نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

أن يزيح شبهة الفرديّة والاستبداد والعنف والرغبات الذاتيّة.

أن يعني وجوده الأمان والعدل والنظام والازدهار والنعمة والرفاه.

أن يعلم متى يقول قول الفصل القاطع لكلّ نزاع وخصام ولجاج.

إنّ القائد إذا استطاع النفوذ إلى العقول والقلوب فقد حاز الثقة ، ومن حازها فقد اُوتي خيراً كثيراً.

إنّ القائد هو الذي لا يفرّط بما اُنجز وتحقّق ويسعى إلى كسب المزيد.

ما أروع أن يمتلك القائد كلّ ما للقائد من صفات وخصائص ومزايا ...

٢٦١

قادتنا

غالب الناس يهوى المجد والشهرة والجاه والسلطة والمال والسفر والنساء ، وسائر ملذّات الدنيا ومفاتنها الغرّاء ، ويسعى إليها بالطرق المشروعة وغير المشروعة ، والقلّة هي التي تختار وتمتاز بالزهد والتواضع وشظف العيش ، وإذا ما قصدت فضاءات العلم والثقافة والمعرفة فإنّها لا تقصدها بما هي زخرف الحياة ومظهرها ومسرح تفاخرها واستعراضاتها وغاياتها الرخيصة وأهدافها البغيضة ، بل بما هي وسيلة لبلوغ مراتب الكمال والشرف والنبل الإنساني ، بما هي مصدر إشعاع فكري يعمّ سناه عتمات الروح البشريّة التي تطلب النجاة من حضيض الضلال وأودية التيه والحيرة السحيقة.

نعم ، لكلّ شيء ثمن ، فثمن الفوز بالدنيا ولذائذها ومفاتنها هو علوّ النفس البهيمية وهبوط النفس الإنسانية التي كرّمها الله تبارك وتعالى أجلّ تكريم. وحينما تكون النفس البشرية مهيّأة لفقدان العزّ والشرف والخصال الحميدة لحساب الشهرة والمال ... فإنّها تهوي حيث أدنى المراتب لا يفصلها ولا يميّزها عن النفس الحيوانية سوى الشكل والظاهر ..

٢٦٢

لكنّها حينما تسمو فوق اللذّة ومغريات الدنيا تراها تتوهّج نوراً ينداح به الخير أيّ اندياح ، وتعمّ البركة وتنتشر أيّ انتشار .. إنّها النفوس المؤمنة الصالحة ، إنّها دررٌ ناصعة على غرّة البشرية ولآلئ مشرقة على جبين الإنسانيّة ، لا تقدّر بثمن ولا تعوّض بأغلى الجواهر والحلل .. إنّها القلوب التي امتحنها الله للإيمان والعقول ، التي أختبرها للتقوى فحازت رفيع الدرجات وسامق الرتبات ، حتى تسابق الخلود ليضرب معها موعداً كي يحظى بشرف قبولها الانضواء تحت بيرقه ولوائه ، فلم تعتن ولم تبال بعرضه وإصراره ; كونها ضربت موعداً مسبقاً مع الرسل والأنبياء والأولياء النجباء ، أقسمت أن لا تخلفه بتاتاً.

لنا برسل السماء والأوصياء والصلحاء والأبرار اُسوة حسنى.

لنا بهم علقةٌ لا تفتر قواها ولا تضعف وشائجها أبدا.

لنا بأقطابنا وأعلامنا ومفاخرنا أواصر لا تنفكّ حبائلها ولا ينفرط عقدها قطعا.

لنا برموزنا حلقاتُ وصل وثيقةُ العرى لا تنفصم جدّا ، فهم المثل الحيّ الأعلى في الشرف والنبل والإخلاص والإيمان والتقوى.

إنّهم خزائن العلم وينابيع الحكمة ومصاديق الرضوان ، بهم نستشعر الأمن والسلام ، ومنهم نتعلّم الحبّ وسبل الوصول إلى هدى الرحمن.

