نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

وجسديّة وفنّيّة ، ممزوجة بوابل من الالتزامات والشروط والخصائص التي يفرضها واقع التخصّص ، سواء تناغمت معها الذات وتلاحمت أم تلقّتها تلقّي الواجب الذي ينبغي القيام به وإنجازه .. يمكننا رسم صورة واضحة تطابق المدّعى وتثبته شكلاً ومضموناً.

تقول المعايير العلميّة والمنهجيّة : إنّ أيّة خطوة أو مشروع أو تحرّك لابدّ من دواعي وبواعث ومبادئ وأهداف تنطلق به إلى حيّز الوجود والإمكان والتحقّق وتبني هيكله وترسم معالمه وتشيد اُطره ومضامينه.

إنّ المشاريع التحقيقيّة نوعيّةٌ في دواعيها وبواعثها ومبادئها وأهدافها ، فإنّها تتحرّك بمقدار وحجم ما يمنحها الفضاء الخاصّ من مجال الحركة والفاعليّة ، فلا يمكننا إدخالها في صنف «الفللوجيا» التي هي أيضاً تهتمّ بالفكر الجاهز إلاّ أنّه اهتمام نقدي يرقى إلى فتح آفاق من الحركة والفاعليّة المعرفيّة اللتين تفتقدهما المشاريع التحقيقيّة موضوعيّاً.

والكيانات التحقيقيّة التي خضنا ـ ولا زلنا ـ تجربة الممارسة الميدانيّة في شتّى أروقتها تروم إعادة طرح التراث العلمي والفكري والثقافي بما يتناسب مع الظرف الراهن فنّيّاً وجماليّاً مع دعم وإسناد «المشروع» عبر التوثيق والضبط والتصحيح والتوزيع السليم للنصّ الذي يبسّط ويمهّد للفهم والتلقّي المريح نسبيّاً ، مضافاً إلى البيانيّات والتوضيحات المساهمة في فتح المغاليق والمبهمات ، إلى ذلك الفهارس العلميّة والفنّيّة التي تختزل كثير العناء والبحث والتتبّع.

٣٦١

وبذلك فإنّها تمدّ الفضاءات العلميّة والمعرفيّة والثقافيّة بنتاجات منظّفة ومجمّلة ومنقّحة ومحمية حماية علميّة وفنّيّة ، إنّها عملية أشبه بإعادة انتشار متأقلمة مع حاجة الزمان والمكان ، ولا شكّ أنّها فرصة جديدة تمنح المشروع إمكانيّة الظهور والتداول بسرعة وسهولة كبيرتين.

كما أنّ الكيانات التحقيقيّة تصير بحكم دورها وحاجتها المحور المستقطب لذوي الفضل والخبرة والتخصّص ، وملاذ الطاقات الجديدة الفنّيّة والاستعدادات اليافعة التي تنمو وتصقل مواهبها بفعل الفضاء المهيمن والجوّ السائد المفعم بالاستشارة والمتابعة والبحث والمناقشة.

وهذه هي ميزة كلّ كيان تحقيقي يأخذ على عاتقه نهج العمل الجماعي ، غير متناسين بالمرّة أريج المعنويّات الذي يعطّر الأثير فيغدق بتلك النسمات التي قلّما تهبّ على معاقل اُخر ; إذ الشعور ـ الذي لا ينفكّ عن الإنسان ـ بالمساهمة في نشر القيم والمبادئ ـ التي نعتقدها صحيحة سليمة ـ الرامية إلى انتشال البشريّة من حضيض البهيميّة إلى شوامخ العزّ والسعادة السرمديّة ; هو شعورٌ يخالط العقل وينبعث من عمق الحنايا والأعماق.

ولستُ مصرّاً على تركيز البحث حول عمل التحقيق باُسلوبه الجماعي ، فالتحقيق الفردي كان ولا زال فاعلاً في ميادين العلم والثقافة ، وله من الخصائص والمزايا ما قد يفتقدها التحقيق الجماعي ، مثل : الجري على النسق الواحد علميّاً وفنّيّاً وارتفاع التزاحم الذي يحتمل حدوثه في الجماعي وغيرها ..

٣٦٢

بل البحث إنّما يحوم حول التحقيق بحاله النوعي ، وما التركيز على الجماعي منه الذي اُكثر الإشارة إليه بين الفينة والاُخرى إلاّ بسبب الممارسة الميدانيّة التي قاربت الثلاثة عقود ، مع ما لي من تجارب في مجال الفردي منه أيضاً ..

