شرح دعاء كميل

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

شرح دعاء كميل

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (١).

أي أمعنوا أنظاركم حتىٰ تعرفوني أولاً ، ثم اعبدوني ، ولا توقعوا أنفسكم بسبب عدم معرفتي في عبادة الشياطين ، ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ).

فالعارف الناقد البصير وإن احتاج إلىٰ الأشياء ما دام في هذا العالم ، ولكنّه يعلم أنّ المحتاج إليه في الجميع وللجميع واحد. ونِعَم ما قيل :

عارف حق شناس را بايد

كه به سوكه ديده بگشايد

در حوائج خداى را بيند

جز شهود خداى نگزيند

بل هو يعلم أيضاً أنّه في وجوده وصفاته وحوله وقوّته يفتقر إليه تعالىٰ ، وهو عبده الذي لا يملك شيئاً من الوجود وتوابعه ، العبد وما في يده كان لمولاه.

( سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ )

سبحان : مصدر غير متصرّف ، لازم الإضافة ، ومعناه : اُسبّحك واُنزّهك تسبيحاً وتنزيهاً ، والحال أنّ ذلك التسبيح مقترن بحمدك.

والأولىٰ ـ كما قال بعض المحقّقين ـ : ( أن يكون الباء في ( بحمدك ) للسببيّة ، ويكون الحمد مصدراً مضافاً إلىٰ الفاعل ، وكان المفعول محذوفاً أو بالعكس. والمعنىٰ حينئذٍ : والحال أنّ ذلك التسبيح بسبب حمدك نفسك ، يعني : تسبيحي بحولك وقوّتك ، ومقهور تحت تسبيحك لنفسك ، وحمدي مبهور تحت حمدك إياك ، كما قال سيد الكائنات صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت علىٰ نفسك ) (٢).

كيف وحمدنا وتسبيحنا وثناؤنا لك عارية ووديعة لدينا ؟ ولابدّ يوماً أن ترد الودائع.

_____________________________

(١) « يس » الآية : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر « شرح الأسماء » ص ٥٦٣.

١٠١
 &

والتسبيح يرجع إلىٰ الحمد ، والحمد يرجع إلىٰ التسبيح ، كقوله تعالىٰ : ( إِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) (١) يعني : يسبّح بتسبيحه تعالىٰ لنفسه.

ثم إنّ السائل نزّهه تعالىٰ بعد التشبيه ، كأنّه أشار إلىٰ طريقة الموحّدين ، وهي الجمع بين صفتي التشبيه والتنزيه ، كما في قوله تعالىٰ : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٢).

وفي هذا الباب أحاديث كثيرة جمعوا عليهم‌السلام فيها بين صفتي التشبيه والتنزيه :

منها : ما روي عن الإمام الهمام موسىٰ بن جعفر عليهما‌السلام ، أنّه قال : ( إنّ الله تبارك وتعالىٰ لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يحل في مكان ، ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلّا هو الكبير المتعال ) (٣).

ومنها : ما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه : ( مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة ) (٤).

وقال في البعض الآخر : ( لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات ، لا يقال له : متىٰ ، ولا يضرب له أمد بحتىٰ ، لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، تعالىٰ عما ينتحله المحددون من صفات الأقدار ونهايات الأقطار ، وتأثل المساكن وتمكن الأماكن ، فالحد لخلقه مضروب ، وإلىٰ غيره منسوب ) (٥).

إلىٰ غير ذلك ممّا جمعوا عليهم‌السلام التشبيه والتنزيه في كلماتهم ، من الخطب الجليلة والأدعية الرفيعة الجميلة ، وليس لهذا المختصر وسع أكثر ممّا ذكر.

_____________________________

(١) « الإسراء » الآية : ٤٤.

(٢) « الشورىٰ » الآية : ١١.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٣ ، ص ٣٢٧ ، ح ٢٧.

(٤) « نهج البلاغة » الخطبة : ١.

(٥) « نهج البلاغة » الخطبة : ٣٠٦.

١٠٢
 &

ومن كلمات بعض العارفين ، قال : « عرفت الله بجمعه بين الأضداد ، كالجمع بين الخفاء والظهور » (١) كما في الدعاء : ( يا مَن خفي من فرط ظهوره ، واستتر بشعاع نوره ).

والجمع بين القرب والبعد كما فيه أيضاً ( يا من بعُد فلا يُرىٰ ، وقرب فشهِد النجوىٰ ) (٢) ، وبين العلو والدنو : ( يا مَن علا في دنوّه ، يا من دنا في علوه ) (٣) ، والجمع بين الدخول في الأشياء والخروج عنها ، كما في قوله عليه‌السلام : ( داخل في الأشياء لا بالممازجة ، وخارج عن الأشياء لا بالمزايلة ) وغير ذلك.

( ظَلَمْتُ نَفْسي )

بتركها في اتّباع الشهوات ، ومشايعة وساوس الشيطان ، والخروج عن قيود طاعة الرحمن ، إلىٰ أن فاتها الوصول إلىٰ كمالاتها البالغة ، والعروج إلىٰ مقاماتها الشامخة الفائقة.

ثمّ إنّ للنفس معاني وإطلاقات ، سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالىٰ.

( وَتَجَرّأتُ بِجَهْلي )

وعدم علمي بعواقب الاُمور.

