نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

لقياك حضوراً ، خمسون دقيقة ـ مجموع الحضورَين ـ مرّت عليَّ مرّ الثواني ، لكنّي كنت أسعى بالفرصة كي اُطالعك كثيراً ، فوجدتك كما عهدتك في حسّي وخاطري ، كما قرأتك منك وعنك وفيك وإليك ، نعم والله ، إنّها سيماء الصالحين وصفات المتّقين وهيبة الأولياء المخلَصين وتواضع المقتدرين ، قد تجلّت بك خير جلاء.

فكيف لا تحفرك الجنان على صفحاتها حبّاً وهياما ، ولا تشرئبّ الأعناق لك تعظيماً وإجلالا ، ولا تنالك العقول والأقلام بحثاً واستقراءا ، كيف لا؟! وأنت الذي أخلصت بالقول والفعل فزادك الله عزّاً وشرفاً وحباك من لدنه خُلُقاً وحكمةً وعلماً وتدبيرا.

٢٨١

هل نقرأ حقّاً؟

هل نقرأ حقّاً ونتابع ما يُكتَب ويقال هنا وهناك في ما يخصّ رموزنا وأعلامنا ومراجعنا ، قراءةً وتتبّعاً منهجيّين قائمين على الاستقصاء والاستقراء والمقارنة والتحليل والمسح والحفر والاستنتاج المعرفي؟

أم لا نقرأ ولا نتابع .. أو هكذا لكن دون الأدوات المعرفية المشار لها؟

لعلّني من اُولاء الذين قلّت قراءاتهم عموماً وفي موضوعنا خصوصاً ، إلاّ أنّي استحضرت في ذهني بعض نماذج ممّا قيل في المرجعية المباركة ; علّها تسهم يسيراً في تسليط الضوء أكثر على ما يجول في أفكار وأروقة القريبين والبعيدين من إراء وتصوّرات بحقّ المرجعية الدينية.

١ ـ يقول ولي نصر في كتابه «الانبعاث الشيعي» تعريب مختار الأسدي ، طبع مؤسّسة مصر مرتضى للكتاب العراقي ، سنة ٢٠١٠ :

السيستاني ، وبحكمة وتعقّل لم يَسْعَ أن يصبح حاكماً أعلى أو

٢٨٢

مرجعية عليا في الوسط الشيعي ، لكنّه ناضل لأن يكون وسيطاً شريفاً وباني جسور ـ bridge builder ـ ربما يستطيع أن يوحّد من خلالها في ما بين الأصوات والتجمّعات السياسية المختلفة. كما أنّه لم يحاول إضافة طيف أو لون جديد ، وإنّما أن يزوّد المكوّنات الشيعية العراقية بشراع يمكنهم من خلاله صياغة أو تلوين مستقبلهم.

بالنسبة للسيستاني أيضاً ، إنّ الانبعاث الشيعي على المستوى الإقليمي يعني : بناء هوية مشتركة لملايين الشيعة ... من أجل أن يحصدوا محصولهم في رأس مال سياسي ، يمكن لمثل هذه الهوية المشتركة أن تحقّقه لهم أو تكون لازمة من لوازمه على أقلّ التقادير.

وكان ـ السيستاني ـ تأثيره هذا واضحاً بشكل كبير في منع الشيعة من التصرّف بردود الأفعال على الأعمال الوحشية والفظيعة التي ارتكبت ضدّهم وتقريباً يومياً من قبل المتطرّفين السنّة. إنّ الحرب الطائفية شَرَك ومصيدة ، كما قال محذّراً ، وعلى الشيعة أن يتجنّبوها من جانبهم جهد الإمكان ... أرجوكم أن تكونوا حضاريين ، إنّنا لا نريد أن نبدأ حرباً أهلية. هذه هي النقطة الأكثر أهمّيّة في الموضوع كلّه.

إنّ الذي عجزت الثورة الإسلامية أو فشلت في تحقيقه استطاع الانبعاث الشيعي في عراق ما بعد صدّام أن ينطلق في تحقيقه ، انتهى.

