نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

الاجتهاد وحاجة المكلّف

الاجتهاد والاستنباط حركةٌ موّارة لا تعرف السكون والاستقرار بفعل حركة الفكر الدائمة بأدواتة المنهجيّة المعروفة ، من المراجعة والمقارنة والاستقراء والتحليل والقراءة الجديدة و ...

من هنا كان من الطبيعي أن تُلحَظ على الدوام مواطن النقص والخلل سعياً إلى ردمها وتجاوزها من خلال بذل الجهد العلمي ، سواء على الصعيد الفردي أو من خلال إنشاء مراكز ومؤسّسات ومعاهد ومعاقل مختصّة تمارس نشاطها العلمي المختبري التحليلي على الأبحاث والدراسات والمطالعات النظرية كي تصل إلى نتائج منسجمة متقنة تقودنا إلى رفع الخلل والنقص.

علينا أن نعي أنّ الناس يريدون نتائج وحلول جاهزة تبيّن لهم معالم طريقهم وتوضّح تكاليفهم بجلاء تام ، فلا ضمان بأ نّهم لن يتأ ثّروا سلباً بالتردّدات الكثيرة غير المحسومة ومناطق الفراغ الموجودة هنا وهناك ، التي جعلتهم في حيرة وضياع.

٢٤١

إنّهم بحاجة إلى حسم اُمورهم لا دفعهم إلى عناوين ومصطلحات تزيدهم حيرةً وضياعاً ، فلربما لا يدرك البعض منهم ولا يميّز ولا يدري ما هي الموضوعات والأحكام ثم الفرق بينها.

إنّ وظيفة الفقيه هي إخراج المكلّف من مستنقع التخبّط ، فلعلّه سيصرخ يوماً في فراغ الفكر والمعرفة : أيّ فقه هذا الذي لا يحسم لي تكاليفي ، أيّ اجتهاد هذا الذي يضيّعني أكثر ممّا يهديني. فالناس تريد أن تجد نفسها من خلال فهمها ومعرفتها المبسّطة لاُمور دينها لا أن يؤخذ بها إلى عالم الغموض والضبابية.

وهذا الأمر يسري إلى مباحث الاعتقادات أيضاً ، التي يعاني كثيرٌ من كبار رجالنا من ضعف مفرط فيها ، فتخبّطوا وتخبّط الناس معهم.

إنّنا بحاجة إلى ممارسة محاور العقيدة وجزئياتها بكلّ شفّافيّة ووضوح لا أن يُحجَز للناس تذاكر باهضة الثمن إلى عالم الخيال والميتافيزيقيا والغموض ، إنّهم يريدون أن يفهموا ويتعلّموا ويتدبّروا ويؤمنوا بكلّ وضوح وواقعيّة ، لا أن يساقوا إلى غوامض المصطلحات والعناوين ، إنّهم يطلبون حلاًّ وبرهاناً لمجمل إبهامات وغوامض العقيدة.

٢٤٢

ظلّ المرجعيّة المباركة

ألقى ظلُّ المرجعيّة المباركة بثقله على كيان آل البيت (عليهم السلام) التحقيقي التراثي المشاد عام ١٤٠٤ هـ. وفي ذلك حقائق تبلورت ولوازم نتجت واُمور تبدّلت .. غدا هذا الكيان أشمخ وأهمّ وأشهر ، وصار قبلة الأطياف والألوان ، كلٌّ يغترف حسب حاجته ومراده .. سخاءُ الوكيل المطلق ذي المواصفات الخلقيّة الرفيعة لم يعد سرّاً خافياً على أحد ، إنّه يُمضي ويلبّي شتّى الطلبات بنسبها. أنّى حلّ السيّد واستقرّ تهوي له الناس بعقولها وأفئدتها وبطونها ، الناس تختلف باختلاف المكانة والمنزلة. قدّم آل البيت (عليهم السلام) التحقيقي تضحياته على طبق من ذهب رغم تحقّق الغطاء النفسي لكوادره ومنتسبيه الذين كانوا يطمحون بأمان اقتصادي يتناسب والواقع الجديد ، فبقيت أمانيّهم أمانيّ ولم يحصدوا منها إلاّ اليسير كما يعتقدون.