رحماك يا ربّ ، ارحمنا بالوقوف على أنعامك وبركاتك وقوفَ المخبتين العارفين الشاكرين العاملين الحافظين ، ارحمنا بابتهالاتنا

٢٦٣

وتضرّعاتنا إليك حين تحرس قادتنا وصلحاءنا وأخيارنا وسائر مؤمنينا بعينك التي لا تنام ، وتلبس المرضى منهم لباس الشفاء والعافية. إنّك سميعٌ مجيب دعواتنا القاصدة صادق القربة وأرقى درجات العبودية.

٢٦٤

أثر التناغم بين الخطاب والقراءة

مدنيّة الإنسان الطبعيّة تستدعي اعتماد الأُسس والقوانين الانثروبو ـ سوسيولوجيّة ، تلك التي تنتظم بها شبكة الحياة وتبقى ، إنّها حياتنا حيث بدأت على غاية من البساطة ثم آلت إلى ما عليه الآن من التعقيدات المحكومة بالتطوّر نحو الأرقى .. ما يخصّنا هنا العلوم الإنسانيّة النامية أُسوة بنظائرها من العلوم الأُخرى رغم تباطؤ عجلتها غداة النهضة الصناعيّة التي كدّرت صفو فضائها لصالح العلوم الطبيعيّة بمناهجها الأمبريقيّة التجريبيّة المحضة ونتاجها الشهير «مبدأ الميكانيكا» .. ذلك التباطؤ المستمرّ حتى بدايات القرن العشرين حين انبعثت «حلقات فينّاً» المعروفة وبزوغ شمس «مبدأ الاحتمال» .. التي أعادت التفكير العلميّ المعرفيّ الجادّ بضرورة وجود قوّة عليا تدبّر وتدير الكون ، فعاد الدين من جديد فاعلاً قويّاً وعادت العلوم الإنسانيّة كي تواصل نموّها باضطراد وعمق كبيرين .. فرشحت في حقول العقل الثاني ـ أو ما يسمّى بالأخلاق والحكمة العمليّة ـ آراءٌ راقية وأنظارٌ رفيعة ومناهج كثيرة تأسّست على إثرها المذاهب والمدارس الفكريّة المختلفة ، وغدا ترابط العلوم بشتّى

٢٦٥

مضاميرها ضرورةً لا غنى عنها أبدا ، فالبنيويّة ـ مثالاً ـ ثم المُحدَثة منها والحداثويّة والقصديّة والتداوليّة والسيميائيّة والتطوّر الدلاليّ و ... لا غنى عنها اليوم في أروقة العلوم الطبيعيّة وكذا العكس. وممّا يزيد الأمر أهمّيّةً وخطورةً أن صار العالم أشبه بقرية ونقطة كونيّة واحدة بفعل التطوّر التقنيّ الهائل.

وكما كانت هي منذ البدء ، فمحوريّة الإنسان باقيةٌ بلا أدنى تغيير حتى قيام الساعة ; إنّها إرادة السماء الثابتة ، فلن نجد لها تبدّلاً وتغييرا .. ولا ريب أنّ نتاج الإنسان عبارةٌ عن قول وفعل وتقرير ، ونعبّر عنه هنا اختصاراً بـ : «الخطاب» ، كما نعبّر عن قراءة القارئ وسمعه ونظره وتلقّيه عموماً بـ : «القراءة».

استناداً إلى كون «التبادر» علامة من علامات الحقيقة ، وأنّ الظاهر حجّة ، واعتماداً على الأُسس الانثروبو سوسيولوجيّة التي تنتظم بها شبكة الحياة ، وإشراكاً للعرف في معترك الأطراف ، وأخذاً بالمنهج المعرفي في نحويّة علاقة «الخطاب» بـ : «القراءة» .. التي تُعدّ كلّها أداةً ووسيلةً من أدوات ووسائل العقل الثاني ، الوليد القادم من رحم العلوم الإنسانيّة الآخذة حظّاً وافراً من التطوّر منذ بدايات القرن العشرين ولا زالت منطلقةً إلى الأمام بازدهارها وشموخها ..