٢ ـ يقول دوغلاس. ج. فايث الوكيل السابق لوزارة الدفاع الأميركية لشؤون السياسة سنة ٢٠٠٢ حتى سنة ٢٠٠٥ في كتابه «الحرب

٢٨٣

والقرار» تعريب سامي بعقليني ، طبع مؤسّسة الانتشار العربي بيروت ، سنة ٢٠١٠ :

على مدى ثلاث سنوات من تحرير العراق أظهر الشيعة فعلاً قوّة تحمّل مذهلة ، متعاطفين مع قيادة آية الله العظمى علي السيستاني الذي دعا باستمرار إلى ضبط النفس. يستحقّ السيستاني أكبر ممّا لقيه حتى الآن من المؤرّخين. ومع أنّه رفض أن يجتمع مع بريمر فقد لعب دوراً كبيراً وبنّاءً على العموم في عراق ما بعد صدّام. عارض النزاع الأهلي ورفض الحكومة الإكليركية على الطراز الإيراني. المعلّقون الذين أكّدوا أنّ القوة السياسية الشيعية في العراق ستترجم انتصاراً للنظام الإكليركي الإيراني جنحوا إلى تجاهل السيستاني أو اخطئوا في إدراك وجهة نظره.

ثم يقول : في اجتماع للجنة الأساسيين في واشنطن في ١٦ يناير / كانون الثاني ، ٢٠٠٤ ، قامت أصوات عديدة من حول الطاولة تنصح بريمر بالتراجع في نزاعه مع السيستاني. علّقتُ بأ نّنا «لا نريد أن نكون في موقف المعارضين للانتخابات». قال رامزفيلد : إنّ كلمة «انتخابات» لها أكثر من تعريف واحد. بعد برهة لا حظ تشيني أنّ للسيستاني شرعية أكبر في أعين أكثر العراقيين من أيّ شخص آخر : نحن بحاجة إلى استراتيجية تأخذ بالاعتبار اهتماماته المشروعة ، عندما ردّ بريمر بأنّ السيستاني «يغيّر مواقفه الأساسية» لاحظ باول أنّه في مسألة المطالبة بالانتخابات لم يغيّر السيستاني موقفه ، انتهى.

٢٨٤

٣ ـ أمّا أنا فقد كنتُ حاضراً وسمعتُ شخصيّاً أحد أقطاب رجالات دولة كبيرة من دول الجوار وهو يقول : خلال لقاءاتي المتعدّدة مع مسؤولي وقادة الدول الاُوربية وغيرها لاحظتُ اهتماماً خاصّاً بوسطية واعتدال وعقلانية السيستاني ، فوجدت أنّها الفرصة الأنسب لترويج وطرح التشيّع العقلاني المعتدل المتمثّل بالسيّد السيستاني ترويجاً وطرحاً عالميّاً ، ولاسيّما بعد غلق ملف تشيّع الثورة الإسلامية بوصفه التشيّع الراديكالي ، انتهى.

أقول : هل فكّرنا تفكيراً علمياً ، أخلاقياً ، عَقَدياً ، وجدانياً ، اجتماعياً ، ثقافياً ، اقتصادياً ، فنّياً ... بما صنعته هذه المرجعية لنا ـ بحكمتها وإخلاصها وتدبيرها وعقلانيتها ومعارفها ـ من مزيد فخر واعتزاز واعتبار لمبادئنا وقيمنا النبيلة الحقّة ، منتزعةً بذلك اعتراف القاصي والداني بإنسانية هويتنا وشرف عقيدتنا ، هذا الاعتراف الذي عجز الكثيرون ـ على شتّى الأصعدة ـ من كسبه وتحصيله مدى القرون والأعوام؟

