نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

بها رائعةً كما أوصاها المولى الشهيد في لحظات الوداع الأخير .. تحرّكت بعقل الأولياء النجباء ، نطقت فكأ نّها فرضت عن لسان أبيها سيّد البلغاء ، سكنت سكون العارفين الحكماء ، استشرفت فأخبرت أنّ الغد لنا فلا يندرس ولا يُمحى ذكرنا مهما أوغلتَ أيّها الضالّ المناوئ في قتلنا وحصارنا وتشريدنا وترويعنا ، فنحن اُسّ الدين وأصل النهج المبين الذي جاء به سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد الصادق الأمين ، والحجّة الظاهرة المستدلّ عليها بالبراهين العقليّة القاطعة؟!

أما آن لك أن ترسم حروف الحقائق البنّاءة في من ضربت سامق الأمثال الوضّاءة ، انموذج المرأة العالمة الفقيهة المفسّرة ، المؤمنة الجليلة الشاكرة ، المهيبة الشجاعة المدبّرة ، العاقلة الرصينة المديرة ، البنت الزكيّة الطاهرة ، الاُخت الحنونة الناصرة ، الزوجة المخلصة الصابرة ، الاُمّ الشفيقة الباهرة؟!

نعم ، لن يهدأ لي بال ولن استقرّ وأستريح مادام قصوري في حقّ آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) قائماً يحثّ عقلي ويحفّز قلبي ويثير أفكاري نحو بلوغ المقصود ، فساُبقي وجودي ـ بعون القادر المنّان ـ لبّاً وفؤاداً وروحاً وضميراً يحلّق أبداً في الفضاء المنشود ، فضاء إثبات الحقّ المعهود ، مادام هناك عرقٌ ينبض ودمٌ يجري وحياةٌ تسري ، سأظلّ أبحث وأفحص واُبعثر وأتمسّح وأحفر واُراجع وأستقرئ واُقارن وأُحلّل وأستنتج بما توفّر لي من الأداة العلميّة والمؤنة المعرفيّة ، طبق المناهج السليمة والسبل الصحيحة المنطقيّة ، بلا حذف وتضليل ولا تعصّب وتحريف ولا ترهيب ولا

٢٢١

تخويف .. بالحبّ والوئام والاُلفة والسلام ، بنداء الخير والفلاح والأمان ..

لِمَ ذلك؟ لأسهم بالنزر اليسير في نشر وذياع ولو بعض الحقيقة المظلومة ، في إعلاء المبادئ المطموسة والقيم السامية المدروسة ، بما يتهيّأ من المكنة والبضاعة المحدودة ; إذ الميسور لا يُترك بالمعسور ، فعلى الواحد منّا استفراغ الوسع وبذل الجهد بالقدر المقدور ، ولا سيّما أنّ الحبّ إن حصل فهو خطوة من خطوات الوصول إلى الولاء المطلوب ، حيث علاقة العموم والخصوص المطلق الحاكمة بينهما تستدعي التوفّر على الشروط المثبتة لأصل الأُصول ولبّ الاعتقاد ، أعني به : ولاية الآل (عليهم السلام) ، أسياد العالم والعباد.

والحمد لله على ما أنعم والصلاة والسلام على الرسول الخاتم وآله أقطاب العالم.

٢٢٢

من مفردات المؤسّسة الدينية / ١

ممّا لا غبار عليه : أنّ المؤسّسة الدينيّة عندنا تتكفّل شؤون العباد إدارةً وتدبيراً ، سعةً وضيقاً ، على ضوء المبنى الفقهي ردّاً وقبولاً.

إنّ بناء ورعاية ودعم وتأمين وتنمية وديمومة المعاهد الدينيّة والمراكز العلميّة في سلّم أولويّات وظائف ومهامّ المؤسّسة الدينيّة .. فهي التي تعنى بها عنايةً كاملةً في شتّى جوانبها واُمورها ، وتقف على نظامها ونشاطها ونتاجها إيجاباً أو سلباً ، وقوف المدير المسؤول ، الأب الغيور ; فهذا الوليد ثمرة الجهد وتعب الدهور .. إنّ هذا الوليد حلقةٌ من سلسلة ذهبية وعقد ألماسي وشجرة مباركة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها .. إنّه حامل راية الرايات في مضامير تلقّي وبثّ ونشر وحفظ وديمومة الاعتقاد بالقيم والمبادىء الحقّة العليا.

