أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق

محمد علي صالح المعلّم

أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق

المؤلف:

محمد علي صالح المعلّم


المحقق: محمد علي صالح المعلّم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٦

١
٢

٣
٤

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الغرّ الميامين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام يوم الدين ، وبعد :

فليس من الترف الفكري ، البحث في أحوال الرّجال ، كما أنه ليس من السّهل ، الحكم على أشخاص يحول بيننا وبينهم طول الزّمان ، لولا الضرورة التي يقتضيها البحث العلمي ـ تحقيقا للبناء المتكامل لعملية استنباط الأحكام الشرعية ـ تحتّم علينا ذلك ، وتحرّي الواقع ـ مهما أمكن ـ يفرض علينا الخوض في هذا المضمار.

ذلك لأن إحدى الركائز الأساسيّة التي يستند إليها الفقيه في استنباط الحكم ، وبيان الوظيفة ، الكمّ الهائل من الرّوايات ، والأحاديث ، الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام ، الواصلة إلينا عن طريق الرواة ، وحملة الأخبار ، وهي التي تمثل الجزء الأكبر من الدعامة الثانية في مدارك الأحكام بعد القرآن الكريم وهذه الروايات لم تبلغ حدا يتيقن من خلاله ، أنها صادرة عنهم عليهم‌السلام بل إنّ أكثرها إنما وصل إلينا عن طريق آحاد الرواة ، المعبّر عنه في مصطلح علم الدراية بخبر الواحد ، وهو لا يفيد إلّا ظنا بالصدور ، والظن لا يغني عن الحق شيئا ، الّا أن يقوم الدليل القطعي على حجية هذا الظن.

وقد تقرّر في محلّه ـ من علم الأصول ـ قطعية الدليل على ذلك.

ومن هنا تبرز أهمية علم الرجال وضرورته ، وأنه من العلوم الّتي فرضها

٧

البعد الزّمني عن عهد النص ، فلم يكن ثمّت ما يدعو للبحث عن أحوال الرّجال ومعرفة الحدود والضوابط التي نتمكن من خلالها ، الإعتماد على نقل الراوي وعدمه ، كما هي الحال في زمان الغيبة ، ولا يعني هذا نفي الحاجة مطلقا يوم ذاك ، وإنما كان الإحتياج إليه في دائرة ضيّقة محدودة ، وذلك لإمكان لقاء المعصوم عليه‌السلام ، أو نائبه الخاص ، واستقاء الحكم من منبعه.

وكلّما تمادى الزّمان بعدا ازداد الأمر تعقيدا وصعوبة ، فإن كثرة وسائط النقل ، تستدعي جهودا مضاعفة في البحث والتحقيق وإن أهمّ ما يجعل الحاجة الى هذا العلم تبلغ حدّ الضرورة ، ما منيت به هذه الشريعة المقدسة. من محاولات التشويه المختلفة ، من الدس ، والتحريف ، والإفتراء.

ولقد كان من أعلام النبوة والإمامة ، الإخبار بأن هذا أمر وقع وسيقع لا محالة ، ومن ذلك :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «... قد كثرت عليّ الكذابة ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار ...» (١).

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنا أهل بيت صدّيقون (صادقون) ، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ، ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ...» (٢).

وقوله عليه‌السلام : «... إن الناس أولعوا بالكذب علينا إنّ (كأنّ) الله لا يريد منهم غيره ...» (٣).

وقوله عليه‌السلام : «كان المغيرة بن سعيد ، يتعمد الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون أصحاب أبي يأخذون الكتب من

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ باب اختلاف الحديث ح ١ ص ٦٢ ، دار الكتب الاسلامية ـ طهران.

(٢) رجال الكشي ج ١ ص ٣٢٤ الحديث ١٧٤ مؤسسة آل البيت (ع).

(٣) ن. ص الحديث ٢١٦ ص ٣٤٧.

٨

أصحاب أبي فيدفعونها الى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ، ويسندها الى أبي ، ثم يدفعها إلى أصحابه ، ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة ، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم (١).

وقول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب ، يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن والسّنة ، إنّا عن الله ، وعن رسوله نحدّث ...» (٢).

