كنت عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت ؟! وإن قال : كنت جاهلاً ، قال : أفلا تعلّمت حتّىٰ تعمل ؟! فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة ) (٢).

( وَبِوَجْهِكَ ﭐلْباقِي بَعْدَ فَنَاءِ كُلِّ شَيءٍ ).

هذا كقوله تعالىٰ : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٣) ، وقوله : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (٤).

در نعت بقا

نيست كسى با تو مشارك

ذات تو بود باقي

وباقي هم هالك

قد جاء « الوجه » لمعانٍ كثيرة ، ولا شيء منها يناسب هذا المقام إلّا الوجود المطلق الذي هو وجه الله القديم ، وفيضه الغير المنقطع العميم ، والمحيط بجميع الأشياء ، المشار إليه بقوله تعالىٰ : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٥) إذ قد عرفت أنَّ ذلك الوجود المطلق الذي هو وجه الله الباقي وفيضه الدائم داخل في صقع الربوبية ، وكالمعنىٰ الحرفي ، لا حكم له علىٰ حياله ، فبقاؤه ببقائه لا باستقلاله.

ومن جملة معاني الوجه : ذات الشيء ، قد جاءت بهذا المعنىٰ في الدعاء المخصوص بتعقيب صلاة الصبح أو المشترك بين الصباح والمساء ، وهو هذا : ( اللهُمَّ

_____________________________

(١) « الأنعام » الآية : ١٤٩.

(٢) « الأمالي » للطوسي ، ص ٩ ، ح ١٠.

(٣) « القصص » الآية : ٨٨.

(٤) « الرحمن » الآية : ٢٦ ـ ٢٧.

(٥) « البقرة » الآية : ١١٥.

٣٥
 &

إنّي أصبحت ـ أو أمسَيتُ ـ اُشهدك ـ وكفىٰ بك شهيداً ـ واُشهد ملائكتك ، وحَمَلة عرشك ، وسكّان سماواتك وأراضيك وأنبياءك ورسُلكَ ، والصالحين من عبادك وجميع خلقك ، فاشهد لي ـ وكفىٰ بك شهيداً ، إني أشهد أنّك أنت الله ، لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك ، وأنَّ محمّداً عبدك ورسولك ، صلواتك عليه وآله ، وأن كلّ معبود ممّا دون عرشك إلىٰ قرار أرضك السابعة السّفلىٰ باطلٌ مضمحل ، ما خلا وجهك الكريم فإنّه أعزّ وأكرم من أن يصف الواصفون كُنه جلاله ، أو تهتدي القلوب إلىٰ كنه عظمته.

يا مَن فاق مدح المادحين فخر مدحه ، وعدا وصف الواصفين مآثر حمده ، وجلّ عن مقالة الناطقين تعظيم شأنه ، صلّ علىٰ محمّد وآل محمّد ، وافعل بنا ما أنت أهله ، يا أهل التقوىٰ وأهل المغفرة ) (١).

فاعلم أنّه إذا تجلّىٰ تعالىٰ باسمه القهّار المفني في الطّامة الكبرىٰ التي قال تعالىٰ : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) (٢) ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ) (٣) ، وقال تعالىٰ : ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) وحيث لم يبق أحد من المالكين المجازي ، إذ الكل يفنىٰ عند تجلّيه الأعظم ، ما من مجيب تعالىٰ ، فأجاب نفسه بقوله : ( لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٤).

وحينئذٍ يظهر أنّه تعالىٰ مالك ملك الوجود بالعيان والشهود ، وأنَّ ما سوىٰ الحق المعبود المحمود ـ ممّا استظل بظله الممدود ، وادّعىٰ مالكية سهم من الوجود ـ كان مثله ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ ) (٥).

فكان السائل والمجيب في الآخر هو السائل والمجيب في الأوّل ـ يعني : في عالم الذرّ ـ إذ هنالك أيضاً حين قال تعالىٰ : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) أجاب نفسه بقوله :

_____________________________

(١) « المصباح » للكفعمي ، ص ١٠٥ ، باختلاف يسير.

(٢) « المعارج » الآية : ٦ ـ ٧.

(٣) « الزمر » الآية : ٦٨.

(٤) « غافر » الآية : ١٦.

(٥) « النور » الآية : ٣٩.

٣٦
 &

( بَلَىٰ ) (١) ؛ لأنّ العباد ما كانوا موجودين بوجوداتهم الخاصّة المتفرّقة حتىٰ أجابوا الله تعالىٰ.