من هنا نراها تحرص كلّ الحرص على متابعة أوضاع هذه المعاهد والمراكز متابعةً ميدانيّةً فاعلةً على الدوام ، من خلال الحضور المباشر أو بالتمثّل وكالةً ونيابةً ، سواء بالحضور الفردي أو الجماعي.

٢٢٣

لذا تسعى المؤسّسة الدينيّة إلى توخّي الدقّة والضبط في انتقاء واختيار الفرد أو الأفراد الذين يقع على عاتقهم تمثيلها في أداء تلك المهام ، فنجدها تنتخب ذوي العلم والمعرفة والفكر والثقافة وممّن لهم السمعة الطيّبة والأخلاق الحميدة والشخصيّة المؤثّرة ; كونها تدرك أكثر من غيرها طبيعة العلاقة الوشيجة بين نوع الخطاب والمخاطَب ، بين البثّ والاستقبال ، بين الإرسال والتلقّي .. تلك العلاقة التي تعني خطف القلوب والعقول والنقش على ألواح الضمائر وخبايا الروح وأعماق الحنايا والشعور فيما لو كان الإرسال مفعماً بالصدق والإخلاص والحبّ والمعرفة ، وإلاّ فلا يرشح من النقيض إلاّ النقيض.

كما أنّ المؤسّسة الدينيّة تدرك مدى رصد الناس ودقّة مراقبتها وحجم انتظارها منها ; إثر الفضاء الحاكم على المجتمع والعرف والأخلاق ، الذي منح هذه المؤسّسة بالغ القدسيّة ورفيع الحرمة وشامخ المكانة وسامق المنزلة ، المتقادمة قدم السنين والقرون ; فإنّ مقام النيابة العامّة مقامٌ إلهي عظيم وشأنّ ربّاني أصيل. من هنا فإنّ أيّ قول وفعل وتقرير من أيّ فرد محسوب على المؤسّسة الدينيّة ، بشكل عامّ ، أو في ما يرتبط بموضوع بحثنا بشكل خاصّ ، سيترك أبرز الأثر ، سلباً كان القول والفعل والتقرير أم إيجاباً ، بعلاقة طرديّة لا تقبل الغموض والترديد.

إنّ المستفاد من أفكار ورؤى ونصائح المؤسّسة الدينيّة هو التأكيد على النوع لا على الكثرة وتكثير السواد ، فلربّ سالبة من ساذج أو جاهل أضاعت جهوداً كبار.

٢٢٤

إنّ التعريف الوافي بعناصر الوفود التي تبعث بها المؤسّسة الدينيّة إلى هنا وهناك يجعل المضيِّف ومَن سواه واقفاً على رفعة خصائص هذه العناصر ورقيّها علميّاً واجتماعيّاً ، التي تعني حكمة وحصافة وعلوّ كعب هذه المؤسّسة وعمق رؤاها .. فلا غرو أنّ الانتخاب الصحيح سيحفر أثمن الأثر على صفحات القلوب والعقول.

ولا ننسى تأكيدات المؤسّسة الدينيّة على الوفاء التامّ بالعهود والالتزامات المقطوعة لهذا المعهد أو ذاك المركز ـ العهود والالتزامات التي ينبغي أن تكون على قدر المكنة والاستطاعة كي يوفى بها بالشكل والظرف المناسب ـ ولكي يكون الحفاظ على المصداقيّة في أرفع الرتب والمنازل.

كما لا ننسى نصائحها بالابتعاد في ذلك الأمر وفي ما سواه عن الإسراف والتبذير وكلّ المظاهر التي تصنع استفهامات عريضة وتخدش بالمصداقيّة والشؤون الاعتبارية والأخلاقية والدينية.

