أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق

محمد علي صالح المعلّم

أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق

المؤلف:

محمد علي صالح المعلّم


المحقق: محمد علي صالح المعلّم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٦

كذلك ، فلا يستغنى حينئذ عن ملاحظة سند الرواية والضوابط المقررة لقبولها.

وأما من جهة الكبرى : فالكلام في حجية الشهرة والدليل على الحجية وما ورد من قوله عليه‌السلام «خذ بما اشتهر بين أصحابك» (١) فهو في مقام التعارض بين الروايتين بعد كونهما جامعتين لشرائط الحجية ، والقول بأن الشهرة بين المتأخرين موجبة للاطمئنان لا وجه له لبعدهم عن زمان صدور الروايات وأحوال الرواة والقرائن التي تحفّ بها ، فهم إما يقلّدون القدماء أو يرجّحون الرواية بحسب ظنونهم الإجتهادية وإعمال حدسياتهم ، فمع اختلاف هذه الظنون والحدسيات كيف يحصل لنا الاطمئنان بالرواية؟

وأما الشهرة بين القدماء ، فهي وإن كانت موجبة للاطمئنان ، لقرب عهدهم من زمان صدور الروايات ، واحتمال اطّلاعهم على قرائن لم تصل إلينا ، ولذا كانت سيرة بعض السّادة الاعاظم رحمه‌الله (٢) الاحتياط في هذه الموارد ، الا أن الكلام في ثبوتها صغرويا؟ نعم اذا أخبر احدهم بعمل المشهور ، وكان حكمهم مستندا الى رواية والناقل سديد في نقله ، فالصغرى لا اشكال فيها الّا أنه قلّما يوجد ذلك.

إن قلت : إنكم تلتزمون بأن الشهرة في نسبة كتاب إلى مصنّف معيّن موجبة للاطمئنان من دون حاجة إلى الطريق ، ولا تلتزمون بذلك في الروايات ، فما الفرق بينهما؟

قلت : الفرق بينهما واضح فإن معنى الشّهرة في الكتاب اتّفاق جماعة موجبة للاطمئنان على نسبة الكتاب الى المؤلّف مباشرة ، بخلاف معناها في الرواية ، فإن الشهرة فيها ، نسبتها إلى المعصوم مع الواسطة تصريحا او إرسالا

__________________

(١) جامع احاديث الشيعة ج ١ ص ٢٥٥ الحديث ٤٢٨.

(٢) هو السيد البروجردي قدس‌سره.

٢١

فحينئذ لا بد من ملاحظة حال الواسطة.

نعم لو أسند المشهور الرواية الى المعصوم طبقة عن طبقة من دون احتمال القطع والارسال ، أوجب ذلك الاطمئنان ، وحينئذ يكون حكمه حكم شهرة الكتاب.

هذه عمدة ما استدلّ به المانعون وقد عرفت فسادها.

وهناك وجه آخر يتراءى من كلمات بعضهم وحاصله : ان الرواية إذا لاحت منها علائم الصدق أخذ بها ، ويكتفى بذلك عن ملاحظة شرائط الحجية.

وجوابه ان علائم الصدق لا تخلو إما أن تكون من جهة فصاحة الكلام وبلاغته ، وإما أن تكون من جهة اشتماله على المضامين العالية التي يبعد صدورها عادة عن غير المعصوم عليه‌السلام ، واما أن تكون من جهة المركّب منهما ، وإما أن تكون من جهة أخرى مثل نورانيّة كلماتهم عليهم‌السلام من بين الكلمات.

وعلى كلّ تقدير ، فغاية ما يفيده الظن بالصدور ، وقد تقدم عدم حجية الظن مطلقا ، الا ما خرج بالدليل ، ولا دليل على حجية هذه الامور.

