نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

أكتب آلامي ، رواشح جوارحي ، أفكاري ، عقائدي ، غربتي ، عشقي ، مطامحي.

أكتب لأنّ الكتابة همّي وسعدي ومتنفّسي وحصيلة كدحي.

أكتب إذ لابدّ لي أن أكتب ، ولا طريق لي في قول الحقيقة غير ذلك.

جبلاً من الهموم أزيح حين أكتب.

إنّ الكتابة اختبارُ الذاكرة والذهن والمشاعر والمروءة والهويّة .. اختبار إنسانيّة الإنسان.

٤٠١

الكتابة

يطرح الدكتور عمر مهيبل في كتابه من النسق إلى الذات «باب : إشكاليّة الكتابة : مساءلة مفهوميّة» رؤى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي يمثّل الجيل اللاحق للبنيوية ، أي الجيل الذي استفاد من البنيوية ولم يقبلها كليّةً ورفضها ولم يتخلّص منها كليّةً أيضاً. دريدا الذي عُرِف عبر مصطلحه الشهير «التفكيك» ومن ثمّة عُرِفت فلسفته بالتفكيكية ، وهي كما يقول : لا شيء وكلّ شيء في الوقت ذاته. دريدا الذي نادى في علم الكتابة ـ الغراماتولوجيا ـ بأولويّة الكتابة على الكلام مخالفاً الألسنيين المعاصرين وعلى رأسهم دوسوسير ، القائلين بأسبقية الكلام من الكتابة وأنّ الأصوات هي أكثر بكثير من الحروف.

نعم ، يطرح مهيبل رؤى دريدا حينما يعبّر عن ذلك : هل نكتب وفقاً لمبدأ العرض والطلب فنسقط في العبوديّة المقنّنة والبذاءة اللفظية والتبسيط المملّ فتفقد الكتابة عنفوانها ويطمس رونقها وتنحسر دلالتها حتى تلامس مراتب العدم؟ هذا النمط من الكتابة اُسمّيه «الكتابة اللامرئيّة» ; لأنّ ما تقع عليه عينا العقل منها لا يتعدّى شكلها أو بنيتها

٤٠٢

الطبيعية ، فهي لشدّة وضوحها وخوائها المعنوي والدلالي لا تُرى ، إذن فهي رسم وليست كتابة ، وشتّان بين الرسم والكتابة.

أم أنّنا نباشر الكتابة ليس بمقتضى قانون العرض والطلب هذا ، ولكن بما هي همٌّ أبدي ونهمٌ لا يروي ، نباشر الكتابة بوصفها تحقيقاً لوجود طبيعي وتصوّراً عقلياً واعياً أيضاً ، هذه هي «الكتابة المرئية» التي ينطلق فيها شعاع الوعي من الذات إلى البنية الطبيعية والعكس ، أي أنّ الكتابة تكون بمثابة عملية اختراق مزدوجة للبنية والمخيّلة في آن واحد ، فتحصل الكتابة بالمعنى المرئي ، وهي ليست إلاّ الكتابة المؤدّية إلى المعرفة الدلالية ، الإرادية الواعية.

٤٠٣

مسلك التدوين

العقل وكلّ الجوارح تمارس وظائفها المعتادة ، هذه الممارسة تتباين من فرد إلى آخر تبعاً لنوع الملاحظة وكيفيّتها وزمانها ومكانها ، وكذلك تبعاً لنوع التلقّي والقراءة والاستيعاب والتحليل وتركيب الآثار واللوازم.

وفي زحمة الحياة واضطراب الأفكار والإرهاق الدائم لابدّ للملاحظة من التدوين ، مهما كانت تلك الملاحظة تافهة وصغيرة وبسيطة ، ومهما كان موضوعها وظرفها عاديّاً ، ستجتمع لدينا ـ رويداً رويدا ـ العشرات بل المئات والآلاف من الملاحظات ، فعامل التسجيل هامٌّ كمرحلة اُولى ، وفي المرحلة الثانية يعاد اصطفاف الملاحظات موضوعيّاً وزمانيّاً ومكانيّاً ، يضاف لها ما يمكن إضافته ، ويحذف ما يمكن حذفه ، ثم تهذّب وتصحّح وتنقّح وتراجع ، حينها تظهر ملامح الفكرة المتكاملة بشكلها الأولي.