وغيرها من الروايات الكثيرة الواردة في هذا المعنى والتي تحذّر من الكذب والكذابين ، أضف إلى ذلك أسبابا أخرى لا تقلّ أهمية كالتقية ودواعيها ، واختلاف الآراء ومراميها ، والإشتباه من الرواي ، أو ممن يروي عنه. ونحن بإزاء هذه الأمور ، وغيرها ـ وفي مقام التثبّت من الحجة الشرعية وإقامة الدليل عليها ـ لا بد من التريّث في الإستناد الى هذا النص أو ذاك أو في الإعتماد على هذه الرواية أو تلك ، ولا بد من البحث العلمي عن رجال الأسناد ، بإعمال القواعد والضوابط العلمية ، لتحديد ما يمكن الإعتماد عليه من غيره.

ومن هنا انبثق هذا العلم ـ وهو علم الرجال ـ الذي يتكفّل بوضع الأسس العلمية لصيانة الحديث الشريف الوارد عن أهل بيت العصمة والطهارة.

فإن علم الرجال ودراسة أحوالهم هو ـ في الحقيقة ـ اهتمام بالحديث ومساهمة علمية في الدفاع عنه وصيانته.

__________________

(١) رجال الكشي ج ٢ الحديث ٤٠٣ ص ٤٩١.

(٢) ن. ص الحديث ٤٠١ ص ٤٩٠.

٩

وعلم الرجال وإن كان جاريا في كل علم وفن ، الّا أن شرف كل علم بشرف موضوعه ولا يضاهي علم الشريعة شيء من العلوم في الشرف والقداسة.

وقد تنبّه أعلام الطائفة المحقة لأهمية هذا العلم وآثاره ، فشمروا عن ساعد الجد ـ قديما وحديثا ـ ووضعوا المعاجم الرجالية ، وصنفوا الكتب المختلفة التي تناولت أحوال الرواة ، وميّزت أشخاصهم ، وعالجوا الضوابط العلمية في هذا الفن.

ولما كانت مسائل هذا العلم موردا لمختلف النظريات ، تعددت الآراء فيها واختلفت الأنظار ، وكلها تتفق على أهميته وضرورة البحث فيه ودراسته ، الّا ما شذ من القول بعدم الحاجة إليه.

وجاء هذا الكتاب مساهمة في هذا المضمار ، ومشاركة في معالجة كثير من المسائل التي ترتبط بهذا العلم ، طرحها سماحة العلامة الاستاذ آية الله الحاج الشيخ مسلم الداوري دام ظلّه ، في محاضرات كان يلقيها على جملة من طلّاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بمدينة قم المشرفة ، وكنت ممن حظي بشرف الحضور في مجلس البحث بين يدي سماحته ، وغني عن البيان التعريف بسماحة العلامة الأستاذ ، فإنه من أساتذة الفن وأرباب هذه الصناعة ، وهو خريج الحوزة العلمية الكبرى في النجف الاشرف في العلوم المعقولة والمنقولة المتعارفة في الحواضر العلمية ، وكان له دور الإشراف على سير تأليف واخراج معجم رجال الحديث لزعيم الطائفة سماحة آية الله العظمى السيد الخوئي أعلى الله في الخلد مقامه ، كما أن له نشاطات ومساهمات علمية أخرى كثيرة.

وقد حظي سماحته برعاية زعيم الطائفة قدس‌سره باعث الحركة العلمية في زماننا أستاذه وأستاذ العلماء في الحوزات العلمية ، وكان من أكثر العلماء ارتباطا

١٠

واختصاصا به ، وقد قضى غضارة الشباب ، وطرفا من الكهولة في ربوع النجف الأشرف ، حيث باب مدينة العلم ومنبع الفيض والعطاء ، إلى أن حالت الظروف القاهرة دون البقاء في تلك الربوع الطاهرة.

وهو اليوم مصدر علم وعطاء يؤم درسه جمع من الطلاب في الفقه والاصول والرجال في الحوزة العلمية في عش آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قم المشرفة.