وعلى فرض التنزّل والقول بحصول الإطمئنان من جهتها ، الا أنّ أكثر الروايات الواردة في الأحكام خالية عنها ، مضافا إلى أن غاية ما تفيده هذه العلامات هو الإطمئنان بأصل الرواية لا كل جملة ، وكل كلمة ، أو حرف ، مع أن الاحكام ربّما تختلف بالزيادة والنقيصة بحرف واحد ، فمن أين يحصل الاطمئنان بأن كل هذه الحروف والكلمات صادرة عن المعصوم عليه‌السلام؟

والحاصل أن هذه الأمور ما هي إلّا استحسانات غير موجبة للحجية ، فلا ينبغي صدور ذلك عن فاضل فضلا عن عالم.

فتحصل من كل ذلك أنه لا مجال للتشكيك في ضرورة الحاجة الى علم الرجال ، وان ما ذكر من الوجوه المانعة مردود.

٢٢

المناط في حجية قول الرجالي

قد ثبت بالدليل الحاجة إلى علم الرجال ، وأنّه لا بد من الرجوع إلى أقوال الرجاليّين لمعرفة أحوال الرواة ، ومدى وثاقتهم ، واعتبار روايتهم ، الّا أنّه يبقى الكلام في وجه الرجوع الى أقوال الرجاليّين والإعتماد على اقوالهم ، وفي المقام احتمالات ثلاثة :

الأول : أن الاخذ بقول الرجالي عمل بالظن والمعوّل عليه هو الظنون الرجالية (١).

الثاني : انه رجوع إلى أهل الخبرة وذوي الاختصاص (٢) ، فكما أن كلّ ذي اختصاص يرجع إليه في اختصاصه ، فكذلك الرجوع إلى أقوال الرجاليّين ، فإنه من هذا الباب ، فلمعرفة حال الراوي من كونه ثقة أو ضعيفا أو غير ذلك لا بد من الرجوع إلى علماء الرجال ، باعتبارهم أهل الفن والاختصاص ، وقول كل ذي فن حجة في فنّه.

الثالث : أنه من باب الشهادة والاخبار (٣) ، وان شهادة الرجاليين معتبرة كإخبارهم عن أحوال الرواة الواقعين في أسناد الروايات.

هذا ما يمكن أن يقال في المقام.

أما الاحتمال الأول فيلاحظ عليه : أنّنا قد ذكرنا أن العمل بالظنّ غير جائز ، وأن الظن في نفسه ليس بحجة ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات ، الا إذا كان ظنّا خاصّا ثبت اعتباره بالدليل ، ولم تثبت حجيّة الظنون الرجالية.

وربما يستدل على ذلك بأمرين :

__________________

(١) بهجة الآمال في شرح زبدة المقال ص ٢٢.

(٢) تنقيح المقال ج ١ ص ١٨٢ الطبعة القديمة.

(٣) بهجة الآمال في شرح زبدة المقال ص ٢٢.

٢٣

الأول : دعوى الاجماع على الظن الحاصل من قول الرجالي ، ويترتب على هذه الدعوى ـ كما جاء في كلام المحدث النوري ـ (١) التعويل على الرواية الواردة في مدح الشخص ، أو وثاقته ، وإن كانت ضعيفة السند ، وهكذا الاعتماد على الرواية وإن كان راويها الشخص في مدح نفسه.

ويرد عليه : أن هذه دعوى لا دليل عليها ، ولا أثر لهذا الاجماع في كلمات الفقهاء.

الثاني : ان الرجوع إلى أقوال الرجاليين من باب الانسداد ، إذ ليس لنا طريق قطعي لمعرفة أحوال الرواة عن طريق العلم او العلمي ، فلا بد من الرجوع الى الظن لأنه الأقرب الى الواقع.

ويرد عليه بما أورد على القول بحجية قول اللغوي من باب الانسداد وبيانه : إنّ الانسداد الموجب لحجيّة الظن ، انما هو في أكثر الاحكام وهو المسمّى بالانسداد الكبير ، فإن ثبت ذلك حكم بحجيّة الظنّ مطلقا سواء حصل من قول الرجالي أو اللغوي أو غيرهما ، وإن لم يثبت الانسداد في أكثر الأحكام لم تصل النوبة الى حجيّة الظنّ مطلقا.