إنّها الفرصة التي قد لا تعوّض ، فرصة العمل على إرساء وإيصال مباني وثقافة العقلانية والاعتدال والوسطية التي نادت بها المرجعية المباركة وجسّدت مضامينها بأرقى تجسيد ، مضامين الحبّ والسلام والأمان ونبذ العنف واحترام الإنسان وحقّه بالحياة الحرّة الكريمة .. الأمر الذي يستدعي مزيد بحث وتلاقح وتواصل بتوفّر الإمكانيات والفضاءات المساعدة ، ولاسيّما أنّ العقل المدبّر وسيّد الثقافة المعهودة لا زال يرفدنا بروائع الأنظار وشوامخ الأفكار بطعم الحكمة ومذاق الفضيلة وعبق السيرة العظيمة.

٢٨٥

ماذا نحن فاعلون؟

صدرت الفتوى الشهيرة ، وبصدورها تحجّم المدّ الخطير وتلاشى الخوف الكبير وانتعشت الآمال وارتفعت المعنويات التي كانت قد آلت إلى أسوأ المآل ، أمّا آيات الثناء والمديح والإعجاب التي توالت من كلّ حدب وصوب فهي تحكي بمجملها الإشادة بالحكمة البالغة والتدبير الدقيق والاُبوّة الكريمة والرعاية الرفيعة التي غمرتنا بها المرجعية المباركة.

صدرت الفتوى التاريخية وعملت المرجعية الدينية بتكليفها ومسؤوليّتها الشرعية والأخلاقية إزاء الاُمّة وحاجتها المصيرية ، ففعلت ذلك طبق ما ارتأته لازماً ومناسباً في ظلّ الظرف الراهن العصيب.

ولكن ماذا نحن فاعلون؟ ماذا فعلت النخب والكوادر والطاقات والوكلاء ...؟ هل وظّفنا الفتوى لخدمة قضايانا وحرماتنا ومقدّساتنا؟ هل استثمرناها في توحيد صفّنا ودرء الخطر عنّا والانطلاق نحو معالجة واقعنا المرير؟

هل من غرفة عمليات ، مؤتمرات ، ندوات ، حوارات ، استشارات ،

٢٨٦

تلاقح أفكار ، رواشح رؤى ... تبيّن أهمّيّة وقفة المرجعية الشامخة وأبعادها المختلفة .. هل من حصيلة نقتحم بهاميادين العمل بتجسيد المحتوى الذي حملته الفتوى المؤيَّدة بألطاف السماء؟

أم لازلنا ننتظر بالمرجعية أن تعلّمنا أبسط الجزئيّات وتهدينا أصغر التفصيلات؟ أم لازلنا منكبّين على منافعنا وأهوائنا ، تاركين آلام الاُمّة ومعاناتها ومخاوفها على وجودها ومقدّساتها إلى مهبّ الريح؟

الخشيه كلّ الخشية أنّنا لم نتعلّم الدرس جيّداً ; حيث لم نستوعب حجم الخطر المحدق حتى بمصالحنا الذاتية التي نجهد إلى حفظها أو نيلها.

إنّها الفرصة يا كرام ، فرصة الفتوى التي وصلتنا على طَبَقِ ذهب من سيّد مراجعنا العظام ، فرصة تدارك الاُفول وتغيير الاُمور وكسب أوسع القبول ، إنّها الفرصة كي لا نسير صوب المجهول المخيف ، صوب التراجع والسقوط كتساقط أوراق الخريف.

٢٨٧

القرار المناسب

حينما تتعرّض الاُمم والمقدّسات والمبادئ للخطر وينشغل الفضاء العامّ بأقطابه ومحاوره ونخبه وسائر طبقاته بالحدث الذي يهدّده ويهدّد وجوده وكيانه ، يتّخذ أعلامه مختلف المواقف والأساليب التي تعبّر عن حقيقتهم الرفيعة الذائبة في عمق القيم والمفاهيم المقدّسة ، فتراهم يُجَدْولون برامجهم بما يطابق الحدث ، فيغدو همّهم الشاغل متابعة الأحداث والانصهار فيها لحظة بلحظة ، فهذا الذي يجنّد إمكانياته بأنواعها ، وهذا الذي يعطّل نشاطاته المختلفة كالدرس والبحث والسفر وغيرها ، بل كثيراً ما يُلغي المسؤولون سفرهم ويكرّون راجعين إلى مقارّهم لمتابعة التطوّرات ، ممّا يعكس انطباعاً رائعاً عنهم وعن المنزلة التي يولونها لقيمهم واُممهم.