يحوم حول أنّ التحقيق ـ سواء كان فنّاً أو علماً أو مهنة ... ـ يُقصِر الجهد العلمي والمعرفي والثقافي ويُمحوِر العزم والهمّة والرغبة والصبر والشوق والعشق والأمانة ... على نتاجات جاهزة تَكلَّفَ عناءها آخرون ، فإنّنا نحوم إذن حول أفكار غيرنا ونغور فيها ونبذل ونوظّف ما لدينا من إمكانيّات عقليّة وشعوريّة كي تطلّ تلك النتاجات بحلّة جديدة.

وعلى الرغم من الإجلال والاحترام النوعي لآثار الماضين من العلماء والمفكّرين وما جادت به أذهانهم ورؤاهم وبصائرهم من معاني وأفهام لازالت ساطعة في سماء العلم والمعرفة ، يُقتبس منها الكثير ويُستفاد منها كمصادر ومراجع لا غنى عنها أبداً ..

إلاّ أنّ الإنسان المحقّق مهما علا وتأ لّق يبقى أسير أفكار ورواشح غيره ، تابعاً مقيّداً بسلسلة شروط صارمة تسلب منه حقّ التحليق في فضاء الفكر الحرّ أو حتى النقد العلمي البنّاء ، لذا فإنّ المواهب والرؤى والأفكار لا تنمو ولا تتبلور إلاّ بمقدار ما يتيح لها «التحقيق» من النموّ والتبلور ، حدّها إلى الخطوط الحمراء ، الخطوط التي يُعدّ تجاوزها مخالفةً للأمانة وموضوعيّة التحقيق.

٣٦٣

إلى ذلك : فالمحقّق يبقى لاهثاً بمحاولات خلف أفهام مهما ألقت وتسنّمت فهي تدور في فضاء «النسبي في النسبي» وخصائصه ، ولاسيّما تأ ثّره الزمكاني الذي قد يشكّل عائقاً أمام بزوغه من جديد بتلك العظمة والهيبة والحاجة.

لذا يبقى «التحقيق» صنعةً ثقافيّةً مرحليّةً بالنسبة لإنسان يسعى في مطامحه توظيفَ العقل لصناعة الأفكار وإبداعها وابتكارها ; حيث متابعة سائر الأفكار المصنوعة سلفاً وتجهيزها وعرضها في أروقة العلم والمعرفة لا يُعدّ بذاك الفتح والإنجاز الذي يُشار له بالبنان .. ولاسيّما أنّ التمرّن والإدامة والتمحّض في السير خلف نتاج الآخرين سيكبّل ويميت أو يكسّل فرصة العطاء الذاتي ويظلّ العقل لا يعرف إلاّ المضايفة والتزاوج مع النتاجات الاُخرى ; كونه مسلوب القدرة على الإنتاج والإبداع.

إنّنا لا ننكر على التحقيق ـ لما فيه من الخصائص السامية كالدقّة والضبط والأناة والعشق والأمانة والتتبّع والفنّ والجمال والعلم والمعرفة والثقافة وحركة الفكر والاستشارة وغيرها ـ آثاره الجليلة على العقل والمشاعر والأخلاق وبناء الذات ; فهو يمنح الفرد المحقّق فرص التمسّك بالموازين والقيم والمبادئ العلميّة والأخلاقيّة ، ويشيد فيها خصائص المراجعة والاستقراء والتحليل والمقارنة والحفر والاستنطاق والاستنتاج ، القائمة على الدقّة والصبر والضبط المزيّنة بالعوامل الفنيّة والجماليّة ، فهو ـ التحقيق ـ يهيّىء الأفكار الطامحة نحو مقاصدها الكبيرة ومراميها الأساسيّة ، وبذلك يمكن عدّه نقطة انطلاق هامّة في حياة الفكر والمعرفة

٣٦٤

لا نقطة انتهاء ، إنّه الذراع والساعد المطمئن نحو بلوغ المطلوب ; إذ الباحث والمفكّر والكاتب يحتاج ممّا يحتاج : خصائص ومواصفات ، يمكنه الحصول عليها وغرسها في أعماقه وحناياه وعقله من خلال ممارسة عمليّة التحقيق ، لذا فإنّ التحقيق إذا كان جسراً وممهّداً لخطوات إبداعيّة وابتكاريّة في أروقة الحضارة والثقافة ، وإلاّ فإنّه مؤطّر ومضيِّق قد يُخاف نتيجة الإدمان عليه من اتّساع فواصل التراجع وترامي مساحات الابتعاد عن صنع الأفكار الجديدة والرؤى المعاصرة التي تستند إلى الاُصول والثوابت وتستفيد من أدوات الحاضر بلا أدنى تهافت وتنافي وابتسار من الاُولى.