وبجهد آخر مماثل يضاف إليه عناصر : المقارنة والموازنة والمساءلة والمسانخة والمخالفة ، نتّجه حينها إلى تأسيس مشروع علمي معرفي فكري قابل للطرح والعرض.

٤٠٤

هناك من يسلك الطريق الماراثوني في التدوين ، وآخر يسلك المختصر السريع منه ، وثالث يختار ما بينهما ، ولكلّ منها خصائصه ومميّزاته ، والأمر أشبه بعدّائي المسافات الطويلة والقصيرة والمتوسّطة :

فالأوّل يمتلك الصبر وطول النفس والمهارة في توزيع القوى وإجادة الحسم في اللحظات الأخيرة.

والثاني يمركز قدراته وقابليّاته ويفرز غاية عصارتها خلال تلك المسافة القصيرة التي لا تتجاوز المئة أو المئتي متر.

أمّا الثالث فيسعى للجمع بين خصائص الأوّل والثاني.

وهكذا تكون آلية عرض المشروع الفكري والثقافي والمعرفي والعلمي ، فهناك من يسلك مسلك عدّاء المسافات الطويلة بما له من خصائص الصبر وطول النفس وتوزيع القوى وحسن الإنهاء .. على أنّ الصبر الفكري وطول النفس الفكري وتوزيع القوى الفكرية وحسن إنهاء الفكرة كلّ واحد منها عنصر محوري ذو تفصيلات واسعة. وكذا الذي يسلك مسلك عدّاء المسافات القصيرة ، فلابدّ له أن يجيد فهم العصارة الفكريّة التي توصل المراد والمطلوب إلى المقصد بذات الكيفيّة التي يوصلها ذلك الماراثوني ، بل لربما أدقّ وأنفذ وأجدى ، وهكذا الذي يجمع بين الاُسلوبين ، فإنّه لابدّ أن يستوعب معنى الجمع وأساليبه وأدواته ولوازمه كي ينال الثمار المرجوّة.

٤٠٥

من مقدّمة تحقيق كتاب مستند الشيعة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد حمد الله على عظيم منّه وإفضاله والصلاة والسلام على مفخر قطّان أرضه وسمائه محمّد وآله خير بريّته وأصفيائه.

فلا ريب أنّ كلّ أُمّة تروم المجد وتنشد الرقي عليها أن ترسم لنفسها دستوراً للعمل ومنهاجاً في الحياة ، والاُمم الإلهيّة ـ بما فيها الأُمّة الإسلامية ـ أخذت دستور عملها ومنهاجها من تعاليم السماء ، وهي أجدر وأسمى من القوانين الوضعية التي رسمتها كثير من الاُمم لغرض إيصال الإنسان إلى مجده ورقيّه.

وهذا الهدف الذي يجسّد السعادة بذاتها لا يمكن تحقّقه إلاّ عبر الجمع بين مفردات الفكر وواقع الممارسة ، فالعالِم الذي لا يعمل بعلمه لا أنّه لن يصل إلى غايته ومطلوبه فحسب ، بل يكون العلم وبالاً عليه ،

__________________

١. مستند الشيعة : موسوعة فقهيّة من تأليف الملاّ أحمد النراقي (قدس سره) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، طُبع في عشرين مجلّداً .. هذه المقدّمة دوّنتها مستفيداً من آراء بعض الفضلاء الأجلاّء ، شكر الله مساعيهم.

٤٠٦

وقد جعل الله سبحانه وتعالى إبليس المثال البارز للعالم غير العامل.