استناداً إلى كلّ ذلك ، فلابدّ حينئذ من وجود التناغم بين الخطاب والقراءة ، التناغم الذي يعني صحّة انتقال ذهن قارئ الخطاب من اللفظ

٢٦٦

إلى المعنى المقصود منه بالضبط ، بلا منطقة فراغ قد تمهّد لأفهام ومحامل خاطئة. بلا أدنى ذريعة وحجّة تأويليّة قد تهوي وتضمحل بها أتعابٌ عظيمة وجهودٌ كبيرة.

إنّ المقاصد والنوايا الحقيقيّة لابدّ أن تمازج الخطاب وتُستنبَط منه دون شكٍّ وترديد ، على غاية من الوضوح والشفّافيّة ، حتى لا نقع في شرك التأويل وطائل التبرير ومشقّة التوضيح التي مهما بلغت من المهارة والبيان فإنّها لن تستوعب إلاّ أُفقاً ضيّقاً من آفاق القارئ المترامية الأطراف ، لذا قالوا وما أحكم ما قالوا : الوقاية خيرٌ من العلاج.

عالمُنا اليوم ما عاد يحسب للتورية ـ مثالاً ـ حساباً خاصّاً ، إنّه عالم التبادر والظاهر ، إلى ذلك : فإنّ الصراع المحتدم في العصر الراهن بين فضاءات المعرفة والفكر والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والفنّ ... لا يفهم ـ للأسف ـ سوى لغة الربح والخسارة والنيل من الخصم والغريم بشتّى الطرق المشروعة وغيرها.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ موضوع «التقيّة» خارجٌ عن محلّ البحث تخصّصاً ; إذ مفهوم التقيّة بتعريفه وشروطه وحالاته وظروفه لاصلة له بما نحن فيه ; حيث الفرض في ما نحن فيه تلك الوضعيّة العاديّة الطبيعيّة التي لا يُقصَد بها سوى الواقع والحقيقة بما هما هما.

لذا نعود ونقول : علينا أن نكون بمستوى الظرف وأن نتكيّف معه طبق المطلوب بحفظ الأُصول والقيم والمبادئ التي نؤمن بها ونذود عنها ،

٢٦٧

سيراً على خطى ونهج المعصومين الكرام (عليهم السلام) ونوّابهم مراجع الدين العظام ، الذين عرّفوا لنا الدين بأ نّه : سهل سمح ، جليّ المعالم والآثار ، واضع الأُمور في نصابها الصحيح ، قارئ المتغيّرات قراءة العارف الخبير ، حافظ الثوابت حفظ القويّ الجدير ، متكيّف تكيّف المستقطب المدير.

وممّا يثلج الصدور ويجعلنا نشعر بالفخر والاعتزاز أجمل شعور : أن منّ الله تبارك وتعالى علينا وعلى البشريّة جمعاء بسيّد حسيني عارف حكيم حليم ذي قلب كبير ولبٍّ منير ووقار مثير ، ناغَمَ خطابُه أفهامَ قارئيه وسرى إلى عقولهم خير مسير ، بإخلاص ونقاء وشفّافيّة وأفكار عجز عن استباق قراءتها القارئون الحاذقون والمختصّون العارفون ، فلا مجال لمناطق الفراغ والشكوك والترديدات والتأويلات أن تنشأ وتكون في ظلّ الانسجام والتواصل بين المرجع الأعلى سيّدنا السيستاني الهمام أطال الله تبارك وتعالى بقاءه على رؤوس الأنام وبين الأُمّة الهائمة في صدقه وثباته وإيمانه أرفع هيام ... كيف لا؟! فهو صمّام الأمان وملهم الحبّ والسلام ومجدّد الأمل ببلوغ مرافئ الاطمئنان والمصداق الأرقى والنموذج الأوفى لشرائط مقبولة ابن حنظلة التي لها من الشهرة مالها.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