وأما الانسداد الصغير بالنسبة الى اللغات أو حال الرواة فليس بحجة.

واما الاحتمال الثاني فيلاحظ عليه : بأنه مجرّد دعوى لا دليل عليها ، إذ أنّ حصول الظنّ من قول الرجاليّين ليس بحجّة الّا إذا أفاد الإطمئنان فتكون حجيّته من باب آخر ، لا لمجرّد كونهم أهل الخبرة ، نعم قد يكون قول أهل الخبرة حجة في بعض الموضوعات كما في القيم والمرافعات بعد الاطمئنان بأقوالهم ، وفي بعض الموارد الاخر كما في باب التقليد والفتوى على وجه ، والظاهر أنها ممضاة من قبل الشارع الا أنه غير ملزم للقول بحجية أقوالهم مطلقا.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ج ١ ص ٣٩ الطبعة الخامسة.

٢٤

وأمّا الاحتمال الثالث ، فهو المتعيّن ، بعد سقوط الاحتمالين الاولين ، فلا بدّ من ملاحظة توفّر شرائط الشهادة في أقوال الرجاليّين ، من كونها عن حسّ ، وان يكون الرجالي عادلا أو ثقة ، لا من جهة اعتبار التعدّد لأنه شرط خاص في بعض الموارد لا في جميعها وهي مختلفة ، ففي بعضها يثبت بأربعة ، وفي بعضها باثنين. فالأصل المستفاد من الأدلة المتقدمة التي أشرنا إليها هو اعتبار قول الشخص الواحد إذا كان جامعا لشرائط الحجية بلا فرق بين الاحكام والموضوعات.

بقي أمور لا بد من الاشارة إليها :

الامر الاول : هل تكفي وثاقة الراوي؟ أم لا بد من انضمام حصول الظن الشخصي؟

ذهب بعضهم (١) الى اعتبار الانضمام ، والظاهر عدمه ، لاطلاق الأدلّة ، وعدم تقييدها بحصول الظن الشخصي ، والتقييد هو المحتاج الى الدليل.

ومما يؤكّد ما ذهبنا اليه ، جريان السيرة العقلائيّة على ذلك ، حيث إنهم يعملون بخبر الثقّة مطلقا ، سواء أفاد الظن اولا ، فلو أخبر الثقة بأمر مّا ولم يرتّب السامع أثرا على ذلك محتجّا بعدم حصول الظن باخباره ، فللمولى أن يعاقبه ويحتجّ عليه كما ان للعبد أن يحتجّ على مولاه فيما إذا رتب الأثر باطلاق خبر الثقة ، أفاد ظنا شخصيّا أم لم يفد.

الأمر الثاني : هل أنّ شهادة الرجاليين عن حسّ أو حدس واجتهاد؟

والصحيح انّها من باب الاخبار عن حسّ ، لا من باب الاجتهاد والحدس ،

__________________

(١) مصباح الاصول ج ٢ الطبعة الاولى النجف الاشرف ص ٢٤٠.

٢٥

وذلك يظهر من الرجوع الى كتبهم ، فإنهم يعتمدون فيها على السماع أو الكتب ، وانهم إذا نقلوا عن أحد ـ مثلا ـ ذكروا مستندهم في ذلك ، وأنهم سمعوا منه.