اُلام علىٰ لوٍّ وإن كنت عالماً

بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائله (٤)

التجري : من الجرأة ، وهي عبارة عن سرعة الوقوع في الأمر من غير تدبّر ورويّة. والباء للسببية ، أي تجرأت وأسرعت إلىٰ مشتهيات نفسي ، بسبب جهلي وعدم عرفاني بعواقبها ، كما قال الشاعر :

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم

وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

_____________________________

(١) القائل هو أبو سعيد الخراز علىٰ ما نُقل في « الفتوحات المكية » ج ٤ ، ص ٣٢٥.

(٢) « الإقبال » لابن طاووس ، ج ١ ، ص ١٤٠.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٩٥ ، ص ٣٧٩ ، باختلاف.

(٤) « خزانة الأدب » ج ٧ ، ص ٣٢٠.

١٠٣
 &

وبلغتُ ما بلغ امرؤٌ بشبابه

فإذا عصارة كلّ ذاك أثام (١)

بيان الجهل البسيط والمركّب

ثمّ إن الجهل بسيط ومركّب :

الأوّل : عبارة عن عدم العلم.

والثاني : عبارة عن عدم العلم بعد العلم.

علىٰ قياس علمي البسيط والتركيبي يقال : فلان جاهل بالجهل البسيط ، أي لا يعلم شيئاً ، وبالجهل التركيبي ، أي لا يعلم أنّه لا يعلم.

ثم إنّ الجهل بقسميه كان من الخبائث المعنوية ، بل اُمُّ الخبائث وأصلها ، وإن شئت أن تعرف العقل والجهل وجنودهما فعليك بالنظر في كتاب اُصول الكافي (٢).

وقد عدّه علماء علم تهذيب الأخلاق من النجاسات العشرة التي ثمانية منها هي : التهوّر والجبن ، اللذان هما طرفا الشجاعة من الإفراط والتفريط.

والشره والخمود اللذان هما طرفا العفّة من إفراطها وتفريطها.

والتقتير والتبذير اللذان هما طرفا السخاوة إفراطها وتفريطها.

والجربزة والبلاهة اللتان هما طرفا الحكمة إفراطها وتفريطها.

وتلك الأربعة ـ أعني الشجاعة والسخاوة والحكمة والعفّة ـ أركان العدالة التي هي الصراط المستقيم ، الذي هو أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر. والجميع مأمور بالتجاوز عنه.

ايدل از چشمهٔ حكمت بكف أو رجايی

بو كه از لوح دلت نقش جهالت برود

( وَسَكَنْتُ إلىٰ قَديمِ ذِكْرِكَ لي وَمَنِّكَ عَلَيَّ )

_____________________________

(١) « ديوان أبي نؤاس » ص ٤٩٧.

(٢) « الكافي » ج ١ ، ص ١٠ ـ ٢٩.

١٠٤
 &

المنّ : العطاء.

أراد السائل : أنّني وقفت علىٰ قديم ذكرك الذي ذكرتك به في سالف الزمان ، يعني أوائل عمري وعنفوان شبابي ، الذي هو زمان الغرور والغفلة في الأغلب. ووقفت علىٰ العطية التي أعطيتني بها في الأزمنة السابقة.

أراد بها : التوفيق لتحصيل معارفه تعالىٰ ، وما اجتهدت حقّ الاجتهاد في معرفة صفاتك وأفعالك وحقيقة أوامرك ونواهيك ، وما ساعدني التوفيق إلىٰ الوصول إلىٰ ذروة شهود جمالك وجلالك ، والوفود علىٰ فناء جنابك ، والقعود في عتبة بابك.

ومقصوده : أنّه ما حصل لي الترقّي إلىٰ المقامات التي يبلغها أهل الحقيقة بعد البرهان ، بموهبة التخلّق والعيان والفناء ، الذي هو قرّة عين أهل السلوك والعرفان ، بحول الله الملك المنّان.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن تساوىٰ يوماه فهو مغبون ) (١). وفي رواية : ( مَن اعتدل يوماه فهو مغبون ) (٢).

وفي حديث آخر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( سيروا فقد سبق المفردون ) (٣).

والمقصود : الحثّ والإغراء علىٰ الفورية ، كما قال الله تعالىٰ : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) (٤) ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ ) (٥) ؛ فإنّ الأنفاس بيد قدرة الله تعالىٰ ، فلعل الإنسان قبض في الآن وحرم من أداء التكليف ، ففاتته الغبطة العظمىٰ ، وغبن الغبن الأفحش.

ولذا قال المولوي :

صوفى ابن الوقت باشد ابرفيق

نيست فردا گفتن از شرط طريق

_____________________________

(١) « معاني الأخبار » ص ٣٤٢ ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٩٤ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٩٥ ، ح ٥.

(٢) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٧٣ ؛ « الأمالي » للطوسي ، ص ٤٣٥ ، ح ٤.

(٣) « سنن الترمذي » ج ٥ ، ص ٥٧٧.

(٤) « البقرة » الآية : ١٤٨.

(٥) « آل عمران » الآية : ١٣٣.