وأما هذا الكتاب فهو محاولة علمية لإزاحة الغبار عن كثير من المسائل التي تتعلق بعلم الرجال ، وكشف القناع عن بعض الحقائق ، ذات الصلة بعلم الحديث في أسلوب مبتكر ومنهجية فريدة لم يسبق إليها أحد بأدلة قاطعة وبيان علمي محكم ، ويختص هذا الكتاب بجملة من المزايا توجّه إليه الانظار ، ونبادر فنشير إلى مجملها على أن سيقف القارىء الكريم على تفاصيلها في مواضعها من هذا الكتاب :

١ ـ إن هذه المباحث محاولة علمية فنية لتصحيح كثير من الروايات ، ولا سيما ما يرتبط بروايات الكتب الاربعة ، والدفاع عنها ، والتعريف بالطرق العلمية الصحيحة لدراسة اعتبار الروايات واخراجها من الضعف والإرسال.

٢ ـ التصحيح لكثير من الكتب واكتشاف الطرق المؤدية للاعتماد عليها ، ومنها كتاب مستطرفات السرائر ، وقد عرض على زعيم الطائفة قدس‌سره فاستحسن هذا النحو من التحقيق وارتضاه.

٣ ـ التحقيق ـ ولأول مرة ـ حول مصادر الموسوعات الروائية المهمة كالوسائل والمستدرك ، والبحث حول كل واحد منها مؤلفا وطريقا ومضمونا وتمييز ما يعتمد عليه منها عن غيره.

٤ ـ استقصاء الأسناد ، وإخراج أسماء الرواة الثقاة من الكتب التي أثبت الدليل اعتبار رواياتها كتفسير القمي ، والمستثنى منه من كتاب نوادر الحكمة ،

١١

مضافا إلى ذكر مشايخ ابن قولويه والنجاشي ومن روى عنهم المشايخ الثقاة وغير ذلك.

٥ ـ معالجة التوثيقات العامة على منهج علمي رصين.

٦ ـ البحث والتحقيق حول أربعة عشر شخصا من كبار الرواة الذين لهم دور بارز في مصادر الأحكام ولا زالوا موردا للخلاف بين الأعلام.

٧ ـ التصدي لكثير من الإشكالات والإجابة عنها.

ومزايا أخرى سيقف عليها القارىء العزيز في صفحات الكتاب.

الأمور التي تؤهل هذا الكتاب لأن يكون مرجعا للطالب والمستنبط ومحورا في البحث العلمي حول الحكم بصحة الرواية أو ضعفها ، ووثاقة الراوي أو عدمها.

والجدير بالذكر أن فصول هذا الكتاب كثيرا مّا تتناول المباني المعتمدة في معجم رجال الحديث ، كنظرته للكتب الاربعة ، وتفسير علي بن ابراهيم القمي ، والتوثيقات العامة ، وغيرها ، ومناقشتها على أساس علمي قائم على الدليل.

والكتاب ـ بعد ذلك ـ يعد خطوة مباركة مشرقة ، وفتحا جديدا في البحث والتحقيق ، ودعوة صادقة مخلصة لدراسة هذا العلم دراسة موضوعية مركزة ، لما له من الآثار المهمة التي تترتب عليه ، فإنه أحد الركائز العلمية التي يعتمد عليها تحصيل الملكة القدسية في أستنباط الأحكام الشرعية في فقه مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

وإن كان لي من دور في هذا الكتاب ، فهو التشرف بتحرير هذه المباحث تحت إشراف وتوجيه من سماحة العلامة الأستاذ ورعايته ، فإن وفقت في ذلك فهو من فضل الله تعالى وتوفيقه وهو غاية القصد وإن أخفقت فهذا غاية الجهد.

١٢

ورجائي أن يكون موضعا لرعاية الله تعالى وقبوله ، وموردا لرضى سادتنا وأئمتنا الكرام عليهم‌السلام.

