نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

الذي لم يتوان في منح هذا الصهر وكالته العامّة المطلقة ، فخصّه بمزايا دون غيره.

ولقد أبلى الشهرستاني بلاءً حسناً في الإسهام بتسنّم مرجعيّة السيستاني المقام الأعلى بين سائر المرجعيّات الشيعيّة ، وكان الذراع الفولاذي الأمين في الذبّ عنها وبيان رؤاها ومواقفها ، بشكل غدا به رجل المرجعيّة الذي يشار له بالبنان.

لا ننسى أنّ المرجعيّة جاءت أيضاً لتترجم أمانيّ الشهرستاني وطموحاته إلى واقع عملي ملموس ، فلولا المرجعيّة ما استطاع الشهرستاني تنفيذ أهدافه أبداً ، بل فاق الأهداف وبلغ ما لم يكن يفكّر ببلوغه واستفاد من حصن المرجعيّة أيّما استفادة ، فصار القوّة الضاربة التي تغلغلت وأ ثّرت في مختلف ميادين الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ، بل السياسيّة كذلك ، رغم المبنى والمنهج الذي تلتزم به المرجعيّة.

نال الشهرستاني ثقة مختلف الانتماءات والتيّارات بانتهاجه آلية «حفظ التوازنات» عبر السعي إلى البقاء بفاصلة متساوية عن الجميع ، رغم ما اُثير حوله مؤخّراً من ميول أظهرها ـ كما يدّعى ـ لتيّار على حساب تيّار آخر ، فعدّوها نقطة ضعف في ملفّ الشهرستاني.

انهمك في بناء وتشييد المؤسّسات والمراكز والمعاهد الثقافيّة والاجتماعيّة والخيريّة وفتح باب الدعم والمساعدة لشتّى المشاريع

٣٤١

الناهدة وسجّل حضوراً فاعلاً قويّاً منحه الشهرة والمكانة الكبيرتين ، فصار مهوى الكثيرين ومقصد ذوي الحاجات وغيرهم ، وكان لشخصيّته الجذّابة واُسلوبه اللطيف الدور المؤثّر في عمليّة الاستقطاب ، التي يوليها أهمّيّة خاصّة ويؤكّد دوماً أنّ الجذب مهما أمكن أولى من الطرد ، إلاّ أنّه بين الفينة والاُخرى يبتلي بخروج هذا وذاك من ظلّ المجموعة ، الخروج الذي يُعدّ نوعاً من الطرد ، وهذا ما يثير تأمّل البعض في مصداقيّة «الاستقطاب» المذكور.

يقول البعض : صار الشهرستاني عَلَماً ، بل ملكاً وسلطاناً ، له الحاشية والخدم والحشم ، كلٌّ يؤدّي دوره المعهود إليه ، وصار الكثيرون يحلمون بمجرّد لقاء به ، ناهيك عن التقرّب إليه والانضمام إلى مجموعته ، المجموعة التي يتسابق كلّ واحد فيها ويتفانى لإثبات أرقى مراتب الإخلاص والحبّ له ، ومن ينتخبه الشهرستاني منهم كي يكون «سائقه» هذه المرّة ـ مثلاً ـ فهو ذو حظّ كبير ، ومنهم يكتفي بحمل «نعليه» ـ الحذاء ـ فهذا الحامل يعدّها نوعاً من أنواع النعمة عليه ، إذ بات حافظ نعلي الشهرستاني.

نعم ، أصبح حبّ الشهرستاني ملاك الحبّ ، والوفاء له ميزان الوفاء ، والطاعة له ضابط الطاعة ، فغدا هذا الرجل كلّ شيء للمجموعة المذكورة ، إن أظهرت الحبّ والوفاء والطاعة للشهرستاني أحبّوك وساندوك وإلاّ فلا. انتهى.

٣٤٢

من هنا يأتي السؤال : ماذا فعل الشهرستاني بهؤلاء حتى جعلهم على هذه الحالة من الانقياد والاستسلام المحض له وهو صرف وكيل عامّ لمرجع من المراجع العظام؟

لا شكّ أنّه الإنسان الذكي الذي يعرف تماماً ماذا يريد ويقصد ، إنّه صاحب مشروع كبير وأهداف أكبر لا يمكن تحقيقها إلاّ عبر إرساء الأرضيّة المناسبة من خلال الأدوات والآليات والسبل المختلفة التي منها تشكيل مجموعة تخضع خضوعاً تامّاً لإرادته وتحصل بالمقابل على ما لم تحلم به وتريد ، وبإزاء ذلك لم يتوان الشهرستاني من حذف كلّ من يقف حجر عثرة في طريقه ، حذفاً دبلوماسيّاً بالطرق السلميّة ، فخرجت ثلّة لامعة من الرموز والنخب مطرودة عمليّاً «بلا زعل» وحلّت محلّها «فدائيّو الشهرستاني» ـ كما يحلو للبعض إطلاق هذه التسمية عليهم ـ لتأخذ على عاتقها تنفيذ أوامره تنفيذاً عالياً.

