أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق

محمد علي صالح المعلّم

أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق

المؤلف:

محمد علي صالح المعلّم


المحقق: محمد علي صالح المعلّم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٦

الأصل الثاني

البحث حول كتاب من لا يحضره الفقيه

للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن

الحسين بن بابويه القمي

* الاستدلال على حجية رواياته

* استعراض المناقشات

* تفنيذ المناقشات

* الثمرات والنتائج

٦١
٦٢

وقد استدلّ على صحة رواياته بما ذكره الشيخ الصدوق قدس‌سره في أوله حيث قال : ولم أقصد فيه قصد المصنفين ، في ايراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى ايراد ما أفتي به ، وأحكم بصحته ، وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول ، وإليها المرجع ... (١) ، الخ.

فهذه العبارة تدل على صحة روايات الكتاب من جهتين :

١ ـ تصريحه بأنها صحيحة وحجة.

٢ ـ انها مشهورة ومستخرجة من الكتب المعول عليها عند علماء الطائفة.

وقد اشكل على كلتا الجهتين :

وهاتان الجهتان تتضمنان ثلاث شهادات لكل منها ثمرة ، كما سيأتي :

أما على الأولى فبأن عبارته وإن كانت صريحة لا قصور فيها من جهة المقتضي ، الا أنّ الاشكال في أن صحة رواياته إنما هي على نظره ، ومبناه ، ولا يعني ذلك صحتها عندنا ، فلا تكون شهادته بالنسبة إلينا عن حس ، إذ أننا لا نعلم كيفية تصحيحه للروايات ، فلا يمكن الإعتماد على شهادته ، مضافا إلى أن المعروف من طريقته متابعته لشيخه ابن الوليد ، بل مشايخه الآخرين في التصحيح ، من دون فحص عن حال الراوي ، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه فهو مقلد لمشايخه ، ولا يبقى في كلامه ملاك الشهادة ، فلا تكون حجة بالنسبة إلينا.

والحاصل ان الاشكال من وجهين الأول : أن شهادته حدسية ، لا حسية ، فلا تكون حجة بالنسبة إلينا ، الثاني انه مقلد لمشايخه في التصحيح ، والتضعيف.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ١ : ص ٣ الطبعة الثانية.

٦٣

وأما الاشكال على الجهة الثانية فهو ما ذكره السيد الاستاذ في المعجم (١) وحاصله : أن الكتب المعروفة المعتبرة التي أخرج منها الصدوق روايات كتابه ، لم يبدأ في الفقيه بأصحابها ، وقد ذكر جملة منهم في المشيخة ، وإنما هي كتب غيرهم من الاعلام المشهورين ، كرسالة والده إليه ، وكتاب شيخه محمد بن الحسن بن الوليد ، فالروايات المودعة في الفقيه مستخرجة من هذه الكتب معتقدا أنها كتب معروفة ومعتبرة ، وأما كونها صحيحة ، أو غير صحيحة ، فهو أمر أجنبي عن ذلك .. نعم هذا في حق الشيخ الطوسي رحمه‌الله ثابت ، فإنه قد صرح في كتابيه التهذيب ، والاستبصار ، بأنه بدأ الأسناد بأصحاب الكتب (٢) نعم لم يشر الشيخ الى أنه استخرج روايات كتابيه من كتب معتبرة ومعروفة.

والجواب عن الوجه الاول من الاشكال الأول فهو وارد لو لم نعرف راي الصدوق رحمه‌الله في اعتماده على توثيق الراوي ، اما إذا علمنا ذلك فالاشكال في غير محله ، وهو الصحيح ، فإن الصدوق يعتبر وثاقة الراوي في الاعتماد على الرواية ويعلم ذلك من خلال الرجوع إلى كلماته وكلمات غيره ، ومن الشواهد على ذلك امور :

الأول : ما ذكره الشيخ الطوسي رحمه‌الله في الفهرست (٣) في ترجمة سعد بن عبد الله ، عن الشيخ الصدوق رحمه‌الله قال : وقد رويت عنه كل ما في المنتخبات مما اعرف طريقه من الرجال الثقاة.