اللّهمّ احفظ دينك وحماة دينك يا خير حافظ ومعين.

٢٢٥

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٢

المرجعيّة العليا بين المحاسبات البشريّة والإرادة الإلهيّة

لاتنفكّ المعرفة البشريّة عن ثلاثيّتها الشهيرة : الفكر ، اللغة ، التاريخ ، كما لا ينفكّ الإنسان عن محاسباته القائمة منطقياً على أدوات ومؤن الواقع الموجود ، بالاستناد في ذروة احتجاجاته على ما في جعبته من العلم وكلّ ما تاخمه رتبةً ومنزلةً ، فيجهد العقل الفردي وينشغل الذهن وتتفاعل سائر القوى الذاتيّة كي تُصنَع الفكرة وتُصاغ الرؤية التي لابدّ لها من إمضاء العقل الجمعي حتى تتفتّح أمامها آفاق البلورة وميادين التطبيق والممارسة.

إنّما النُّخَب هي وحدها القادرة على فعل ذلك ، لا كلّ النخب التي يعتقد البعض انقسامها إلى ثلاثة أصناف ، فالمثقّف نخبة لكنّه مجرّد فرد واع مطّلع على مجرى الأحداث والقضايا ، وهو دون المفكّر الذي يصنع الفكرة ويبدعها ، وهو دون الفيلسوف ـ بمعناه الأشمل ـ الذي يهضم الأفكار ويذيبها لينحتها ويصوغها مذهباً أو تيّاراً ...

٢٢٦

هذا مختصر خارطة طريق مصانع الفكر البشرية القائمة نوعاً على المحاسبات المحسوسة الملموسة ، فلا تخرج غالباً في قالبها ومحتواها وفرص تحقّقها عن التصوّرات المادّية ولا تتعدّى حدودها ...

بعبارة اُخرى : ليس بمقدورها أخذ التقديرات الإلهيّة والمشيئة الربّانيّة والإرادة الغيبيّة في جدول محاسباتها واحتمالاتها ; للقصور الذاتي والجهل التكويني ، فكثيراً ما صاغت السماء وأسّست رؤىً ومشاريع حياة وصروحَ معارف غيّرت مجرى التاريخ والبشريّة دون أيّ دور للإنسان في صنعها وتوليدها .. نعم ، إنّه كان ولا زال أداة إيصالها ووسيلة إبلاغها ، بدءاً بالرسل والأنبياء ومروراً بالأوصياء والأولياء وانتهاءً بالعلماء وسائر الصالحين.

إنّنا نعتقد بكون الأفكار البشريّة إمّا متناغمة مع القيم والمبادئ الإلهيّة ، أو مختلفة معها ، ولا ثالث ، فالإجماع المركّب حاصل هنا بلا أدنى ترديد عندنا (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١).

وعلى ضوء أنّ الدين الإسلامي هو ثالث الأديان السماويّة التوحيديّة زمانيّاً وخاتمها ومكمّلها ورائدها محتوائيّاً ، وعلى ضوء الأساس العقدي القائم على كون المذهب الإثني عشري هو الإسلام الحق السليم ، فإنّ نظامنا التشريعي ومؤسّستنا الدينيّة وثقافتنا المعرفيّة مستندةٌ إلى القوانين الربّانيّة نصّاً واستنباطاً وتجسيداً ، طبق الأدلّة والاُصول

__________________

١. سورة الإنسان : ٣.

٢٢٧

الشهيرة : الكتاب ، السنّة ، العقل ، الإجماع ، البراءة ، الاحتياط ، التخيير ، الاستصحاب .. إلى ذلك : الأحكام الثانوية وغيرها ...

نحن لا نستشرف الغد بالقطع واليقين ، ولا نُخرِج مشيئة الغيب وإرادة اللاهوت من محاسباتنا ، ولا نصوغ أفكارنا إلاّ في دائرة الاحتمال.