«إنّهم» ليسوا على مرتبة واحدة ، بل على مراتب من العلوّ والدنو ، وتلعب بعض الخصائص ـ ولاسيّما التكوينيّة منها ـ دوراً هامّاً في تعيين المرتبة ، فالجاذبيّة والجمال مع اللباقة لهما مدخليّة هامّة في الانتخاب.

وأكثر ما يثير حفيظة السيّد الشهرستاني انتقادك واحداً من خاصّة المقرّبين بوجه حقّ أو بغير حقّ. والمعروف أنّه لا يرتّب الأثر على الانتقادات ترتيباً فوريّاً ، بل إنّما يفعل ذلك آجلاً وبالطرق التي لا تُشعِر الكثيرين بأ نّها عملية ردّ وجواب لتلك الانتقادات ، سواء تلك الموجّهة إليه أو إلى خاصّته من المقرّبين.

٣٤٣

يسعى السيّد الشهرستاني إلى الحفاظ على الظاهر المعهود عنه من القوّة والتماسك والنشاط رغم المشاكل العديدة التي يتعرّض لها سواء الاقتصاديّة منها أو السياسيّة أو الاجتماعيّة بل وحتى الجسديّة ، وهذا دأبه منذ أيّامه الاُولى في قم ، فقد أشاع البعض سابقاً نبأ انتكاسة الشهرستاني اقتصاديّاً لكنّه بقي بأعين الناس محافظاً على تماسكه وقوّته رغم الهزّات العنيفة التي تعرّض لها آنذاك ، وهكذا يفعل الآن في ظلّ الصعاب التي تمرّ به بين الحين والآخر ، فيظهر للملأ أنّ الاُمور على ما يرام ، بل يقدم على بعض الخطوات والمشاريع كي يطمئن الآخرين بأن كلّ شيء سائر طبق البرامج الطبيعيّة.

مئات الأفراد بشتّى المستويات والانتماءات تعمل تحت مظلّة الشهرستاني وكيانه المترامي الأطراف ، الغالب منهم منشغل بمهامّه وأعماله وليس لهم دخل في ما يحدث من قضايا واُمور ، وهؤلاء في راحة والشهرستاني منهم في راحة ، أمّا الذين يهتّمون أو تهمّهم تلك القضايا والاُمور فهم على صنفين :

الأوّل : صنف السمع والطاعة المطلقة.

الثاني : صنف السمع والطاعة المشروطة.

والصنف الأوّل اختار طريقه وفهم ما له وعليه ، وكذا الصنف الثاني ، والفرق بينهما أنّ نظرة وتعامل أحدهما للآخر مختلفة اختلافاً شاسعاً ، فالأوّل يرى في الشهرستاني كلّ شيء ، فالحبّ حبّ الشهرستاني والوفاء

٣٤٤

هو الوفاء له ، وكلّ من يخرج عن هذه القاعدة محكوم مدان .. بينما يرى الثاني أنّ الشهرستاني رجلٌ له ما له وعليه ما عليه ، يصيب ويخطأ ، ومع حفظ الاحترام وعدم إنكار ما لهذا الرجل من مكانة وخدمات جليلة ، فإنّ عليه من الملاحظات والانتقادات ما يجب مناقشتها للوصول إلى حلول منصفة تنهض بالواقع الموجود ، وتسهم في تحسين الأوضاع ، وتسلب الحجّة من الذين لا يفهمون إلاّ منطق التخريب والاستفزاز وإساءة الظنّ.

يمكن القول : إنّ الفضاء الذي تكوّن على هذه الشاكلة الموجودة حالياً إنّما تولّد عبر تناغم بين ما يريده السيّد الشهرستاني وما تريده المجموعة الملتفّة حوله ، وإلاّ فلو كان السيّد الشهرستاني رافضاً لهذا الفضاء فما تكوّن وما وُلد بالمرّة.