١٠٥
 &

هين مگو فردا که فرداها کذشت

تا بکلّی نگذرد أيّام گشت

پند من بشنو که تن بند قويست

کهنه بيرون کن گرت ميل نُويست

بُخل تن بگذار و پيش او رسخا

لب ببند وکفّ پُر زربر گُشا

ترك لذّتها و شهوتها سخا است

هر كه در شهوت فروشد برنخواست

اين سخا شاخى است از سر و بهشت

واى ان كز كف چنين بشاخى بهشت

والسالك إلىٰ الله تعالىٰ كان ابن الوقت لا يضيع آناً ، والوقت أمضىٰ من سيف صارم ، وأقضىٰ من نار تضطرم.

فآنٌ مضىٰ أمسٌ وآنُ يأتي غداً

وآنُ بينهما يوم حاضر

* * *

ما فات ماضٍ وما سيأتيك فائتٌ

وقُم فاغتنم للوقت بين العدمين

والمراد باليوم في الحديث يحتمل أن يكون الآن ، كما قلنا ، ولعله هو الأنسب.

ويحتمل أن يكون اليوم المعروف الذي هو عبارة عن قطع الشمس بحركة الأطلس نصف الدورة.

والمراد بالآن هو الآن العُرفي ، لا الآن الحقيقي ؛ لأنّه لا تحقّق له ، فإنَّ الزمان ، عابره وغابره متّصل واحد لا مفصل فيه.

وبالجملة ، يقول السائل : أيام عمري وأوقات شبابي معتدلة متساوية ، فقد مضت جميعها بالتعطيل والغفلات ، وسكنت إلىٰ قديم ذكري وحمدي القولي لله واهب العطيات والمسألات ، ولم أتخط إلىٰ التخلق والتحقّق الذي هو غابة القربات ونهاية الكمالات.

( اَللّهُمَّ مَولَايَ كَمْ مِنْ قَبيْحٍ سَتَرْتَهُ وَكَمْ مِنْ فادِحٍ مِنَ البَلاءِ أَقَلْتَهُ )

١٠٦
 &

قد جاء « مولىٰ » لمعانٍ كثيرة ، منها : السيّد ، والناصر ، والنصير ، والأنسب هاهنا هو الأول.

وكلمة ( كم ) خبرية في الموضعين ، وهي اسم ناقص مبهم مبني علىٰ السكون ، وله موضعان : الاستفهام ، والخبر. تقول إذا استفهمت : كم رجلاً عندك ؟ بنصب ما بعده علىٰ التمييز ، وإذا أخبرت تقول : كم درهم أنفقت ؟ تريد التكثير.

ويخفض ما بعده كما يخفض بـ « رُبّ » ، إلّا إنّه للتكثير و « ربّ » للتقليل. وإن شئت نصبت.

الفادح : الأمر الذي يثقل ، والجمع : الفوادح.

الإقالة ـ هنا ـ بمعنىٰ : العفو والترك والمسامحة ، وفي الحديث : ( مَن أقال نادماً أقاله الله من نار جهنم ).

ومنه : ( أقاله الله عثرته ) (١) أي خطيئته.

ومنه قول الشاعر :

فقلت يقال المستجير بأرضكم

إذا ما جنىٰ ذنباً فقال يقال

أوله هذا :

أقول لظبي مر بي وهو راتع

أأنت أخو ليلىٰ فقال يقال

فقلت أفي ظل الأراكة بالحمىٰ

يقال ويستظلل فقال يقال

الأول من « القول » مضارع مجهول ، والثاني من « الإقالة » بمعنىٰ : الاستراحة والنوم في منتصف النهار ، والثالث أيضاً من « الاقالة » بمعنىٰ : المسامحة والعفو والمغفرة.

فقول السائل : ( كم من قبيح ) أي كم من فعل قبيح صدر عني في خلواتي

_____________________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٥٣ ، ح ١٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٨٦ ، أبواب آداب التجارة ، ب ٣ ، ح ٢.

١٠٧
 &

وجلواتي سترتها عفوك ورحمتك ، وكم من أمر فادحٍ من البلاء والابتلاء الذي أثقلني وأتعبني حمله ، أنت تجاوزت وكشفته عني بفضلك ورأفتك.

( وَكَم مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَهُ ، وَكَمْ مِنْ مَكْروُهٍ دَفَعْتَهُ وَكَم مِنْ ثَناءٍ جَميْلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَه )

كلمة ( كم ) في جميع هذه المواضع خبريّة ، قد مرَّ معناها.

العِثار ـ بالكسر ـ : من « عثر ، يعثر » ـ من باب « ضرب » و « نصر » و « علم » و « كرم » ـ عثراً وعثاراً : إذا كبا ، وهو الكبو ، أو القريب منه.

والعثرة ـ بالفتح ـ : الخطيئة ، ومن أسمائه تعالىٰ : ( يا مقيل العثرات ).

الوقاية : الحفظ ، ( وقاه الله شر ذلك اليوم ) : أي حفظه من ذلك.

الثناء ـ بالمدّ ـ : المدح والذكر الحسن ، ويستعمل في الأغلب مع الجميل ، وهو خلاف القبيح.

المكروه في الأحكام الخمسة : هو ما كره الله فعله ، وفي اللغة : ما تنفّر الطبع عنه ولو في الجملة ، وهو هنا أعم ممّا كره الله تعالىٰ فعله وممّا تنفر الطباع عنه ، من المرض والألم وسوء الحال.

النشر : التفرّق والاشتهار.

