نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

المسافات الطويلة والمساحات الشاسعة من الحياة الإنسانيّة ـ بما تنبض من معرفة ومشاعر وفِكَر وتاريخ ولغة ـ بعدد من المفردات ...

وبثبوت الأساس ـ وهو الحقّ ـ إذن لا نبالي ... لا مبالاة منبعثة من صميم المعرفة وغاية الوعي وصلابة الاعتقاد ، لا أنّها مجرّد أحاسيس وردّة فعل آنيّة ... لا نبالي بأسوأ الاحتمالات وسامق التضحيات ألا وهي الجود بالنفس.

لا نبالي ولا نخشى التلويح بعصا العقلانيّة التي يعتقد الكثيرون تباينها معنا وشدّة عدائها لنا ، بل لنا معها تماهي وثيق ; فهي خليّة من خلايانا ونسيج من أنسجتنا ، لكنّها قد تنعس حيناً وتنام حيناً ولن تموت فينا أبداً مادام النصّ والدين وفضاؤهما يرعوانها .. إنّما الإشكاليّة والعيب والنقص في مناهجنا وأنساقنا التي لا تجيد في العديد من المقاطع والموارد كيفيّة البلورة والتطبيق ، إلى ذلك : حاجز الخوف ، الذي أخذ ولازال يأخذ موضعه منّا ; إثر هيمنة «ثقافة القشور التقليديّة» على فضاءاتنا ، هيمنة سيّئة هي من أسوأ العوامل التي حالت دون ازدهارنا ، حيث زرعت فينا حالات من الارتباك والتزلزل وفقدان الثقة بالذات.

إنّنا محكومون بثورة علميّة معرفيّة تقوّض ثقافة المظاهر والاستعراضيّات والأوهام ، وتعيدنا إلى مواقعنا الحقيقيّة ، ثورة تستلهم من «النصّ» زلال القيم والمبادئ والأخلاق ، بكلّ عمق وجوهريّة ومنهجيّة ، ثورة تحلّل الماضي وتلحظ الحاضر وتستشرف المستقبل ، لا تغفل

١٦١

الأصالة طرفة عين أبداً ... لا شكّ أنّها ثورة تقلب المعادلات وتعيد الحسابات ، فتطيح برؤوس وتشمخ باُخرى .. تبعث برسالة ومفهوم مفادهما : إنّنا لا نخشى سوى الله ، إنّ الدين ينبض في القلوب والعقول ، في كلّ آن ومكان ; لأجل بناء عالم ترقى به الإنسانيّة إلى حيث مراتب المعرفة والكمال ، عالم يسوده الحبّ والسلام والاطمئنان .. هذه الإنسانيّة هي التي تعمل لدنياها كأ نّها تعيش أبداً وتعمل لآخرتها كأ نّها تموت غداً ; آنذاك لا نبالي سواء وقع الموت علينا أم وقعنا عليه ، مثلما قالها الشهيد للشهيد.

١٦٢

رحلة العتبات عطاءٌ وذكريات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

المفكّرة الشيعيّة حافلةٌ بأرقام مضيئة وأحداث هامّة تعكس عنوان الانتماء وعمق المحتوى ، فترانا نتفاعل معها نوعيّاً تفاعل الضمآن الذي لا ترويه الرشفة ولا تكفيه الغرفة ، فيطمح بالمزيد من عذب النمير.

منها : حادثة كربلاء ، وقعة الطفّ الفجيعة ، فهي جرحٌ في الصميم لا يندمل ، جرحٌ أصاب قلب كلّ إنسان غيور لقيم الباطل لا يمتثل ... حادثةٌ أثارت العقول لمعرفة نهج ومبادئ آل الرسول (صلى الله عليه وآله).

إنّ «أربعين الحسين (عليه السلام)» تظاهرةٌ ميليونيّة لا نظير لها ، مبدؤها العالم بأسره ومقصدها كربلاء حيث المرقد الطاهر لأبي الأحرار (عليه السلام) وصحبه الأبرار ، تظاهرة عشق وولاء لاُسس السماء ، لسيّد الشهداء (عليه السلام) ، تظاهرة شوق تذوب فيها كلّ الفوارق ولا يميّزها سوى ذلك الهدف الشاهق ، ألا

١٦٣

وهو الوصول إلى ديار الحبيب وإثبات الحضور بتجديد العهد المعهود الراسخ أبد الدهور.