إذن ، فالعمل هو الخطوة الثانية بعد المعرفة والعلم ، وذلك طبق المفاهيم المستوحاة من القرآن الكريم .. ونعني بالعمل : إتيان ما أمر الله أن يؤتى به والانتهاء عمّا نهى عنه.

هذا ، والمعروف من التعاليم السماوية أنّها تعطي للجانب العملي أهمّيّة خاصّة ، مع الحفاظ على تقوية الجانب الروحي في آن واحد ، وبهما يرتفع الإنسان من حضيص النفس البهيميّة إلى ذروة المجد والمراتب الكماليّة ، حتى يعدّ بمنزلة الملائكة ، بل مثله تبارك وتعالى ، كما ورد في قوله عزّ من قال : «عبدي أطعني تكن مَثَلي ، أو مثلي».

ولقد تأ لّق علماؤنا وفقهاؤنا في عكس الصورة الواضحة والسليمة عن أسس ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي يمثّل مرحلة الكمال في التعاليم السماوية ، فهو المكمّل لكل الأديان والرسالات التي انتشرت قبله ، ثم إنّه لا شريعة بعده مطلقاً.

وإنّنا والحال هذه نجد أنفسنا أمام كنز غني من الفكر والثقافة يدعو أهل الفنّ والخبرة إلى السعي لإظهاره بالشكل المطلوب ، بل إنّ التضلّع بإحيائه يعدّ محوراً هامّاً من محاور تحقّق المجد والسعادة.

وللمناسبة فإنّ إطلاق لفظة «الإحياء» كان من باب الكناية والمجاز ، وإلاّ فإنّ التراث حيّ حاضر لا غبار عليه ، ولاسيّما وأ نّه مستبط من شريعة خاتم المرسلين والأئمّة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين ،

٤٠٧

التي تكاملت بحذافيرها ـ على المشهور من مذهب الاُصوليين ـ في زمنه صلّى الله عليه وآله ; أو أنّ خطوطها العريضة وكلّياتها قد بيّنها بنفسه صلّى الله عليه وآله وأوكل التفصيل والتوسعة فيها إلى الأئمّة (عليهم السلام) ، كما هو رأي البعض.

ويشهد للقول المشهور ، قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْسْلاَمَ دِيناً) (١).

والنصّ المرويّ عن مولانا الباقر (عليه السلام) ، قال : «خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع ، فقال : يا أيّها الناس ، ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه» الخبر (٢).

إلى ذلك : فإنّ الاُمّة في الظرف الراهن على الخصوص محفوفة بالمخاطر والدسائس من كلّ جانب ، بل عاد النضوج المعنوي والحسّ الروحي منحصراً ، وغدا التعقّل والتدبّر والاشتغال بالعلم مرتبطاً بفئة قليلة جدّاً ، وصار السواد الأعظم يهوى التطوّر الكاذب ، ويلهث وراء الدنيا ومظاهرها ، تاركاً القيم السامية والمبادئ الرفيعة وراء ظهره.

ومن هنا فقد برزت بوضوح ضرورة تجاوز هذه الإخفاقات الغريبة عن الفكر الإسلامي وعقيدته المتكاملة من خلال العمل بجملة من

__________________

١. سورة المائدة : ٣.

٢. الكافي ٢ : ٦٠ / ١.

٤٠٨

المناهج التربوية ، على رأسها الاغتراف من المعين الصافي للتراث الإسلامي ، المتمثّل بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

ثم إنّ التعامل مع التراث يحتاج إلى منهجية عمل متكاملة ذات اُسس وقواعد متينة تضمن قطف أينع الثمار ، ولضيق المجال ، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهمّ محاورها ، فنقول :

لابدّ أوّلاً : من تشخيص ماهية التراث وتثبيت موضوعه ، فما وصل بأيدينا منه مختلف الألوان ، والذي نحوم حوله ونقصده : ما يعكس هويّة الاُمّة الحقيقية ، ويوضّح قيمها وتعاليمها ، ويحفظها من كيد أعدائها ، ويصون أصالتها الإلهيّة ، وبالتالي هو ما يشكّل القناة الرئيسية التي توصل الإنسان إلى الرقيّ المعنوي والغنى الدنيوي والاُخروي.