٢٦٨

أنا خادمٌ لكم

يتعسّر على الفكرة أن تتناسى أهلها وتتجاهل محيطها ، فإنّها إن كانت غريبةً عن بيئتها واُناسها ، غير آبهة بقيمها وعاداتها وتقاليدها ، راشحةً من قصور الترف ومسارح الاستعراض ومنابر الأوهام ، سنجدها سريعة الاُفول والاضمحلال ، آنيّة الظهور مصيرها الزوال .. بخلاف الفكرة التي تلد من رحم الواقع ، من ذات الهويّة ، من عمق الألم والمعاناة ، ألم الحاجة ومعاناة الافتقار ، أيّاً كانت الحاجة والمعاناة : معرفية أم ما سواها من الحاجات والمعاناة الإنسانية ، فإنّها تشقّ طريقها في فضاءاتها وآفاقها كضياء الشمعة الذي لو اجتمع ظلام العالم كلّه على إطفائه لما استطاع ..

نعم ، إنّها الضرورة ، ضرورة الألم والمعاناة ، فلولاهما لما ألق العقل وسمق الفكر ولا حفرنا بحثاً عن جواب السؤال الكبير ولارمنا عثوراً على الحلول القمينة والوسائط الأمينة التي تبحر بنا صوب مرافىء الفلاح وسواحل النجاح.

إنّ العقول مصانع الأفكار ، وحريم الأفكار وشعاعها مناطق العلم

٢٦٩

وأحياء الثقافة ومعاقل المعرفة ، إذن هنا سلطة العقل ، هيمنة الفكر ، ولا سطوة للغرباء هنا ، هكذا المفروض وهكذا ينبغي أن يكون.

حقيقة الألم تكمن في اضطراب الموازين واختفاء الملاكات وتغيّر الضوابط ، ففي عقر دار العلم والثقافة والمعرفة ـ المؤمنة ـ تألق الرغبة وتشمخ الشهوة ، فتعتلي «الحرباء» منصّة الإمارة ، ويزدهر سوق الأصنام والتماثيل ، فلا يُسمَع إلاّ صوت التزلّف والملق ولا يُقرأ إلاّ كلام التقرّب والوصل .. وعلى نَخْب الحضور وصحّة المولى يسقي الندماءُ الحفلَ شرابَ النصر ، أيّ نصر باهت هذا الذي يؤخَّر به العلم وهو مقدَّم ويتقدّم به الجهل وهو مؤخّر ، أي حفل بائس هذا الذي تُستذلُّ به المعرفة وتُهان فيه الثقافة ويُرفَعُ في باحاته البراجماتية شأنُ الببغائيّة والاستبعادية والاستبدادية والأهواء الذاتية؟!

وا أسفاه على اُمّة ومعاقل وفضاءات يسلَّط فيها جهلتها على علمائها وسوقيّيها على نُخَبها ، وحفاتها على طاقاتها ، بل الويل لها والثبور أن شقّت في الصميم جرحاً لا يندمل أبد الأزمان والدهور.

حقيقة الشموخ تكمن في أن تتواضع الأعلام والرموز وهي في ذروة الرفعة وقمّة العطاء ، ولا تقول ولا تدّعي ولا تتمنّى سوى أن تكون خادمة الدين والعباد ، بكلّ صدق وصفاء وخلوص ، فلا عجب أن تؤتى هذه الثلّة المباركة الحكمة (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (١) ..

__________________

١. سورة البقرة : ٢٦٩.

٢٧٠

ولكن كم هو مؤلم أن تتواضع الأعلام والرموز بينما تتغطرس الهوامش والفروع وتعلو بكلّ زهو وغرور ، متناسيةً كيف كانت وكيف أصبحت بفضل الأصل والمتون ، غافلةً عن قوله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (١) وقوله تعالى : (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور) (٢).