سيّدي أبا عبدالله!

«أشهد أنّ دمك سكن في الخلد وأقشعرّت له أظلّة العرش وبكت له السماوات والأرض» عن الإمام الصادق (عليه السلام) كما في الكافي ٤ : ٥٧٥ / ٢.

وهكذا تبقى القلوب تهفو أبداً إلى السرّ الإلهي الخالد ، فتقتنص الفرصة كي تحطّ الرحال هناك ، فما بالك بمن بقي عقوداً من الأعوام لا يستطيع نيل شرف الوصول حتى بعد سقوط النظام البائد ; لاقتضاءات معيّنة ، قابضاً على جمرة الصبر ومرارة البعد وشوق اللقاء ، ولا سيّما وهو يرى باُمّ عينيه ألوف الراحلين إلى تلك الديار المقدّسة لكنّه ينتظر اللحظة المرجوّة.

١٦٤

اليوم الأوّل

طهران ـ النجف الأشرف

لا ريب أنّ كلّ واحد منّا يجد في هذا السفر تفاوتاً ملحوظاً رغم تشرّفه بزيارة العتبات المقدّسة كراراً ومراراً ، فما بالك بمن حالت بينه وبين الأولياء الطاهرين عليهم السلام عقودٌ من الشوق والانتظار ، وما يدريك فلحظات العمر لا ضمان لها وأنفاسنا رهينة قضائه تبارك وتعالى.

ها نحن الآن في النجف الأشرف ، حاضرة التشيّع ، سناءُ الولاية وضياء العقيدة يزيدُ فضاءاتها إشعاعاً وتوهّجاً ، معقل الحوزة العلميّة العريقة التي خرّجت آلاف العلماء والمجتهدين ، ذات الخصوصيّات التي تنفرد بها عن سائر البلدان والأصقاع ، نعم فالرائحة والطعم واللون كلّه نجفيٌّ بامتياز .. وأنت هناك ، لا شعوريّاً ، تجد شيئاً ما يربطك بهذا التراب ، علقةً ما لا تجد تفسيراً مادّياً لها ، الأرض أرضك والهواء هواؤك ، والهوى يجتذبك إلى حيث تعشق وتهوى ، وأنت هناك قد تمنح الحقّ لمن قرّر الرجوع والمكوث أو التفكير بالبقاء ، إنّها وشائج الانتماء وأواصر الهوية

١٦٥

التي لا تنفكّ تسري في الشرايين وتحفر على أنسجة الأفكار حضوراً متأ لّقاً.

نعم ، هنا عليٌّ وكفى ، هنا الولاية والدين والقيم والمبادئ ، هنا الأصالة ، هنا كلّ شيء.

لا يخفى أنّ السيّد الشهرستاني ، ولا سيّما قبل سقوط النظام البائد ، كان ولا زال بجاذبيّته المعهودة واستقطابه المتميّز ودماثة خلقه ، الملاذ الدافئ والجواد الكريم والصدر الرحب لأصحاب المهجر وغيرهم ، فصارت مؤسّسته مهوى الأحبّة ومجمع الأصدقاء ، تخفّف عنهم آلام الغربة ومعاناة الفراق ومرارة البعد ...

ولمّا انفتحت أمامه الآفاق الربّانية ـ بفضل المرجعيّة المباركة ، وبما يمتلك من مؤهّلات ذاتية ـ بعد سنوات من الضغط المتشعّب الأطراف ومكابدة الأخطار ـ التي يضيق المضمار عن تفصيلها ـ حلّق في فضاءات البناء عالياً ، سواءٌ بناء عشرات المعاهد والمراكز والمؤسّسات العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة ، التي ستبقى إن شاء الله صروحاً شاهقة تخدم الدين والمذهب والقيم الإنسانيّة النبيلة ، أو بناء الطاقات التي تعمل من أجل ذات الهدف.