من هنا فإنّ الرؤية الإثني عشرية القائمة على مفهوم الانتظار استطاعت معالجة الفراغ الحاصل بفعل غياب الإمام (عج) بالرجوع إلى نائبة العامّ في إدارة شؤون البلاد والعباد سعةً وضيقاً على اختلاف المباني الفقهيّة .. ولعلّ نقطة البحث المحوريّة والحسّاسة هنا تكمن في محاولات الوقوف والاطّلاع على خلفيّات وأسرار كشف أو تنصيب أو انتخاب المرجع الأعلى ، المحاولات التي طالما أساء البعض منها إلى كيفيّة بلوغ هذا المنصب الديني الرفيع وشوّهت الحقائق ; جهلاً منها تارةً وحسداً اُخرى وتعجّلاً ثالثةً وهكذا ...

فإنّ المتابع المستقرئ المُراجع لتاريخ المؤسّسة الدينية الشيعية تشمخ أمامه حقيقةٌ وضّاءة متشكّلة على نحو تساؤل تعجّبي عريض مفاده : هل من أحد كان يحسب أن تؤول المرجعيّة العليا على هذا المآل؟! تساؤل سوف يبقى دائراً في فضاءات التشيّع حتى الظهور ، فَلَكَمِ انصبّت الأنظار ودارت التوقّعات واستنتجت الأفكار لكنّها خابت وفشلت وأخطأت الحسابات حين انعقدت لمن لم يكن في الخاطر أبدا.

لِمَ نذهب بعيداً؟ ألم نحيا ونعايش أحداث عصرنا وزماننا ورأينا

٢٢٨

كيف استقرّت المشيئة الربّانيّة والإرادة الإلهيّة على السيّد عليّ الحسيني السيستاني دون أن يخطر ببال حتى ذوي الخبرة والاختصاص حصول مثل هذا الأمر؟! فهيّأ له الأسباب والمقدّمات بنحو مثير ، ولعلّ الذين سايروا الأوضاع عن قرب وكثب يدركون أكثر من غيرهم ويستوعبون حقيقة اليد السماويّة التي امتدّت بقوّة وإحكام لترفع هذا الرجل المؤمن العارف الحكيم المخلص المحبّ وتنصّبه في حيث شاءت وأرادت ; فهي وحدها التي تعلم مطلقاً غاية المصالح والأحكام وملاكاتها وخفايا الاُمور وأسرارها وما يخبّىء الغد ويخفي من أحداث ومواقف ، دونها المعرفة البشريّة القاصرة ، التي لا تعي سوى ظواهر القضايا وأوّليّاتها وعياً مادّياً قشرياً ، والنادر كالمعدوم.

٢٢٩

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٣

الفكر الديني بين مطرقة المصالح وسندان المفاسد

اختُلِف في فلسفة العلوم وتاريخ نشأتها اختلافاً ما برحت رحاه تطحن مبنىً وتكادح آخر وتسالم ثالث ; لدواعي وأسباب وكواليس واجتهادات لا حظّ وافر لها هنا كي نسلّط عليها ضوء العرض والتحليل والاستنتاج ; لنزر المجال وضيق المقام.

ولعلّ النقطة الجوهريّة المتّفق عليها بين أرباب الاختصاص : أنّ نوع العلوم قد تطوّرت ونمت ومرّت بمراحل وأدوار شتّى حتى آلت إلى ما هي عليه الآن.

وكذا العلوم الإنسانيّة ; حيث لم تشذّ هي الاُخرى ، فطوت مراحل وأدواراً من النموّ والتقدّم ، كما هو المتناول المتداول حاليّاً.

إنّ علم الاُصول والفقه وأيضاً التفسير والكلام ونظائرها ـ الإسلامي منها عموماً والشيعي خصوصاً ـ قد اجتازت مراحل وأدواراً متعدّدة من النموّ والأزدهار يشهد لها الواقع الملموس.

٢٣٠

إنّ المتبادر من «دور» أو «مرحلة» هو الانتقال من كيفيّة إلى اُخرى ، والقرينة تعني : كيفيّة أفضل وأرقى ، والأفضلُ الأرقى قرينُ التحسّن والتبدّل والتغيير على صعيد الأدوات والوسائل والآليّات ، بعبارة اُخرى : لا يمكن تصوّر الانتقال المعهود ولا يصحّ إطلاق عنوان «دور» أو «مرحلة» دون التجديد والإبداع والابتكار.