هم خود ( أَلَسْتُ ) گويد

وهم خود ( بَلَىٰ ) كند

بل كانوا موجودين بالوجود العلي لله تعالىٰ ، وإلىٰ ذلك المقام أشار العارف الرومي رحمه‌الله في المثنوي :

متحد بوديم ويك جوهر همه

بی سر وبی پا بديم آن سر همه

يك گهر بوديم همچون آفتاب

پيکره بوديم وصاحی همچه آب

چون بصورت آمد آن نور سره

شد عدد چون سايه‌های کنگره

کنگره ويران کنيد از منجنيق

تا رود فرق از ميان اين فريق

هذا وإن كانت الماهيّات عند أرباب الشهود والبيّنات مستهلكةً ومندكّةً في نور الوجود أزلاً أبداً ، كما قالوا : الأعيان الثّابتة ما شمّت رائحة الوجود أزلاً أبداً. والملك والبقاء لوجهه الكريم وفيضه القديم ، ولا حول ولا قوّه إلّا بالله العلي العظيم.

( وَبِأَسْمَائِكَ الَّتي مَلَأَتْ أَرْكانَ كُلِّ شَيءٍ )

الأسماء : جمع اسم.

قال الجوهري : « الاسم مشتق من : سَموتُ ؛ لأنّه تنويه ورفعة وتقدير ، ووزنه : افعٌ ، والذاهب منه الواو ؛ لأن جمعه : أسماء ، وتصغيره : سُمَيّ » (٢).

وقال بعض الكوفيّين : « أصله وسم ، لأنّه من الوسم وهو العلامة ، فحذفت الواو وهي فاء الكلمة ، وعوّض عنها الهمزة ، فوزنه : اعل » (٣). واستضعفه المحقّقون.

أقول : الاسم ما أنبأ عن المسمّىٰ ، إن كان المسمّىٰ هو الذات لا بشرط شيء فهو

_____________________________

(١) « الأعراف » الآية : ١٧٢.

(٢) « الصحاح » ج ٦ ، ص ٢٣٨٣.

(٣) انظر « تاج العروس » ج ١٠ ، ص ١٨٣.

٣٧
 &

اسم للذات ، كلفظ الجلالة ، فإنّه اسم الذات الواجب الوجود ، المستجمع لجميع صفات الكمالات ، من دون تعيين صفة من الصفات ، وملاحظة تعيّن من التعيّنات معها.

أسماء الصّفات

وإن كان المسمّىٰ هو الذات ولكن بشرط شيء ، وبعبارة اُخرىٰ : ملحوظ بتعيّن من التعيّنات النورية ، كالعلم والقدرة والحية وغيرها فهو اسم الصفة ، كالعلم والقادر والمريد والحي ، إلىٰ آخر أسماء الصّفات.

بيان أقسام ثلاثة لأسماء الله تعالىٰ

وعن بعض أهل التحقيق ، قال : « الأسماء بالنسبة إلىٰ ذاته المقدّسة علىٰ ثلاثة أقسام :

الأول : ما يمنع إطلاقه عليه تعالىٰ ، وذلك كلّ اسم يدلّ علىٰ معنىً ، يحيل العقل نسبته إلىٰ ذاته الشريفة ، كالأسماء الدالّة علىٰ الاُمور الجسمانيّة ، أو ما هو مشتمل علىٰ النقص والحاجة.

الثاني : ما يجوز عقلاً إطلاقه عليه تعالىٰ وورد في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة تسميته تعالىٰ به ، فذلك لا حرج في تسميته به ، بل يجب امتثال الأمر الشرعي في كيفيّة إطلاقه ، بحسب الأحوال والأوقات والتعبدات ، إمّا وجوباً ، أو ندباً.

الثالث : ما يجوز إطلاقه عليه ولكن لم يرد ذلك في الكتاب والسنّة ، كالجوهر ، فإنّ أحد معانيه كون الشيء قائماً بذاته ، غير مفتقر إلىٰ غيره ، وهذا المعنىٰ ثابت له تعالىٰ ، فيجوز تسميته به ؛ إذ لا مانع في العقل من ذلك ، لكنّه ليس من الأدب ؛ لأنّه وإن كان جائزاً عقلاً ولم يمنع منه مانع ، لكنّه جاز أن لا يناسبه من جهة اُخرىٰ لا نعلمها ، إذ العقل لم يطّلع علىٰ كافّة ما يمكن أن يكون معلوماً ، فإن كثيراً من الأشياء

٣٨
 &

لا نعلمها إجمالاً ولا تفصيلاً ، وإذا جاز عدم المناسبة ولا ضرورة داعية إلىٰ التسمية ، فيجب الامتناع من جميع ما لم يرد به نصّ شرعيّ من الأسماء.