تكهّفنا بالمرجعيّة ـ فخرنا وعزّنا ـ ونما فكرنا وتقدّمت رؤانا أملاً وطموحاً ، نبقى واجهةً لها ، نحاكي ثقافتنا ومعرفتنا محاكاةً صادقة ونقولها للناس : إنّ المرجعيّة أب الاُمّة ، مفهومٌ يطير بنا إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) حينما صدح

٢٤٣

بها : «يا علي أنا وأنت أبوا هذه الاُمّة» ، قيمةٌ تحلّق بنا في سماء التعامل العلوي رغم كونه الشقيق عقيل .. فلا اُسريّة ولا فئويّة ولا تكتّلاتية ولا رغبويّة. تكلّل التدبير والحكمة السيستانيّة ببروز التشيّع العقلاني ، العقلانيّة السيستانيّة التي غمرت الآفاق وصنعت توازنات جديدة أذهلت الصفّين وأبهرت الرأي العام الدولي ; بل راح صقور الشيعة يستنجدون بها علّ الضغط يخفّ عنهم.

لنكن بمستوى المرحلة ، نصيغ الرؤى ، نفعّل الفكر ، جذبتنا دعوات الإبداع ; إذ بها من المتانة والرشاقة والوثاقة ما لا ينكر ، كتبنا وقلنا : إنّ مركز الدراسات الاستراتيجيّة ; معقل المصادر الأكاديميّة ; تنظيم شبكة الوكلاء ; عرض الثقافة والنتاج المرجعي ; رعاية الكوادر المختصّة و ... حاجات ملحّة ، ضرورة حسّاسة.

لم تلق كتاباتنا ومشافهاتنا اهتماماً خاصّاً آنذاك ، بل ولا ربت دبلوماسي على الأكتاف.

تعاقبت الأيّام وإذا الآخرون باتوا أهل المبادرة والسبق في هذه المضامير ; وهنا مكمن الألم ، الكلمة منك مهملة لأ نّها منك ، الكلمة من غيرك محترمة لأ نّها من غيرك ، بعضهم قال : اُرجّح الانفصال كي اُحتَرَم كما يُحتَرَم زملائي الذين علموا السرّ وخفي عليَّ.

يقول : لا اُريد لأفكاري ورؤاي أن تُجَهض ولمّا ترى النور ، اُريدها أن تكون ، أن تطرق سمع المرجع الأعلى وتنال اهتمامه ، فلِمَ يبرمج فلان

٢٤٤

من أجل «العالميّة السيستانيّة» ولا اُبرمج أنا ، بل «عالميّة السيستاني» الفاعلة هل تفتقر إلى عالميّة فلان ; لا أهدأ على الحجم والمقدار اللذين خُصّصا لي : أن أكون هنا ولا أكون هناك ، فأنا حركةٌ نابضةٌ بالفكر والشعور والإيمان.

٢٤٥

المرجعيّة الدينيّة

نتداول : أنّ المرجعيّة الدينيّة مفهوم ربّاني يعيد للذاكرة نوع العلاقة التي كانت قائمة ـ مثلاً ـ بين علي (عليه السلام) وعقيل ، علاقة تخضع للقيم والمعايير العليا ، دون أن تهبط إلى حضيض الارتباط الاُسري أو الفئوي أو الرغبوي ..

أنّ المرجعيّة الدينيّة أب الاُمّة كما كان محمّد وعلي أبوي هذه الاُمّة ..

نتداول هذا ونحثّ عقولنا على ممارسته رؤىً ونهجاً وفعلاً كي يكون منقولاً إلى الناس بكلّ وعي وصدق وأمانة.

ولا شكّ أنّ رؤية المرجعيّة أدقّ وأعمق في معرفة ما لهذه النقطة من أهمّيّة خطرة لدى الناس وفي مقدار اقترابهم وابتعادهم ومراعاة شعورهم في هذا الاتّجاه.

إنّ المرجعيّة قيادة الاُمّة وقلبها النابض وضميرها اليقظ ، فلا غرو أن تكون بمستوى آمال الاُمّة وأرقى ; تثبت بحق أنّ العلماء اُمناء الرسل ،

٢٤٦

اُمناء السماء في الأرض .. تسمو فوق الانتماء الضيّق والرغبة الوقتيّة .. فتكون المنهل العذب الصافي الذي يغترف منه القاصي والداني ، الفقير والغني ، العالم والمتعلّم ، الأسود والأبيض ، العربي والأعجمي .. إنّها محكومة بذلك ; بفعل حجم المهمّة الملقاة على عاتقها ، مهمّة نيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، مثلما نحن محكومون بالانقياد لها وإطاعة أوامرها والعمل بتوجيهاتها ونصائحها.