ويتّضح ذلك بملاحظة رجال النجاشي ، فهو يعتمد فيه لتوثيق شخص أو تضعيفه على مشايخه ، كما يظهر من نقله ـ في خلال تراجمه ـ عن كثير من الاشخاص ، كابن الغضائري ، والكشّي ، وابن عقدة ، وابن نوح ، وابن بابويه ، وأبي المفضّل ، وغيرهم ، وكذلك عن كتب جمّة وقد احصيناها فبلغت أكثر من عشرين كتابا ، كرجال أبي العباس ، وابن فضال ، والعقيقي ، والطّبقات لسعد بن عبد الله ، والفهرست لابي عبد الله الحسين بن الحسن بن بابويه ، ولحميد بن زياد ، ولابن النديم ، ولابن بطّة ، ولابن الوليد ، ولغيرهم من الفهارس والكتب وهكذا الشيخ قدس‌سره فانه صرح في العدة بقوله : «... انا وجدنا الطائفة ميزّت الرّجال الناقلة لهذه الأخبار فوثّقت الثقاة منهم ، وضعّفت الضعاف ، وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذمّوا المذموم ، وقالوا : فلان متهّم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ...» (١) ومن المعلوم ـ ان الكتب الخاصة بأحوال الرواة وطبقاتهم وأخبارهم عن مشايخهم ومن قريبي العهد بهم كثيرة جدا ، وقد وقفنا على أكثر من أربعين كتابا منها ، مضافا الى تمكّنهم من الاطلاع عن طريق النقل ، والمشافهة ، فاحتمال الحدس في حقهم لا يعتد به ، كيف وفي حالة الاختلاف ينصون على ذلك ، حذرا من الالتباس والتدليس. فتوثيقات الرجاليّين لا تكون عن حدس واجتهاد بل سماعا من المشايخ.

ان قلت : كثيرا ما نرى أن الرجاليّين كالشيخ الطوسي ، والشيخ النجاشي ،

__________________

(١) عدّة الاصول الطبعة الاولى المحقّقة ج ١ ص ٣٦٦.

٢٦

وغيرهما ، يذكرون التوثيق ، والتضعيف ، من دون أن يستندوا إلى شيخ معيّن ، حتى نميّزه فيكون ذلك كالارسال في الرواية ، فكما أن الارسال فيها غير حجّة فكذا هنا ، واي فرق بين الموردين؟!

قلت : إن الفرق بين الموردين واضح عند التأمّل ، فإن ارسال مثل الشيخ ، والنجاشي ، إنّما يكون بعد سماعهم عن مشايخهم ، جميعهم أو أكثرهم ، بحيث يحصل لهم العلم الوجداني أو التعبدي بذلك ، فيوجب العلم بأن الوسائط ثقاة ، ولو كان لديهم أدنى شك أو إختلاف لنسبوا ما ذكروه الى الشخص الّذي نقلوا عنه ، فكيف يقاس ذلك بالإرسال في الرواية ، فإنّ الإرسال فيها غير موجب للعلم بوثاقة من ارسل عنه ، نعم إذا علمنا ان المرسل لا يرسل إلّا عن ثقة ، أمكن الاعتماد على مراسيله ، كما في مراسيل ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي ، وغيرهم ، على وجه كما سيأتي.

هذا كله عند المتقدمين قريبي العهد بالرواية والراوي ، فقد يكون بينهم وبين الراوي واسطة واحدة أو اثنتان فيمكنهم معرفة حاله حسا ، كما هو الظاهر ، واحتمال الحدس موهون ، لا يعتنى به.

بخلاف المتأخّرين ، فإنهم بعيدون عن زمن الرواة ، فاحتمال نقلهم عن حسّ موهون ، وكلّما كان الزمان متأخرا قوي جانب الحدس على الحسّ ، فلا يمكن الاعتماد على توثيقاتهم ، الا بالنسبة الى مشايخهم ، أو مشايخ مشايخهم ، لوضوح جانب الحسّ فيها.

فاذا أحرزنا أن نقلهم كان عن حسّ ، أو ذكروا مستندهم في التوثيق ، بنقل عن نقل ، وسماع عن سماع ، فلا إشكال في الأخذ به ، إلّا أنه نادر الحصول.

قد يقال : إن سلسلة السند قد انقطعت في زمان الشيخ لأن من بعده مقلّد له ، فلا يمكنهم الإخبار عن حسّ.

٢٧

والجواب : أن ما ذكر دعوى لا دليل عليها ، لأنا إذا أحرزنا أن الشيخ واسطة في السلسلة ، فهي غير منقطعة ، لاتّصالها بمن سمع من الشيخ ، فيكون قوله حجة ، لأنه عن حسّ ، فلا يلتفت إلى هذه الدعوى ، والمهمّ في المقام هو إحراز نقل المتأخّرين عن حسّ لا عن حدس.