ولا شكّ أنّ سماحة المرجع الأعلى على علم واطّلاع بكلّ ما يحدث هنا في قم ، والتقارير الواصلة إليه من مختلف الجهات والشخصيّات موضوعة نصب عينيه ، ولا يمكن لأيّ أحد أن يعيّن تكليفاً ما لسماحته ، فهو المرجع الأعلى مع كون سماحته قد أثنى ـ كما ينقل الرواة الثقاة ـ في أكثر من مناسبة وموقف على شخصيّة السيّد الشهرستاني وجهوده ومساعيه في الذبّ عن حريم الولاية ونشر قيم الطائفة الحقّة والدين المبين.

يقول البعض : مخطئٌ تماماً من يعتقد أنّ «فضاء الشهرستاني» فضاءٌ يعتمد المحبّة والتواصل والاُخوّة بلا ثمن ، فإنّها إن تكن فهي مشروطة

٣٤٥

بالشهرستاني لا غير ، فكلّ شيء في هذا الفضاء منوط بالشهرستاني ، فهو ملاك وميزان وضابط كلّ شيء ، إن فرح فرحوا وإن غضب غضبوا ، إن قبل قبلوا ، إن رفض رفضوا ، إن قال قالوا ، إن سكت سكتوا ... فهو مؤشّر القيم والمفاهيم والأخلاق ...!!

خلاصة الأمر : هنا حقيقة واحدة ، حقيقة الشهرستاني ، وكلّ مادونه هراء وفراغ ، فلو تصوّرنا هذا الفضاء والكيان بلا الشهرستاني ، اُنظره كيف يكون ، إنّه مجرّد أطلال خاوية ساكنة مقفرة موحشة. أليس الشهرستاني مَلِكاً وسلطاناً إذن؟! بل أكثر من ذلك فالملوك والسلاطين إذا ماتوا تبقى الحياة آخذةً سيرها ومجراها ، لكنّ الشهرستاني بفقده سيؤول كلّ شيء في هذا الفضاء والكيان إلى الاُفول والاضمحلال والدمار ...

يا لها من سلطة عجيبة ، يا لها من كاريزميّة رهيبة .. لكنّنا يجب الاعتراف والإقرار أنّ ثقافتنا وتاريخنا قد فرضا علينا ألاّ تستقيم الاُمور ولا تصلح الأوضاع إلاّ بحاكم قويّ مستبدّ مهيمن ـ وإن كان عادلاً فنورٌ على نور ـ على كلّ القضايا وجزئيّاتها ، فتشرئبّ له الأعناق ويطاع حدّ الصنميّة ، ومن هنا يظهر على مسرح الأحداث الحربائيّون والببغائيّون والمتزلّفون والمنافقون ... وتنمو مواهبهم وينشروا أساليبهم وأدواتهم التي بها يبلغون مقاصدهم ويحصلون على مرامهم ، وبإزاء ذلك تزداد النخب والرموز عزلةً وانزواءً ; حيث لا يمكن لها الانسجام مع فضاء كهذا الفضاء ، فالأمر يتطلّب نزولاً وتنازلات يصعب عليهم تنفيذها والقبول بها.

٣٤٦

فالذنب ليس ذنب الشهرستاني ، إنّما هو موروث ثقافة ومناهج لا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها ; إذ التغيير يستدعي قراءة ومراجعة واستنطاق الاُصول بعمليّة نسقية عمليّة مقترنة بالحفر والبعثرة والمقارنة والاستقراء والتحليل ، الأمر الذي يعني ـ مثلاً ـ الحصول على نتائج تكشف حدود وصلاحيّات واختيارات الأفراد بشتّى صنوفهم ورتبهم ، وتبيّن أنّ الفهم البراغماتي النفعي لماهيّة المعصوم عليه السلام عند الشيعة الإماميّة ـ نعني به فهم شريحة صغيرة من شرائح علماء الشيعة الذين عملوا بالقياس الباطل فاستفادوا منه في تسرية خيارات المعصوم إلى غيره ـ هو الذي أرسى قواعد الثقافة المشار إليها والتي يعدّ السيّد الشهرستاني ـ مورد بحثنا ـ رشحاً من رواشحها .. أمّا عموم الناس فهم مأخوذون بالتعبّد وقبول الأمر الواقع ، حيث الغالب منهم يمنح رجال الدين الثقة في اُمورهم الشرعيّة وغيرها ، رغم انعقاد الإجماع في المدوّنات الفقهيّة على حرمة الولوج إلى حريم خيارات الإمام المعصوم وحرمة العمل بالقياس المعروف دون منصوص العلّة ومفهوم الأولويّة ، لكن هذا الرفض نظريٌّ لدى بعضهم ، وإلاّ فهو لا ينسجم مع الذين يجدون في التصرّف بخيارات المعصوم سبيلهم الوحيد لتحقيق المقاصد والغايات.