الناس بطبيعتها لن تنسى نظائر هذه المواقف الخالدة من نخبها وروّادها ، بل تفتح لهم صحائف جديدة من الحبّ والشكر والامتنان ، وفي الوقت ذاته ستبقى لائمةً متأ لّمةً ممّن تركوها ولو قليلاً ساعة المحنة حتى بقرار أو موقف معنوي رمزي.

٢٨٨

السرمديّون إنّما هم سرمديّون بأفعالهم ، بقراراتهم الحاسمة التي طالما غيّرت وجه التأريخ ، بعقولهم ، بتدبيرهم ، بحكمتهم ، التي هي أرقى آثارهم.

٢٨٩

صمّامُ الأمان

نبقى بحاجة إلى شيء ما ، شيء مشروع يوحّدنا على أساس المبادئ الحقّة ، التي تكفل لنا الحياة العزيزة والعاقبة المحمودة.

كما يبقى الإنسان بفطرته السليمة ـ التي تجرّه إلى الخير جرّا ـ يهرب من فرط القيود وفرط الإطلاق إلى التوازن المعقول ، إلى كلّ ما يضمن له الاستمرار في تحقيق المطلوب ، فيجهد مكتشفاً «صمّام الأمان» ، عارفاً بمن يسعى به صوب المقصود ومرفأ الإيمان .. إنّه حلم السماء والرسل والأنبياء والولاة النجباء (عليهم السلام) أن يبلغ الإنسان فضاءات السعادة والفلاح ويحلّق في آفاقها مستبشراً بالنجاح.

بلا أدنى مداهنة ومراوغة وبكلّ شفّافية نقول : «صمّام أماننا» ـ بغياب إمامنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ مرجعيتنا المباركة ، النيابة العامّة ، إليها إيابنا في فروع شريعتنا الخاتمة ، وفي ما يستجدّ من مسائل هي في استيعابها أشمخ وأرقى وفي حلّ معضلها أسمق وأسمى.

فكلّ «ذراع» مهما طالت هي أقصر من ذراع المرجعية المباركة ،

٢٩٠

وكلّ «ضرورة» مهما عظمت هي دون ضرورة المرجعية المباركة ، بل يجب أن تندكّا وتذوبا بها ذوبان الفرع بالأصل ، ذوبان التابع بالمتبوع ، حالهما حال الأنهار والبحار التي يؤول مصيرها نهاية المطاف إلى المحيطات العظام.

كيف لا؟! وهي المرجعية التي تخرجنا من ذلّ التعصّبات البغيضة والأفكار اللقيطة إلى عزّ المبادىء النبيلة والقيم الأصيلة .. من «المرحلية» و «الذرائعية» و «الميكافيلية» و «الاغتنامية» ... إلى روعة الحبّ والتسامح والسلام وحقيقة الصدق والإخلاص والرعاية الأبوية.

فلا ملاذ ـ بغياب إمامنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ أنّى طال الزمان واتّسع المكان وتغيّرت الأحوال واستجدّت الأوضاع وتكثّرت الحاجات ... لا ملاذ أأمن من المرجعية المباركة بقاطع الضرس وكلّ الاعتبارات. وطرّ الملاذات دونها ملأى بألوان المخاطر وشتّى المتاهات.

٢٩١

نتاج مختبرات الغيب واللاهوت

يقولون : إنّ طريق الكمال وعرٌ عسير ، مؤلم مرير ، طويل خطير ، يفتقر رباطة الجأش ومزيد العمل والبذل والعطاء ، يشترط عهد التزام حقيقي بالذاكرة الأزلية ولوازمها وما تمليه من بنود ومناهج وأحكام ، على الإنسان إجادة فهمها وممارستها ممارسةً سليمةً تعبّد الدرب نحو بلوغ المرام وحصول المطلوب.