ويرى الكثيرون تعرّض الحركة الفكريّة الإبداعيّة لتراجعات ملموسة إثر تنامي الحركة التحقيقيّة تنامياً خلخل التوازنات ممّا حدا بالأصوات المعرفيّة أن تعلو داعيةً إلى العمل على تنشيط حركة التدوين والكتابة ، وهذا ما ساهم في جعل الإبداع الفكري والثقافي يستعيد بعض عافيته وفاعليّته من جديد ، فصدرت نتاجات وظهرت مشاريع أقلّ ما يقال عنها : إنّها خطوه بالاتّجاه الصحيح ، رغم كونها لا تلبّي ذلك الطموح الذي يراود النخب والطاقات في عرض ثمار معرفيّة حضاريّة من شأنها بيان القيم والمبادئ باُسلوب وأدوات تتناسب مع حاجة اليوم ، ثم ملء الفراغ الكبير بالحضور الفاعل في الفضاءات العلميّة والفكريّة ، ولاسيّما إزالة الغموض وتوضيح المبهمات وردّ الشبهات على غاية من الدقّة والشفّافيّة والإحاطة ، فالعقلانيّة قد غرست أوتادها وضربت جذورها في عمق

٣٦٥

الواقع الثقافي والحضاري لكلّ الاُمم والشعوب ، وهي تدعونا أن نكون كما ينبغي أن يكون أيّ عقلاني يروم تسويغ ما عنده من الرؤى والبصائر دفاعاً عنها وإسناداً لها وتمهيداً لتوسيع رقعة تواجدها الفكري بما يتوفّر من إمكانيّات وشروط مناسبة.

ونحن إن سُمّينا وصُنّفنا أحياناً ضمن معسكر العقلانيّة لابدّ لنا من إشهار المؤن والأدوات التي نستعين بها في طرح القيم والمبادئ التي نؤمن بها ونذود عنها ، وبذلك فإنّنا بحاجة إلى نهضة فكريّة شاملة يتّخذ الإبداع المعرفي والابتكار الثقافي موقع الريادة فيها ، أمّا المشاريع التحقيقيّة فإنّها لا يمكن أن تكون الرائدهنا ; لافتقادها خصائص اليوم ، على الرغم من مصدريّتها ومرجعيّتها والحاجة الملموسة لها.

إنّنا إذن مع «التحقيق» إذا كان بوابّةً ومنطلقاً ودافعاً ومنصّةً تقذف بنا إلى فضاءات الاختراع والاكتشاف ، أمّا إن كان مكبّلاً ومؤطّراً لقوى الفكر الكامنة التي تجهد لتنقش على واقع المعرفة والثقافة رؤاها وبصائرها وابتكاراتها ، فإنّه سيخلق مشكلةً تتطلّب مزيداً من السعي لحلّها وتجاوز آثارها.

٣٦٦

موجزٌ في اُصول تحقيق النصوص

ينطوي «تحقيق النصوص» على سلسلة خطوات وشروط وخصائص نعرضها خاطفاً على النسق التالي :

١ ـ انتخاب الكتاب

تراعى في الانتخاب جملة قضايا واُمور ، منها : الفائدة المتوخّاة من الكتاب المعهود ، فائدة علميّة ثقافيّة ، بأن يكون الكتاب المحقّق مرجعاً ومصدراً ودليلاً ومفتاحاً لا يمكن الاستغناء عنه بحال.

فلابدّ من إحراز ذلك عبر التفحّص والتنقيب والاستشارة.

إلى ذلك : ألاّ يكون الكتاب المنتخَب عامل زعزعة استقرار وتمزيق صفّ وفتح ملفّات لا طائل لها ; إذ قد يحمل المشروع في طيّاته مزيداً من الإيجابيّات إلاّ أنّ سلبيّةً واحدة قد تعود بأضعاف من الإضرار قياساً إلى المنافع الحاصلة.

كما لابدّ من مطالعة منهجيّة وبحث علمي مشفوعين بالاستشارة ، تشخّصان حدود التلقّي والترحيب ومدى الرغبة إليه.

٣٦٧

ولا يخفى ما لشهرة المؤلِّف من تأثير حاسم في الانتخاب .. كذلك فإنّ مشهوريّة المؤلَّف من حيث المحتوى الرفيع والمستوى الراقي تساهم مساهمةً كبيرةً في صوابيّة الاختيار رغم مغموريّة المصنِّف في كثير من الأحيان.

كما وأنّ الاُسلوب الحاكم على فضاء الكتاب واللغة المستفادة فيه ونوع البيان والهيكليّة المشاد بها وتسلسل البحوث وتنظيم الأفكار ، لها الأثر الملموس في الانتخاب ، مضافاً إلى الخصائص الابتكاريّة والإبداعيّة التي اشتُهر بها وميّزته عن غيره ، فكذا كتاب ـ مثلاً ـ قد عُرف بجامعيّته وآخر بكثرة تفريعاته وثالث بإيجازه المفيد ورابع بتطويله غير المملّ وهكذا.