فالمطلوب إذن مراعاة أعلى مراحل الدقّة في الانتخاب ، حيث فيه خدمة عظيمة للاُمّة ، وإلاّ فإنّ التهاون فيه سيترك أسوأ الأثر وتكون له عواقب وخيمة لا تحمد عقباها.

وأمّا ثانياً : فهو تهيئة الكادر المتخصّص الذي يُلقَى على عاتقه تنفيذ هذه المهمّة الحسّاسة ، ممّا يستدعي توفّر عدّة مواصفات ومميّزات ، كالعشق والغيرة والدقّة والذكاء والتواضع والصبر والأمانة والذوق الرشيق والالتزام الديني والاستعانة بأهل الخبرة ، إلى غير ذلك.

ونجد لزاماً أن نقول : إنّنا بالقدر الذي ندعو فيه إلى إحياء التراث ، ندعو إلى السعي الحثيث لتدعيم جانب التصنيف والتأليف ، فالعصر

٤٠٩

الحاضر ـ بمستحدثاته ومستجدّاته ، وبما يحمل من تساؤلات وشبهات مصدرها التآمر الفكري الثقافي الذي يتّسع يوماً بعد آخر ضدّ الدين الإسلامي وقيمه الرفيعة ، إلى سائر العوامل والأسباب ـ يُبرز الحاجة الملحّة لردم الهوّة الفاصلة بينه وبين التراث ، وتؤيَّد دعوانا هذه بأنّ التغاير المكاني والزماني لهما أقوى الأثر في توسيع الثغرة بينهما .. لذا لابدّ من مسايرة أحدهما للآخر من أجل عكس الصورة الكاملة والمتينة عن الثقافة الإسلامية ، الأمر الذي يشكّل بطبيعته الخطوة الأساس نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف الأصعدة ، ولاسيّما الصعيد الفكري منها.

ولكون إحياء التراث هو مدار البحث ، ارتأينا تسليط الضوء على بعض زواياه تاركين الخوض في باب التصنيف لفرص اُخرى.

ولنا الجرأة بأن ندّعي بالدليل القاطع : أنّ الاُمة الإسلامية تمتلك تراثاً هائلاً من الآثار النفيسة التي حُرّرت في مختلف ألوان العلم والمعرفة ، كالفقه والاُصول والأدب والكلام والطبّ والهندسة والفلك والرياضيات ، حتى عاد المخزون الثقافي لها من أهم ما اعتمدته النهضات المختلفة في برامج عملها ، بل إنّ الاُمّة الإسلاميه بذاتها لمّا كانت رائدة العلم والتطوّر ، كان الفضل الأوّل والأخير في ذلك يعود إلى اعتمادها الإسلام كفكر وممارسة ; ولخصوصية تكيّفه مع مختلف الأعصار والأصقاع فإنّه يجدر بنا أن نستلهم ونستنبط من كنوزه نظاماً أرقى وواقعاً أعزّ وأرفع.

٤١٠

وفي الوقت الذي نشدّ فيه على الأيدي التي طرقت هذا الجانب ـ أي عملية إحياء التراث ـ من مؤسّسات ومجامع ومعاهد علمية وأفراد ، سعت لنشره بعد إجراء سلسلة من مراحل التصحيح والتحقيق والطبع وتسهيل مهمّة إيصاله بين أيدي القرّاء بالوفرة المطلوبة بعدما كان مغموراً مخطوطاً لا تتجاوز نسخه عدد الأصابع ..