لذا نحن لا نوجّه اللوم إلى شخص السيّد الشهرستاني ، بل نلوم نوعَ ثقافة سرت في جسد الأُمّة واخترقت عقلها وأحاسيسها ، ثقافة مخالفة لعقيدة المذهب الإثني عشري وقيمه ومفاهيمه التي تميّز الإمام المعصوم ولا تمنح خياراته الخاصّة به لغيره ; من باب أنّ منح هذه الخيارات خارج

٣٤٧

عن قدرة غير المعصوم ، وإثبات ذلك دونه خرط القتاد. ولا نقصد بهذه الخيارات ما ثبت صدوره من المعصوم بمنح بعضها إلى الفقيه الجامع للشرائط كما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ، مع أنّ هناك من يناقش في سند المقبولة ومتنها .. بل نقصد التصرّف بخيارات هي من خصائص الإمام المعصوم دون غيره ، أودى بنا إلى مزيد من الاستبداد والتفرّد وبالتالي إلى مزيد من التخلّف والتراجع ..

نقول : بمنأى عن كلّ الإثارات والإشكاليّات ، بمنأى عن المخالفة والموافقة ، فإن كنّا على التزام أخلاقيٍّ ديني ، ذوي منهج علمي معرفي ; ينبغي علينا لحاظ جميع الاُمور لحاظاً شاملاً خاضعاً للنسق المنطقي ذي الأدوات التي تقود إلى حصيلة لا تقبل الشكّ والترديد. فليس من المقبول لحاظ قسم الإناء الفارغ فقط دون لحاظ القسم الممتلئ منه.

من هنا وطبق القاعدة المذكورة سنجد أنّنا كثيراً ما نكون غير أخلاقيّين ، غير علميّين ، في رؤانا وأحكامنا ، فنظلم ونتجاوز ثم نأثم ونخسر.

٣٤٨

الوجه الآخر لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)

مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) معهدٌ يعنى بتحقيق التراث العلميّ الثقافيّ الإمامي ، بمنهج واُسلوب ابتكاريٍّ جماعي ، مضى على تشييده قرابة ثلاثة عقود ونصف .. ببداية اُوفسيتيّة تهتمّ بطباعة وتكثير المصادر المطلوبة حوزويّاً ، أعقبتها التجربة الثلاثيّة على كتاب الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ (قدس سره) ، وإنّه لَكبيرُ الثلاثة قيادةً صغيرُهم حياةً هو الذي علّمهم السبيل الذي سيسحر الوسط المعرفيّ قريباً بالنتاج الأرقى والحلّة الأبهى ، فكانت مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) هي الخطوة الاُولى نحو الهدف الأسمى ، والمعنى في قلب الشاعر يبقى نابضاً ويحيا.

هذا الرجل الغريب الآتي من ديار الحبيب ، ديار الغريّ البعيد القريب ، ماذا يا تُرى يبغي ويريد ، هنا قم المعصومة (عليها السلام) حيث أساطين العلم ومراجع الدين وأركان العالمين ، فتىً لم يُكمل العقود الثلاثة من الأعوام والسنين؟

اجتمعت الضغوط والصعاب والآلام بشتّى ألوانها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لتصبّ جام غضبها على هذا السيّد الحسينيّ

٣٤٩

الحوزويّ الوسيم ، فلم يرأف به حتى الصديق والقريب ناهيك عن العدوّ والبعيد .. إلاّ أنّه تجرّع الغصص لحاجة في نفس يعقوب شاءت الأقدار ـ بعد معاناة من الأيّام الطوال ـ تحقّقها باقتدار.

شقّت المؤسّسة دربها بين الريح العاصف والموج الهائج قاصدةً برّ الأمان وساحل السلام ومرفأ الاطمئنان ; ذلك بفضل الإدراك السوسيولوجيّ الدقيق والفهم الإنثروبولوجيّ العميق ومديريّة العقل اللبيب ، بإيمان واعتقاد مفاده أنّ المقصود والمطلوب مشتركٌ واحدٌ تختصره جملة : خدمة الدين الحنيف والقيم الحقّة. التي من خيرة مصاديقها : السعي الحثيث لإيجاد التقارب الفاعل البنّاء بين حاضرتيّ التشيّع العملاقتين ، من حيث إنّ إحديهما تكمل الاُخرى ، إحديهما عمق الاُخرى .. ولقد تناهى إلى الأسماع والأنظار مؤخّراً بعض ثمار السعي المذكور ، الذي سنلمس منه ـ بعونه تعالى ـ في قابل الأوقات مزيد العطاء الميمون والنتاج المبرور.