٢٤٧

المرجعيّة خيارنا ، لماذا؟

معلومةٌ تفتقد التفكير السليم ، علمٌ يفتقر العقل المدير ، محتوىً هائلٌ منقوص التدبير .. لا غرو أنّها أشياء موهونةٌ كبيت العنكبوت ، أسلحةٌ لا تدفع ضيراً ولا تصنع أمناً ، ولعلّ عواقبها المعاكسة أكثر خطراً وأشدّ بلوىً.

ومن موانع التفكير السليم والعقل المدير والرؤى الحيّة النابضة بالتدبير : تلك الأوهام التي تعشعش في دهاليز العقول وأنفاق الأذهان وأخاديد الألباب ، أوهام العشيرة والقبيلة والحسب والنسب والمكان والزمان والظاهر واللباس : أتّكئ عليهنّ فيغدون الضامن والعصا التي بها مغنمي والاُخر من مآربي ، يكفيني أنّي أمتاز بهذا الخصائص فما الداعي إلى السعي الحثيث والجهد المرير لتحصيل وبلوغ ما هو أدنى من شأني الذي أنا فيه .. نعم عزٌّ واسمٌ وشأنٌ ... يمازجها غرورٌ وزهوٌ وكبرٌ .. هنا يتوقّف العقل عن العطاء والإبداع ، هنا يمرض الذهن وينشلّ اللبّ فتموت الرؤى ويعمّ السكون ، هنا تُمضى وثيقة الاستسلام الملعون.

لا أدري لِمَ شمختْ أمامي الآن وبالذات مرويّة الإمام الصادق

٢٤٨

الشهيرة : «يا فضيل! تجلسون وتتحدّثون؟» قلت : نعم ، جُعلت فداك ، قال : «إنّ تلك المجالس اُحبّها ، فأحيوا أمرنا ، يا فُضيل! فرحم الله من أحيا أمرنا» الواردة في المصادر بتفاوت يسير؟

ولعلّني اهتديتُ إلى اُفق من آفاقها الرحبة يهتف في أعماقي صادحاً : إنّ الإمام (عليه السلام) لم يقصد بتاتاً الجلوس العبثيّ والحديث اللغو ، ولاسيّما أنّ مقدّمات الحكمة حاصلةٌ في المقام ، إلى ذلك قوله (عليه السلام) : «أحيوا أمرنا» ولا شكّ أنّ المراد بأمرهم عليهم السلام : فكر ونهج ومبادئ واُصول وسيرة وأخلاق ومقاصد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .. وهل يُحيا أمرهم (عليهم السلام) بمجالس العبث ولغو الحديث؟!

ومن نافلة القول الإشارة إلى المعروف عن الفضاء الحوزويّ النجفيّ : أنّ العلماء والفضلاء وسائر الطلبة إذا زاروا أحدهم لسبب ما سرعان ما يطرحون مسألةً علميّة ويشرعون البحث فيها نقضاً وإبراماً حتى ولو كانت على نحو التكرار ; تثميناً منهم لقيمة الوقت والعلم وسعياً نحو صقل موهبة التفكير وتمرين العقل على إدارة العلم بأفضل الأنحاء وأرقى الآليات والوسائل.

هلاّ تساءلنا : أين نحن من بوصلة العقل المدير والفكر السليم والرؤى الفاعلة؟ هلاّ أفقنا من سباتنا العميق وجهلنا الرهيب؟ هلاّ خرجنا من دائرة الأوهام الذليلة ونفضنا عنّا غبار الذاكرة المريضة ، إلى عزّ الفطرة السليمة والذاكرة الأزليّة القديمة ..