ولابدّ أيضاً أن يكون الكتاب المنتخَب متناسباً مع حجم وإمكانيّات الكيان أو الفرد المتصدّي لتحقيقه ، علميّاً وفنيّاً واقتصاديّاً ، فكم وجدنا نتاجات تفتقد الكيفيّة التخصّصيّة ، بل لم تراعَ فيها أوّليات التخصّص ، فكانت وبالاً على المؤلِّف والمؤلَّف والانتماء والأوساط الثقافيّة ، وياليتها بقيت مخطوطةً وحجريّةً لم تظهر هذا الظهور الهابط.

وكم وجدنا من المعاهد والمراكز والمؤسّسات والأفراد احتفظت لنفسها بعشرات بل بمئات النفائس من المخطوطات ، أملاً منها بنيل قصب السبق بتحقيق ونشر هذه المخطوطات ، فظلّت قابعةً على رفوفها يعلوها غبار الاحتكار والأفكار الضيّقة ، فما استطاعت ولا مكّنت غيرها منها.

٣٦٨

لذا بات من الضروري حضور المعايير العلميّة والمنهجيّة والدينيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة في انتخاب الكتاب المزمع تحقيقه مقروناً بالدقّة والتفحّص والاستشارة ، وقبل كلّ ذلك : توفّر الشروط المناسبة للعمل.

ولابدّ من الابتعاد عن التكرار ، فكم من آثار حُقّقت أكثر من مرّة فضاع معها الوقت والجهد والإمكانيّات الهائلة التي كان يمكن توظيفها في مشاريع اُخرى ، على أنّ لكلّ قاعدة شواذ.

«الانتخاب» إذن أوّل وأخطر خطوة في «خارطة طريق التحقيق» ، إنّه ينمّ عن حجم القدرة والمهارة والخبرة والدقّة وسعة النظر والإحاطة بشتّى الظروف والفهم والاستشارة والفحص ، علوّاً وهبوطاً.

ونرى من الراجح ـ طبق التجربة ـ وجود لجنة علميّة تخصّصيّة تأخذ على عاتقها مهمّة الانتخاب بمراعاة الخصائص والشروط الآنفة الذكر.

وقد أثبتت الممارسة العمليّة أنّ الاستقراء والفحص والتنقيب وتنظيم القوائم والجداول بأسماء الكتب المقصودة طبق موضوعاتها ومؤلّفيها وتواريخها وخصائصها ومميّزات مخطوطاتها بشكل كاف ودقيق يمهّد الطريق لانتخاب أفضل ، ولاسيّما مع وجود المنهج والنسق المطلوب في إرساء المعلومات المطلوبة. إنّه يفتح آفاقاً إيجابيّة أمام اللجان العلميّة المختصّة بالانتخاب ، كما يصنع الرغبة المضاعفة عند أهل الفضل والخبرة

٣٦٩

في المساهمة والإرشاد إلى المصنّفات الجديرة بالنزول إلى معاقل التحقيق.

وبعد الانتخاب وحصول «الكتاب» على الموافقة النهائيّة تُرسَم له الخطوط العامّة والخاصّة.

نعني بالعامّة : استقراء واقتناء المخطوطات ، تشكيل اللجنة التي تدير عمليّة تحقيق الكتاب علميّاً وإداريّاً ، توفير المصادر والمراجع المعوّل عليها في توثيق وإسناد مدّعيات المصنّف.

ومن الخاصّة : ما تظهر من اُمور وقضايا وعوائق واحتياجات علميّة وفنّيّة أثناء الخوض في تحقيق الكتاب ، التي لا يمكن التعرّف عليها غالباً قبل البدء به ، ولاسيّما أنّ لكلّ أثر خصوصيّاته وظروفه التي تختلف باختلاف الموضوع والتاريخ ونوع المؤلَّف ومزايا المؤلِّف وغيرها.

هذا ، ولابدّ من إذاعة خبر الشروع بالعمل على الكتاب المعهود ; كي لا يحصل التكرار.

كما وأنّ من الاُصول والضوابط : التحرّي والتفحّص أوّلاً وقبل البدء بأيّة خطوة عمّا إذا كان الكتاب مطروحاً للعمل في سائر المراكز والمؤسّسات المختصّة أو حتى الأفراد.