يقول السائل في مقام إظهار مراحمه تعالىٰ وعواطفه : كم من مَزالّ الأقدام يكاد أن تزل فيها قدمي وأكبّ علىٰ وجهي ، وقيتني وأمسكتني عن الكبوة بفضلك ، وكم من مكاره الاُمور اعترتني في الأحوال ، دفعتها ورفعتها عنّي بكرمك ، وكم من مدائح وأوصاف حسنة جميلة ، ما كنت أهلاً ومستحقاً لانتسابها إليّ ، أضفتها إليّ بمنّك وكرمك ولطفك ، ونشرتها بين عبادك ، والحال أنّه إليك يرجع عواقب الثناءات والمحامد والمدائح كلّها ، كما في الدعاء : ( وإليك يرجع عواقب الثناء ) ، بل عواقب

١٠٨
 &

الاُمور جميعاً ( أَلَا إِلَى اللَّـهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) (١).

وقال صدر المتألّهين قدس‌سره في نبراسه في الفقه شعراً :

محامد من أي حامد بدت

ظاهرها لأي محمود ثبت

ففي الحقيقة إليه آثل

إذ لله فواضل فضائل

فالحمد كلّ الحمد مخصوص به

بل كل حامديةٍ بحوله

( اللّهُمَّ عَظُمَ بَلائِي ، وَأَفْرَط بي سُوءُ حالي ، وَقَصُرَت بِي أَعْمَالي ، وَقَعَدَتْ بي أَغلالي )

البلاء : الغمّ.

الإفراط : تكثير الشيء بحيث يتجاوز عن حدّه ، ضد التفريط وهو التقصير عن الحدّ. ولا يخفىٰ ما في الإفراط والقصور من الطباق الذي هو من المحسّنات البديعية.

أغلال : جمع « غلّ » ، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلىٰ عنقه ، وهنا كناية عن القيود والعلائق ، التي هي في الثقل والمنع كالأغلال ، كما قال الله تعالىٰ : ( فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ) (٢) وقوله : ( وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (٣).

فقوله : ( قعدت بي أغلالي ) أي حبستني ومنعتني عن المجاهدة والسلوك في سبيل الطاعات والعبادات ومحاسبة النفس ، كما ورد : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ) (٤) ، وإماتتها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( موتوا قبل أن تموتوا ) (٥).

ثم الأغلال والأعمال كلاهما فاعلان ، لقوله : ( قصرت ... وقعدت ) ويرجعان إلىٰ معنًى واحد ، إذ أراد أنّ أعمالي القبيحة وأفعالي الشنيعة قصرت بي ، وصارت سبباً

_____________________________

(١) « الشورىٰ » الآية : ٥٣.

(٢) « يس » الآية : ٨.

(٣) « الأعراف » الآية : ١٥٧.

(٤) « نهج البلاغة » الخطبة : ٩٠.

(٥) انظر « شرح الأسماء » ص ٤٣٠.

١٠٩
 &

لقصوري عن درك المقامات ونيل السعادات واستضعاف الدرجات ، كما أنَّ قيودي وعلائقي التي هي كالأغلال حبستني عن الوصول إليها.

( وَحَبَسَني عَنْ نَفعي بُعْدُ آمالي ، وَخَدَعَتْني الدُّنْيا بِغرُورِها )

حبسني : أي وقفني ومنعني.

الآمال : جمع « الأمل » وهو الرجاء ، ضد اليأس.

وفي الحديث : ( لطول الأمل ينسي الآخرة ) (١).

يريد أنَّ طول آمالي في أسباب الدنيا وحبّها منعني عن منافعي التي هي ما تيسر بها لذائذ الآخرة ، من لقائه تعالىٰ والوصول إلىٰ الجنات الثلاث ، من جنّة الذات ، وجنّة الصفات ، وجنّة الأفعال ، التي وعد المتّقون بها ، كما قال الله تعالىٰ : ( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ) (٢).

قال المولوي رحمه‌الله في المثنوي :

چون رکوعی با سجودی مرد گشت

شد سجود او در آنعالم بهشت

چون ز دستت رفت ايثار زکاة

كشت دين دست آنطرف نخل و نبات

چونكه پريد از دهانت حمد حق

مرغ جنت ساحتش رب الفلق

آب صبرت جوی آب خلد شد

جوی شير خلد مهر تست دور

آن حلاوتها جوى انگبين

ست وذوق تو جوى خمسه بين

فهذ الأبيات والآيات والأخبار الكثيرة في هذا الباب ، والدعوات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، تدلّ علىٰ تجسّم الأعمال الذي أطبق عليه الإمامية والحكماء والمحقّقون من أهل الكلام ، ولسنا الآن في ذلك المقام.

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٢ ، ص ١٠٦ ، ح ٢.

(٢) « محمد » الآية : ١٥.

١١٠
 &

الخدعة : المكر والاحتيال ، ويجيء بمعنىٰ الفساد ، كما هو المتعارف عند العرب.

وفي الحديث : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فيما النجاة غداً ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فإنه من يخادع الله يخدعه ). فقيل له : فكيف يخادع الله ؟ قال : ( يعمل ما أمر به الله ثم يريد به غيره ، فاتقوا الرياء ، فإنّه شرك بالله ، إنّ المرائي يدعىٰ يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ، حبط عملك وبطل أجرك ، ولا خلاق لك اليوم ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له ) (١).