ملأى السنابل تنحني بتواضع

والفارغات رؤوسهنّ شوامخ

عزاؤنا أنّ المعرفة السليمة بأركانها وشروطها وخصائصها وتعريفاتها ترفض الرضوخ لسياسة الأمر الواقع ، فتظلّ أبداً ضمير الاُمّة وعنوانها الباسق ، شريان حياتها الدافق ، صوتها الرفيع وحرفها الأنيق ، فصل الخطاب وخطاب الفصل الرشيق ، فأ نّى لها أن تُحتَقَر وتُضام ويعلوها الزبد وغبار الأوهام.

المعرفة المعهودة هي وحدها التي تبقى تحتجّ وتعترض على الواقع المرير وتعمل على التغيير وتصحيح الأخطاء طبق المنهج العلمي السليم وأدوات البحث القويم ، فتصنع الرؤية والحلّ اللذين يحفظان المبادئ ويكسبان العقل الجمعي ويرعيان الظرف ويُبرئان الألم ويرفعان المعاناة ويلبّيان الحاجة قدر المكنة والاستطاعة. على أنّ كلّ خطوة وعمل يفتقدان القربة إلى الله تبارك وتعالى فمآلهما الفشل والخسران المبين.

__________________

١. سورة الرعد : ١٧.

٢. سورة النور : ٤٠.

٢٧١

ذلك الإنسان الكبير

طريق الكمال وعرٌ عسير ، مؤلمٌ خطير ، طويلٌ مرير ، يفتقر رباطة الجأش والعمل والعطاء ما لا يبلغ لغته أدبُ المفردات وفنّ المشافهات. إنّه يشترط عهد التزام حقيقي بالذاكرة الأزليّة ولوازمها وما تمليه من بنود ومناهج وأحكام ، على العقل والقلب أن يحسنا التعامل معها باستخدام الأدوات المناسبة والآليات السليمة التي تؤمّن قطف المراد وحصول المطلوب.

إنّك حينما تتأمّل ذلك الإنسان الشهير الكبير وهو يختار العيش الزهيد بما يعنيه العنوان من معنى ومفهوم صحيح ، رغم التمكّن من الحياة الفاخرة بكلّ مواصفاتها ، ماذا ستبادر في الذهن والإحساس من تساؤل؟

ماذا تفسّر وقوفه الدقيق على الأحداث والقضايا وقوفاً مذهلاً ، ومتابعاته الفاعلة لنتاجات ميادين العلم والمعرفة والثقافة وموسوعيّته التي نالت الإعجاب والإطراء؟

أمّا الخلق السامي والأدب العالي والتواضع المثير فإنّه مورد

٢٧٢

الاتّفاق ، ناهيك عن جاذبيّته وتأثيره في النفوس بتلك البساطة ووضوح المفردة وسلاسة كلامه ، فتلمس فيه الصدق والإخلاص والنقاء والإيمان.

إنّك بحضوره تشعر أنّه إنسانٌ ليس كباقي الناس ، إنسانٌ ليس كما كنّا قد رسمناه في عقولنا وقلوبنا ، إنسانٌ يجعلك أقرب إلى الخير وأبعد عن الشرّ ، تنشد الهداية وتلفظ الضلال ، تبحث كي تعرف وتعرف كي تبلغ .. ثم تعود لتتساءل : ما معنى ذلك؟

ماذا تفسّر إحاطته بما يجري ويحصل من أفعال وممارسات على الصعيد العامّ أو في ما يخصّ المحسوبين عليه ، إحاطةً شاملةً عبر شتّى السبل والمنافذ ، فتجده ذلك المدبّر الحكيم في مواجهة الأوضاع الخاطئة والمشكلات الحاصلة ، دون أن تلحظ منه موقفاً انفعاليّاً ; كونه هكذا لابدّ أن يكون ، وليس هذا حديث عهده إنّما هو المشهود منه منذ سالف الأيّام.

استطاع بفعل العقل الناضج والذهن الوقّاد والقلب السليم من التعامل مع الخطوب والصعاب تعاملاً منبعثاً من ذلك النهج الذي خطّته مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وبلورته الرموز والأقطاب بلورةً رائدة.