٢ ـ استقراء واقتناء المخطوطات

رحلة شاقّة وطويلة في فهارس المخطوطات ، استقراءٌ ومسحٌ وتنقيبٌ وجردٌ وإحصاءٌ لكلّ ما يتوفّر من مصادر ومراجع الفهرسة

٣٧٠

المختصّة ، سواء على صعيد المكتبات الخاصّة أو العامّة ، في هذا البلد أو ذاك. من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن محلّ استقرار المخطوطات أو مصوّراتها أو حتى «المايكروفيلم» منها.

تدوّن خصائص المخطوطات في قوائم على شكل جداول تتضمّن : محلّ الحفظ ورقمها وتاريخ النسخ وماهيّة المحتوى واسم الناسخ ، والملاحظات ، وفي القسم الأخير يسجّل ما إذا كانت المخطوطة بخطّ المصنّف ، أو كونها كتبت وقوبلت أثناء حياته ، أو عليها بلاغاته وحواشيه وتصحيحاته ، أو أنّ ناسخها من العلماء المرموقين ، أو عليها تعليقات وحواشي وما شابههما ، كما يشار إلى مالكها في بعض الأحيان إن كان جديراً بالذكر ، إلى ذلك : التنبيه إلى النقص والبياض والاخترام وتغيّر الخطّ ونوعه والحجم والقياسات المطلوبة وما إلى ذلك من الاُمور التي لابدّ من التذكير بها.

وباكتمال القوائم وجداولها تعمل اللجنة المختصّة على دراسة المخطوطات دراسةً وافية بمختلف جوانبها كي تتّخذ القرار النهائي باقتناء أيّ المخطوطات الواجب توفّرها في العمل.

وقد تكون الظروف مؤاتية فتسهل عمليّة الاقتناء ; حيث اليد مفتوحة وحرّيّة الانتخاب موجودة ، وقد تكون الظروف على خلاف ذلك ممّا يعسر الحصول على مخطوطة واحدة ، وهذا ما يكبّل اليد ويترك آثاره السلبيّة على سير التحقيق وكيفيّته.

٣٧١

إلى ذلك : سوء الحفظ وعدم رعاية المتطلّبات الفيزيائيّة والكيميائيّة ونظائرهما الواجب توفّرها في تلك الأماكن ، ولاسيّما في المكتبات الخاصّة ، وبالأخصّ إن كان صاحبها لا يفقه ثروتها العلميّة والثقافيّة ، فيتركها معرّضة للآفات الطبيعيّة حتى يصيبها التلف والاخترام ، وبذلك يحرم المعاقل العلميّة من نسخة نفيسة تهفو إليها أفئدة المعرفة والتحقيق.

أو تبقى مركونة في رفوف تلك المكتبة أو هذه لا يُسمح باقتنائها أو تصويرها بحجّة المحافظة عليها أو المتاجرة بها أو قصد تحقيقها ، ولم يحصل أيٌّ من الثلاث ، فتبقى تشكو لأهل العلم والتخصّص ما يمرّ عليها من ظلم وحيف وتقييد.

وبتجاوز العقبات وبعد الحصول على مصوّرات المخطوطات يعمد إلى وضع رمز خاصّ لكلّ مصوّرة عبارة عن حرف من الحروف مثل «ص» «ك» «ع».

هذا ، وقد تتوفّر للكتاب الواحد ـ كما أسلفنا ـ عدّة مصوّرات من المخطوطات وقد لا تتوفّر إلاّ مصوّرة واحدة ، الأمر الذي تظهر آثاره على كيفيّة سير التحقيق ونوعيّته.

ولا ننسى ما للنسخ المطبوعة على الحجر أو حتى المنضّدة بالحروف الحديثة نضداً أوّليّاً من أهمّيّة في تدعيم وتيسير عمليّة التحقيق.

ويقع الاختيار على المصوّرة الأكثر وضوحاً إن لم يكن الكتاب مطبوعاً حروفيّاً أو حتى حجريّاً ، لطبعها حروفيّاً وجعلها المحور

٣٧٢

والأساس في إجراء مراحل التحقيق المختلفة لغاية الطبع النهائي الكومبيوتري.

وبعد تصحيح المطبوع من المصوّرة المشار إليها تكون الأرضيّة ممهّدة للبدء بمرحلة مقابلة المصوّرات.

٣ ـ المقابلة

مرحلة مقابلة المخطوطات هي الانطلاقة الميدانيّة الاُولى والخطوة العمليّة الحسّاسة على جادّة التحقيق المليئة بالأشواك والورود ، بالمرارة واللذّة ، بالحزن والفرح ...

قد تكون مقابلة المصوّرات من المخطوطات والمطبوعات المشار إليها ثنائيّة أو ثلاثيّة أو رباعيّة ... تبعاً لعدد المصوّرات والمطبوعات المتوفّرة.