٢٤٩

أما آنَ الأوان كي أصرخ في حناياي واُنادي بنداء الروح والضمير : مَن أنا ، ماذا اُريد ، أين المقصد يا تُرى؟ هل لي من هواء عطر نقيٍّ أشمّ فيه رحيق التحرّر من قيود التيه والضياع ، الخلاص من قضبان الاحتباس والضيق ، صوب آفاق العقل السليم المتسامي فوق العِرق والإثن واللون ... صوب أنوار فيوضات السماء التي عرّفتها لنا حجج السماء الظاهرة والباطنة؟

أما آنَ لنا أن نؤمن حقّاً بقاعدة اللطف الإلهيّ إيماناً فاعلاً بالعمل لا بالقول فقط؟ القاعدة التي يترتّب عليها نظمنا الدينيّ وتفكيرنا العَقَديّ بلوازمه وتواليه .. الذي يعني في ما يعني : ضرورة ممارسة الوظائف طبق الظرف الذي نحياه ، ظرف غيبة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، إمّا الاجتهاد أو الاحتياط أو التقليد في الفروع ، وعلى الثالث السواد الأعظم من الناس ، حيث يرجعون إلى الفقيه الجامع للشرائط.

هذا الفقيه هو النائب العامّ للإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف زمن الغيبة ، وأكثر ما يشدّنا إليه أنّه طبق مقبولة عمر بن حنظلة : رافضٌ لكلّ الأوهام التي تعطّل حركة العقل والفكر وداعمٌ لكلّ الرؤى التي تشيّد للذاكرة الأزليّة القديمة ـ ذاكرة العبوديّة للواحد الأحد القهّار ـ في الذهن البشريّ أرسى الاُسس وأتقن البنيان .. فنجده ـ أي هذا الفقيه ـ حاضراً في الوجدان ، مخترقَ الشعور والإحساس دون استئذان.

فلا عجب أن يكون المراجع العظام صمّام الأمان ومصداق الاطمئنان والملجأ والملاذ لطرّ بني الإنسان.

٢٥٠

ولا ندّعي جزافاً إن قلنا : إنّ المرجعيّة الدينيّة قد أثبتت بنجاح باهر مصداقيّة الانتقال من أروقة ومختبرات ومراكز الثبوت إلى ميادين الإثبات وسوح الممارسة الممتازة والبلورة الرائعة لفكر ونهج ومبادئ واُصول وسيرة وأخلاق ومقاصد أهل البيت (عليهم السلام) ، ولا زالت جادّةً تبذل أقصى الجهد بأرقى خصائص التفكير السليم والكياسة والتدبير من أجل إحياء أمرهم عليهم السلام ، هذه المرجعيّة التي سرعان ما يُتبادر عنها أنّها رسّخت قيم الحبّ والاُلفة والسلام والخير والأمان ووقفت بوجه البغض والتفرقة والعنف والترويع برباطة جأش وصبر وعقل يرشح حكمةً وعنفوان.

حينما ننعم بنعمة المرجعيّة المباركة التي تنتشلنا ببصائرها الإلهيّة وربتاتها الأبويّة من حضيض الانتماءات الضيّقة والأوهام الزائلة إلى حيث (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) فما لنا بالمفضول إذن ، فما لنا بالمرجوح حينئذ ، والفاضل والراجح موجودٌ بأدلّة الترجيح والتفضيل التي لا غبار عليها ولا شكّ فيها؟!

من هنا كانت وستبقى المرجعيّة المباركة هي خيارنا زمن الغيبة حتى يأذن الله بظهور مَن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.

٢٥١

حقّ النَّظْم

يمنح «النَّظْمُ» الحياةَ جمالاً ورقّةً وتفاؤلاً وأماناً وحبّاً وازدهاراً وإيماناً.

«النظم» حصيلة علميّة معرفيّة حضاريّة قائمة على اُسس وأنساق ومبادئ وأخلاق.

إنّ الاُمم والمجتمعات والأفراد لمّا أخضعوا تطلّعاتهم وأهدافهم وحماسهم وجهدهم لمناهج وأدوات علميّة معرفيّة عبر المراجعة والحفر والبعثرة والتحليل والمقارنة والاستنطاق دون الجمود والركون والاستسلام ; لمّا قرءُوا الماضي قراءةً علميّة تفسيريّة دون التوقّف على السرد الحَدَثي لاكتشاف حاجة اليوم وإبداع خطط الغد ; لمّا انتزعوا من الفكر والفلسفة والتجربة والانتماء والهويّة مؤن البقاء والرقيّ والنجاة والتربّع على عرش الكون وتصدير القيم الحضاريّة والأخلاقيّة ... إنّما هو ناتج «النظم العلمي المعرفي» بغضّ النظر عن النوايا والغايات.