وفيه أيضاً : ( هيهات ، لا يخدع الله عن جنّته ) (٢).

الغرور : تسويل الباطل وتزيينه ، وإسناد الخداع إلىٰ الدنيا ليس بالحقيقة ، بل علىٰ سبيل المجاز في الإسناد ، كما يقول الجاهل : أنبت الربيع البقل ، إنّما الدنيا وأسبابها أسباب الخداع وآلاته ، وشبكات الفخ وأدواته وحبائله ، فإنَّ فاعل التسويل والخدع إمّا النفس ، كما قال الله تعالىٰ : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ ) (٣). وإمّا الشيطان وجنوده.

كما أنّ النفس المسوّلة من جند الشيطان إن سوّلت الدنيا وأسبابها ، ومن جند العقل إن سوّلت العقبىٰ وطاعاتها وما يحصّل به الآخرة.

فلابدّ أولاً من تعريف النفس ، وتعريف أقسامها ومراتبها ، ثمّ تعريف أفعالها وأحكامها ، كما قال السائل :

( وَنَفْسِي بِخِيَانَتِهَا وَمِطالِي )

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٨١ ، ص ٢٢٧.

(٢) « نهج البلاغة » الخطبة : ١٢٩ ؛ « بحار الأنوار » ج ٣٤ ، ص ٨٩.

(٣) « يوسف » الآية : ١٨ ، ٨٣.

١١١
 &

تعريف النفس وبيان مراتبها الخمسة

اعلم أنّ النفس كما عرفها الحكماء (١) : جوهر مجرد في ذاتها لا في فعلها ، وأقوىٰ دليل علىٰ تجرّدها تجرّد عارضها ، كما قالوا : النفس مجرّدة لتجرّد عوارضها ، وهي جسمانية الحدوث وروحانية البقاء ؛ إذ البدن وآلاته وقواه الماديّة الحالّة فيه مرتبة من مراتب النفس ، وهو جسم وجسماني.

وأقصىٰ مراتب النفس التي بها كينونتها السابقة وباطن ذاتها هو العقل الفعّال ، ثمَّ لها باعتبار صفاتها وشؤونها خمس مراتب ، كما أخبر عنها القرآن الكريم :

النفس الأمّارة

الاُولىٰ : الأمّارة ، وهي التي تمشي علىٰ وجهها تابعة لهواها ، كما قال الله تعالىٰ : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) (٢).

النفس اللّوامة

الثانية : اللّوامة ، وهي شأنها تلويم نفسها إن اجتهدت في الإحسان ، أو قصرت عنه واجتهدت في الإساءة ، وقد أخبر عنها القرآن بقوله تعالىٰ : ( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (٣).

النفس المسوّلة

الثالثة : المسوّلة ، وهي لا تزال تزيّن الأشياء من الأسباب الدنيوية ، من الدراهم والدنانير والضياع والعقار والنساء والبنات والبنين وغيرها عند نفسها ، أو تزيّن الأسباب الأُخروية من القصور والحور والجنّات والأنهار الأربعة وغيرها ، ثم يجتهد في تحصيلها من أيّ طريق اتّفق وعلىٰ أيّ وجه وقع ، كما قال الله تعالىٰ : ( بَلْ

_____________________________

(١) « الإشارات والتنبيهات » ج ٣ ، ص ٢٦٣ ؛ « شرح المواقف » ج ٧ ، ص ٢٥٤.

(٢) « يوسف » الآية : ٥٣.

(٣) « القيامة » الآية : ٢.

١١٢
 &

سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ ) (١).

النفس الملهمة

الرابعة : الملهمة ، وهي التي لا تزال مُلهمة بإلهام الله تعالىٰ أو الملك في مهمّاتها وطاعاتها ونسكها ، وفي الاطلاع علىٰ المغيبات ، أو في فجورها وغرورها ، كقوله تعالىٰ : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٢). ولكن إلهام الفجور والمعصية خذلان وخسران لها ، وإلهام الطاعات والعبادات توفيق وإحسان لها من الله تعالىٰ.

النفس المطمئنّة

الخامسة : المطمئنة ، وهي التي اطمأنّت بذكر الله ، وتوكّلت عليه في جميع الاُمور والأحوال ، وبردت ببرد اليقين ، ووقفت عن الكدّ والسعي في اُمور الدنيا ، وهي مقامها أعلىٰ وأشمخ من جميع مراتبها الاُخر ، وهي المخاطب بقوله تعالىٰ : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِ ) (٣).

فالنفس ذات عرض عريض ، وهي آية الله الكبرىٰ ، من عرفها فقد عرف الله ، ومن لم يعرفها فلم يعرف الله تعالىٰ. وآية التوحيد ؛ إذ هي بوحدتها كلّ الشؤون والصفات والمراتب ، كما أنه تعالىٰ بوحدته جميع الصفات الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية ، وجهه تعالىٰ بوحدته كلّ الأفعال والآثار والوجودات والشؤون.