إنّنا حين نتأمّل سيرة اُولئك الذين اختاروا الزهد والتواضع والبساطة بصادق النيّة وخالص الإيمان وطاهر السريرة وهم في ذروة المجد والقدرة والمكنة ، فما الذي يجنيه هذا التأمّل؟ ماذا نفسّر ذلك؟

يقولون : إنّ الانثروبولوجيا ـ علم الإنسان ـ والسوسيولوجيا ـ علم الاجتماع ـ والبيسكولوجيا ـ علم النفس ـ تؤدّي وظيفة أساسية في فهم وتحليل وتوجيه أفعال اُولئك الناس وبيان الأسباب والدواعي والبواعث التي أدّت لأن يكونوا بهذا الشكل والمضمون.

إنّنا في الوقت الذي لا ننكر على العلم المشار إليه أعلاه بحوثه

٢٩٢

الواسعة وتجاربه القيّمة واستنتاجاته المفيدة ، ننظر إلى الأسباب والدواعي والبواعث الأساسية من زاوية أشمل وأوسع وأدقّ ، فنحن قد لا نختلف مع العلم في تسجيل الملاحظة وتشخيص الظاهرة وتحديد النتائج ، لكنّنا قد نختلف معه فيما لو أرجع كلّ شيء إلى الدائرة الأمبيريقية ـ التجريبية المحضة ـ دون الأخذ بعين الاعتبار الجوانب اللاهوتية والغيبية ، عين الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت به النهضة الحديثة إبّان انطلاقها ثم قطعها مشواراً طويلاً على هذا المنوال ، منوال الحطّ من العلوم الإنسانية وإنكار الغيب واللاهوت ، حتى حدوث الانقلاب المثير الذي نهض من بين أضلعها وقضى على آمالها التجريبية المحضة وأعاد الاعتبار والثقة بالغيب واللاهوت والعلوم الإنسانية.

فلو تأمّلنا جملة حالات وظواهر وخصائص على سبيل المصداق لا الحصر ..

منها : العلوم العميقة والمعارف الجامعة المقرونة بالذهن الوقّاد والقلب السليم.

منها : القراءة الدقيقة للقضايا والأحداث والمتابعة المذهلة لرواشح العلوم والفنون.

منها : الخلق العالي والأدب السامي والجاذبية المؤثّرة في النفوس بلا أدنى تصنّع وافتعال.

منها : الشعور بأ نّك في حضرة الخير والبركة والفلاح ، في كهف الأمان وملجأ الراحة والاطمئنان.

٢٩٣

منها : غياب الانفعالية في السلوك واتّخاذ القرار.

منها : الخطاب والأفكار المفعمة بالحبّ والوحدة والسلام واحترام كرامة الإنسان بمختلف انتماءاته الدينية والعرقية والاجتماعية والسياسية ونظائرها.

منها : الحركة التي تنتج السكون والسكون الذي ينتج الحركة.

منها : تشخيص الخطأ والنقص والخلل بغاية الدقّة وطرح الحلول والمعالجات الناجعة.

منها : مهوى قلوب الناس وعقولهم بشتّى مراتبهم وألوانهم وقضاياهم.

لو تأمّلنا ذلك ، أليس من حقّنا القول : هذه هي الحكمة بعينها لغةً واصطلاحاً؟! إنّها هي هي دون أدنى شكّ وريب ، إنّها باختصار شديد : الخير الكثير ، النتاج المثير لمختبرات الغيب واللاهوت والعلوم الإنسانية التي لم ولن تتمكّن المختبرات الأمبيريقية من تشخيصها وحلّ لغزها ناهيك عن فهمها ودرك أسبابها ودواعيها وبواعثها.