كلّ الرسل والأنبياء والأوصياء والصالحين والعلماء والقادة وسائر

٢٥٢

الرموز قد التزموا النظم في رسالاتهم وعباداتهم وأخلاقهم وسياساتهم وأفكارهم وأعمالهم.

إنّ الملهم الأبدي في النظم هو الله تبارك وتعالى ; إذ بنى الكون وما فيه على أتمّ نظام وأكمل منهج وأفضل نسق.

من هنا كان الشتبّث بـ «اللاّنظم» حجّة واهية لمن رام الركون إلى التراجع والتبعيّة والتواكليّة ، لمن قاده الكسل إلى التمسّك بالقشور والأغلفة ; هرباً من الجوهر الكاشف للحقائق ; وتلاعباً بالمفاهيم والقيم المقدّسة طبق تراجعه وتبعيّته وتواكليّته وتكاسله ، ففسّرها على خلاف الحقيقة فأضلّ معه جبلاًّ كثيراً ، وهذه من الجنايات المروّعة بحقّ الدين ومبادئ الإنسانيّة.

٢٥٣

نظم المرجعيّة الدينيّة

من السذاجة بمكان الاعتقاد بأنّ النظم الموجود في هيكليّة المرجعيّة قائمٌ عفويّاً دون مقدّمات واستشارات وتنسيقات وتوافقات وقرارات ...

ليس المقصود : ادّعاء أمر يحمل بين طيّاته إثبات خصائص الكمال والتمام دون نقص أو عيب ، بقدر ما هي زاوية مراقب رام التذكير والتوقّف عند حقائق بعض المحطّات ، ثم التأمّل فيها قدر ما تستحقّه من التأمّلات .. فلا يزعم إماطة اللثام من خلالها عن أسرار خفيّة ، أو يسعى إلى سبق خبري إعلامي ، فالأشياء واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار ، سوى أنّها تلتمس التدبّر والبصيرة النافذة.

لذا نقول مراجعةً وتذكيراً : مدينة النجف هي مركز قرار ; لوجود الحوزة العلميّة والمراجع العظام فيها ، ومن الطبيعي أن ترنوها الأنظار في شتّى القضايا والأحداث ترتقب الرأي والبيان والفتوى ... ولازالت هذه الحالة منذ أمد بعيد والنجف تضطلع بالدور المفصلي في رسم مستقبل العراق على وجه الخصوص والتشيّع المعتدل العقلاني على أوسع النطاق ،

٢٥٤

حتى اضطرّت مراكز القرار العالمي والإقليمي إلى الإذعان بحقيقة كون النجف تشكّل ثقلاً كبيراً في تحديد وحسم الملفّات الساخنة والمصيريّة.

وتظهر الظرافة بجمالها وإناقتها في ظرفنا الراهن حين تصنع الفكرة ويصاغ القرار في مدينة النجف ويعلن عنهما في مدينة كربلاء ، تؤسَّسان حيث عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، ويزاح الستار عنهما حيث الحسين (عليه السلام) .. رسالة تواصل وتناغم وتضايف تحمل أكثر من قصد ومفهوم ومعنى .. رسالة صارت بها جمعة كربلاء مهوىً مضاعفاً لقلوب وعقول الملايين وهي تصغي للمرجعيّة الدينيّة ـ عبر ممثّليها ـ لتدلي بدلوها وتقول كلمتها.

كما لا يمكن تغافل الحركة المحورية التي تُدار في مدينة قم الإيرانيّة ، سواء إبّان مرحلة التأسيس وما شابها من صعاب وحواجز وضغوطات قد اُزيحت كلّها بفعل الحنكة والفطنة والكياسة وحفظ التوازنات ، بل واستطاعت أن تمهّد السبيل للارتقاء بعلاقات النجف وقم وطهران إلى أفضل ما يكون .. أو سواء بإنشاء المراكز الثقافيّة والاجتماعيّة والخيريّة المفيدة.

هذا ، وتمكّن التواصل البنّاء بين قم والنجف ، بين النجف وطهران ، من تذليل الصعاب وتقريب الآراء وتضييع الفرص على مروّجي الفتنة واصطناع الخلافات.