تسنّمت المؤسّسة قلل العلياء : إصداراتٌ ولا أرقى ، شهادات إشادة وتقدير وتكريم ، جوائز نفيسة وتعظيم ، تربية النخب والكوادر وتخريج المتخصّصين الذين نثروا خبراتهم في أنواع الميادين ، فروعٌ في مختلف الأصقاع والبلدان ، مؤتمرات ، معارض كتاب ، نشريّة محكّمة معتبرة ، شبكة انترنت رائدة ، علاقات عالميّة واسعة بشتّى المعاهد والجامعات والشخصيّات اللامعة ، تلاقح أفكار وتبادل آراء هادفة ...

٣٥٠

لم تكن هذه نهاية المطاف ، فأفكار الطَّموح تَمور وعقارب الساعة تنبض بالحركة وتدور ، ولازلنا نتداول الاُمور بعقلانيّة لم تخرج عن مرسوم الاُطر ومعهود الحدود ..

لكنّا إزاء تساؤل لا يعلم الكثير منّا بأيّ خانة يضع الجواب عنه وفي أيّ تصنيف يضمّه ويرميه ..

فعندنا هنا فقيهٌ استجمع الشرائط فصار مرجع الطائفة باقتدار ثم غدا مرجعها الأعلى بكلّ عظمة وجلال ، رغم ما كان يُعرَف عنه من العزلة والابتعاد عن الأضواء والحضور الاجتماعيّ المحدود وكمّ التلامذة المعدود ..

وهنا عندنا صهرٌ خاض تجربة رائدة مؤفّقة اسمها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) ، تجربةٌ صقلت مواهبه وكشفت نبوغه في علم الإدارة والبرمجة والتخطيط ، صاحَبَها حفظُ التوازنات على جناح مبنى : «أنّ الجذب خيرٌ من الطرد ، والاستقطاب أرجح من الاستبعاد» .. صهرٌ أفلت من كفّي عفريت أحرق الحرث والنسل ولم يرع المحارم والذمم ، فهاجر خائفاً بعد ما نالت منه سياط الجلاّد قسطاً وافراً من الترويع والإيلام ، هاجر لتصنع منه دار الهجرة ذراعاً فولاذيّةً تحمي وتذبّ عن الدين والمبادئ العظام ..

ولمّا باتت التجربة تؤتي اُكلها واختمرت العقليّة المديرة بالمؤنة المطلوبة نسبيّاً ، وناغمها زمانيّاً سطوع مرجعيّة المرجع الأعلى ، اضطلع

٣٥١

الصهر بمهامّ الوكيل ذي الخيارات العليا ، الذي أفاد أيّما إفادة واغتنم الفرصة أيّما اغتنام بحنكة ودراية ، ثم ازداد الوكيل المطلق خبرةً ونفوذاً واعتباراً ومنزلةً وشهرةً ورفعةً ; بفضل مواهبه الذاتيّة وبركات المرجعيّة الدينيّة ، وصرنا لا نعهد سلفاً أن تمتاز مرجعيّةٌ بحضور فاعل ونشاط مزدهر خارج عقر دارها كالذي امتازت به مرجعيّة السيّد السيستانيّ مدّ ظلّه ، ولاسيّما في مدينة قم على وجه الخصوص مع لحاظ الشروط والظروف المعروفة عنها وصعوبة التعامل فيها ..

فهل لازلنا وزلتم تعتقدون أنّ الأمر عقلانيّ محض؟ أم فيه شيءٌ من تلك اليد؟ لا أدري!!

ولعلّ من نافلة القول الإشارة إلى ترامي شهرة المؤسّسة بعد المرجعيّة وتعاظم نفوذها وتأثيرها وانشغال الأوساط المختلفة بمتابعة ومداولة أخبارها والتعرّض لها مدحاً وقدحاً ، نقضاً وإبراماً .. وهذا أمرٌ طبيعيّ بالنسبة لكيان بهذا الاُفق الشاهق والحضور الفاعل.

نعم ، تعدّد النشاط وتوالت محاوره : من خدمات اجتماعيّة إلى مراكز علميّة وثقافيّة وتحقيقيّة وطبّيّة وإعلاميّة ، تشمل الجميع وتعنى بالطفل والمرأة ، بالكهل واليافع والشابّ ... وصار الأغلب يرى المؤسّسة واحدةً من معاقل ونتاجات المرجعيّة رغم كونها حصيلة جهد شخصيّ استبق بروز المرجعيّة المباركة المعهودة بحوالي العقد ونصف.