نؤكّد على ضرورة ممارسة أعلى مراحل الدقّة والأمانة المقترنتين بالالتزام الديني ; لِما لهذه المميّزات من أثر بارز في عرض تراث سليم يترجم الطموحات المرجوّة على أحسن الوجوه وأكملها.

ولسنا في مقام التعريض أو المساس بهذا النتاج أو ذاك ، بل غاية مقصودنا هو الدعوة إلى الاهتمام التامّ بالكيفية والنوعية ، وأن لا تكون الوفرة والتسابق على حسابهما ، فلا ضرورة ـ مثلاً ـ في البدء بمشروع قطع الآخرون منه شوطاً طويلاً ، فإنّ لدينا من التراث المخزون ما يحتاج معه إلى سنين طوال لإنجازه ، فاللازم أن تنسّق كافة الجهات أعمالها بالنحو الذي يرتفع معه التكرار وإضاعة الوقت ، وأن يجري تبادل الآراء وتلاقح الأفكار ، كي لا تكون بضاعةً مزجاة وتجارةً قد تبور .. وإلاّ فكم من المصنّفات قد نالتها يد التحقيق والتصحيح وياليتها لم تنلها ، وكم من غيرها ينتظر فرصة الظهور بشوق لا يوصف ، لكنه شوقٌ مشوب بالخوف من عاقبة ما آل إليها نظيره.

وبحكم التخصّص ، فلا مندوحة من الميل بالبحث إلى موضوع

٤١١

مشروعنا التحقيقي ، نعني : علم الفقه ذي الأهمّيّة والمكانة الخاصّة .. فهو أشرف العلوم وأفضلها ، وقد وردت به الروايات المستفيضة الدالّة بوضوح على علوّ مرتبته وعظم منزلته ، كيف لا؟! وهو برنامج الحياة المتكامل والموجّه لكلّ الأفعال والممارسات على النحو الصحيح.

والقوانين التشريعية التي صاغها الفقه الإسلامي تعدّ من أرقى القوانين التي تضمن سعادة الإنسان المطلقة وتوفّر له كامل حقوقه وتبيّن وظائفه من الواجبات والمنهيات والمباحات ، بل والوضعيات من الأحكام ، حيث تمنح نظام الحياة رونقاً خاصّاً.

ولذا قد ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «لَوَدَدْتُ أنّ أصحابي ضربتُ رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا» (١).

وقال (عليه السلام) أيضاً : «تفقّهوا في الدين فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي ، إنّ الله يقول في كتابه : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٢)». (٣)

وكذا قال (عليه السلام) : «عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً ، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزكّ له عملاً» (٤).

__________________

١. الكافي ١ : ٣١ / ٨.

٢. التوبة : ١٢٢.

٣. الكافي ١ : ٣١ / ٦.

٤. الكافي ١ : ٣١ / ٧.

٤١٢

وعنه أيضاً : «إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين» (١).

وعن أبيه الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «الكمال كلُّ الكمال التفقّه في الدين» الخبر (٢).

وقد روت العامّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله : «من يرد الله به خيراً فقهّه في الدين» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على شرف الفقه ورفيع مكانته ومقدار أهمّيّته.

والفقه الإمامي يمثّل الوجه الناصع والانعكاس الحقيقي لِما ورد في القرآن والسنّة من مفاهيم وأحكام ، فقد جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله : «يا جابر ، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأُصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم» (٤).

والتصانيف الفقهيّة التي ألّفها علماء الشيعة الإماميّة ـ بمختلف الطرق والأساليب ـ تعدّ المنوذج الأرقى للفقه الإسلامي ، والبرهان الساطع على علوّ كعب هذه الطائفة ، سواء كان ذلك من حيث الكمّ أو الكيف ، ولقد

__________________

١. الكافي ١ : ٣٢ / ٣.

٢. الكافي ١ : ٣٢ / ٤.

٣. صحيح البخاري ١ : ٢٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥٢٤ / ١٧٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٨٠ ب ١٣ ، موطأ مالك ٢ : ٩٠٠ / ٨ ، سنن الترمذي ٤ : ١٣٧ / ٢٧٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٠٦.