فجعل تعالىٰ في خلقة الإنسان ووجوده شيئاً من العناصر ، وشيئاً من الأفلاك والأملاك ، وشيئاً من العقول ، ونفخ فيه شيئاً من روحه ، وأودع فيها شؤوناً من شؤوناته ؛ لأنّه كما أنّ وجهه تعالىٰ في مقام طبع ، وفي مقام جسم ، وفي مقام نفس ، وفي مقام عقل أو في مقام ناسوت ، وفي مقام ملكوت ، وفي مقام جبروت ، وفي

_____________________________

(١) « يوسف » الآية : ١٨.

(٢) « الشمس » الآية : ٨.

(٣) « الفجر » الآية : ٢٧ ـ ٣٠.

١١٣
 &

مقام لاهوت ، وبذاته لا شيء منها. كذلك النفس في مقام جسم ، وفي مقام طبع ، وفي مقام نفس مدبّرة ، وفي مقام عقل ، وفي مقام ليست بهذه كلّها ، بل فانية عن جميع هذه ، وباقية ببقاء الله.

قإن قلت : إنّها حادثة ذاتاً في مقام الطبع ، صدقت.

وإن قلت : إنّها حادثة تعلّقاً ، وأردت بالتعلق وجودها الطبيعي الذاتي لا الإضافة المقولية ، صدقت.

وإن قلت : إنّها قديمة ذاتاً لا تعلّقاً ، باعتبار كينونتها العقلاني التي هي تمامية النفس وصورتها النوعية المفارقة كما مرّ أن شيئية الشيء بصورته وتمامه ، صدقت.

وإن قلت : إنّها غير باقية ، بل زائلة سيّالة باعتبار حركتها الجوهرية ووجودها الزماني ، صدقت.

وإن قلت : إنّها جسم ، صدقت.

وإن قلت : إنّها روح صدقت.

تو خود يك خيرى وچندين هزارى

دليل از خويش روشن تر ندارى

بيان أقسام أربعة للنّفس

ثم اعلم أنَّ للنفس أربعة أقسام : نامية نباتية ، وحسّية حيوانية ، وناطقة قدسية ، وكلّية إلهية.

روي : أنّه سأل صاحب هذا الدعاء ـ أعني كميل بن زياد (١) ـ معلّمَه ومعلّمَ الأولين والآخرين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : يا مولاي اُريد أن تعّرفني نفسي ، قال عليه‌السلام : ( أيُّ الأنفس تريد أن اُعرّفك ؟ ) قال : هل هي إلّا نفس واحدة ؟ قال عليه‌السلام : ( إنّما النفس أربعة : النامية النباتيّة ، والحسّية الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والكلّية الإلهية ولكلّ واحدة من هذه خمس قوًیٰ وخاصّيتان :

_____________________________

(١) في المخطوط زيادة : « عن » بعد « زياد ».

١١٤
 &

النّفس النباتيّة

فالنامية النباتية لها خمس قوًىٰ : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربّية. وخاصيتها الزيادة والنقصان ، وانبعاثها من الكبد ، وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان.

النّفس الحيوانيّة

واللحسّية الحيوانية لها خمس قوًى : سمع ، وبصر ، وذوق ، وشمّ ، ولمس. ولها خاصّيتان : الشهوة والغضب ، وانبعاثها من القلب ، وهي أشبة الأشياء بنفس السباع.

النّفس النّاطقة

والناطقة القدسيّة لها خمس قوًىٰ : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة. وليس لها انبعاث ، وهي أشبه الأشياء بنفس الملائكة ، ولها خاصيتان : النّزاهة والحكمة.

النّفس الإلهيّة

والكلّية الإلهية لها خمس قوًىٰ : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وصبر في بلاء. ولها خاصيتان : الرضا والتسليم ، وهذه هي التي مبدؤها من الله وإليه تعود ، لقوله تعالىٰ : ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) (١). وأمّا عَودها فلقوله تعالىٰ : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) (٢).

والعقل وسط الكلّ ، لكي لا يقول أحدكم شيئاً إلّا لقياس معقول ) (٣).

أقول : تحقيق معنىٰ قوله عليه‌السلام في النفس النباتية : ( انبعاثها من الكبد ) ، وفي الحسّية الحيوانية : ( انبعاثها من القلب ) ، يبتني علىٰ طول كلام في حركات النطفة ، واستكمالاتها في الرحم إذا وقعت فيها.

بيان حركات النطفة في الرحم ودورانها

_____________________________

(١) « التحريم » الآية : ١٢.

(٢) « الفجر » الآية : ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) « قرة العيون » للكاشاني ، ص ٣٦٣ ؛ « بحار الأنوار » ج ٥٨ ، ص ٨٥.

١١٥
 &

فاعلم أنّ النطفة ـ كما نقل عن أبقراط ، إذا صبّت في الرحم تصير كروية ؛ لأنّها ماء ، والماء شكله الطبيعي كروي ، إذ كلّ بسيط ـ سواء كان فلكياً أو عنصرياً ـ شكله الطبيعي هو الكروي.

ثمّ تنضج بالتدريج ، حتىٰ تطفو أجزاؤها اللطيفة من مركزها إلىٰ محيطها ، فتنقسم إلىٰ طبقات أربع بعدد العناصر ، فالذي هو غليظ في الغاية يبقىٰ في المركز ، وما هو لطيف في الغاية يطفو ويصير طبقة محيطة ، وما غلظته غالبة تقرب إلىٰ المركز ، وما لطافته غالبة تقرب من المحيط ، فما في المركز سوداء ، وما في المحيط صفراء ، وما يلي الصفراء دم ، وما يلي السوداء بلغم.