وهذا معنىٰ قول العلماء ؛ « إن أسماء الله تعالىٰ توقيفيّة » ، يعني : موقوفة علىٰ النصّ والإذن في الإطلاق.

بيان أقسام أربعة لأسمائه تعالىٰ

إذا تقرر هذا ، فاعلم أنّ أسماءه تعالىٰ إما أن تدلّ علىٰ الذات فقط من غير اعتبار أمر ، أو مع اعتبار أمر ، ذلك الأمر إمّا إضافة ذهنية فقط ، أو سلب فقط ، أو إضافة وسلب. فالأقسام أربعة :

الأول : اسم الذات فقط

فالأول : ما يدل علىٰ الذات فقط ، وهو لفظ : « الله » ، فإنّه اسم للذات الموصوفة بجميع الكمالات الربانيّة ، المتفردة بالوجود الحقيقي ، فإن كل موجود سواه غير مستحق للوجود بذاته ، بل إنّما استفاده من الغير. ويقرب من هذا الاسم لفظ « الحقّ » ، إذا اُريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود ، فإنّ الحقّ يراد به : دائم الثبوت ، والواجب ثابت دائماً غير قابل للعدم والفناء ، فهو حقّ ، بل هو أحقّ من كلّ حقّ.

الثاني : أسماء الذات مع إضافة

الثاني : ما يدلّ علىٰ الذات مع إضافة كـ « القادر » ، فإنّه بالإضافة إلىٰ مقدور تعلقت به القدرة بالتأثير. و « العالم » فإنه أيضاً اسم للذات ، باعتبار انكشاف الأشياء لها ، و « الخالق » فإنه اسم للذات باعتبار تقدير الأشياء ، و « البارئ » فإنّه اسم للذات باعتبار اختراعها وإيجادها ، و « المصوّر » باعتبار أنّه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب ، و « الكريم » فإنّه اسم للذات باعتبار إعطاء السؤالات ، والعفو عن السيئات.

و « العليّ » اسم للذات باعتبار أنه فوق سائر الذوات ، و « العظيم » فإنّه اسم للذات

٣٩
 &

باعتبار تجاوزها حدّ الإدراكات الحسّية والعقليّة ، و « الأول » باعتبار سبقه علىٰ الموجودات ، و « الآخر » باعتبار صيرورة الموجودات إليه ، و « الظاهر » هو اسم للذات باعتبار دلالة العقل علىٰ وجودها دلالة بيّنة واضحة ، و « الباطن » فإنّه اسم بالإضافة إلىٰ عدم إدراك الحسّ والوهم ، إلىٰ غير ذلك من الأسماء.

الثالث أسماء الذات باعتبار سلب الغير عنه

الثالث : ما يدلّ علىٰ الذات باعتبار سلب الغير عنه ، كـ « الواحد » باعتبار سلب النظير والشريك ، و « الفرد » باعتبار سلب القسمة والبعضيّة ، و « الغني » باعتبار سلب الحاجة ، و « القديم » باعتبار سلب العدم ، و « السّلام » باعتبار سلب العيوب والنقائص ، و « القدّوس » باعتبار سلب ما يخطر بالبال عنه ، إلىٰ غير ذلك.

الرابع أسماء الذات مع الإضافة والسّلب

الرابع : باعتبار الإضافة والسلب معاً ، كـ « الحيّ » ، فإنّه المُدرك الفعّال الذي لا تلحقه الآفات ، و « الواسع » باعتبار سعة علمه وعدم فوت شيء منه ، و « العزيز » وهو الذي لا نظير له وهو مما يصعب إدراكه والوصول إليه ، و « الرحيم » وهو اسم للذات باعتبار شمول رحمته لخلقه وعنايته بهم ، وإرادته لهم الخيرات ، إلىٰ غير ذلك » (١) انتهىٰ.

تحقيق معنىٰ الاسم

والتحقيق الأحق بالذكر في تبيين هذا المقام ما حققه الحكماء والعرفاء ، فإنّ الاسم عندهم حقيقة الوجود ملحوظة بتعيّن من التعينات الكماليّة من صفاته تعالىٰ ، أو باعتبار تجلِّ خاص من التجليات الإلهية.

فالوجود الحقيقي مأخوذ بتعيّن كونه ما به الانكشاف لذاته ولغيره اسم « العليم » ،

_____________________________

(١) « مجمع البحرين » ج ١ ، ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

٤٠