وهي عبارة صريحة في اعتماده على الثقاة.

الثاني : قال في الفقيه : أما خبر صلاة الغدير ، والثواب المذكور فيه لمن

__________________

(١) معجم رجال الحديث ج ١ الطبعة الخامسة ص ٨٧.

(٢) ن. ص ص ٧٧.

(٣) الفهرست الطبعة الثانية في النجف الأشرف ص ١٠٢.

٦٤

صام ، فإن شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصححه ... إلى أن قال : فهو عندنا متروك غير صحيح (١). وسبب ذلك أن في سند هذا الخبر محمد بن موسى الهمداني وهو غير ثقة ، ولذلك استثناه ابن الوليد وتبعه الشيخ الصدوق ، فكل ما لم يصححه ابن الوليد فهو غير صحيح عنده ، وهذا القول ـ من الصدوق ـ وإن لم يكن صريحا في اعتبار الوثاقة الا أنه ظاهر فيه.

الثالث : ذكر الشيخ النجاشي في رجاله ان ابن الوليد استثنى من كتاب نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى الاشعري جملة من الرواة (٢) ـ وهنا بحث حول هذا الكتاب واستثناءات ابن الوليد منه ومدى دلالتها على ضعف الرواة وتوثيق بقيتهم ، وسيأتي الكلام عنه ـ وحيث أن الشيخ الصدوق يتبع شيخه في التصحيح ، والتضعيف فقد تبعه في الاستثناء أيضا.

واستشكل أبو العباس بن نوح على الصدوق وشيخه فقال : أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله ، وتبعه أبو جعفر بن بابويه رحمه‌الله على ذلك إلا في محمد بن عيسى بن عبيد ـ لماذا استثني من نوادر الحكمة ـ فلا أدري ما رابه فيه ، لانه كان على ظاهر العدالة والثقة (٣)

ومحل الشاهد الجملة الاخيرة (لانه كان على ظاهر العدالة والثقة) فيفهم منها أن العباس بن نوح وابن الوليد والصدوق يعتبرون الوثاقة في الراوي.

الرابع : قال الصدوق في أول كتاب المقنع : «وحذفت الاسناد منه لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يمله قاريه إذا كان ما أبينه في الكتب الاصولية موجودا مبيّنا على المشايخ العلماء الفقهاء الثقاة رحمهم‌الله

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ آخر الحديث ٢٤١.

(٢) رجال النجاشي الطبعة الاولى المحققة ج ٢ ص ٢٤٢.

(٣) ن. ص ص ٢٤٤.

٦٥

تعالى (١)».

وهو صريح في انه إنما حذف الأسناد لأنّه كان مبيّنا على العلماء الثقاة وتفصيل ذلك ان قوله (مبينا على المشايخ) يحتمل أحد امور :

١ ـ أن يكون المراد من العلماء الفقهاء الثقاة هو خصوص المشايخ.

٢ ـ أن يكون المراد منهم أصحاب الأصول كزرارة ، وابن أبي عمير وغيرهما.

٣ ـ أن يكون المراد هو جميعهم.

أما الاحتمال الأول فبعيد لعدم خصوصية للمشايخ في تصحيح الرواية ، ويؤيده ترحم الصدوق عليهم مع أنهم لم يكونوا كلهم أمواتا.

وأما على الاحتمالين الآخرين فيثبت المطلوب.

الخامس : ما يستفاد من كلام الشيخ الطوسي في العدة ، حيث قال : «إنا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثقت الثقاة منهم ، وضعفت الضعفاء ، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذمّوا المذموم وقالوا : فلان متهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم ، حتى أن واحدا منهم ، اذا أنكر حديثا نظر في اسناده وضعفه بروايته ، هذه عادتهم على قديم الوقت ، وحديثه لا تنخرم» (٢).

__________________

(١) كتاب المقنع ص ٥٠ الطبعة المحققة ١٤١٥ ه‍ مؤسسة الامام الهادي (ع).

(٢) عدة الأصول الطبعة الاولى المحقّقة ص ٣٦٦.