٤. بصائر الدرجات ٣٢٠ / ٤ ب ١٤ ، الاختصاص : ٢٨٠ بتفاوت يسير ، وعنهما في البحار ٢ : ١٧٢ / ٣.

٤١٣

جدّت الخطى وتآزرت الجهود وبُذلت أقصى الإمكانيات لإظهار ما جادت به أقلام عباقرة العلم والمعرفة والفكر والفضيلة بلباس جديد بعد التصحيح والتحقيق ، مع مراعاة الذوق الرشيق والفن المبتكر والجاذبية العالية.

ولا يخفى على أهل الفنّ والخبرة من المتخصّصين والباحثين والمحقّقين ما لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) من دور فاعل ونشاط ملموس وإكبار لمسؤولية إحياء تراث ونتاجات فقهاء مدرسة آل البيت (عليهم السلام).

وقد شهد لها القريب والداني من كلّ حدب وصوب أنّ عنوانها لم يكن مجرّد رؤية أو شعار ، بل أثبتت على مستوى التطبيق والإنجاز أنّها تتحسّس الضرورة وتؤمن إيماناً عميقاً بالأهداف التي شيدت لأجلها ، فكان أن جاءت نتاجاتها رفيعة المستوى ، متينة العرض ، فريدة الاُسلوب ، حسنة الذوق ، يهفو إليها الجميع. وهذا ما يعكس الهويّة الحقيقية لها.

ويشغل الجانب الفقهي حيّزاً واسعاً وهامّاً من برنامج عملها ، يُلمَس ذلك بوضوح ممّا صدر عنها من نتاج ، وما هو في طور الصدور أو قيد التحقيق .. وهذا ما يؤكّد حجم اهتمامها بلزوم رفع المستوى الفقهي عموماً وعلى صعيد الحوزات العلمية خصوصاً ، وكذا إحساسها بعلوّ مرتبة الفقه وشرفه ومنزلته.

ولعلّ السبب الأساس في نجاحها يعود وبفضل الله تبارك وتعالى

٤١٤

إلى سلامة المنهجية التحقيقية التي سلكتها في إنجاز أعمالها ، وهو ما نقصد به اُسلوب العمل الجماعي.

وإن كانت المؤسّسة قد استطاعت أن ترفد المكتبة الإسلامية بما تفتقره من آثار نفيسة ـ بعدما علا عليها غبار الدهر وبنى ـ وبحلّة قشيبة ، محقّقة ، مصحّحة ، تختزل عناء البحث ولوازمه ; فإنّها ولله الحمد تكون قد ترجمت أهدافها إلى واقع ملموس ، مع أن الطموح يرقى يوماً بعد آخر.

وأقلّ ما يقال : إنّ المؤسّسة قد أحكمت القدم على طريق إحياء تراث آل البيت (عليهم السلام).

نحن والكتاب :

صنّف فقهاؤنا العظام الكثير في الفقه الاستدلالي ، ولكلّ واحد من هذه الكتب سماته ومميّزاته ، من متانة الاستدلال والجامعية وكثرة التفريعات ونقل الأقوال والإيجاز وغيرها.

ويمتاز كتاب مستند الشيعة بالإضافة إلى ذلك بالدقّة البليغة والاُسلوب العميق ، مع فرز جهات المسألة وجوانبها المختلفة وبيان تعارض الآراء وأسانيدها بالنقض أو الإبرام ، كلّ ذلك ببضع أسطر أو صفحات.