حضر آية الله السيّد محمّد رضا وآية الله السيّد محمّد باقر السيستاني ، نجلا المرجع الأعلى مدّظلّه ، مرحّبين بالسيّد الشهرستاني

١٦٦

والوافد المرافق له. كان العناق الحارّ محطّ أنظار وإعجاب الحاضرين ، عناقٌ يبهج الصديق ويغيظ المناوئ.

للإشارة نقول : إنّ السيّد الشهرستاني والسيّد محمّد رضا السيستاني هما قطبا المرجعيّة وركناها الأساس ، فتلاحمهما يعني تضاعف قدرة المرجعيّة العليا وازدياد مساعيها وتكاثف جهودها نحو إعلاء كلمة الدين الحنيف ومبادئ الطائفة الحقّة.

وللإشارة أيضاً نقول :

إنّ السيّد الشهرستاني أعلن بكلّ وضوح أنّه ذاهبٌ لغرض التشرّف بزيارة الأعتاب الطاهرة ، ثم زيارة سماحة المرجع الأعلى وسائر المراجع العظام ، لا غير.

وهذا التصريح قد أوصد الباب إزاء كلّ التكهّنات والتوقّعات والتحليلات المتنوّعة المصادر. رغم ذلك ، تطلّ علينا بعض القنوات الفضائيّة كالشرقيّة والديار وغيرهما بتحليل مؤدّاه : إنّ جواد الشهرستاني عاد بعد ٣٧ عاماً ليجمع شمل البيت الشيعي استعداداً للانتخابات القادمة.

حان موعد المثول بين يدي مولى الموحّدين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المتّقين أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) شقّ الموكب طريقه بين الجموع الهائلة من الناس الذي توافدوا من شتّى الأماكن ليؤدّوا مراسيم الزيارة ثم التوجّه إلى كربلاء المقدّسة إحياءً لأربعينيّة الإمام الحسين (عليه السلام).

١٦٧

هانحن الآن قرب شارع الطوسي المؤدّي إلى الحرم الشريف ، وبدخولنا فيه شمخت القبّة والمنائر الذهبيّة بكلّ عظمة وبهاء وسناء ...

الزحام الشديد وتثاقل الخطوات ربما منح البعض منّا فرصةً مناسبة ليستحضر خاطفاً : ما مرّ على المولى (عليه السلام) من آلام ومعاناة وظلامات ، ما كان يمثّله هذا العبقري الفذّ من وجود إلهي وحضور قدسي ومحوريّة لا نظير لها ... كلاّ ، لا يمكن لملمة الأفكار بلمحات سريعة ، فلنشغل بالنا حالياً بالزيارة وآدابها ; إذ البحث عميق وفضاءات الأفكار مترامية الأطراف ، لِمَ لا؟! فموضوعنا أسد الله الغالب.

توجّهنا إلى الضريح المقدّس لأداء مراسيم الزيارة والدعاء والصلاة ، لحظات لا تصدّق ، دموع وآهات وصرخات ، ابتهالات وتوسّلات وحاجات ، شوق وعشق وولاء لسيّد الأولياء والأوصياء.

نحمد الله تبارك وتعالى أن وفّقنا لزيارة أئمّتنا وساداتنا ، ونسأله جلّ شأنه ألاّ يجعله آخر العهد منّا للمثول بين أياديهم.

زرنا مرقد زعيم العلميّة الراحل السيّد الخوئي (قدس سره) وقرأنا سورة الفاتحة على روحه الطاهرة.

عقيب ذلك رمنا شارع الرسول (صلى الله عليه وآله) ، حيث بيت المرجعيّة العليا ، كلّنا توّاقون للقاء سماحة آية الله العظمى السيّد السيستاني مدّ ظلّه ، الرجل العالم الزاهد الحكيم المحيط بأحوال الاُمّة والعالم بأسره ، السيّد الوقور ذو الهيبة والجلال ، هذا الذي طالما أخرج العراق ـ بحكمته وبصيرته ـ من

١٦٨

فكّي عفريت الفتنة وأخمد النزاعات التي كادت تودي إلى الهاوية ، بل حتى بصمته وسكوته تجده يفتح آفاقاً للحلّ والانفراج غابت عن ذوي الخبرة والاختصاص.