وتقع القراءة على المصوّرة الأصعب خطّاً ; لتوخّي الدقّة والضبط والتأ نّي ، فصاحب هذه المصوّرة يقرأ قراءةً مسموعةً واضحةً كي يسجّل الآخرون ما في المصوّرات المفروشة بين أيديهم من تفاوت واختلاف ، أدنى تفاوت واختلاف ممكن.

ويسبق كلّ ذلك ترقيم صفحات المصوّرات وترقيم أسطرها بقلم الجرافيت ، وإعداد قصاصات ورق يدوّن عليها الاختلاف إن وجد مع الإشارة إلى رمز المصوّرة ورقم الصفحة والسطر بالإضافة إلى رقم صفحة المطبوع المعوّل عليه في مراحل التحقيق بأجمعها.

٣٧٣

ولعلّ الغفلة والخطأ في القراءة والتساهل في التتبّع من قبل الذين يستمعون ولا يقرءُون ، فيها من الخسائر والأضرار الفادحة ما لا يمكن تلافيها أبدا ، فتترك آثارها السلبيّة على كيفيّة العمل علميّاً وتحقيقيّاً. لذا قيل : إنّ مقابلة المصوّرات والمخطوطات عماد التحقيق وأساسه ، إن سلمت سلم المشروع والعكس بالعكس.

بعد الانتهاء من مقابلة الصفحة المطبوعة مع المتوفّر من مصوّرات المخطوطات تلحق بها ـ أي بالمطبوعة ـ القصاصة المدوّن عليها الاختلافات المثبّتة.

هذا ، ويسجّل رئيس قسم المقابلة ملاحظاته وإحصائيّاته كلّ يوم ليعدّ بها تقريراً اُسبوعيّاً أو شهريّاً يرفعه إلى رئاسة الكيان واللجنة العلميّة ، كما يُعدّ مسؤولاً عن المصوّرات المحفوظة في القسم ، ولا يسمح بإخراجها أو التفريط بها ; أمّا أوامر الرئاسة أو اللجنة العلميّة فلها قواعدها واُصولها.

والاستراحة ما بين ٥ ـ ١٠ دقائق في كلّ ساعة مطلوبة في هكذا عمل شاقّ ، استراحة يتخلّلها تناول شيء أو ذكر طريفة ونكتة ونظائرها.

ويعدّ الانضباط الإداري عموماً وفي قسم المقابلة خصوصاً من مقوّمات النجاح ولاسيّما الالتزام بالوقت ; إذ تأخّر واحد من أعضاء لجنة المقابلة عن الحضور في الموعد المحدّد يعني توقّف العمل بأكمله ، ممّا يسبّب إرباكاً وتسيّباً يسري على كيفيّة الأداء ونوعيّته.

٣٧٤

ولابدّ هنا من تعيين أعضاء على البدل والاحتياط لسدّ الفراغ الحاصل بغياب هذا الفرد أو ذاك.

كما لابدّ لمحلّ قسم المقابلة أن يكون خاصّاً لا تؤثّر الضوضاء فيه ولا يؤثّر هو في الأقسام الاُخرى.

أمّا الإضاءة والتهوية ونوع الكراسي والطاولات فلها الأثر البارز في عمل هذا القسم ، كما لها الأثر ذاته في عمل الأقسام الاُخرى.

٤ ـ الاستخراج

سعة مرحلة الاستخراج ومحدوديّتها مرتبطة بظرف النصّ ، فقد يكون النصّ مشحوناً بالآيات والأحاديث والأقوال والأشعار والأمثال والكلمات الغامضة والأعلام ـ إذا كان المبنى ذكر تراجم الأعلام في الهوامش ـ وغير ذلك ممّا يكون مورد الاستخراج ; وقد لا يكون كذلك.

ومرحلة الاستخراج تعني أوّلاً : ترقيم الموارد المشمولة به ، ثم العمل على العثور عليها في مصادرها ومراجعها.

فالآية القرآنيّة والإصحاحات والأسفار تستخرج من القرآن الكريم والإنجيل والتوراة ـ مثلاً ـ والحديث من الموسوعات والكتب الروائيّة المختصّة ، مثل : الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار ، والصحاح الستّة ، وغيرها.

وتخرّج الأقوال على اختلافها ـ الكلاميّة والفلسفيّة والاُصوليّة والفقهيّة والرجاليّة والتاريخيّة والتفسيريّة والأدبيّة ... شيعيّها وسنّيها ،

٣٧٥

إسلاميّها ومسيحيّها ويهوديّها ، وأمثال ذلك ـ من مصادرها الاُولى والأساسيّة .. فإذا لم تتوفّر مصادرها الأصليّة فمن المصادر الحاكية عنها ، على ألاّ يكون الحاكي والناقل متأخّراً عن زمن مؤلّف المشروع التحقيقي ، فلا يمكن التوثيق للأقوال الموجودة في كتب العلاّمة الحلّي ـ مثلاً ـ من مصنّفات الشهيد الثاني (رحمه الله) ، أو الأقوال الموجودة في المغني والشرح الكبير لابني قدامة من مؤلّفات ابن تيميّة ; لتأخّرها عنهما زماناً.