إنّ المعيار الثابت والخطّ الأحمر عندنا : استحالة التغيير على حساب الاُسس والاُصول .. بل إنّ الفكرة وليدة رحم الاُسس والاُصول ، متماهية متناغمة معها ، وإلاّ فلا يمكنها نيل رضى العقل الجمعي وتسجيل الحضور الميدانيّ الفاعل.

«صناعة الفكرة» هي نواة التجديد والإبداع والابتكار ، الفكرة التي تلبّي حاجة المكان والزمان.

إنّ الأفكار التي غيّرت مجرى التاريخ وتركت أروع الآثار في ضمير الاُمم والبشريّة جمعاء هي الأفكار التي خاطبت العقول والقلوب أيّ خطاب ، وضربت في الأعماق أيّ جذور وأوتاد ، فنالت باسق المكانة من الخلود والبقاء.

كلٌّ يبكي ليلاه ، فما أضمأنا وأنهمنا لتلك الفكرة التي ترشف الصادي منّا وتشبع الجائع ، صاديَ التجديد وجائعَ التغيير ، على ضوء المنهج السليم من القراءة والمراجعة والمقارنة والاستقراء والفحص والتحليل ، دون انحراف وميل عن الاُسس والثوابت ، كي نقطف غالي الثمار وعالي النتائج.

٢٣١

فمن المؤلم حقّاً تكثّر أدعياء الاجتهاد والرسائل العمليّة ممّن لم يكملوا أو يتلقّوا أوّليّات العلوم والمعارف حتى ، فتعنّبوا قبل أن يتحصرموا ، أو اُولاء الذين سعوا مسارعين بالعلن لزلزلة الموروث الديني من الأساس دون اللجوء لحلقات الاستشارة والاختصاص ، أو الذين احتموا بعباءة وأذيال وملاحق الرموز العليا علّهم يخطفوا الكأس الأوفى رغم ما فيهم من تقصير وقصور من جهات شتّى ، وما سواهم من المريب أمرهم الذين اتّخذوا سبّ المخالف والشتم له مغنماً فمنحوا الذريعة لمن يريد بنا الذبح والترويع والحذف سبيلا ، دونهم الذين يقتاتون على الأمجاد الاُسَريّة والمواريث القبَليّة ، ناهيك عمّن خانوا الأمانة فَسُرِّيَتْ فعالهم على أتباع المذهب والطائفة جميعاً ...

إنّها أصنام الوهم وقشور الجهل وخلايا الفساد ، الموانع الصعبة والأغبرة الملوّثة ، التي طالما حالت وتحول دون صناعة الفكرة النبيلة والرؤية الجديدة ، أو دون بلوغها الغايات والمقاصد الشريفة.

نحن بأمسّ الحاجة إلى الفكرة التي تولد من رحم الدين والمبادىء المقدّسات ، التي تحفظ الاُصول الشامخات ، بعزم وحزم وثبات وقصد قربة ونوايا مخلصات ، دون أن تغفل الاستشارات والتمسّك بالسبل الهاديات وضروريّ الحاجات ، بلا أدنى مداهنة ومداراة ومجاملات لذوي المصالح والرغبات الفاسدات.

هذه الفكرة هي فكرة الخير الكثير ، فكرة الحكمة والمعرفة والدرب المنير.

٢٣٢

إنّ تلاقح الأفكار وتمازج الآراء وانسجام الغايات وخلوص السرائر ونقاوة النوايا فضاءٌ ولا أرحب ، اُفقٌ ولا أوسع ، فرصةٌ لا تعوّض نحو التحليق في مدارات النهوض العليا ، ثم الانتقال من مرحلة إلى اُخرى ، إلى حال أفضل وكيفيّة أرقى ، مثلما شادتها ميدانيّاً أساطين الفكر والحكمة في ما مضى ، بل أسمق وأسنى.