٢٩٤

مصالحنا الاستراتيجيّة

نحن نختلف ـ مثلاً ـ مع حكومات الولايات المتّحدة الأميركية في العديد من المبادئ والأخلاق والرؤى ، ونراها حكومات ظالمةً متجاوزةً سلطويةً ، إلاّ أنّها ترسل إلى العالم رسائل قصدية تجعل الكثيرين ـ ولاسيّما النخب وذوي الاختصاص ـ في حالة تأمّل عميق وتوقّف طويل ..

تشنّ الحروب وتتعامل انتقائياً مع مبدأ الديمقراطية ـ الذي تعتقد أنّها الراعي الأعظم له في العالم ـ فتُسقِط أو تسعى لإسقاط الحكومات المنتخبة بينما تدعم في نفس الوقت الأنظمة الاستبدادية الظالمة ... تفسّر القضايا والأحداث والعناوين طبقاً لما تراه متّفقاً مع منافعها وتوجهاتها ... تختلق وتضلّل وتزيّف وتحرّف وتعمل ما بوسعها للنيل من أعدائها وتحقيق مآربها ...

هذا من جانب ، ومن جانب آخر تدافع عن الإنسان وكرامته وحقّه بالحرّية والحياة الرغيدة ، بغضّ النظر عن اللون والجنس والدين ، فتراها تنتخب رجلاً أسود ينحدر من اُصول أفريقية وديانة إسلامية ، رئيساً لها ، وتعمل المستحيل من أجل إنقاذ واستعادة جندي أو أيّ مواطن لها في أيّة

٢٩٥

بقعة كانت من الدنيا ...

باعتقادنا ـ ونحن نلحظ الحالتين المشار إليهما أعلاه ـ أنّنا إزاء برادوكس ، قبال تهافت ، أمام تعارض ، أو قُلْ حالة من النفاق والشيطنة ، لكنّهم يرونها «المصالح الاستراتيجية» ، نعم «المصالح الاستراتيجية» التي هي فوق كلّ الاعتبارات والموازين.

شئنا أم أبينا ، فالواقع يقول : إنّها أميريكا هاهي الآن حاضرة بهذا الشكل والمحتوى ، بهذه القوّة والهيمنة وسلطة القرار ، بقطبيتها الاُحادية ، بدون أيّ منازع جدّي حالياً.

أمّا نحن في البيت الواحد ، نحن الذين ندّعي انتماءنا إلى أرقى القيم والمفاهيم ـ والتي هي حقّاً كذلك ـ فلازلنا متشظّين ، مبعثرين ، نفعيين ، استبداديين ، متزلّفين ، حربائيين ، صنميين ، قشريين ، استعراضيين ، اُسَريين ، لازلنا مجرّد ظاهرة صوتية ، لازلنا مخمورين بفضاء المحسوبيات والمنسوبيات والتوريات والشأنيات ، تتقاذفنا المظاهر وترمينا في أحضان الترف والبذخ والرغبات الذاتية ، فنغدو مشروعاً جاهزاً للاستسلام والخضوع.

متى يا ترانا نفكّر بـ «مصالحنا الاستراتيجية» ونعمل من أجلها بكلّ تفان وإخلاص ، متى يا ترانا نتجاوز الفضاءات المذكورة أعلاه وننطلق إلى بلورة المبادئ الحقّة بلورةً صادقةً لوجه الله تعالى؟!

أم لازلنا لا نعرف مصالحنا الاستراتيجية حتى؟! ألم ننضج بعد؟!

٢٩٦

ألن يكفينا هذا الذي بنا؟! إلى متى ثم إلى متى؟؟ ولاسيّما مع وضوح الحجّة الظاهرة ، السيرة الطاهرة لنبيّنا وأئمّتنا (عليهم السلام) ، مراجعنا ، علمائنا ، نخبنا ، صالح المؤمنين ...