وقد يكون الأمر سهلاً جدّاً حينما يصرّح المؤلّف مثلاً : قال الطوسي في المبسوط ، ذكر الشافعي في الاُم ... وأقلّ سهولةً حينما تكون العبارة : قال الطوسي ، قال الشافعي ... إذ لابدّ من العثور على قول الطوسي أو الشافعي في واحد من مصنّفاتهما. أمّا إذا عبّر المؤلّف بمثل : قيل ، اُجيب ، اعتُرض ... فهنا لابدّ من معرفة القائل أو المجيب أو المعترض أولاً ثم معرفة المصدر ثانياً.

وقد يكون النقل عن الآخرين بالمضمون والإشعار والمعنى ، وهذا الأمر يتطلّب جهداً علميّاً أكثر للوقوف على المراد أوّلاً ثم تشخيص القائل ثانياً والعثور عليه في مؤلّفاته ثالثاً.

وإذا عبّر بمثل : قال به جماعة ، ذهبت إليه طائفة ... فأقلّ الجماعة أو الطائفة ثلاثة ، أي يشار إلى أقوال ثلاثة من الذين ذهبوا إلى ذلك القول. وإذا عبّر بـ : بعبارة «البعض» يكتفى بواحد منهم.

وبعد الجهد المضني والتتبّع الطويل قد نرى في الحديث والقول

٣٧٦

وبيت الشعر والمثل وغيرها تفاوتاً بين ما نقله المصنّف وبين الموجود في المصدر ، فلابدّ حينئذ من الإشارة والتنبيه إلى ذلك التفاوت كي يعمل على معالجته بالطرق التحقيقيّة اللازمة ، التي سنأتي على ذكرها لاحقاً في مرحلة «تقويم النصّ» والمعاناة في مثل هذه الاختلافات كبيرة ، ولاسيّما في مجال الشواهد الشعريّة ، حينما يكون محلّ الشاهد مختلفاً أو غير موجود في مصادره ، أو مرويّاً برواية لا تتطابق مع المدّعى ، ممّا يعني بذل مزيد من التفحّص والتنقيب للعثور على البيت الشعري مرويّاً في مصدر ما بالمحتوى الذي ادّعاه المصنّف. وليس ذلك مختصّاً بالشواهد الشعريّة وإنّما هي حالة من الحالات وعائق من العوائق المنتشرة في طول المسيرة التحقيقيّة وعرضها ، على أنّ لكلّ حالة وعائق خطوات وإجراءات علاجيّة.

ويمرّ الاستخراج بثلاثة أدوار غالباً :

الدور الأوّل : الاستخراج البدائي الذي أشرنا إلى بعض جوانبه أعلاه.

الدور الثاني : تدقيق الاستخراج البدائي ، فتحدث التغييرات والتصحيحات والحذف والإضافات وربما الإشارات اللازمة والضروريّة.

الدور الثالث : الموارد المتبقيّة غير المخرّجة بأيّ سبب من الأسباب والتي تعسّر حتى على المدقّق الوصول إليها ، مضافاً إلى الموارد التي يوصي مقوّم النصّ أو المراجع النهائي بتخريجها. فهذا الدور هو دور

٣٧٧

الحسم النهائي لكلّ الموارد المذكورة ، وبه يغلق ملفّ الاستخراج نهائيّاً.

ولابدّ من تنظيم قصاصات خاصّة بالاستخراج تتناغم ترقيماتها مع ترقيمات المطبوعة المعهودة ثم تلحق بها بعد الانتهاء من الاستخراج.

ويشترط في الشخص المستخرج الخبرة بالمؤلّفين والمؤلّفات خبرةً شافية ، ومعرفة أماكن الكتب ، كما يشترط فيه معرفة ماهيّة المصادر الأساسيّة والحاكية والمرشدة.

والفهم العلمي شرطٌ لا اختلاف فيه. وباضطراد الممارسة وتوفّر الخبرة المناسبة فإنّه يتمكّن من التسلّط على الآراء والأقوال والزوايا الضيّقة التي تغيب على المبتدئ غالباً.