وإلى الله أبتهل أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم ، وأن يمدّ في عمز سماحة العلامة الأستاذ في خير وسلامة ، ويديم أيام جوده ووجوده وبركاته ويحفظه ملاذا لأبناء الحوزات العلمية في ظل رعاية بقية الله الاعظم إمام العصر وصاحب الزمان الحجة ابن الحسن أرواحنا فداه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

محمد علي علي صالح المعلم

عش آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله / قم المقدسة

١٤ / محرم / ١٤١٦ ه

١٣
١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :

يتعرّض الباحثون في كل علم عادة (١) قبل الدخول فيه الى مقدمة تتناول تعريفه ، وموضوعه ، وغايته.

ولما كان علم الرجال كسائر العلوم ، فقد عرّف بعدة تعاريف منها : أنّه العلم الموضوع لتشخيص الرواة ، ذاتا ، أو وصفا مدحا ، أو قدحا. (٢)

ومنها : أنّه العلم بأحوال رواة خبر الواحد ، ذاتا أو وصفا ، مدحا ، أو قدحا ، أو ما في حكمه. (٣)

ومنها : أنّه العلم الموضوع لمعرفة الحديث المعتبر عن غيره. (٤)

ومنها : أنّه العلم الباحث عن الراوي ، من حيث اتصافه بشرائط قبول خبره ، وعدمه. (٥)

ومنها : أنّه العلم الباحث عن احوال الرواة ، الدخيلة في تشخيص ذواتهم ، أو أحوال رواياتهم (٦).

وغيرها من التعاريف.

ولسنا في صدد تقييم هذه التعاريف ومناقشتها ، إلّا أنّنا قد ذكرنا في

__________________

(١) وقد ذكر الشيخ الاستاذ وجها عقليا لطيفا في الدورة الثانية من بحثه.

(٢) بهجة الآمال في شرح زبدة المقال ص ٤.

(٣) ن. ص ص ٤.

 (٤ ـ ٦) ن. ص ص ٥.

١٥

أبحاثنا الاصولية ـ مفصلا ـ أنّ أقرب التعاريف الى الواقع ، ما يبيّن حقيقة الشّيء ، المعبّر عنه في الاصطلاح بالحدّ ، وهو المشتمل على الجنس والفصل القريبين ، لا ما يكون من لوازم الشيء وآثاره.

ومن المعلوم أن حقيقة العلم عبارة عن موضوعاته ، ومحمولاته ، والنسب بينها فلا بد في التعريف من بيان هذه الامور الثلاثة.

ولما كان موضوع علم الرجال هو الرواة ومحموله أوصافهم واحوالهم ، ناسب ان يعرّف : بأنّه العلم الباحث عن أحوال الرواة وأوصافهم من حيث الرواية ، والحيثية المذكورة لبيان أنّ علم الرجال إنما يبحث عن الأحوال الدخيلة في اعتبار الرواية وعدمه لا مطلقا.

ومنه تبين ما هو الحق في الموضوع.

واما غايته ـ وهي أهم ما في المقدمة ـ فالبحث فيها من جهتين : ثبوتا واثباتا ؛ اما من جهة الثبوت ـ أي مع قطع النظر عن الدليل الشرعي ـ فنقول :

إنّ علم الرجال هو أحد الركائز التي تعتمد عليها عملية استنباط الأحكام الشرعية ، بل لا يمكن الاستغناء عنه في استنباط الأحكام.

وبيان ذلك : أن مدارك الأحكام الشرعية لا تخرج عن أربعة ، وهي :

الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، وعمدتها الكتاب والسنّة.

اما الكتاب فهو وان كان فيه تبيان كلّ شيء الّا أننا لا نستطيع معرفة خصوصيات الأحكام وجزئياتها منه ، وأما السنة فإن كانت متواترة أو محفوفة بالقرينة فهي موجبة للعلم الّا أنّ ما ورد من الروايات المتواترة ، في الاحكام قليل جدا لا يفي بالحاجة ، وان كانت أخبار آحاد فإما أن تكون كلها حجة اولا حجية في شيء منها ، وإما أن يكون بعضها حجة دون بعض.

أما الاول فباطل لما سيأتي. وأما الثاني فباطل أيضا لاستلزامه الخروج عن

١٦

الدين ، فيتعين الثالث ، فلا بدّ من تمييز ما هو حجة عن غيره ، والمتكفل لذلك هو علم الرجال ، فإنه الباحث عن توفر شرائط الحجية ، من وثاقة الراوي أو عدالته وغيرها.