ولنا في سيرة الرسل والأنبياء والأئمّة والأولياء والصلحاء أرفع اُسوة ومعين ، فإنّهم عايشوا الناس وخاطبوهم وعاملوهم على مبدأ الدين ، القائل : من الناس وفيهم وإليهم أجمعين .. إنّهم آيات هدىً وتنوير ، مشاعل عقل وتدبير.

٢٣٣

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٤

ولاية الفقيه

ماذا يعني القول الفصل في تدوين الدستور ، الانتخابات ، مضامين النطق الرسميّ بإسم المرجعيّة العليا في الشطر الثاني من خطب صلاة جمعة كربلاء ، التصدّي للإرهاب ، استقبال الوفود والشخصيّات الحكوميّة والسياسيّه ، إصدار بيانات النصح والتحذير والتأييد والرفض في القضايا والمسائل المختلفة ، تحريراً ومشافهةً ، قلب المعادلات وتغيير موازين القوى على أرفع المستويات ...؟؟

إذن للمرجعيّة العليا أجندةٌ سياسيّة ، لم يبق سوى أن تستلم مقاليد الاُمور بشكل رسميٍّ علني وتدير الحكم اُسوةً بجمهورية إيران الإسلاميّة ; فولاية الفقيه هذه هي ذاتها التي هناك ..

استنتاجٌ ورؤيةٌ وإشكاليّةٌ وحيرةٌ تدور في ذهن الكثيرين ، من النخب وغيرهم ; على ضوء فهم مفاده : أنّ مبنى ولاية الفقيه الخاصّة أو المقيّدة أو الجزئيّة هي فقط في القضايا الحسبيّة ولا تتعدّى إلى ما سواها ،

٢٣٤

وما تضطلع به المرجعيّة العليا من دور ومهامّ يتناغم وينسجم ويتطابق مع مبنى ولاية الفقيه العامّة المطلقة.

قد يذهب البعض الآخر إلى القول بأنّ المرجعيّة العليا قد نسفت الإجماع المركّب في المسألة وعملت على تأسيس مبنى ثالث قائل بالتفصيل.

نقول : إنّ فهمنا لولاية الفقيه الخاصّة والعامّة ينطوي على كون الفقيه الجامع للشرائط : مُدرِكاً ، مستوعباً ، واقفاً وقوفاً معرفيّاً علميّاً منهجيّاً على كلّ الأحكام والأدلّة الشرعيّة الأوّليّة منها والثانويّة ، عارفاً خبيراً بالضرورات والمصالح والمفاسد والمحظورات ، قارئاً للنصّ محلّلاً مفسّراً مستنبطاً طبق الضوابط والملاكات المعهودة والأدوات المعروفة .. فثبتت الثانية لعدّة كالنراقي صاحب المستند وصاحب الجواهر والنائيني ومحمّد حسين كاشف الغطاء والخميني رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولم تثبت لأكثر الفقهاء رحم الله الماضين وحفظ الباقين ، منهم ـ مورد بحثنا ـ السيستاني مدّ ظلّه ، فظلّوا متمسّكين بالاُولى.

نعم ، إنّ السيّد السيستاني استطاع ـ بنظري القاصر ـ أن يقرأ ويحلّل ويقارن ويستقرئ ويستحلب النصّ والدليل بأوسع الممكن ، فاستنتج بغاية المطّاطيّة وبنهاية ما يسمح له الاستنباط دون المساس أو التعدّي على القول الأساس ، فذهب عالياً إلى حيث بلغ به المقام تخوم المبنى وحدود البرهان دون الانتفاض أو تغيير البنيان.

٢٣٥

ولا ننسى أنّ الظرف الراهن وإتاحاته الملحوظة قد جعلت يده المباركة مبسوطةً على العمل واستثمار الفرصة في إرساء المبادئ الحقّة والقيم النبيلة على أفضل ما يكون .. الظرف الذي لم يسنح ـ نوعاً ـ لغيره ممّن تقدّم عليه من فقهاء ذات المبنى ، قدّس الله أسرارهم الزكيّة جميعاً.