٦٦

وعبارته تشتمل على امور :

الأول : ان سيرة الطائفة جارية على توثيق الثقاة وتضعيف الضعفاء ويظهر من قوله : وجدت الطائفة ... دعوى الاجماع على ذلك. ولا شك في أن من جملة أعيان الطائفة الكليني ، والصدوق ، فهما مشمولان لكلام الشيخ قطعا ، إذ لا يمكن اغفالهما ، مضافا إلى انه ذكر «فهارسهم» وهو شامل لفهرست الصدوق كما لا يخفى ، ويؤكد (١) ذلك أن الشيخ الطوسي كثيرا ما يتعرض لآراء الصدوق في كتابي التهذيب ، والاستبصار ، كما أشار في مواضع إلى فهرست الشيخ الصدوق.

الثاني : ان قوله «واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم» منصرف إلى الشيخ الصدوق وشيخه ابن الوليد ، وقد استشهد باستثنائهما في كثير من الموارد في كتابيه التهذيب ، والاستبصار ، ولا أقل من أنه شامل للصدوق.

الثالث : ان مسألة التصحيح والتوثيق والتضعيف ليست من المصطلحات الجديدة. وفي كلام الشيخ رد على من يدعي أنها اصطلاحات محدثة لم تكن في زمان الصدوق والكليني.

فكلام الشيخ الطوسي صريح في اعتبار الوثاقة عند الطائفة ، والشيخ الصدوق من اجلائها ، ويؤيد ذلك أن الشيخ قال في ترجمة الصدوق : «إنه كان جليلا ، حافظا للأحاديث ، بصيرا بالرجال ، ناقدا للأخبار (٢)».

ومع هذا الكلام هل يعقل ان الصدوق يأخذ بكل رواية من دون تمييز

__________________

(١) الاستبصار ج ١ : ٢٣٧ ، ٣٨٠ ، ٤٣٢ ـ ج ٣ : ٧٠ ، ١٤٦ ، ٢١٤ ، ٢٦١ ، وج ٤ : ١٣٠ ، ١٥٥ ، ١١٨ ، وغيرها.

(٢) الفهرست للطوسي الطبعة الاولى ص ٤٩٥.

٦٧

لرجالها وثاقة وضعفا؟ وإذا كان الشيخ الطوسي ممن يعتبر الوثاقة فكيف يصف الصدوق بأنه بصير بالرجال ، ناقد للأخبار؟

فتبين ان الوجه الأول من الاشكال الأول غير وارد.

وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو تبعية الصدوق لشيخه ففيه :

أولا : إنما يرد الاشكال إذا كان ابن الوليد لا يعتبر الوثاقة ، أما إذا كان يعتبرها في الراوي فلا مانع من التبعية وحينئذ لا يرد الاشكال ، وقد مر ان ابن نوح استشكل على الصدوق وشيخه في استثناء محمد بن عيسى بن عبيد لأنه كان على ظاهر العدالة والثقة ، واستظهرنا ـ هناك ـ بهذا وغيره ان ابن الوليد والصدوق يعتبران الوثاقة في الراوي.

ثانيا : على فرض عدم دلالة الوجوه المتقدمة على اعتبار الوثاقة عند ابن الوليد ، الا أن تبعية الشيخ الصدوق له كاشف إنّا عن اعتبار ابن الوليد للوثاقة لما ثبت من ان الصدوق يعتبر الوثاقة فكيف يتبع من لا يعتبرها؟

فتبعية الشيخ الصدوق مع كونه بصيرا بالرجال ، ناقدا للأخبار ليست من التقليد الاصطلاحي بل من جهة الاطمئنان والوثوق بدقة نظر شيخه وكمال تورعه واحتياطه في الأخبار.

الجواب عن الاشكال على الجهة الثانية :

وحاصل الاشكال ـ كما ذكرنا ـ أن الصدوق لم يبدأ السند في كتابه بأصحاب الكتب المشهورة المعروفة ، وإنما بدأ بكتب مشايخه كرسالة أبيه إليه ، وكتاب شيخه ابن الوليد ، نعم هذا في حق الشيخ ثابت.