وقد قال بعض الأعلام في مقدّمة الطبعة الحجرية من الكتاب ما نصّه :

لا يعادله كتاب في الجامعية والتمامية ، لاشتماله على الأقوال ، مع

٤١٥

الإحاطة بأوجز مقال ، من غير قيل وقال ، وارتجاله في الاستدلال ، وما به الإناطة بأخصر بيان ومثال ، من دون خلل وإخلال ، فلقد أجمل في الإيجاز والإعجاز ، وفصّل في الإجمال حقّ الامتياز ، فهو بإجماله فصيل ، وفي تفصيله جميل ، ولاسيّما في كتاب القضاء ، فقد اشتهر بين الفضلاء أنّه لم يكتب مثله.

ثم إنّه لا يدع برهاناً أو دليلاً إلاّ واستقرأه واستقصاه إثباتاً لمختاره ومدّعاه ، غير غافل عن التعرض لما تُمسِّك به للأقوال الاُخرى من الوجوه والأسانيد ، خائضاً فيها خوض البحر المتلاطم ناقضاً عليها بألوان الوجوه والحجج.

ولعلّ ما يكسب الكتاب قيمةً ومكانةً : تفرّسه ـ رحمه الله ـ في سائر العلوم ، كالفلك والرياضيات ، وترى آثار هذه المقدرة الفذّة بارزة في بحث القبلة وكتاب الفرائض والمواريث وغيرها من المباحث التي يشتمل عليها الكتاب.

والمشهور والمعروف عن مستند الشيعة أنّه اختصّ وامتاز بكثرة تفريعاته إلى غاية ما يمكن ، وذلك بعد تحقّق أصل المسألة عنده وإثبات مشروعيتها ، وعلى سبيل المثال لا الحصر تراه في مبحث : أنّ نصف الخمس لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من أهله (عليه السلام) دون غيرهم ، يذكر أوّلاً اعتبار السيادة أو عدمها ، ثم يعرّف السادة ويبيّن أدلّة استحقاقهم الخمس ، ثم يتناول كيفية النسبة إلى بني هاشم .. هذا ، مع أنّه يذكر لكلّ

٤١٦

فقرة من فقرات البحث الأقوال المختلفة فيها مع ذكر أدلّتها ثم الإشكال والردّ على المخالف منها وتدعيم وتوجيه المختار.

وحكي عن الفقيه المتتبّع آية الله العظمى السيّد محمّد كاظم اليزدي الطباطبائي صاحب الأثر الجليل كتاب العروة الوثقى أنّه كان يراجع كتاب المستند في تفريعاته الفقهية ، ويأمر تلامذته بالاستخراج منها.

هذا ويستفاد من مطاوي الكتاب عدّة مبان للمؤلّف ، فإنّا نشير إليها لا بنحو الاستقصاء ، بل هي شوارد جالت للبصر وفي فترة كتابتنا للمقدّمة.

منها : انقلاب النسبة فيما كان التعارض بين أكثر من دليلين.

منها : أنّ الشهرة الفتوائيّة جابرة وكاسرة لسند الرواية.

منها : أنّ قاعدة التسامح تفيد الاستحباب وتجري حتى لفتوى الفقيه.

منها : أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

منها : أنّ الجملة الخبريّة لا تفيد الوجوب والتحريم.

منها : ذهابه إلى عدم اجتماع الأمر والنهي.

منها : أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الخبرين بعد فقدان المرجّح هو التخيير لا التساقط.

منها : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الكلّي.

٤١٧

ترجمة المؤلّف

هو المولى أحمد بن المولى مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني.

ولد في قرية نراق من قرى كاشان ، في ١٤ من جمادى الآخرة سنة ١١٨٥ هـ. ق ، الموافق لسنة ١١٥٠ هـ. ش ، وقيل سنة ١١٨٦ هـ. ق.

أخذ مقدّمات دروسه من النحو والصرف وغيرهما في بلده ، ثم درس المنطق والرياضيات والفلك على أساتذة الفنّ حتى برع فيها وبلغ درجة عالية غبطه عليها زملاؤه.

ثم قرأ الفقه والاُصول والحكمة والكلام والفلسفة عند والده المولى مهدي النراقي كثيراً.