ولا ننسى مشهد ولندن وبيروت وسائر البلدان بمؤسّساتها التابعة أو تلك المدعومة من المرجعيّة الدينيّة ، ودورها في خدمة الدين والقيم

٢٥٥

الحقّة .. التي بإمكانها أن تلعب دوراً أكثر فاعليّة من خلال توسيع رقعة العلاقات والنشاطات ، ثم بجهود أرقى للتواصل الممكن مع مختلف المحاور والأركان.

هذا نظمٌ رغم عدم إمكان إنكاره وتجاوزه والتغاضي عنه ، إلاّ أنّه لا يمنعنا من الاشارة إلى : أنّ الحسابات الدقيقة كفيلةٌ بالوقاية من خطر السقوط في فخّ الفجوات التي يصعب جسرها والهفوات التي يتعسّر تصحيحها ، فالكلّ كما يبدو وكما ينبغي أن يكونوا ـ وهم بهذا الحجم وبهذه المسؤوليّات الملقاة على عواتقهم من قبل المرجعيّة المباركة ـ مترفّعون متسامون فوق المنافع الذاتيّة لأجل المصالح الجمعية ، فيتحرّزون عن الفعل والقول والتقرير وكلّ ما من شأنه إثارة المشاكل وإيجاد الفواصل ، ولعلّ كلمة تُكتَب أو همسة تقال ـ ناهيك عن محاضرة وخطبة ومقال وكتاب ـ قد تصنع ما لم يستطع صنعه إلاّ وسواس الشيطان في القلوب والعقول والنفوس ، فتهوي أو تتصدّع بذلك صروحٌ شيدت بتعب السنين والأعمار ، صروحٌ من الحبّ والاُخوّة والوئام.

هذا من نافلة أنّ المرجعيّة الرشيدة توصي عموم الناس وتؤكّد وتصرّ وتنصح بالتواصل والاُخوّة والمحبّة ... فكيف بالحلقات المحسوبة عليها؟! ولاسيّما نحن نخوض ونرقب ونتأمّل نظمها ونشهد ونلمس حكمتها وفيوض بركاتها.

٢٥٦

من يهتمّ بنا من يعتني بأخطائنا؟

لا كلام في أنّنا نخطأ وننسى ، قلّ ذلك أو كثر ، بآثار مترتّبة عاجلاً أم آجلاً ، فكلّ إنسان مسؤول عن حريم ذاته وما يرشح منها من قول وفعل وتقرير ، الأمر الذي يُفهَم منه عدم تحمّل مسؤولية ما يصدر من الغير ; بناءً على معنى : (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (١) و : (كُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٢) ونظائرهما.

وقد تأسّست مذاهب أخلاقية وفكرية وثقافية وعَقَدية جعلت من قاعدة «عليك نفسك» منهاجاً فلسفياً يضمن ـ حسب مدّعاها ـ حياةً حرّةً كريمةً وعاقبةً حسنى ; فإذا صلحت النفس صلح المجتمع ، فلا عناية ولا اهتمام إلاّ بالذات بمعناها الأخصّ!!

هنا محلّ الاختلاف في فهم معنى الذاتية ، فنحن نفهمها بمعناها الأوسع المترامي الأطراف ، فالذات ليس هي الذات بالمعنى الأخصّ ، إنّما هي الإنسانية والاُمّة والمجتمع والمحلّة والاُسرة والفرد على السواء ،

__________________

١. سورة الإسراء : ١٥.

٢. سورة الإسراء : ١٣.

٢٥٧

فـ : «عليك نفسك» تعني : عليك الإنسانية و ... ; إذ السعادة بطرّ مفاهيمها السليمة هي أن يسعد الجميع.

إنّ حجج الله الظاهرة والباطنة ما كانت ولن تكون إلاّ لأجل البشرية جمعاء ، هكذا هي رسالة الأنبياء والأولياء والصلحاء ، وهكذا هي رسالة العقل ، رسالة الأخلاق والحكمة العملية.

لم يشذّ محمد بن عبدالله خاتم الرسل والأنبياء (صلى الله عليه وآله) ولا الأئمّة النجباء (عليهم السلام) عن العمل بهذه الرسالة المقدّسة بكلّ ما اُوتوا من عقل وبصيرة وقدرة وبرهان ، وعلى إثرهم سار نوّاب الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ; إذ الفقيه الجامع للشرائط هو ذاك الفقيه الذي من أركان مهامّه حفظ الدين وإطاعة أمر المولى ، وكيف يتحقّق الحفظ والطاعة طبق تفسير «الذات» بذاك المعنى الأخصّ؟!