وجوابه : ان الاشكال إذا كان على عدم أخذ الصدوق روايات كتابه من الكتب المشهورة المعوّل عليها ، بل أخذها من كتب مشايخه فقط ، فهو واضح الفساد ، لتصريحه بأنه أخذها من كتب جملة من الرواة كحريز بن عبد الله ، وعبيد

٦٨

الله الحلبي ، وعلي بن مهزيار ، وابن أبي عمير ، والبرقي ، وغيرهم ، وشهد بأن هذه الكتب مشهورة ، وعليها المعول وأنها مورد لعمل الأصحاب.

وهذه الجملة تتضمن شهادتين الاول كونها مشهورة ، والثانية انها معمول بها وهاتان الشهادتان توجبان اعتبار سلسلة السند الى المعصوم عليه‌السلام وإذا كان الإشكال على عدم التلازم بين أخذه الروايات من الكتب المعتبرة وبين صحة أسانيدها لأنّه لم يلتزم بذكر صاحب الكتاب في أول السند لاحتمال أن يكون بينه وبين صاحب الكتاب شخص أو أشخاص مجهولون أو ضعاف فجوابه :

أولا : ان هذا الاحتمال بعيد جدا لا يصار إليه إلا مع الدليل ، فإن الظاهر ان المتعارف ان من ينقل رواية عن أصل أو كتاب يبدأ بصاحب الاصل أو الكتاب ويذكر بعده بقية السند إلى آخر الرواية ، إذا لم يكن هو الراوي عن الامام عليه‌السلام مباشرة وإلا بدأ به.

أما قطعه للسند فأمر خلاف المتعارف ، بل ربما يوجب التدليس في النقل ، والممارس لروايات الفقيه يلمس ذلك ، فان الصدوق كثيرا ما ينقل عن الراوي عن الامام عليه‌السلام وقد ينقل عن الراوي ، عمن روى عن الامام في نفس الموارد. وفي بعض الموارد الأخرى ينقل الرواية بثلاث وسائط عن الامام عليه‌السلام ، وقد ينقلها بأربع وسائط ، أو تمام السند كما في الموارد التي نقلها عن ابن محبوب ، فالاختلاف في النقل دليل على نقله عن نفس الكتب ، ولو كانت من كتاب شيخه فلماذا هذا الاختلاف؟ مضافا إلى أنه لا معنى لذكر طريق في المشيخة إلى راو واحد أخذ رواياته من كتب متعددة ولازم تعددها أن تتعدد الطرق .. الا إذا كان للراوي رواية واحدة ، أو روايات قليلة ، فيمكن ذلك كما في

٦٩

رواية أسماء (١) ، او رواية جاء نفر من اليهود (٢).

ثانيا : على فرض التسليم ، فهذا يضرّ بصحة الروايات عندنا إذا لم نعرف مبنى الصدوق في تصحيح الروايات ولكن بعد ما عرفنا أنه يعتبر الوثاقة في حجية الرواية ، والمفروض أن الكتب التي نقل عنها لا تحتاج إلى الطريق ، فالروايات تكون معتبرة عندنا أيضا.

واما ما ذكر من الاشكال على الشيخ ، بأنه وإن التزم بأن من بدأ به هو صاحب الكتاب ، إلا أنه غير مفيد فسيأتي ان شاء الله تعالى.

ثالثا : على فرض التسليم ، وغض النظر عن شهادة الصدوق بالوجهين الّا أنّه يمكننا تصحيح كثير من الروايات التي كانت موجودة في الكتب المعروفة ، والمشهورة لعين ما ذكرنا في روايات الكافي ، إذ لو كان النقل من غيرها وكان بينهما اختلاف لذكره.