نعم ، لقد خطّ السيستاني بخصائصه المشار إليها ، المستقاة من فيض المعارف الإلهيّة والعلوم العلويّة ، أعمق مدوّنات التطبيق والممارسة الواعية لقيم الدين والمبادئ الحقّة ، حيث شخّص أنّ الاُمّة تفتقر حالياً إلى هذا اللون من النهج والاُسلوب ، رافضاً بذلك ـ على سبيل المثال ـ الخوض في نتاجاته المكتوبة وتقريرات دروسه مادام حيّاً ، ولم يكترث لتخرّصات هذا وأقاويل ذاك ، فهو الذي يدرك بلا ريب مفهوم التكليف أكثر منّا ، ويعلم نوع الحاجة ولوازمها.

انتظم الوفد جالساً لدقائق حتى أطلّ علينا مدّ ظلّه بخصائصه المعهودة وحيويّته الواضحة ، مرحّباً بجميع من حضر ; إذ دارت عيناه على الكلّ بلا استثناء ، وشفتاه يفهم منها التمتمة بكلمات الترحيب.

بعد تبادل الحديث مع بعض أفراد الوفد ، تركنا المكان جميعاً إلاّ السيّد الشهرستاني الذي انفرد بجلسة مع سماحته مدّ ظلّه بحضورنجله السيّد محمّد باقرفقط ، دامت الجلسة حوالي الساعة والنصف.

أطلّ علينا السيّد الشهرستاني بعد جلسته مع سماحة السيّد مدّ ظلّه منفتح الأسارير متورّد الوجنتين أكثر من ذي قبل ، فكان استنتاجنا طبق القرائن المقاميّة أنّ الاُمور على ما يرام ، غير متناسين في الوقت ذاته دهاء

١٦٩

السيّد الشهرستاني وفطنته ، فهو المدير الفذّ الذي يجيد فنّ الاستقطاب ، الممزوج بصفاء طينته ورفيع إخلاصه.

أقمنا صلاتي المغرب والعشاء في بيت المرجعيّة العليا.

عاد سماحة السيّد مدّ ظلّه ثانيةً ، هذه المرّة نزل خصّيصاً ليعمّم صهر السيّد الشهرستاني ، السيّد محمّد الحيدري ، حضرنا مراسم التتويج بتاج رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستفدنا الفرصة ثانيةً لنلقي التحيّة مرّة اُخرى على سماحته مدّ ظلّه ملتمسين دعواته المباركة.

توجّهنا لزيارة آية العظمى الشيخ إسحاق الفيّاض مدّ ظلّه ، رحّب سماحته بالوفد ترحيباً حارّاً وكانت الابتسامة لا تفارقه طيلة اللقاء.

قصدنا بعدها آية الله العظمى السيّد محمّد سعيد الحكيم مدّ ظلّه ، امتاز سماحته بصوت واطئ لا يكاد يسمع والدقّة في المواعيد ، إذ قال مدّ ظلّه : موعدنا الساعة السابعة والآن الساعة ٤٥ / ٦.

آخر المطاف لقاؤنا بآية الله العظمى الشيخ بشير النجفي مدّ ظلّه ، امتاز بالحيويّة والابتسامة ومضاعفة الترحيب بذراري الرسول (صلى الله عليه وآله) مخاطباً أيّ واحد منهم : يا ابن الزهراء.