وقد امتاز من أوائل عمره الشريف بحدّة الذهن النقّاد والذكاء الوقّاد ، وهذا ما أعانه في تسنّمه مراحل الفضل والعلم بالسرعة المذهلة.

ألقى دروسه في «المعالم» و «المطوّل» ، مرّات عديدة ، وكان يجمع بغيرته الكاملة مستعدّي الطلاّب ، وفي ضمن التدريس لهم يلتقط من ملتقطاتهم ما رام ، ويأخذ من أفواههم ما لم يقصدوا فيه الإفهام إلى أن بلغ من العلم ما أراد وفاق كلّ اُستاذ ماهر.

رحل إلى العراق سنة ١٢٠٥ هـ. ق لغرض الزيارة ومواصلة الدراسة والتلمّذ على فقهاء الطائفة وزعماء الأُمّة ، فحضر في النجف مجلس درس السيّد محمّد مهدي بحرالعلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والفتوني كما

٤١٨

قيل ، وكان حضوره حضور المجدّ المثابر ، حتى ارتوى من نمير منهلهم العذب بقدر ما أراد.

ثم قصد كربلاء لغرض الاستفادة والاستزادة من نور العلم أكثر فأكثر ، فحضر دروس السيّد علي الطباطبائي صاحب الرياض والسيّد ميرزا محمّد مهدي الشهرستاني ، وحكي في «نجوم السماء» عن «الروضة البهية» قوله : سمعت أنّ ملاّ أحمد كان يحضر درس اُستاذ الكلّ الوحيد البهبهاني برفقة والده. عاد إلى كاشان فانتهت إليه الرئاسة بعد وفاة والده سنة ١٢٠٩ هـ. ق ، وحصلت له المرجعيّة وكثر إقبال الناس عليه وصار من أجلّة العلماء ومشاهير الفقهاء.

وأقوى دليل وأسطع برهان على مكانته العلمية وشهرته الطائلة أنّ الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري رحل إليه للحضور عليه والإفادة منه.

غادر بلده مرّة اُخرى قاصداً العراق ، وذلك في سنة ١٢١١ هـ. ق لغرض الزيارة والاتّصال بالشخصيات العلمية هناك.

هذا ، ومن جملة صفاته أنّه كان (قدس سره) وقوراً غيوراً صاحب شفقة على الرعيّة والضعفاء وهمّة عالية في كفاية مؤوناتهم وتحمّل أعبائهم وزحماتهم.

وكان له من البنين ثلاثة ، أشهرهم وأعظمهم ملاّ محمّد ، فقد كان عالماً جليلاً فاضلاً نبيلاً ، صاحب تصنيف ، توفّي بكاشان سنة ١٢٩٧ هـ. ق.

٤١٩

والآخر ميرزا نصيرالدين ، له مصنّفات ، منها شرحه على الكافي.

والثالث ملاّ محمّد جواد ، وهو عالم فاضل تقي نقي ، فقيه فطين ، وكان لا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواظباً على إقامة صلاة الجماعة ، يطمئن الناس في الائتمام به ، توفّي سنة ١٢٧٨ هـ عن عمر يناهز السادسة والخمسين.

ومن البنات واحدة ، هي حليلة ملاّ أحمد النطنزي ، ومن أبنائها الميرزا أبوتراب.

تلامذته :

وقد تتلمذ عليه الكثير من طلبة العلم والمعرفة ، أعظمهم وأجلّهم وأشهرهم حجّة الحقّ شيخ الطائفة الأعظم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه الذي يروي عنه أيضاً.

ومن تلامذته ابنه ملاّ محمّد.

وميرزا حبيب الله المعروف بـ : ميرزا بابا ، جدّ ملاّ حبيب الله لأُمّه ، صاحب «لباب الألقاب».

السيّد محمّد تقي البشت المشهدي.

وأخوه ميرزا أبوالقاسم النراقي.

وملاّ محمّد حسن الجاسبي.

٤٢٠