رابعا : ان للصدوق طرقا صحيحة الى بعض الرواة يروي بها جميع كتبهم ورواياتهم ، وبناء على ذلك فلا حاجة إلى ملاحظة أسنادها ، وسنذكر جدولا لذلك ، الّا أنه يمكن الإشكال على هذا الوجه بما تقدم ، في الكافي : من احتمال أن شهادته بصحة رواياته مستندة الى القرائن المذكورة ، ولو في الجملة «بالنسبة الى بعض الروايات» خصوصا وأنه قد عدّ من جملة الكتب المشهورة المعول عليها ، كتاب المحاسن ، لأحمد بن أبي عبد الله البرقي ، وكتاب نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى وغيرهما ، مما يبعد القول بصحة جميع الروايات ، فلعل مراده من الكتب المعول عليها ـ التعويل في الجملة ـ وهذا مما يقضي

__________________

(١) مشيخة الفقيه ـ دار التعارف ص ٢٩.

(٢) ن. ص ص ١١.

٧٠

بالتفصيل ، والفحص ، عن وجود القرائن وعدمه ، في غير الموارد التي ثبت اعتبار الطريق فيها.

والمتحصّل ممّا تقدّم امور :

١ ـ الحكم بصحة الروايات المذكورة المعتبرة السند.

٢ ـ الحكم بصحة الروايات المذكورة في الكتب المعروفة والمشهورة إذا كان صاحب الكتاب ثقة.

٣ ـ الحكم بصحة الروايات التي يكون للشيخ الصدوق طريق صحيح إلى جميع روايات صاحبها.

٤ ـ الحكم بصحة الروايات التي يكون للشيخ الصدوق طريق آخر إلى الكتاب الذي نقلها منه إذا علمنا ذلك عن طريق الشيخ الطوسي أو النجاشي ، وهذه الامور متفق عليها.

٥ ـ الحكم بصحة جميع روايات الفقيه اعتمادا على شهادة الصدوق في وجه قوي.

٧١
٧٢

الأصل الثالث

البحث حول التهذيبين

لشيخ الطائفة ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

* الوجوه التي يمكن بها تصحيح رواياتهما

* مناقشة هذه الوجوه وتزييف المناقشة

* نظرية الشيخ قدس‌سره في حجية الروايات

* رؤية جديدة لتصحيح كثير من الروايات ولا سيما روايات التهذيبين

* حتمية وضع معيار جديد للتصحيح والتضعيف

* الدفاع عن الشيخ قدس‌سره

* نسبة التساهل الى الشيخ في الروايات وفراغها عن الواقع

٧٣
٧٤

وقد استدل على صحة الروايات الواردة في كتابي التهذيب والاستبصار بوجهين :

الأول : ما حكاه المحقق الكاشاني في الوافي (١) ، قال : قال صاحب التهذيب في العدة : «إنّ ما أورده في كتابي الاخبار إنما اخذه من الاصول المعتمد عليها».

وهذا القول شهادة على أن جميع روايات الكتابين مأخوذ من الكتب المعتمدة فتكون صحيحة.

وأشكل على هذه العبارة بأنها غير موجودة في العدة ، ولو سلم ذلك ، الا أن الشهادة بالصحة لا تستوجب حجية الروايات عندنا ، وإنما تكون حجة إذا اعتبرنا عين ما يعتبره الشيخ من الشروط في صحة الروايات ، فصحتها عنده لا تعني صحتها عندنا.

وبعبارة أخرى إن الاشكال الوارد على الأصلين السابقين وارد في هذا المقام.

والجواب : إننا وإن لم نجد هذه الجملة المحكية صريحة في العدة ، الا أنه يمكن استفادة مضمونها من ضم كلمات الشيخ بعضها إلى بعض. فإن الشيخ بعد ان ذكر مختاره في حجية خبر الواحد ، إذا كان راويه إماميا ولم يطعن في روايته وكان سديدا في نقله قال : والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقة ، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ، ودوّنوها في أصولهم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتدافعونه حتى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه : من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف ،

__________________

(١) الوافي ج ١ المقدمة الثانية ص ١١ الطبع القديم.

٧٥

أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا ، وسلموا الأمر في ذلك ، وقبلوا قوله ...

ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الاخبار التي اشرنا إليها ، ما ظهر من الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الاحكام ، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه ، من الطهارة إلى باب الديات من العبادات ، والأحكام ، والمعاملات ، والفرائض وغير ذلك ، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم ، ... وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم‌السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص بالفقه في كتابي المعروف بالاستبصار ، وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث ، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها ، وذلك أشهر من أن يخفى (١)».