أمّا الحديث عن سامرّاء وزيارة الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) فلقد كان السيّد الشهرستاني عازماً على القيام بذلك ، حتى كنّا نحن الوفد المرافق له وإلى صبيحة يوم الحركة ، يوم السبت ، لا نعلم هل يتّجه الموكب شطر

١٧٠

سامراء أم نحو بغداد حيث الإمامين الجوادين (عليهما السلام) ، لكن كما ظهر فيما بعد أنّ بيت سماحة السيّد مدّ ظلّه والجهات الأمنيّة المختصّة والشخصيّات المؤثّرة أقنعت السيّد الشهرستاني بالعدول عن التوجّه إلى سامراء ; لخطورة الأوضاع هناك ، بل طيلة الطريق ذهاباً وإيّاباً. وكانت رئاسة الوزراء قد أخبرته بتجهيز ثلاث حوّامات لنقل الوفد إلى هناك ، ممّا يعني ذهاب ٢٧ شخصاً فقط ، في كلّ حوّامة ٩ أشخاص ، لكنّ السيّد رفض ; للإحراجات التي ستحصل يقيناً.

الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل اتّصل رئيس الوزراء ليكلّم السيّد الشهرستاني جواباً لاتّصاله ، لكنّ السيّد كان نائماً. علماً بأنّ السيّد كان قد هاتف السيّد المالكي قبلها لكنّه كان نائماً أيضاً.

١٧١

اليوم الثاني

الكاظميّة ـ الكوفة

صبيحة السبت ، حوالي الساعة الثامنة ، سار الموكب ـ ونحن لا نعلم هل إلى سامرّاء أم الكاظميّة ـ بمركبات ذات مميّزات أمنيّة معيّنة ، وفّرتها رئاسة الوزراء خصّيصاً لنقل الوفد من النجف الأشرف إلى بغداد وبالعكس.

ولابدّ من التوقّف هنا لنسجّل تصوّراً متواضعاً إزاء عظمة ما شاهدناه أثناء الطريق من الجموع الهائلة التي كانت تزحف مشياً على الأقدام نحو كربلاء المقدّسة على محوري الحلّة وبغداد ، إنّها مشاهد تهزّ القلوب وتثير العقول وتنهمر لها الدموع دون اختيار ، مواقف تزيدك شوقاً وتغمرك لهفةً نحو بلوغ المقصد ، بل وتهيج بك الآلام والأحزان وترسم أمامك أحداث الماضي وتفاصيل الطفّ الفجيعة وما حلّ بآل العصمة والطهارة من قتل وأسر واضطهاد وظلامات يندى لها التاريخ والقيم الإنسانيّة النبيلة ، لكنّ

١٧٢

الفكر الشيعي ـ بفضل التسديدات الإلهيّة ومنهج أهل البيت (عليهم السلام) ـ قد استطاع الاستفادة من الأحداث المعهودة بأساليب هادفة هادئة ، فترجمها حضوراً فاعلاً دائماً ينشر المبادئ الحقّة والاُصول السامية بحرارة لن تبرد أبداً ، وما هذا التواجد الميليوني العظيم والانتشار الكبير لمعارف المدرسة الشيعيّة ، والنشاط الكبير طيلة العام ، إلاّ دليل واضح وحجّة قاطعة على أنّ دماء آل البيت (عليهم السلام) هي التي هزمت ولازالت تهزم سيف الضلال والعنف والتكفير.

تشرّفنا بزيارة الإمامين الجوادين (عليهما السلام) والدعاء والصلاة مرّتين ، الاُولى على عكس المسير المعروف ، والثانية طبق المسير المعهود. كنّا نأمل بالتزوّد من بركات المكوث أكثر لكنّ ازدحام البرنامج لم يمهلنا فرصة البقاء.

زرنا قبر الشيخ المفيد (قدس سره) وقرأنا الفاتحة ، ثم المسجد الصفوي (جامع الجوادين (عليهما السلام)) والتوسعة الجديدة للحرم الشريف.

كرّ الوافد راجعاً إلى حرم الجوادين (عليهما السلام) واستطعنا أداء مراسيم الزيارة ثالثةً والحمد لله.

في صالة استقبال الضيوف وأثناء صلاتي الظهر والعصر اُصيب الشيخ الأشعري بنوبة قلبيّة ، نقل على إثرها إلى المستشفى ، وبقي هناك تحت العلاج لثلاثة أيّام ، شافاه الله وعافاه.

١٧٣

مأدبة الغداء كانت في مضيف الإمامين الجوادين (عليهما السلام) ، مائدة مباركة وأكلٌ لذّ طعمه.