إنّ اُسلوب حياته ونوعيّة تفكيره وخصائصه المعروفة وغير المعروفة إلاّ لدى البعض وطريقة تعامله مع الاُمور والمسائل المختلفة تشكّل ظاهرة فريدة من نوعها تستدعي جهود الباحثين والمتخصّصين والنقّاد للتعمّق فيها ودراستها بكلّ جدّيّة ومثابرة ; للإفادة من تجربة نابضة بالإنسانيّة والمعرفة والحكمة والأخلاق ، ثم تدوينها والترويج لها

٢٧٣

ونشرها ; كي تغرف من معينها المواهب الناهدة والطاقات الطامحة لبلوغ مراتب العزّ والكمال.

وليس لنا الحقّ أبداً ـ بلا علم وتثبّت وفهم للأسباب والدواعي ـ تسجيل الآراء والملاحظات التي تعنيه مباشرةً أو تعني الفضاء التابع له أو الأعمّ منهما ; لأمرين أساسيّين :

أحدهما : إنّنا غير مؤهّلين ولا قادرين على إصدار الأمر أو تعيين التكليف لشخص مثله.

ثانيهما : إنّه واقفٌ بلا شكّ على كلّ ما يجري بفعل المقام المعهود والدور الهامّ ، ومن القبح بمكان أن نعتقد بأ نّه لم يفعل شيئاً لتغيير الأوضاع الموجودة والأخطاء الحاصلة ، والأدلّة والقرائن والمؤيّدات كثيرة في هذا الباب ـ لا يناسب الحال ذكرها هنا ـ تشير إلى بذله كلّ ما بإمكانه تحسين الأحوال بما يتناسب مع مبادئ الدين والأخلاق والقيم الحقّة.

يكفينا فيه أنّه حركة في سكون وسكون في حركة ، يكفينا إصراره العجيب على إخفاء علمه المدوّن رغم استفهام المغرضين وغيرهم ، يكفينا أنّهم لم يجدوا فيه ـ رغم أنّ الكمال لله وحده ـ ما يشفي غليلهم أو يمنحهم الحجّة في الانتقاص منه.

إنّه إنسانٌ مثل باقي الناس في الخلق والتكوين لكنّه ليس مثلهم في السيرة والسلوك ، لقد اختار الطريق الوعر العسير ، المؤلم الخطير ، الطويل المرير ... قاصداً الكمال الإنساني المنشود.

٢٧٤

أمّا نحن ، فما علينا سوى العمل بالتكاليف ، وربما استدعى التكليف مشافهةً أو مكاتبةً تفصح عن معلومة أو رؤية أو شكوى وبثّ هموم ... بهذا المقدار ، بلا استعجال الآثار والنتائج.

لسنا صنميّين ولا رافضي حرّيّة الرأي والبيان ، نسعى أن نكون حواريّين قدر الإمكان وأن نعتمد نهجاً ونسقاً يقودنا إلى كسب المطلوب بأقلّ أضرار ممكنة وأكثر أرباح ميسّرة.

مبنانا ودأبنا الانفتاح مهما أمكن مع حفظ الاُصول والثوابت ، انفتاحاً يتّخذ الحوار والنهج العلمي المعرفي سبيلاً أساسيّاً للانتصار لقيمنا ومبادئنا ، بلا استبداد وتطرّف وتفرّد وانتهاك لحقوق الآخرين.

رائدنا المضامين المقدّسة التي اعتمدتها مدرسة العصمة والطهارة وسار عليها علماؤنا وفقهاؤنا ونخبنا وكوادرنا والمؤمنون والصالحون.

نرفض الشعارات الجوفاء والمظاهر القشريّة والمواقف الاستعراضيّة ، نعتقد بالجوهر والعمق والأصل سبيلَ الحلّ والفلاح والهداية الربّانية.