أما آنَ للحجّة الباطنة أن تمارس دورها التكميلي؟! أما آنَ للعقل أن ينطلق ليعرف «المصالح الاستراتيجية» فيذود عنها ويعمل على نشرها؟! خصوصاً وأ نّنا نعتقد ونجزم بكونها مصالح حقّة فيها خير البشرية وسعادتها.

كيف نترضي لأنفسنا أن يقتلونا ويذبحونا ويستبيحون أعراضنا وينهبون أموالنا ويتلاعبون بمشاعرنا وينتهكون حرمة مقدّساتنا ويذلّونا ويحذفونا ولا نفعل شيئاً يستحقّ الإشادة والخلود في القلوب والعقول؟!

هؤلاء أيضاً يرون أنّهم الانعكاس الحقيقي للدين والشريعة السماوية وأنّ الحفاظ على «المصالح الاستراتيجية» يفرض عليهم التعامل معنا بهكذا ظلم وقسوة.

قسماً بالله العظيم! لولا الوقفة الأبوية المعهودة لداهمونا في عقر دارنا ، في النجف وكربلاء وبغداد حتى تخوم الجنوب ، ولفعلوا كما فعلوه بنا سالفاً ، فما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلاّ ذُلّوا.

إنّها الفرصه الذهبية التي علينا اغتنامها كي نعرف مصالحنا الاستراتيجية جيّداً ، نعرفها من مصادرها الأصلية لا غير ، نعرفها معرفة

٢٩٧

فهم واستيعاب وبلورة وتجسيد.

(إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (١).

والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

١. سورة الرعد : ١١.

٢٩٨

سحر السيستاني

أين هم اُولاء الذين شنّوا الهجمات الظالمة على المرجعية المباركة ونعتوها بالصامتة تارةً والمتخاذلة اُخرى والعميلة ثالثةً واللاّ عالمة رابعةً و ...

مالنا لا نسمع لهم همهمةً ولا نرى لهم حسيساً ، هل طبع الله على قلوبهم وعقولهم وحواسّهم؟!

أين هم من هذه المرجعية التي سحرت القلوب وفتحت العقول وألهبت الناس بكلمات موجزة معبّرة فجعلت الشارع يغلي من أجل الذبّ عن الدين والحرمات والمقدّسات؟!

نعم ، حينما أخلصت المرجعية المباركة لربّها تبارك وتعالى وقيمها ومبادئها بالقول والفعل والسيرة أفاض الله عليها من أسراره القدسية ونفحاته الربوبية أنواراً وخيرات كثيرة ، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إليها وتذوب ولاءً لها ، فلا عجب أن صار السيستاني ساحر الضمائر وصمّام الأمان ; إذ أخلص فمنّ الله علينا وعليه بهذه النعمة الطيّبة ... وهل أروع

٢٩٩

من اُمّة صمّامُ أمانها مرجعُها النائب عن إمامها عجّل الله تعالى فرجه الشريف؟!

أين وخزة الضمير يا ترى؟ أما آنَ لاُولاء الذين ظلموا هذا الرجل الإلهي أن تخشع قلوبهم لأمر الله؟! أما آنَ لهم أن يستغفروا ويتوبوا كما استغفر الذين من قبلهم؟! أما آنَ لهم أن يسلّموا بهذه الحقيقة الربّانية ويصطفّوا خلف المرجعية المباركة ونحن في ظلّ هذه الظروف الحرجة المصيرية التي تهدّد مقدّساتنا وقيمنا ووجودنا؟!

لقد أثبتت المراحل التاريخية المختلفة أنّ الوقوف خلف المرجعية المباركة لطالما أنقذ الاُمّة من شتّى المحن والأخطار وأعاد لها عزّها وشأنها واستقرارها.

بوركنا بك سيدي أبا الرضا وأنت ـ بألطاف السماء ـ تأخذ بأيدينا إلى برّ الأمان وسواحل الاطمئنان ، حرستك من السماء عيون ، عيون تحرسنا بك وتشحذ هممنا نحو الذود عن مفاهيمنا واُصولنا.

٣٠٠