ثم إنّ هذا يجري بعينه في دعوى الإجماع على وثاقة شخص مّا ، لحجّية إجماع المتقدّمين ، وكذلك إجماع المتأخّرين إذا كان متّصلا بالمتقدمين ، أو علمنا بوجود بعض القدماء بين المجمعين.

وأما إجماع المتأخّرين من دون أحد الأمرين فلا عبرة به ، ولا يبعد أن يكون من القسم الاول ، دعوى الاتّفاق من ابن طاووس قدس‌سره على توثيق محمد بن موسى بن المتوكل (١) وابراهيم بن هاشم وغيرهما.

والعمدة في المقام إحراز أن التوثيق ، أو التضعيف ، صادر عن حسّ كالاجماع ، فإن أحرز فهو وإلّا فلا.

الأمر الثالث : لا فرق في التوثيق والتضعيف بين أن يكون على نحو الخصوص ، أو على نحو العموم ، فالتّوثيقات العامة كالتّوثيقات الخاصة فمؤدّى قولنا مثلا كل من وقع في اسناد كامل الزيارات ثقة ، وقولنا فلان ثقة واحد.

ثم إن التوثيقات العامة هل تشمل الكتب الأربعة؟ وهل انّ تصحيح الرواية يعتبر توثيقا أم لا؟ هذا ما يكون عليه مدار البحوث التالية.

__________________

(١) فلاح السائل : الفصل التاسع عشر ص ١٥٨.

٢٨

في الكتب وأسانيدها

ويقع البحث في فصلين

الفصل الاول : ما يتعلّق بالكتب الأربعة

الفصل الثاني : الكتب التي يمكن استظهار صحتها

٢٩
٣٠

الفصل الأول

الكتب الأربعة

ذكرنا فيما تقدم ، أنّ المشهور بين الاخباريين ، وكثير من الأصوليين ، القول بصحة روايات الكتب الاربعة ، كما ذكرنا انّ صاحب الوسائل قدس‌سره قال بصحة الروايات مطلقا ، وكلامه شامل لروايات الكتب الاربعة قطعا ، وقد أشار صاحب الحدائق قدس‌سره الى ذلك في المقدمة الثانية من كتاب الحدائق (١) ، وأحسن ما قيل في المقام ما أفاده صاحب الوسائل قدس‌سره وقد أجبنا عن ذلك وقلنا أن الأليق بأدلته أن تسمى استحسانات ، وقد نقل سيدنا الاستاذ قدس‌سره عن أستاذه المحقق النائيني قدس‌سره أنه كان يقول : إن المناقشة في أسناد روايات الكافي حرفة العاجز (٢).

ونظرا لأهمية هذا البحث وما يترتب عليه من الآثار ، لا بد من التعرض بالتفصيل إلى هذه الكتب ، وعليه فالبحث يقع في ضمن اصول :

__________________

(١) الحدائق الناضرة ج ١ مطبعة النجف ص ١٤.

(٢) معجم رجال الحديث ج ١ ص ٨١ الطبعة الخامسة ، وذكر المحدّث الحر العاملي ، أن جميع علماء الامامية أجمعوا على اعتبار الكتب الاربعة ، والعمل بها ، والشهادة بكونها منقولة عن الاصول الأربعمائة المجمع عليها المعروضة على الائمة عليهم‌السلام ، بل بعضهم يدعي انحصار المعتمدة في الفروع أو الكتب المتواترة فيها ـ راجع الفوائد الطوسية الفائدة الاولى ص ١٠.

٣١
٣٢

الأصل الأوّل

البحث حول الكافي

لثقة الاسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني

* الأدلة على صحة جميع رواياته

* المناقشات الواردة والمحتملة والجواب عنها

* تقييم البراهين وتحديد دلالتها

* نتائج البحث وثمراته

٣٣
٣٤

إن كل من ادعى اعتبار روايات الكافي ، استند الى كلام الشيخ الكليني رحمه‌الله في مقدمته للكتاب ، فلا بد من ملاحظته وبيان مدى دلالته على المدعى.