وإنّنا إذ لا ننسى التذكير بالفوائد الجمّة التي حصلت عليها المؤسّسة

٣٥٢

بسبب المرجعيّة الرشيدة فلا ننسى أيضاً التذكير ـ مفتخرين معتزّين ـ بتضحيات المؤسّسة دفاعاً عن المرجعيّة العليا.

في مثل كيان عظيم عملاق كالمؤسّسة ، من الرائج جدّاً أن تتقاطع المشارب أو تلتقي ، تتباين الأفكار أو في بوتقة واحدة تنصهر وتنضوي ، تتلوّن المطامح والآمال ، تتصاعد العطاءات والأخلاق وقد تهبط إلى سىّء الحال ، العابد الزاهد العالم العارف الفاضل الأبيّ العزيز حاضرٌ كما الحربائيّ الببغائيّ الصنميّ التزلّفي الجاهل حاضر .. يا له من قلب كبير وصدر وسيع آلَ على نفسه إلاّ الصبر والأناة سيراً على مبنى «الجذب والاستقطاب» فتحمّل شتّى النقد والمعاناة وبالغ الأضرار .. كلّنا بلا استثناء نخطأ ونسهو ونغفل ، نأثم ونذنب ، نندم طوراً وطوراً نصرّ ونهوي.

وكما شاءت الأقدار أن يتحوّل الحلم الجميل رويداً رويداً إلى حقيقة طيّبة ينعم بها الجميع ويرفل ، حقيقة التقارب والتناغم والتناسق والتكامل والتماهيّ بين حاضرتي الفكر الإمامي ومدرسة آل العصمة الميامين الغرر ، حوزتي قم المقدّسة والنجف الأغرّ .. أينعت بعض الثمار ، والآتي أينع وأنضر ، شريطة العزم الأكيد والخلوص الشديد والحرص المديد وكسب دعوات الوليّ الغائب أرواحنا لتراب مقدمه الفدى وإمضاء الباري تبارك وتعالى .. ففي ذلك خير الاُمّة وصلاحها في دنياها واُخراها ..

كذلك شاءت الأقدار أيضاً أن يكون لمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث نصيبٌ وافرٌ ودورٌ باهر في صنع مقدّمات التقارب البنّاء بين الحاضرتين المباركتين ; فما كان لله ينمو ، وله الشكر والحمد.

٣٥٣

مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) في اسبانيا

صرحٌ جديدٌ من صروح المرجعيّة العليا

من قلب اُوربّا النابض بالحياة ، من أرض تروّت قروناً متماديةً ـ رغم كلّ شيء ـ برواء الإسلام العظيم وتأرّج فضاها بأريج الدين الحنيف ; حيث لازالت لمسات ثقافته ومعالم أفكاره تعكس أجلى الأثر وتحاكي القلوب والعقول بأبهج المضامين والصور ، من هناك حيث إشبيلية وغرناطة وقرطبة وملقا وطليطلة وبلدالوليد ... من مدريد عاصمة مملكة اسبانيا ذي التأريخ المديد .. شَمَخَ صرحٌ يحمل عنوان «آل البيت (عليهم السلام)» ، صرحٌ إسلاميٌّ شيعيٌّ شادته المرجعية العليا ، مرجعيّة السيد السيستاني ممثّلةً بوكيلها العامّ السيد جواد الشهرستاني .. صرحٌ أبرز ما قيل فيه : إنّه يحمل قرائنه وشواهده ودلائله معه ; إذ في طيّاته بشائر الخير والحبّ والسلام ونبذ العنف والإرهاب وشرور اللئام .. كيف لا؟! وقد شاده الكيان الدينيّ المقدّس الذي يؤمن بالحوار وتلاقح الأفكار وقبول الآخر والتآلف والاستقطاب تنظيراً وتجسيداً ، ويلفظ التناحر وحذف الآخر والتشتّت والاستبعاد قولاً وفعلاً وتقريراً ، الكيان الذي يسعى إلى

٣٥٤

جمع الجمع ولمّ الشمل وتوحيد الصفّ تحت كلمة الله العليا ، على جناح المعرفة الإنسانية النابضة بالحكمة ، المفعمة بالعقلانية والكياسة والفطنة.