والمشار إليه في قوله بهذه ، الاخبار التي أشرنا إليها ، إن كان هو مختاره أو قوله : «كتاب معروف ، أو أصل مشهور» وكان راويه ثقة ، فالاستدلال تام ، لأن أحد مصاديقه ذكر اختلاف روايات كتابيه.

ويؤيد ذلك ما فهمه المحقق قدس‌سره في المعارج ، حيث قال : وذهب شيخنا أبو جعفر إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبين أنه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الاخبار التي رويت عن الأئمة عليهم‌السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أن كل خبر يرويه الإمامي يجب العمل به ، هذا الذي تبين لي من كلامه ، ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الاخبار ... (٢) الخ.

__________________

(١) عدة الاصول الطبعة الاولى المحققة ص ٣٣٧ ، ٣٥٤.

(٢) معارج الأصول الطبعة الأولى قم ص ١٤٧.

٧٦

وإن كان المشار إليه هو «الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أصولهم ، لا يتناكرون ذلك» فالاستدلال ناقص ، لأن الظاهر من استشهاد الشيخ هو أن العمل بهذه الاخبار لم يكن أمرا منكرا عندهم ، كالعمل بالقياس مثلا ، ولم يكن بصدد بيان أن الروايات جامعة للشرائط.

واما الاشكال بأن صحة الروايات عند الشيخ لا تستوجب صحتها عندنا ، فهو غير وارد ، لأن التحقيق في مختاره في العمل بخبر الواحد اعتماده على العدالة والوثاقة ، وليس ممن يكتفي باصالة العدالة ، كما احتمله السيد الاستاذ قدس‌سره في حقه.

ويشهد على ذلك تصريحه باعتبار الوثاقة في جملة من كلماته في موارد ، منها :

١ ـ ما ذكره في الاستبصار قال : اعلم إن الاخبار على ضربين ، متواتر وغير متواتر ، وما ليس بمتواتر على ضربين ، فضرب منه يوجب العلم أيضا ... وأما القسم الأخير ، فهو كل خبر لا يكون متواترا ويتعرى من واحد من هذه القرائن ، فإن ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروط ... (١) ـ وقد بين الشروط في ما بعد ـ.

٢ ـ ما ذكره في العدة في فصل خبر الواحد بعد إيراد الأقوال قال : فأما ما اخترته من المذهب فهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالامامة ، وكان ذلك مرويا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، او عن أحد الأئمة عليهم‌السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ، ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر ، لأنه إن كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار

__________________

(١) الاستبصار ج ١ ص ٣ الطبعة الثالثة.

٧٧

بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم ، ونحن نذكر القرائن فيما بعد التي جاز العمل بها.

والذي يدل على ذلك ، اجماع الفرقة المحقة ، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أصولهم ، حتى ان واحدا منهم ... إلى كتاب معروف ، أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الامر وقبلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام انتشر العلم عنه ، وكثرت الرواية من جهته ، فلولا أنّ العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه لأن اجماعهم فيه معصوم (١) ...

٣ ـ وفي مكان آخر قال : «والذي أذهب إليه : أن خبر الواحد لا يوجب العلم وان كان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلا ، وقد ورد جواز العمل به في الشرع ، إلا أن ذلك موقوف على طريق مخصوص ، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة ، ويختصّ بروايته ، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها ...» (٢).

٤ ـ وفي مورد آخر قال : «كما أنه ليس لنا أن نتعدى عن رواية العدل ، إلى رواية الفاسق ، وإن كان العقل مجوّزا لذلك أجمع على أن من شرط العمل بخبر الواحد ، أن يكون راويه عدلا بلا خلاف ، وكل من أسند إليه ممن خالف الحق لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه (٣)» ولا يتوهّم أن مراده بالعدالة هو كون الامامي عادلا ، بل مراده ان غير الامامي ليس بعادل ، وذلك يظهر من كلامه بأدنى تأمل.