فهذه وإن كانت طبائعها مختلفة ، ولكن باعتبار كونها في حشو الرحم ودم الطمث تحمر بالتدريج ، فتصير علقة حمراء في أربعين يوماً.

وفي القدسي : ( خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً ) (١).

بصورت آدمى شد قطرة آب

چو چل روزش قرار از رحم يافت

وممّا يناسب هذا المقام : أنّ الله تعالىٰ أخذ في تخمير طينة آدم عشر قبضات ، قبضة واحدة من العناصر ، وتسع قبضات من الأفلاك التسعة : [ مثلاً ] (٢) قبضة الفردانية والجاه أخذها من فلك الشمس ، وقبضة المباغضة والعداوة أخذها من فلك المريخ ، وقبضة المحبّة من فلك الزهرة ، وقبضة السعادة من فلك المشتري ، وقبضة النحوسة من فلك زحل. وقِسْ عليه.

ودوّرها أربع دورات : دورة جمادية ، ودورة نباتية ، ودورة حيوانية ، ودورة إنسانية ، والكلّ أربعون.

دادت چهار دور چو اندر گلت سرشت

يك قبضه از عناصر ونه قبضه از فلك

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ١١ ، ص ١٢١.

(٢) في المخطوط : « مثل ان ».

١١٦
 &

الدور المعدني

ثمّ جعل العناية الإلهية هذه الأخلاط الأربعة ـ التي هي كالعناصر ـ مادّة لخلق الأعضاء السبعة الظاهرة من الرأس والظهر والبطن واليدين والرجلين ، والسبعة الباطنة من الدماغ والقلب والرئة والمرارة والطحال وأعضاء التناسل ، فأخذ من الأخلاط لخلق كلٍّ بحسبه وقدره علىٰ ما اقتضته الحكمة. وهذا هو الدور المعدني.

الدور النباتي

ثمّ خلق الله تعالىٰ في هذه الأعضاء الظاهرة والباطنة قوًىٰ نباتية ، من رؤساء أربع ـ أعني الغاذية ، والمنمّية ، والمولّدة ، والمغيّرة ـ وجعل لكلّ منها خوادم ، من الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والمربية. فجذبت الجاذبة دم الرحم من السرّة إلىٰ معدة الجنين ، ثم جذبت جاذبة الكبد الكيلوس من طريق الماساريقا ، فهضمته هاضمة الكبد حتىٰ صار كيموساً نضيجاً ، فخلق من زبدته وصفوته الروح النباتي ، فانبعاثه من الكبد كما قال عليه‌السلام.

فالباقي من الأخلاط ما كان دماً دخل في الأوردة ، ووصل نصيب كلّ عضو إليه ، وما كان صفراء انجذب إلىٰ المرارة ، وخاصّيته ـ كما قال الأطباء ـ : تنقية الدم ؛ لأنّه بمنزلة النار ، ملطّف ومخلخل للدم.

وما كان سوداء انجذب إلىٰ الطحال ، وخاصيته تصيير الدم ذا متانة وقوام ، وإدخاله في غذاء الطحال والعظام.

وما كان بلغماً فهو في جميع الأعضاء ، وخاصيته ـ كما قالوا ـ : ترطيب المفاصل والأدوات الاُخر ، وصيرورته دماً عند احتياج الغذاء ، وهذا هو الدور النباتي.

الدور الحيواني

ثمّ انجذب صفوة الدم وزبدة الروح النباتي إلىٰ القلب ، فإذا نضجا وطبخا صار

١١٧
 &

الروح النباتي روحاً حيوانياً ، فانبعاثه من القلب كما قال عليه‌السلام ، وينبعث من طريق الشرايين إلىٰ جميع الأعضاء.

فالقلب منبع حياة جميع الأعضاء ، وكما قال الحكماء : منزلته في الإنسان الصغير منزلة الشمس في الإنسان الكبير.

ثمّ يستقل منه قسط إلىٰ الكبد ، ويصعد منه قسط صالح طريق بعض الشرايين إلىٰ الدماغ ، ونضّج فيه مرة اُخرىٰ فاعتدل وصار روحاً نفسانية ، محطّاً ومطية للقوىٰ المدركة الظاهرة والباطنة ، والقوىٰ والمحرّكة.

وهذا هو الدور الحيواني ، وإلىٰ هنا التصويرات في الأرحام.

الدورة الإنسانية

وإذا خرج المولود من بطن اُمّه إلىٰ رحم الأرض كان في الدرجة الحيوانية إلىٰ أوان البلوغ الصوري الظاهري ، ثم يأخذ في الدورة الإنسانية مستعملاً للفكر والروية ، فإما يسلك مسلك التوحيد ، وإمّا يذهب مذاهب اُخر إلىٰ ما شاء الله.