نعم ، على بركة الله تبارك وتعالى ، وبظلّ ألطاف الحجّة المنتظر أرواحنا فداه ، وبمناسبة إطلالة ذكرى ميلاد عقيلة الطالبيّين صوت النسوة المؤمنة والإعلام الرسالي الهادف السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام) ، وبحضور أكثر من مائتي شخصيّة دينية وثقافيّة واجتماعية وسياسيّة ، وتواجد لافت للمرأة ، وتمثيل حكوميٍّ رسميٍّ على أرقى مستوى ، ومشاركة فاعلة من مختلف المذاهب والأديان .. افتتحت مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) في قلب مدينة مدريد عاصمة اسبانيا .. وقد اتّفق المشاركون بكلماتهم على ضرورة العمل الجادّ وبذل الجهد الحقيقيّ السائر نحو إقرار الأمن والسلام والحبّ والوئام ورفض التطرّف والترويع ورؤى الضلال والظلام.

ولاقت إزاحة الستار عن هذا الصرح المبارك صدىّ واسعاً في الإعلام الاسباني ، إذا خصّصت الجريدة الرسميّة الواسعة الانتشار «عالمية» غداة الافتتاح نصف صفحة من صفحاتها لتغطية وقائعه وماجرى فيه ، وأعقب ذلك سلسلة لقاءات مرئيّة والكترونيّة وتدوينيّة مع بعض القائمين على المشروع المعهود والمنتمين إلى المرجعيّة العليا.

وممّا تجدر الإشارة إليه : إنّ إنشاء مدرسة أكاديميّة يمازجها تفعيل المفاهيم الإسلامية عبر دروس التفسير ونهج البلاغة والأخلاق ... يعدّ من أولويّات مهامّ المؤسّسة وفي صدر برامجها ونشاطاتها ، ولا سيّما أنّ

٣٥٥

الجالية المسلمة هناك تتمتّع بتواجد متميّز يبقى مفتقراً متعطّشاً دوماً إلى من يلوذ به ويؤويه ويذبّ عنه ويحميه من شتّى الآلام والمصائب المعنويّة والمادّية.

حرس الباري عزّوجلّ بعينه التي لا تنام دينَه القويم وحفظه بأوليائه الطاهرين (عليهم السلام) ونوّابهم العامّين ، خصوصاً رائد الحكمة والسلم والحبّ والمعرفة المرجع الأعلى دام ظلّه الوارف على رؤوس المسلمين ، وإلى مزيد من أعمال البرّ والخير ، آمين ربّ العالمين.

٣٥٦

تحقيق النصوص غاية أم وسيلة؟

كيف يمكن تصنيف «تحقيق النصوص» وأيّة خانة أو مربّع يضمّه ويدّعي به ، هل هو علم ، متمّم ، فنّ ، حرفة ، ضرورة ، جمال ، خدمة ، غاية ، وسيلة؟

من خلال استعراض خاطف لممارسة ذاتيّة ناهزت الثلاثة عقود في مجال «التحقيق» قد أتمكّن من إماطة اللثام عن أجوبةِ تساؤلات طالما شغلت الأذهان وفتحت أبواباً من البحوث والمطالعات.

قيل في التحقيق : إنّه إثبات الحقّ ، التصديق ، إحكام الشيء وصحّته ، الرصانة ، التزيين ... ويرادفه «التحرير» ; إذ قيل : تحرير الكتاب : خلوصه وتقويمه.

واختُلف في بيان المراد منه :

فمنهم من جعله ضبط النصّ فقط.

ومنهم من أضاف إليه : توضيح الغوامض وتوثيق النصوص من مصادرها وصنع الفهارس ومتابعة الكتاب بكلّ مراحله حتى تناله يد القارئ.

٣٥٧

ومنهم من أضاف إلى ذلك كلّه : الصقل والتجميل و ...

لا شكّ أنّ أرقى مراتب التحقيق «ضبط النصّ» وما سواه من التخريج والبيانيّات وإعداد الفهارس والمتابعة والتأنيق ، فإنّها من مكمّلات التحقيق ولوازمه.

ولسنا بصدد بيان الخلفيّة التاريخيّة لموضوعنا وحضوره إسلاميّاً منذ عهد الرسول صلّى الله عليه وآله ; حيث البحث عندنا يحوم حول الداعويّة والمحرّكيّة والباعثيّة اللاّتي يستمدّ منها التحقيق وجوده ومشروعيّته وديمومته وأهمّيّته.

إنّنا نعني بالتحقيق : إجراء سلسلة من الخطوات وتنفيذ مناهج مختصّة غايتها الحصول أو الخروج بمشروع ذي مواصفات تتلاءم مع حاجة الظرف.