لم تألُ المرجعيّة الدينيّة جهداً على درب إرساء مبادئ الرسالة وقيمها وأصولها ، إرساءً ميدانياً ، بما تمتاز به من حكمة ودراية وعلم وإحاطة وأخلاق عملية ، فتسامت فوق كلّ الرغبات إلاّ رغبة العمل الجامحة ببالغ الإخلاص على توفير بيئة المحبّة والوئام والأمان والسلام لطرّ بني الإنسان ، بنبذ العنف والفرقة والاستبداد والظلم وشتّى مفاهيم الطغيان ..

فكم وكم سعت وتسعى لجسر الهوّة وردم الفجوة ورأب الصدع الذي أحدثه الآخرون بفعل أخطائهم وغفلاتهم ونسيانهم ورغباتهم

٢٥٨

وتشبّثاتهم وتعنّتاتهم ، هذه المساعي التي لولاها لا بتلع الغرباء سائر ما عزموا على ابتلاعه ، ناهيك عن هتك الحرمات والتجاوز على المقدّسات والعبث بمصير الناس.

لا شخصنة للقضايا في قاموس وأخلاق وديدن المرجعية ، فهي خارجة عنها موضوعاً ; حيث تنظر وتحلّل وتدقّق وتقرّر طبق المبنى ، مبنى الرسالة والشريعة الخالدة ، همّها حفظ الدين والقيم الرائدة ، ومن باب الاُبوّة والإشراف والمسؤولية نجدها تداري وتنصح وتوجّه وتعالج وتطرح الحلول التي تردم وتصحّح المسار.

مخطئ من يعتقد أنّنا نعاني مثلما المرجعيّة تعاني ، إنّها تكابد الآلام وتعيش الهموم وتتحمّل المصائب بما يتناسب مع مسؤوليتها العظيمة ومهمّتها الكبيرة عبر إدارة شؤون الدين والعباد بغياب بقيّة الله آخر آل العصمة آل العزّ والأمجاد ، متأسّيةً بالرسول الأكرم وعترته الميامين الأسياد الذين عانوا ما عانوا في سبيل حفظ الدين والقيم وإدارة شؤون العباد.

أليس من الإنصاف بمكان أن نشكر الباري تبارك وتعالى أن منّ علينا وعلى البشرية بأسرها بمرجعيّة تدعو وتعمل من أجل السعادة المنشودة على أساس مبادئ النبل والشرف والكرامة الإنسانية ، بدل أن نتيه في إصرارنا على رغباتنا التي لا تثمر سوى مكاسب محدودة تذهب بها الريح سريعاً وتحفر ندب سوداء لا تزول عاجلاً؟!

٢٥٩

الأروع في القائد

ما أروع أن يكون القائد على مسافة واحدة من الجميع ، أيّ قائد كان ، قائد الاُسرة والخليّة والفصيل والمجموعة والكيان والمدينة والبلد والعالم بأسره ، لا يفرّط بهذا لأجل ذاك ، إلاّ بملاك الحقّ والعدل وتحقيق المساواة ، يتأ نّى كثيراً قبل اتّخاذ القرار ، تأ نّياً ناشئاً من الحكمة والتدبّر والتأمّل والكياسة والفطانة والتعقّل ، وهذه صفة القائد الذي يروم الأخذ بالرعيّة إلى مواطن العزّ والخير والازدهار.

ما أروع أن يكون القائد قائداً حين المحنة والفتنة وصعاب الأيّام ، فلا يألُ جهداً في حلّ الأزمة ولا يهرب إلى الأمام ، إنّه لابدّ أن يكون الحكيم المدير المدبّر الذي يحفظ التماسك والانسجام ويرأب الصدع ويردم الفجوة ويسدّ الهوّة ويلحم الشرخ.

ما أروع أن يبدو في أرقى مراتب الالتزام والتقيّد بالاُسس والمبادئ التي جاهد وساهم في بنائها وتحقّقها وديمومتها.

أن يتعامل مع الوقائع والأحداث تعاملاً علميّاً منطقيّاً واقعيّاً.

٢٦٠