ثم أليس الفقيه الجامع للشرائط ـ بغضّ النظر عن الولاية المقيّدة أو المطلقة ـ له الولاية على المجتمع والدولة ، وهو الذي يدبّر ويدير شؤون البلاد والعباد ، العارف الخبير بالضرورات والمصالح وموارد الفساد ، ناهيك عن كونه الوليّ الشرعي ، النائب العامّ في ظلّ غياب المولى الإمام؟!

إنّ ولاية الفقيه ـ بقسميها ـ أصلٌ ثابتٌ وامتدادٌ قطعيٌّ لوجودنا الدينيّ الإسلاميّ منذ البدء ، لا كما يرى البعض نشوءها إبّان الحقبة الصفويّة على يد المحقّق الكركي ، أو استيرادها من الفقه السنّي ومن الماوردي وأحكامه السلطانيّة ; فإنّها ـ أي ولاية الفقيه ـ أجلّ شأناً وأرفع منزلةً من أن تكون على هذا الحال ، ولا سيّما مع ورود النصّ المتّفق عليه وحكم العقل بها في مقام الاستدلال.

بقي أن ندقّ ناقوس الخطر فنشير إلى سعي بعض المريب أمرهم إلى دسّ السمّ في العسل والتصيّد في الماء العكر من خلال اصطناع فضاء تنافسيٍّ سلبيٍّ نجفي ـ قمّي ، والذهاب في فتنة كبيرة لا تُحمَد عقباها ، بتصوير صراع زائف بين العليّين وأنّ السيستاني غير المسلّح هو وحده

٢٣٦

القادر على الوقوف بوجه الخامنئي المسلّح!!

فليس لنا على العجالة سوى أن نقول : إنّ التناغم المشهود والتواصل المستمرّ والانسجام المتنامي بين العليّين ، بين النجف وقم ، بين النجف وطهران ، بين بغداد وطهران ، وما تمخّض عنه من آثار وثمار ونتائج انعكست خيراً وإيجاباً على شتّى الأصعدة والميادين .. إلى ذلك : الدور المحوريّ الفاعل الذي يضطلع به كبار الأقطاب في توثيق وتعميق علاقات حاضرتي العلم والمعرفة ، وترويج الكثير من أهل الرأي والنظر لفكرة مكمّليّة إحديهما للاُخرى ... كلّ هذا ونظائره خيرُ ناقض ومُبطل لتلك التصوّرات المغرضة والأفكار المريبة.

إذن بات من الواضح أنّ المرجعيّة العليا لم تؤسّس لمذهب فقهيٍّ ثالث في مسألة ولاية الفقيه ، وإنّما عملت بغاية ما يسمح به مبنى الولاية الخاصّة دون الأخذ بالولاية العامّة ; في فضاء معرفيٍّ واستنباط استدلاليٍّ ميدانيٍّ قلّ له النظير ، مع الأخذ بعين الاعتبار احترام سائر الآراء والأنظار ، سيراً على مبنى الحبّ والوئام والوحدة والسلام وتفويت الفرصة على المغرضين اللئام.

٢٣٧

من مفردات المؤسّسة الدينيّة / ٥

مهامّ رجل الدين

السنون الطوال ، العِقدُ والعقدان والثلاثة ... دورةٌ أو دورتان اُصوليّتان كاملتان ، ولربما دورة فقهيّة كاملة ... حضورٌ دائمٌ في حلقات الدرس ، متابعةٌ قلّ نظيرها ، لا يثنيه المرض والسفر وغيرهما عن التواصل الفاعل .. خزينٌ علميٌّ هائل.

تمرّ الستون والتلقّي مستمرٌّ دون تصريف ، فلا تدريس ولا تأليف ولا تحقيق ولا تبليغ ولا نشر لقيم الدين ومبادئ الحقّ المبين ...