تفقّدنا بعدها مكتبة الجوادين (عليهما السلام) التي أسّسها السيّد هبة الدين الشهرستاني المتوفّى قبل حوالي خمسين عاماً ، فيها عدّة من المخطوطات والمطبوعات وبعض مختصّات السيّد (رحمه الله).

اشتركنا في مراسيم تبديل كادر الحرم الشريف ، وكانت رائعة ومؤثّرة.

توجّهنا عقيب ذلك إلى شبكة آل البيت (عليهم السلام) هناك ، حيث يديرها الحاج سعدون غفّاري ، والتي تقع في مكان جيّد من مدينة الكاظميّة ، لكنّها لم تكتمل بعد. مكثنا للاستراحة قليلاً.

بدأنا مسير العودة من حيث أتينا ، داهمنا الليل ، الكثير منّا كان مرهقاً إثر تراكم البرامج. حطّ رحلنا في مسجد الكوفة ، وما أدراك ما مسجد الكوفة ، عليٌّ والمحراب وليلة التاسع عشر من شهر الصيام وضربة المرادي اللعين ، مسجد الكوفة وهاتف السماء : «تهدّمت والله أركان الهدى ، انفصمت العروة الوثقى ، قُتل عليٌّ المرتضى ، قُتل أتقى الأتقياء ، قتله أشقى الأشقياء».

مسجد الكوفة وسفير الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل وما حلّ به من غدر وخيانة.

١٧٤

هذه وما سواها من الأحداث والمواقف والمحطّات تتراءى قبال ناظريك وأنت تيمّم شطر المسجد العتيد ، وبمجرّد الورود فيه تلمس الروحانيّة العجيبة التي يتحدّث بها الجميع ... لله أنت يا مسجد الكوفة ما بك من سرٍّ!! أهي أنفاس عليّ وأبناء عليّ وخلّص صحب عليّ ، أم هي كلماته ، آهاته ، ابتهالاته ، دموعه ... سرٌّ إلهي يتعسّر فهمه واستيعابه.

قال السيّد مازحاً : نحن معدان ، لا تلذّ الزيارة إلاّ بالوصول إلى ضريح مسلم بن عقيل ولثمه ، وهذا ما حصل.

زرنا قبر المختار بن عبيدالله الثقفي (رحمه الله) وحال بيننا وبينه جدار عازل لأجل التعمير والصيانة ، وهذا لم يمنعنا من أداء الاحترام لبطل مغوار أثلج قلوب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم بأخذه الثأر من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) واحداً تلو الآخر.

قصدنا محراب أميرالمؤمنين ، ثم قبر هاني بن عروة الصحابي الجليل الذي عاهد ووفى واستشهد رضوان الله تعالى عليه ذوداً عن الدين والحقّ.

كنّا ضيوف عتبة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ومسجد الكوفة على مائدة العشاء ، مائدة لم تقلّ أهمّيّتها بركةً ومحتوىً عن سابقتها في العتبة الكاظميّة.

١٧٥

اليوم الثالث

كربلاء المقدّسة

كلّنا يعلم أنّ صبيحة الأحد ستكون متمايزةً تماماً عن نظائرها ، إنّها صبيحةٌ نروم فيها الانطلاق إلى ديار الحبيب ، السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) ، إلى كربلاء الكرامة والعزّة والشرف الإنساني ، إلى حيث يرقد قمر بني هاشم أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) ، إلى الصحب الأبرار ، إلى كلّ شبر منها يعيد بنا عاشوراء بتسلسله الزماني لحظةً إثر لحظة ، بأحداثه الرهيبة الواحدة بعد الاُخرى ، إلى زينب الكبرى (عليها السلام) بصبرها وتدبيرها ورباطة جأشها وخطبها التي كانت وكأ نّها تفرض عن لسان أبيها أميرالمؤمنين (عليه السلام).

شوقٌ لا يوصف وأنفاسٌ تتسارع ، فضاءٌ لا تحلّق في رحابه سوى ذبذبات الوصال وترانيم الهيام إلى معقل الكرام.