فجميع هذه مراتب النفس الإنسانية ، ولها درجات ومقامات اُخر من مراتب العقل بالقوّة ، والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد ، والفناء في العقل الفعّال الذي هو قدرة الله الملك المتعال ، كما قيل :

ونور الانسان وإن شاب الدجىٰ

فالهيكل الجامع للتوحيد جا

طبع لدىٰ الحدوث جسماني

وفي البقاء هو روحاني

ومجمع الصفات تشبيهيهْ

ومظهر النعوت تنزيهيّهْ

كما بأوج الملكوت طائرُ

فبحضيض الملك أيضاً سائرُ

كما هو الفعّال للتعقّل

يدرك بالإحساس والتخيّل

والبدن المقبور من مراتبه

فليحترم فليس من مثالبه

من ذا قرابين وزور شرعا

في الحكم عظمه الرميم تبعا

١١٨
 &

قال صدر المتألهين قدس‌سره ، في شرح بعض هذه الكلمات : « قوله عليه‌السلام ـ في النفس الحيوانية ـ : ( وانبعاثها من القلب ) أي أوّلاً وبالذات ».

قال : « وهذا لا يدفع قول الحكيم وتسميته إياها قوًىٰ دماغية : لأنّ الروح البخاري ينبعث من التجويف الأيسر من القلب أولاً ، ثم يصعد في مسلك بعض الشرايين إلىٰ الدماغ ، فيبرد بالتردّد في تجاويفه ، فيعتدل ويصير مطايا القوىٰ الدماغية ».

ثم قال : « ولعل الفكر والعلم متعلّقة بالعقل النظري المسمىٰ بالقوّة العلّامة للنّاطقة ، فتكون إشارة إلىٰ العقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد. والحلم والنباهة متعلّقان بالعقل العملي المسمّىٰ بالقوّة العمّالة للناطقة ، فتكون إحداهما الحال ، والاُخرىٰ الملكة في العمل الصالح ، ومناسبة الحلم إنّما هي مع الملكة باعتبار الثبات والاستقامة والطاقة للعامل.

ويمكن أن تكون النباهة إشارة إلىٰ الحدس المغلوب للفكر في الثالثة ، والنزاهة هي الحرية التي يقال في النفس الشريفة : هي التي فيها الحكمة والحرية ».

ثم قال : « وقوله عليه‌السلام في الكليّة الإلهيّة : ( بقاء في فناء ) ... إلىٰ آخره ، يمكن أن يكون ( في ) للتعليل ـ ولا يخفىٰ وجهه ـ وأن يكون للظرفية ، من قبيل كون الباطن في الظاهر ، والروح في الجسد. ومن أمثال العرفاء : إذا جاوز الشيء حدّه انعكس ضدّه ».

وقال أيضاً : « وقوله عليه‌السلام ( والعقل وسط الكلّ ) تمثيل لكون العقل مركزاً وهي دوائر. لكن اعلم أنّ الأمر في المركز والدائرة المعنويين في الإحاطة علىٰ عكس حال المركز والدائرة الحسّيين ، فذلك العقل الكلّي ـ إن رزقك الله تعالىٰ ـ هو الأصل المحفوظ لهذه » (١) انتهىٰ كلامه الشريف.

_____________________________

(١) « شرح دعاء الصباح » ص ٩٤ ـ ٩٥ ، باختلاف.

١١٩
 &

معنىٰ خيانة النفس

فإذا عرفت تعريف النفس ومراتبها وأقسامها وبعض أحكامها ، فاعلم أنَّ خيانتها للعقل ـ في قول السائل ـ اتّباعها الشهوات العاجلة وهواجسها الدائرة الزائلة ، وهلوعها وولوعها فيها ، وتركها نصيحة العقل في الاُمور الآجلة واللذات الباقية الدائمة ، وتقويتها للوساوس الشيطانية التي مآلها النكال والعقاب ، والمانعة عن لقاء الله ، والحرمان من لقاء الجور ، والخلود في جهنم ، بئس المهاد والمآب.

وسبب اتباعها الشيطان وترك نصح العقل هو عدم معرفتها ذاتها وباطن ذاتها الذي هو العقل ، وحجّة الله التي أرسلها من الباطن إلىٰ الخلق ، وعدم طاقتها وتحمّلها مشاق التكاليف ، وعدم بصيرتها في امتياز الحقّ من الباطل ، والآجل من العاجل ، كما في الحديث : ( حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ) (١).

ولهذا ، النفوس الضعيفة ـ في الأغلب ـ تركت اتّباع عيسىٰ العقل ، وركبت علىٰ حمير الأبدان ، وجعلت جلّ مقاصدها تعميرها وتسمينها.

ترك عيسىٰ كرده خر پرورده

لا جرم چون خر درون بروده

نقل كلام الغزالي

قال صاحب « إحياء العلوم » في كيفية محاربة النفس مع الشيطان والتطارد بين جنود العقل والجهل في معركة وجود الآدمي : « اعلم أنّ خاطر الهوىٰ يبتدئ أولاً فيدعوه إلىٰ الشر ، فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلىٰ الخير ، فتنبعث النفس بشهوتها إلىٰ نصرة خاطر الشر ، فتقوىٰ الشهوة فتحسن التمتع ، فينبعث العقل إلىٰ خاطر الخير ، ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها ، وينسبها إلىٰ الجهل ، ويشبّهها بالبهيمة والسبع في تهجمها علىٰ الشر ، وقلة اكتراثها بالعواقب.

وتميل النفس إلىٰ نصح العقل ، فيحمل الشيطان حملة علىٰ العقل ، ويقوىٰ داعي

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٦٧ ، ص ٧٨ ، ح ١٢.

١٢٠