ولا اختلاف في كون الاستخراج عمليّة كماليّة في فضاء التحقيق ; إذ المدار إنّما هو حول النصّ وكيفيّة تحريره وتصحيحه وضبطه استناداً إلى المعايير العلميّة والتخصّصيّة ، ولكن هذا لا يمنع من دعم النصّ والمؤلِّف دعماً علميّاً حين توثّق وتؤيّد المدّعيات المنسوبة من قِبَلِهِ للآخرين من خلال تخريجها من مصادرهم وكتبهم أو المراجع الحاكية عنهم.

وهذه الصفة الكماليّة للاستخراج قد تمنحه أبعاداً أوسع ومنزلةً أرقى ، حينما تكتنف على نكات علميّة ومضامين معرفيّة تتجاوز إطار الكماليّات وتلتحق بالنصّ من حيث الأهمّيّة التخصّصيّة والثقافيّة.

وطبق المناهج الأكاديميّة فإنّه يذكر اسم المؤلِّف أوّلاً ثم الكتاب ورقم الجزء والصفحة ثم خصائص الطبعة من حيث ترتيبها وتأريخها وما

٣٧٨

إلى ذلك. وكتب الحديث على هذا المنوال أيضاً مع إضافة رقم الحديث وعنوان الباب وسائر التفصيلات المفيدة. أمّا الآيات القرآنيّة والأسفار والإصحاحات فكذا يشار إلى رقم السورة والآية والسفر والإصحاح بالشكل الذي لا يقبل اللبس ، بمراعاة بعض الاُمور مثل كونه العهد القديم أو الجديد وغير ذلك.

والمحبّذ في حقل الاستخراج تأشير كلّ الموارد المحتملة القابلة له ثم العمل على العثور عليها في مظانّها ; خدمةً للكتاب والمؤلِّف والتحقيق.

٥ ـ ضبط الأسانيد والأعلام

يندر ألاّ يحتوي النصّ على عَلَم سواء جاء ذكره منفرداً أو ضمن مجموعة ، كأن يكون ضمن سند رواية أو قول ذهب إليه جماعة وردت أسماؤهم بالخصوص ، أو بحث في الأنساب والطوائف والفرق والجماعات والقرّاء والعلماء والنخب والمختصّين وسائر الموارد التي استدعت ذكر ذلك العَلَم.

وإزاء ذكر العَلَم في النصّ لابدّ من ضبطه بالشكل الصحيح ; إذ الضبط غير الدقيق آثاره سيّئة جدّاً وتترتّب عليه نتائج غير محمودة ، فلو تغيّر ضبط أحد رجال سند رواية من الروايات ـ مثلاً ـ فإنّه قد يقلبها من رواية صحيحة السند إلى اُخرى ضعيفة السند وكذا العكس ، الأمر الذي تبرز آثاره الخطرة على الأحكام واستنباطاتها ، وهكذا تسري المشكلة لتخلق مضاعفات مختلفة فقهيّة كانت أو عقائديّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة

٣٧٩

أو سياسيّة .. كلّ ذلك قد يحدث بفعل التهاون وعدم الدقّة في ذلك الاسم والعَلَم الوارد في المتن.

وليس ضبط الأسانيد والأعلام بالعمل السهل ، فإنّه يتطلّب خبرة واسعة في علوم الرجال والأنساب والسيَر والطبقات ومصادرها ومراجعها ، فلو اشتبه علينا ـ على سبيل المثال ـ كون الراوي عيينة أو عنبسة ، بشّار أو يسار ، فمن أجل رفع الالتباس وتثبيت الصحيح لابدّ من الاستفادة من أدوات ومؤن علم الرجال من خلال الولوج في طبقات الرجال في باب الراوي والمرويّ عنه ، ونرى عمّن يروي عنبسة أو عيينة ، بشّار أو يسار ، ومن الراوي عنه ، وهل الفترة التي عاشها تتناسب مع فترة هؤلاء الرواة ، من تقدّم منهم عليه أو تأخّر ، وهل بإمكانه على ضوء ذلك الحضور في سند رواية تنتهي ـ مثلاً ـ بالإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أو البخاري أو مسلم.

إلى ذلك : لابدّ من بحث المشتركين هنا ، فلعلّ الاسم المذكور مشتركٌ بين عدّة رواة ، مثل : أبي بصير ، المشترك بين خمسة كما قيل ، منهم الثقة ومنهم غير الثقة.

إنّ ضبط الأسانيد والأعلام ضبطاً صحيحاً دقيقاً مستنداً إلى المعايير العلميّة والأدلّة القطعيّة ، من شأنه أن يحفظ أو يُغيّر كثيراً من الثوابت ويكشف الحقائق ويعيد الحسابات ، وقد يُدخِل هذا في قفص الاتّهام ويُخرج آخراً ، يشمخ بفرد ويهبط بثاني ، يسمو برأي وقول وفكرة وحكم ... ويُنزِل بغيرها.

٣٨٠