قال الكليني قدس‌سره في ديباجة الكافي : أما بعد ، فقد فهمت يا أخي ما شكوت ... وقلت إنك تحب ان يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين ، والعمل به ، بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام ، والسنن القائمة التي عليها العمل ، وبها يؤدى فرض الله عزوجل ، وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ... ، وقد يسّر الله وله الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت ... الخ (١)».

وتقريب الاستدلال : هو ان السائل قد سأل الشيخ الكليني قدس‌سره عن كتاب يشتمل على خصائص :

١ ـ أن يكون كافيا جامعا لجميع فنون علم الدين ، من الاصول ، والفروع.

٢ ـ أن يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد.

٣ ـ أن يكون كل ذلك بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهما‌السلام ، من النبي والائمة عليهم‌السلام.

٤ ـ ان تكون تلك الآثار معمولا بها عند أهل الحق ، وبها يؤدى فرض الله تعالى وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا إذا كان قوله والسنن القائمة عطف تفسير ، وأما إذا كان متعلقا بقوله والعمل به ، فهو قيد للاخبار المتضمنة للاحكام الفرعية دون الاصول.

وقد استجاب الشيخ الكليني قدس‌سره الى سؤاله بتأليف هذا الكتاب الجليل ، الذي صار مرجعا من حين تأليفه إلى يومنا هذا مع اجلاله وتقديره ، وقد كان أمل

__________________

(١) أصول الكافي طبعة الاخوندي ج ١ ص ٥ ، ٨ ، ٩.

٣٥

مؤلفه أن يكون مشاركا في الثواب مع من يعمل به إلى يوم القيامة.

وهذا الكلام كالصّريح في المراد والمدعى ، من دون حاجة إلى زيادة بيان ، وقد اشكل على هذه الدعوى من جهتين :

١ ـ دلالة العبارة على المدعى.

٢ ـ وجود المانع.

أما الجهة الاولى فالاشكال عليها بأمرين :

الاول : إن السائل سأل الكليني أن يؤلف كتابا جامعا للآثار الصحيحة ، وأجابه الشيخ الكليني إلى ذلك ، الّا أنه لم يصرح بأنه لا يورد في كتابه غير الصحيح ، وأن الآثار غير الصحيحة لم يدخلها في كتابه ، فلا دلالة في كلامه على ان جميع الأخبار الواردة في الكافي صحيحة (١).

الثاني : ما زاده السيد الاستاذ قدس‌سره على ذلك ، تبعا لصاحب مفاتيح الأصول ، مستشهدا على قصور الدلالة بأمور :

١ ـ ان محمد بن يعقوب روى كثيرا في الكافي عن غير المعصومين أيضا (٢) ، ثم ذكر اثني عشر موردا لا تنتهي إلى المعصوم وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.

٢ ـ إن الذي يظهر من كلام الكليني أنه لم يكن يعتقد صدور جميع روايات كتابه عن المعصومين عليهم‌السلام جزما ، كما أشار إليه بقوله : فاعلم يا أخي أرشدك الله ، أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (ع)

__________________

(١) تنقيح المقال الجزء ١ المقام الثالث من المقدمة ص ١٧٨ الطبعة القديمة.

(٢) معجم رجال الحديث ج ١ الطبعة الخامسة.

٣٦

برأيه ، إلّا على ما أطلقه العالم ... الخ. فلو كان الكليني يعتقد بصدور روايات كتابه ، لم يكن مجال للاستشهاد بالرواية على لزوم الأخذ بالمشهور من الروايتين عند التعارض ، فإن هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور كلتا الروايتين ، والشهرة إنما تكون مرجحة لتمييز الصادر عن غيره ، ولا مجال للترجيح بها مع الجزم بالصدور (١).