كما أنّ المتكفل لأمر اساسي آخر وهو البحث عن مدى دلالته ، وحجية ظاهره وما يرتبط بذلك علم الاصول.

وأما من جهة الإثبات ـ أي مع ملاحظة الدليل الشرعي ـ فدليلنا على ذلك يتلخص في أمرين ؛ ثبوت المقتضي ، وعدم وجود المانع ، فيقع الكلام في مقامين :

الأول : وهو ثبوت المقتضي فنقول : إنّ السبيل لإثبات أكثر الأحكام الشرعية ينحصر في الطرق الظنية لندرة تحصيل الأحكام عن طريق العلم ، وعمدة الطرق الظنية أخبار الآحاد ، وقد تقرّر أن الظن بنفسه ليس بحجة لورود الآيات والروايات النّاهية عن اتباع الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا ، فلا بد من التماس طريق آخر لإثبات حجية هذه الأخبار.

وقد أقام علماء الاصول أدلة لاثبات حجيتها ، وعمدتها آية النبأ وهي قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

وتعرّضوا لدلالة الآية نفيا وإثباتا ، وخلاصة ما قرروه : أن الآية مما يتمسّك بها على حجية خبر العادل أو الخبر الواحد الّذي قامت قرينة أو دلالة على صحته.

كما أن الروايات الواردة في المقام (٢) ، وسيرة المتشرعة ، وبناء العقلاء ، دلت على أنّ خبر الثقة مما يعوّل عليه ، ويؤخذ به.

والنتيجة أنّ أخبار الآحاد ـ وإن لم تفد العلم ـ قد ثبتت حجيتها بالأدلة

__________________

(١) الحجرات / ٦.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ٥.

١٧

المذكورة ، فتعامل معاملة العلم فيما إذا كان الراوي جامعا لشرائط القبول ، من الوثاقة ، والعدالة ، ونحوها ، وما عداه لا يؤخذ بخبره ، ويكون داخلا تحت عموم النهي عن العمل بالظن.

ومن جهة أخرى إنهم ذكروا في باب التعارض الأوثقيّة والأورعيّة وغيرهما (١) من المرجحات لرواية على أخرى.

ومن المعلوم أن المتكفل لبيان توفر هذه الشرائط والمرجحات هو علم الرجال ، ومما يؤكد ذلك أمران :

١ ـ ما ذكره الأصوليّون ، ومنهم : الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، من عدم صحة العمل بالظن الا بعد إحراز حجيته ، إذ الشك فيها مساوق لعدمها (٢) ، فلا يجوز العمل باخبار الآحاد ما لم تتوفر فيها شرائط الحجية ، واحرازها إنما يتم في علم الرجال.

٢ ـ ان التعارض بين الاخبار كثير جدا ، حتى أنّ شيخ الطائفة قدس‌سره وضع كتاب الاستبصار لمعالجتها ، فمست الحاجة الى علم الرجال.

ومن هنا يتّضح مدى أهميّة علم الرجال ، وأنّه ضروري لا يمكن الاستغناء عنه.

الثاني : وهو عدم وجود المانع فنقول :

قد أدّعي المنع عن الحاجة الى علم الرجال ، واستدلّ على ذلك بوجوه :

الوجه الأول : ما ذكره صاحب الوسائل قدس‌سره من «أنا قد علمنا علما قطعيّا بالتواتر ، والأخبار المحفوفة بالقرائن ، أنه قد كان دأب قد مائنا وأئمّتنا في مدة

__________________

(١) فرائد الأصول الطبعة القديمة ص ٤٤٩.

(٢) ن. ص ص ٢١.

١٨

تزيد على ثلاثمائة سنة ، ضبط الاحاديث وتدوينها في مجالس الأئمة عليهم‌السلام وغيرها ، وكانت همة علمائنا مصروفة في تلك المدة الطويلة في تأليف ما يحتاج إليه من أحكام الدين لتعمل به الشيعة ، وقد بذلوا أعمارهم في تصحيحها وضبطها ، وعرضها ، على أهل العصمة ، واستمر ذلك الى زمان الأئمة الثلاثة اصحاب الكتب الاربعة ، وبقيت تلك المؤلفات بعدهم أيضا مدة وأنهم نقلوا كتبهم من تلك الكتب المعلومة المجمع على ثبوتها ... الخ» (١) وبهذا الوجه وامثاله ذهب الى حجية الاخبار كلها.