للأسف ، هذا حال الكثير من طلبة علوم الدين ، بل يرى البعض منهم أنّ مجرّد التمثّل بزيّ رسول الله والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين والولاة الصالحين ومراجع الدين العاملين والعلماء المكرمين ، فيه الكفاية وكفى ، متناسياً أنّ اُولاء الأبرار استفرغوا ولازالوا يستفرغون الوسع لحفظ وترسيخ ونشر كلمة الرسالة بكلّ ما اُوتوا من علم وحكمة وإيمان وإخلاص على غاية من الصبر والقدرة والعزم والثبات.

٢٣٨

إنّ الخزين العلميّ إذا لم يجد مخرجاً واستهلاكاً وفضاءً معرفيّاً تحلّق فيه الأفكار وتتحاور به الآراء فإنّ روح الإبداع تأفل رويداً رويداً ثم تضمحلّ وتموت ، حينها لا مراتب عليا ولا أمل بالمَلَكَة المبغى التي تقرّ بها عين الملّة والشريعة السمحة ، فلا زيادة إذن ، ومن لم يَرَ الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان ، ومن كان إلى النقصان فالموت أولى به.

إنّ حال الخزين العلميّ لعلّه كحال النتاج والبضائع التجاريّة من زاوية ما ، فلولا السوق والاستهلاك لما حصل الربح وتكثّر الإنتاج وتنوّع وتطوّر ونما ، بل تكدّس وتلف وفسد وهوى.

تعلّمنا أنّ طالب العلوم الدينيّة بما هو طالب علوم دينيّة وظيفته هي نشر علوم آل البيت (عليهم السلام) سواء عبر التدريس أو التأليف أو التبليغ أو التحقيق أو البحث ، أو بكلّ آليّة ووسيلة مشروعة مقرّرة من شأنها ترويج القيم والمبادئ السامية النبيلة .. فلا يمكنه تبرير عدم ممارسة المهامّ المشار إليها أعلاه ـ بما أنّه رجل دين وطالب علوم دينيّة ـ بممارسة النشاطات الاُخرى وصبّها في قالب خدمة المذهب والدين ، رغم ما فيها من الأجر والثواب ; حيث بإمكان غيره النهوض بها وليست متوقّفة عليه بالضرورة ، إنّما الضرورة هي وظيفة حفظ ونشر وترويج تعاليم الدين والمذهب الحقّ ، التي لا يستطيع غيره النهوض بها ، فلا مسوّغ لترك الواجبات بسواها.

ولعلّ بعض طلبة العلوم الدينيّة يرون أنّ الخدمات الاجتماعيّة

٢٣٩

والخدماتيّة تجعلهم أقرب إلى قلوب الناس وعقولهم .. لكنّ الواقع أثبت خلاف ذلك ، فالناس كانت ولا زالت تجد في رجل الدين : الرائد والقائد والمرشد والموجّه والمعلّم والمربّي والناصح الأمين نحو دروب الخير والنجاة والفلاح .. ولا سوى ذلك أبداً.

وحينما يتغيّر الحال ويتعطّل الواجب الذي ينبغي لرجل الدين القيام به ، يتأسّس ذلك الشاهق الطويل الفاصل بينه وبين الناس ، فلا تعدّ له تلك الكلمة المسموعة ولا الرأي المطاع ، فتنأى عنه العقول وتجفو بحقّه القلوب ; كونه خرج ممّا ينبغي إلى ما لا ينبغي.

فكيف لنا تصوّر وتصديق الدين بلا رجال الدين بما هم رجال الدين؟! لذا علينا جميعاً استفراغ الوسع وبذل غاية الجهد كي تحافظ هذه الطبقة الشريفة والشريحة العظيمة والثلّة النبيلة على دورها الرياديّ المقدّس في صون الرسالة والذبّ عن ثوابت أهل العصمة والطهارة ... كي تبقى المؤسّسة الدينيّة بكيانها ونهجها ورسالتها وأهدافها وقادتها ورجالها كما هي عليه منذ غابر الأيّام وقديم الأعوام ، ملاذ الاُمّة الأمين وكهفها الرصين الآخذ بها صوب الهداية والفوز المبين.

٢٤٠