٣ ـ إن الشيخ الصدوق لم يكن يعتقد بصحة جميع ما ورد في الكافي ، وإلا لما أجاب ـ من سأله عن تصنيف كتاب في الفقه على غرار كتاب من لا يحضره الطبيب في الطب ـ بكتابة من لا يحضره الفقيه ، فلو كان الكافي صحيحا عنده لأرجع السائل إليه ولم يصنف من لا يحضره الفقيه ، مضافا إلى أنه ذكر في باب أن الوصي يمنع الوارث «ما وجدت هذا الحديث إلّا في كتاب محمد بن يعقوب «الكليني» ، ولا رويته إلّا من طريقه» ، فهذا إشعار بضعف الحديث المذكور ، وعدم اطمئنانه به ، فلو كانت روايات الكافي بأجمعها معتبرة عند الصدوق لما قال ذلك (٢).

٤ ـ ان الشيخ الطوسي قدس‌سره لم يكن يعتقد أيضا بصدور جميع روايات الكافي ، وعلامة ذلك أنه ينقل روايات من الكافي في كتابيه (التهذيب والاستبصار) ويناقش في أسنادها ويحكم بضعفها ، فلو كانت مقطوعة الصدور عنده ، لما ناقش في اسنادها ، ثم ذكر السيد الاستاذ أربعة موارد منها (٣).

هذا ما يرد على الجهة الاولى ، وهي دلالة العبارة على المدعى.

__________________

(١) معجم رجال الحديث الجزء الاول ، المقدمة الاولى الصفحة ٢٥ ـ ٢٦ ، واقتصر على الوجه الاول في المقدمة الخامسة الصفحة ٨٣.

(٢) ن. ص ص ٢٦.

(٣) معجم رجال الحديث ج ١ ص ٢٧ الطبعة الخامسة.

٣٧

أما الجهة الثانية وهي وجود المانع ، فقد أورد عليها بأنه لا يخلو أن يكون مراده من صحة الروايات ، إما أنها واجدة لشرائط الحجية من جهة وثاقة الرواة ، وأمّا من جهة وجود القرائن ، وإن لم يكن رواتها ثقاة وكلا الأمرين محلّ نظر.

أمّا الأول فلاشتماله على روايات بعضها رواها الضعاف كأبي البختري وأمثاله ، وبعضها مرسلة ، وبعضها مقطوعة ، فكيف تكون واجدة لشرائط الحجية. (١)

وأمّا الثاني فهو وإن كان ممكنا في نفسه ، الّا أنه يستبعد وجود أمارات الصدق في جميع هذه الموارد مع كثرتها ، مضافا إلى أن القول بصحتها اجتهاد من الكليني ، واستنباط منه ، واجتهاده غير حجة علينا ، إذ من الممكن أن ما اعتقده قرينة على الصدق لو كان قد وصل إلينا ، لم يحصل لنا الظن بالصدق ، فضلا عن اليقين ، فلا يكفي في الاعتماد على القرينة مجرد اعتماد الكليني عليها. (٢)

هذه هي أهم الايرادات الواردة في المقام.

والحقّ أن جميع ما أورد على عبارة الكليني محلّ نظر وتأمّل.

أمّا عن الاشكال الأول على قصور العبارة فنقول : إنّ عبارة الكليني واضحة الدّلالة في المقصود ، ولا إشكال في ظهورها في صحة جميع الروايات.

وبيان ذلك : ان قوله «بالآثار الصحيحة» ، إمّا أن يكون متعلقا بقوله «يجمع» ، فيكون مفادها أن الجمع لا يكون إلا بالآثار الصحيحة ، فلا يقال للمشتمل على الآثار الصحيحة وغيرها أنه يجمع بالآثار الصحيحة ، وامّا أن يكون متعلقا بقوله «يريد» فيكون مفادها أن السائل يريد علم الدين بالآثار

__________________

(١ و ٢) معجم رجال الحديث ج ١ ص ٨٥ الطبعة الخامسة.