ويرد عليه ـ مضافا الى أن ما ذكره مجرد استحسانات ـ : أن الأصل المقرّر هو عدم حجية خبر الواحد ما لم تثبت بدليل ، ولا شك أن الاخبار الموجودة تشتمل على المراسيل والضّعاف ، فكيف يقال بحجيتها مطلقا ، على أنّا لو راجعنا كلمات العلماء الذين أشار إليهم لرأينا تصريحاتهم باعتبار خبر الثقة ، فدعوى صاحب الوسائل قدس‌سره بلا دليل.

الوجه الثاني : ما نسب الى السيد المرتضى (٢) ، وابن ادريس (٣) ، قدس‌سرهما ، من عدم حجية أخبار الآحاد مطلقا ، وانحصارها بالمتواترة والمحفوفة بالقرائن.

ولنا كلام حول هذه النسبة ليس هنا موضوعه ، والمهم في المقام تقييم هذه الدعوى فإنها كسابقتها من كونها دعوى بلا دليل ، بل قام الدليل على خلافها ، ولولا حجية خبر الثقة لما ثبت الا القليل من الأحكام ، ولزم الخروج عن الدين.

وعلى فرض التنزّل تصل النوبة إلى العمل بالظن المطلق الانسدادي ، وهو

__________________

(١) الوسائل الجزء ٢٠ ، الفائدة التاسعة ، الطبعة الثالثة ص ٩٦.

(٢) الذريعة الى اصول الشريعة ج ٢ ص ٥٢٨.

(٣) كتاب السرائر الطبعة القديمة ص ٥.

١٩

بحاجة الى معرفة السند ، فإنه من أبرز أسباب حصول الظن.

الوجه الثالث : ما هو المشهور عن الاخباريين ، وذهب إليه كثير من الأصولين ، من ان روايات الكتب الأربعة كلها قطعيّة الصدور ، فلا حاجة تدعونا إلى علم الرجال (١).

وسيأتي البحث ـ مفصّلا ـ في الكتب الاربعة ، ونشير اجمالا ـ هنا ـ إلى أنه على فرض صحة الروايات الواردة فيها ، الا ان الحاجة إلى علم الرجال لا تنقطع ، لعدم اشتمال الكتب الاربعة على جميع الروايات ، فتبقى الحاجة الى علم الرجال بالنسبة إلى غيرها.

الوجه الرابع : ما ذهب إليه كثير من العلماء من أن العبرة في قبول الرواية عمل المشهور بها ، وإن كانت ضعيفة سندا (٢) ، كما أن هجرها موجب لعدم اعتبارها ، وإن كانت صحيحة سندا ، ومن هنا اشتهر القول بأن الشهرة جابرة وكاسرة.

وهو مخدوش صغرى وكبرى.

اما من جهة الصغرى فلأمور :

١ ـ كيف نحرز عمل المشهور بالرواية؟ فإن اتفاق ستة أو سبعة من العلماء ـ الّذين وصلت إلينا كتبهم ـ على العمل بالرواية لا يجعلها مشهورة لكثرة العلماء قديما.

٢ ـ ان الشهرة الجابرة ، هل هي مطلق الشهرة ، أو خصوص شهرة القدماء؟

٣ ـ من أين لنا إحراز استناد المشهور في عملهم الى الرواية؟

٤ ـ قد تتحقق روايتان مشهورتان او إحداهما اشهر من الاخرى أو حكمان

__________________

(١) فرائد الأصول الطبعة القديمة ص ٦٧ وتنقيح المقال ج ١ ص ١٧٤ ـ ١٧٩.

(٢) فرائد الأصول ص ٤٤٧ ، ومعجم رجال الحديث ج ١ الطبعة الخامسة ص ٢١.

٢٠