٢٧٥

لا مناطق فراغ بين الفقيه والناس

منذ البدء مثّل الدين ـ بمختلف ألوانه وأساليبه وتعبيراته ـ حاجة إنسانية لا غنى عنها ، ولم تحدّ المناهج الإلحادية من وهج الدين رغم النهضة الصناعية التي نادت بقطع دابره والانتصار لمبدأ العلّية بنظرية الميكانيكا التي ذاع صيتها وتوسّعت آفاقها وحلّقت عالياً في فضاءات العلم والمعرفة ، وقابلها تراجعٌ ملحوظ في العلوم الإنسانية حتى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، حيث تشكّلت «حلقة فيّنا» التي رشح عنها جملة نظريات وآراء ـ أشهرها نظرية الاحتمال ـ قوّضت نظرية الميكانيكا وحسرت مدّها ، فعاد الدين فاعلاً من جديد وازدهرت العلوم الإنسانية ثانيةً.

لكنّ المجتمع عندنا بقي أقلّ تأ ثّراً بما أصاب الآخرين من رياح الإلحاد وعواصف الضلال الفكرية ; ولعلّ البناء العَقَدي والهيكل النظمي والترابط الجيّد بين الاُمّة وانتمائها عبر المؤسّسة الدينية قد شيّد الشاهق الذي حدّ من قدرة الغزو الثقافي الإلحادي ونظائره.

والمؤسّسة الدينية عندنا لها نظامها وخصائصها وشروطها التي

٢٧٦

حفظتها طيلة السنين والقرون المتمادية. من جملة ذلك خضوعها لقيادة الفقيه الجامع للشرائط ، خضوعاً لا يتأتّى عبثاً ولا يحصل جزافاً ، إنّما عن جدارة واستحقاق تشترك عدّة عوامل في تحقّقهما ، كصون النفس وحفظ الدين ومخالفة الهوى وإطاعة أمر المولى ، مع مسحة إلهيّة وعناية ربّانية ويد غيبية حاضرة تكشف وتنير وتؤيّد.

ولا غرو في ذلك ; فهو القائد والرمز الذي يسمو فوق المحن والآلام والصعاب والتخندقات والرغبات ، القطب الذي لا معنى للأشياء في قاموسه إلاّ معاني النبل والشرف والإيمان والمبادئ والاُصول الحقّة ، ولا تصفية حسابات في جدول أعماله ولا ثأر ولا انتقام ولا حقد ولا حسد ولا استبداد ولا استعراض ولا مظاهر ترف ولا استئناس بملذّات الحياة ، هجير الصيف لا يؤذيه ، زمهرير الشتاء لا يثنيه ، لا تعطيل أيّام التحصيل ولا راحة أيّام التعطيل ، من الناس إلى الناس في الناس ، لا مناطق فراغ بينه وبين الناس ...

هكذا هو الفقيه العالق في أذهان وقلوب الناس ، هكذا هو الفقيه الذي إذا صمت صمت الناس ، وإذا قال قالوا ، وإذا سكن سكنوا ، وإذا تحرّك تحرّكوا ، تسجد الدنيا له راكعةً ولا يعتني لحالها أبدا ، تقصده الاُمّة كي يكون قائدها وكهفها وملاذها ، لا ذاك الذي ذهب وجاء واحتمى بظلّ وعباءة مَن سواه ليبلغ المراد دون أن يدرك أنّ عزّاً كهذا يطلِبُ ولا يُطلَب ، يطلبُ ذاك الراغب عنها لا الراغب فيها ، ذاك الذي لا يلوذ بكساء الحسب والنسب والعشيرة ... بل بظلّ الله يحتمي وعليه يتّكل ، ذلك الذي يحمل

٢٧٧

آلام الناس في روحه وحناياه لا ذاك الذي يؤذي لِهَوىً وحاجة ذاتيّة ، فلا يكون الفقيه فقيهاً جامعاً للشرائط حتى لو نال العلم بأسره وعبد الدهر كلّه إلاّ إذا خرج من ذلّ عبادة الذات إلى عزّ نكرانها ; إذ المفروض أنّه مرجع الاُمّة بالقوّة أو بالفعل ، فكيف يكون مرجع الاُمّة وهو فاقدٌ لبعض الشرائط التي يحفر فقدانها مناطق فراغ عميقة واسعة بينه وبين الناس لا يمكن ردمها بسهولة مطلقاً.