٣٨

الصحيحة ، فأجابه الكليني إلى ذلك ، فكيف يشتمل على الآثار الصحيحة وغيرها؟

وعلى كلا التقديرين ـ وإن كان الأول أظهر ـ فالعبارة تامة الدلالة لا قصور فيها ، وان جميع ما في الكتاب آثار صحيحة ، ولا أظن أحدا استشكل في دلالة العبارة غير بعض المتأخرين (١) ، ويؤيد ذلك امور :

١ ـ إن السائل لم يكن عنده من يرجع إليه في معضلاته ، ويذاكره في حلّ مشكلاته ، فطلب كتابا من الكليني ، ليرجع إليه في مسائل الدين ، ويكون مرجعا للمسترشد ، وكافيا للمتعلم ، فهل من المعقول ان يطلب كتابا منه مشتملا على الصحيح وغيره؟

٢ ـ إن السائل طلب الكتاب من الكليني قدس‌سره مع وجود الجوامع الكثيرة وما ذلك إلّا لعدم وجود كتاب جامع للآثار الصحيحة ، فلذا جمع له الكليني قدس‌سره ذلك.

٣ ـ إن اهتمام المصنّف بهذه الروايات جعله يستغرق عشرين عاما في تأليف الكتاب ، مع أنه كان من نقّاد الحديث والعارفين بالأخبار ـ كما ذكره الشيخ قدس‌سره في رجاله وفهرسته (٢) ـ وقد عاصر ثلاثة من النواب الخاصين للامام عليه الصلاة والسلام.

٤ ـ إن الكليني قال في آخر خطبة الكتاب : «وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ، فمهما كان فيه من تقصير ، فلم تقصر نيتنا في اهداء النصيحة ، إذ كانت واجبة لاخواننا ، وأهل ملتنا ، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه

__________________

(١) وهو العلامة المامقاني راجع تنقيح المقال ج ١ ص ١٧٨ الطبعة القديمة.

(٢) رجال الشيخ الطبعة الاولى ص ٤٩٥ والفهرست الطبعة الثانية ص ١٦١ وذكره النجاشي في رجاله ص ٢٩١ أيضا عند ترجمته وقال ... كان أوثق الناس واضبطهم في الحديث صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكليني يسمى (الكافي) في عشرين سنة.

٣٩

وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا» (١) وهذا يعني اطمئنانه ووثوقه بصحة احاديثه ، بحيث يرجو أن يعمل بها في زمان ظهور الحجة صلوات الله عليه إلى يوم القيامة.

٥ ـ تقدير أكابر العلماء للكتاب غاية التقدير والثناء ، حتى قال عنه الشيخ المفيد قدس‌سره : «وهو من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة (٢)» فلو كان الكتاب مشتملا على الصحيح وغيره ، فما الفرق بينه وبين سائر الكتب؟ مضافا الى أنّ تلميذه أبا محمد التلعكبري ، كان يروي جميع الاصول المعتبرة ، وكان شيخه حميد بن زياد يروي أكثرها ، فكيف لا يمكنه اختيار الروايات الصحيحة؟

وأما ما ذكره السيد الاستاذ قدس‌سره من الشواهد على قصور عبارة الكليني فهي غير تامة.

أما الشاهد الأول وهو أن الكليني روى كثيرا من الروايات عن غير المعصومين عليهم‌السلام ولتحقيق الأمر لا بدّ من استعراض الموارد التي ذكرها السيد الاستاذ قدس‌سره ، ليتبين ما فيها من الاشكال ، وان أكثرها ينتهي إلى المعصوم ، وعدم رجوع بعضها إليه عليه‌السلام لا يضر بالدلالة ولا ينافي ذلك قول الكليني : «بالآثار الصحيحة».

المورد الأول : ما روي عن هشام بن الحكم ، انّه قال : الأشياء كلّها لا تدرك إلا بأمرين : بالحواس والقلب ... (٣) الخ.

وقد استدلّ بها هشام على ابطال الرؤية بالعين ، وانّها محال ، فأشكل بأن هذا الحديث من هشام ، وليس عن المعصوم.

__________________

(١) اصول الكافي ج ١ ص ٩.

(٢) تصحيح الاعتقاد الطبعة الاولى المحقّقة ـ فصل النهي عن الجدال ص ٧٠.

(٣) الكافي الجزء ١ الصفحة ٩٩ الحديث ١٢.

٤٠