٥ ـ وقال في موضع آخر : «ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه ، أنا وجدنا

__________________

(١) عدة الأصول الطبعة الاولى المحقّقة ص ٣٣٦.

(٢) ن. ص ص ٢٩٠.

(٣) عدة الاصول ج ١ الطبعة الاولى المحققة ص ٣٤١.

٧٨

الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثقت الثقاة منهم ، وضعفت الضعفاء ، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح وذمّوا المذموم ، وقالوا فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ... حتى ان واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في أسناده وضعفه بروايته ، هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم ، فلولا ان العمل بمن يسلم من الطعن ، ويرويه من هو موثوق به جائز ، لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان خبره مطروحا مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف ، والتوثيق وترجيح الاخبار بعضها على بعض (١).

٦ ـ وفي موضع آخر قال : «وأما العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر ، فهو أن يكون الراوي معتقدا للحق ، مستبصرا ، ثقة في دينه ، متحرّجا عن الكذب ، غير متهم فيما يرويه ...» (٢).

٧ ـ وفي مورد آخر قال : «فإن قيل كيف تعملون بهذه الاخبار ، ونحن نعلم أن رواتها اكثرهم كما رووها ، رووا أيضا أخبار الجبر والتشبيه ... قيل لهم : ليس كل الثقاة نقل حديث الجبر ، والتشبيه ، وغير ذلك ، مما ذكر في السؤال» (٣).

٨ ـ وفي مورد آخر قال : «فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح ، وكان ثقة في روايته ، متحرزا فيها فإن ذلك لا يوجب رد خبره ، ويجوز العمل به لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه ...» (٤).

__________________

(١) عدّة الاصول ج ١ الطبعة الاولى المحقّقة ص ٣٦٦.

(٢) ن. ص ص ٣٧٩.

(٣) ن. ص ص ٣٤٥.

(٤) عدة الاصول ج ١ الطبعة الاولى المحققة.

٧٩

٩ ـ وفي مكان آخر قال : «وأما إذا لم يكن كذلك ، ويكون ممن يرسل عن ثقة ، وعن غير ثقة ، فإنه يقدم خبر غيره عليه ، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره ، إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به ...» (١).

١٠ ـ وقال في الاستبصار في ذيل رواية الزعفراني الدالة على أن أول شهر رمضان من كل سنة الخامس من الشهر في السنة الماضية ... ولأن راويهما عمران الزعفراني وهو مجهول (٢).

١١ ـ وقال في ذيل رواية ابن أبي نجران : إن هذا الخبر مرسل لأن ابن أبي نجران قال : عن رجل ، ولم يذكر من هو ، ولا يمتنع ان يكون غير موثوق به (٣).

ويؤكد ما ذكرناه : كلام المحقّق في المعارج قال : قال الشيخ رحمه‌الله يكفي كونه ثقة ، متحرزا عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقا بجوارحه وادّعى عمل الطائفة على اخبار جماعة هذه صفتهم (٤).

وفي المقام اشكالات ثلاثة :

الاول : ذكر السيد الاستاذ رحمه‌الله في المعجم ان الشيخ ذكر في غير مورد من كتابيه : أن ما رواه من الرواية ضعيف لا يعمل به ، وقد رواها عن الكتب التي روى بقية الروايات عنها ، فكيف يمكن أن ينسب إليه أنه يرى صحة جميع روايات تلك الكتب (٥)؟

الثاني : انه قد يتساءل ما هو مقياس الوثاقة عند الشيخ؟ فقد يقال : إن مراده

__________________

(١) عدّة الاصول ج ١ الطبعة الاولى المحقّقة ص ٣٨٧.

(٢) الاستبصار ج ٢ الحديث ٢٣١ ، الطبعة الرابعة ـ الاخوندي ـ.

(٣) الاستبصار ج ١ حديث ٣٢٩ الطبعة الرابعة والتهذيب ج ١ ص ١٠٩ الطبعة الثالثة.

(٤) معارج الاصول ـ الطبعة الاولى ـ قم ـ ص ١٤٩.

(٥) معجم رجال الحديث ج ١ الطبعة الخامسة ص ٩٠.

٨٠