لذا إذا عرفت الحكمة أهلها الجامعين شرائطها جاءتهم بشوق معتزّةً أن اُلبست إيّاهم ، وإذا عرف العلم أهله الجامعين شرائطه صار نوراً يقذفه الله في عقولهم وضمائرهم .. آنذاك تنعدم مناطق الفراغ بين الفقيه المعهود وبين الناس ، فيكون لقوله وفعله وإمضائه وقع السحر عليهم.

٢٧٨

حينما تقرّر المرجعية

لسنا صنميّين لكنّا نصدح بها شفّافةً : نؤمن بمفهوم «العصمة» كما هو المشهور عنّا نحن أتباع المذهب الجعفري.

نؤمن بكون مراجعنا العظام هم نوّاب الإمام العامّين في إدارة شؤون العباد ، إطلاقاً أو تقييداً ، تبعاً لاختلاف المباني الفقهية.

المرجع والمرجعية تعني عندنا باختصار : الفقاهة ، صون النفس ، حفظ الدين ، مخالفة الهوى ، اتّباع أمر المولى.

لا نؤلّه مراجعنا العظام ولا نضفي عليهم طابع العصمة ولا ننفي عنهم الغفلة والخطأ والنسيان .. إلاّ أنّهم أوّل رموزنا وأفضل قادتنا بعد وليّ الأمر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، نتّبعهم ونعمل بفتاواهم ; امتثالاً للتكليف الشرعي والواجب الديني.

المؤسّسة الدينية عندنا واضحة المعالم تحفظ للمرجع والمحتاط والمقلّد الحقوق والواجبات.

رغم كوننا لسنا صنميّين ; بهذا الدليل وذاك وبانفتاح باب الاجتهاد

٢٧٩

حتى يوم الميعاد ، إلاّ أنّنا نحترم فتوى المرجعيّة ، ونعمل بها ونتفاعل معها بواقع القبول والطاعة .. وأقرب المصاديق على ذلك : مدى التلقّي المذهل الذي صنعه موقف المرجعية الدينية الأخير ـ سواء كان هذا الموقف فتوى بالجهاد أو كما يحلو للبعض عنونته بـ «ضبط الوضع القانوني» ، أو سمّه بما شئت ـ ومدى الاستجابة السريعة من شتّى طبقات الاُمّة وألوان انتماءاتها ، فهتف الجميع : نعمّا صنعت المرجعية الرشيدة ، فلقد جاءت بها غايةً من الاتقان والحكمة والتدبير ، ولا أروع .. لا غرو أنّها قد حسبتها حساب الكيّس الخبير ، الفطن النحرير ، سياقات الماضي والحال والغد حاضرةٌ عندها بكلّ وضوح ، ولا أجدر منها في تشخيص المخاطر والعواقب وما ينبغي فعله من عدمه .. بعدئذ لا تعتني ولا نعتني بأيّ تغريد خارج السرب أو صوت لا يركن إلى المنطق والدليل.

الموتورون كثرٌ ، فلقد أخطأت بالمرجعية حساباتهم وتبعثرت معادلاتهم ، فانقضّت مضاجعهم وتبدّلت أمانيّهم وهماً وسرابا ..

لله درّك أبا الرضا ، فَلَكَمْ نصحتَ وداريت ، لله أناتك وأنت إزاء جماعات أعمى الله بصرها وبصيرتها وصكّ أسماعها عن لغة الحبّ والخير والسلام فاختارت البغض والشرّ والعنف سبيلاً لتحقيق مآربها.

انتهى المطلب ، إلاّ أنّي كأيّ إنسان عاديٍّ حظى برؤية المرجع الأعلى عن قرب ..

أقول : أيّها الحسيني السيستاني! حالي حال الاُلوف التي نالت شرف

٢٨٠