إذن نحن لا نبدأ من نقطة الصفر ، بل نرى أنفسنا إزاء منجَز علمي معرفي ثقافي لا نستطيع ـ غالباً ـ التصرّف فيه وفي حجم المادّة المودعة بين حدوده ، فهذا أوّل مكبِّل مفروض علينا في عمل التحقيق.

وتعدّ «الأمانة» في حفظ الموجود والمحتوى شرطاً وصفةً أساسيّةً لابدّ من توفّرها في كلّ من يمارس التحقيق.

كما يعدّ الذود عن رأي المؤلّف واستفراغ الوسع في دعمه وإسناده وعدم المساس به من الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاوزها بأيّ حال من الأحوال ، ولابدّ من انتخاب أدقّ ألفاظ الاحتياط في التعبير عن خطأ

٣٥٨

المؤلّف إن كان موجوداً. وهذا ناشئ من مقدّمات مفادها : إنّ الإقدام على تحقيق المشروع يعني التسليم بالنفع والفائدة التي يتركها انتشاره على الأوساط العلميّة والثقافيّة ، فالمؤلِّف والمؤلَّف مقبولان ، وقبولهما يستدعي الدفاع عنهما غاية الإمكان.

فليس الميدان ميدان الأفكار والرؤى والإبداعات المعرفيّة والعلميّة بقدر ما هو نقل مشروع منجز من ظرف إلى ظرف آخر ، ومهما بلغت الجهود والمساعي العقليّة والفنّيّة من رقيٍّ فإنّها لا تتجاوز حدود الموجود من المشروع ، بمعنى : أنّ المشروع التحقيقي هو الذي يتحكّم فينا ويرسم لنا خارطة الطريق ويوجّه أفكارنا وقوانا ومواهبنا ، فلا يقودنا إلى اكتشاف أو اختراع أو ابتكار كالتي يقودها البحث العلمي المعرفي المستجمع للشرائط والمعايير المنهجيّة.

إنّنا إذن أشبه بالفرقة الموسيقيّة التي تنفّذ مقطوعة أو سمفونيّة صاغها صانعها وابتكرها ولم يعهد لنا سوى بإجرائها ، فمرّة نجريها في القرن السادس عشر واُخرى في القرن الحادي والعشرين بتفاوت الأدوات والآليات ، دون الخروج عن النصّ والتجاوز عليه ، وليس لنا سوى العواطف والمشاعر والأحاسيس التي تتحرّك وتموج على الأنغام والألحان مع كلّ البعد عن الإبداع والابتكار.

إنّ فضاء التحقيق فضاءٌ محدود ، فيه من القيود والشروط والتعبّد ما قد يمرّن العقل والشعور على التأطّر والانحسار ، ولا يمكن مقارنته بفضاء

٣٥٩

الإرادة الحرّة الخالية من قيود المشاريع الجاهزة الأفكار التي لا نكون في معادلتها سوى الجسر أو الوسيلة التي تنقلها من هناك إلى هنا.

الفكر الإنساني يعني صياغة الرؤى وترجمة المواهب وبلورتها بإرساء القواعد والاُسس العلميّة لها ، إنّه يراجع ويحفر ويبعثر ويستقرئ ويقارن ويحلّل ويغوص في اللاّمفكّر فيه ويستنطق ... من أجل البلوغ بالقيم والمبادئ مبلغاً حضاريّاً متجاوزاً عقدة الثابت والمتغيّر والأصيل والمعاصر ..

ولا يلبّي «التحقيق» حاجة الإنسان الفكريّة الناهدة نحو فضاءات من الحرّيّة تتيح لها فرصة الإبداع والابتكار ، ولاسيّما إذا أضفنا إلى مدّعانا «مسألة النسبي» إزاء المطلق ، بمعنى : أنّ كلّ المشاريع التحقيقيّة مهما شمخ بها العمق والضبط والدقّة فهي تبقى في إطار النسبي في النسبي ، والنسبي ليس سوى فهماً من الأفهام ومعنىً من المعاني ظهر وارتقى سلالم المجد العلمي والمعرفي والثقافي يوماً من الأيّام ، ولا نعلم هل يلبّي حاجة العصر أم لا ، ناهيك عن النسبي في النسبي ، مع عدم إنكارنا على «التحقيق» دوره الريادي المؤثّر في إبراز محاولات الماضين التي تركت لنا عطاءً ثرّاً وتراثاً زاهراً نفخر به ونهتزّ غروراً بانتمائنا إليه وانتمائه لنا.

بجولة «أشبه بالخاطفة» في أروقة «التحقيق» وما يجري فيها من خطوات ومراحل وأعمال وما يواكبها من عطاءات عقليّة ومشاعريّة

٣٦٠