سيّدي أبا عبدالله ، بالله عليك ، من أنت ، أيّ سرٍّ فيك مودع؟ قرون تجيء وتروح وألقُك يزداد ألقاً وحرارة حبّك لا تنطفئ أبداً .. سيّدي! لا غرو أنّ الذي أنطق العقيلة (عليها السلام) في تلك اللحظات العصيبة حيث قالت

١٧٦

رائعتها الشهيرة : «فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ...» هو ذاته الذي جعلك سرّاً أزليّاً.

تأخّرنا عن موعد الحركة ، حيث طال اللقاء الخاصّ الذي جمع السيّد الشهرستاني بالسيّد محمّد رضا السيستاني.

نقول : السيّد محمّد رضا رجلٌ فقيه مجتهد ، ذو صفات وكمالات رفيعة ، نقيّ السريرة ، طيّب الأصل ، ضليعٌ ملمٌّ بالقضايا السياسيّة وصاحب رأي فيها ، لولب بيت المرجعيّة في النجف الأشرف وقطبها الرئيس ومحورها الأساس.

لقاءٌ سيبدي لنا الغد فوائده وإيجابيّاته التي تصبّ في صالح الاُمّة والطائفة وعموم الناس أجمعين .. لقاءٌ امتاز بالشفّافيّة والصراحة والحوار الجادّ ـ كما صرّح السيّد الشهرستاني برؤوس أقلام كلّية ـ بما يتناسب وشأن المجتمعَين.

نعم ، لا يمكن بحث كلّ الاُمور في لقاء أو لقاءين ، إلاّ أنّ التواصل الدائم سيعمل على إتاحة الفرص الكافية لمناقشة وحلّ جميع المسائل والمشاكل العالقة والمستجدّة.

يقول السيّد الشهرستاني : أبدى السيّد محمّد رضا مزيداً من المودّة والمحبّة والاستعداد التامّ للتنسيق والتعاون ، كما اتّفقنا على التواصل المباشر.

١٧٧

دام اللقاء حوالي الساعتين.

انطلق الموكب المؤمّن بالمركبات الرسميّة باتّجاه كربلاء المقدّسة.

أربعة طرق محاذ بعضها البعض ـ ما عدا المحاور الثلاثة الرئيسيّة الاُخرى المؤدّية إلى كربلاء ، والطرق الخاصّة والخطّ السريع ـ كلّها امتلأت بالمشاة ، باستثناء طريق واحد مخصّص لمرور المركبات ، وهذا الطريق لم يخلُ أيضاً من السائرين إلى أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).

لا عينٌ رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر ببال أحد ، ولا المرويّ كالمرئي ، سيلٌ هادر وجموع ميلونيّة زاحفة نحو هدف ومراد واحد ... كلّ فرد أو مجموعة تعبّر عن ولائها وحبّها بشكل واُسلوب ولغة معيّنة ... كرمٌ وجودٌ وسخاءٌ لا مثيل له أبداً ، خدمات يعجز القلم واللسان والعين عن نعتها والإحاطة بها ، مواقف وصور ومشاهدات لا تغيب عن الذاكرة مطلقاً. كيف بك لا تتفاعل وأنت ترى باُمّ ناظريك وجوهاً علا عليها غبار الدرب لكنّها تشعّ نوراً وإصراراً على مواصلة المسير ، ماذا تريد هذه الجموع؟ إلى أين هي ذاهبة يا ترى؟ أفي كربلاء ذهبٌ وأموال توزّع بالمجّان؟ كلاّ وألف كلاّ ، إنّه العشق والولاء وإثبات الحضور بأجلى صوره وأسمى معانيه ، صرخة مدوّية تعلن انتصار قيم الحقّ على قيم الباطل.

١٧٨

سيّدي يا فرج الله :

أيُّ جرح هذا الذي ينزف نوراً وبهاءا؟

أيُّ قتيل هذا الذي طافت حوله القلوب والعقول سواءا؟

أيُّ نهج هذا الذي خطّه الحسين فكراً ومسارا؟

أيُّ صحبة اُولاء الذين بذلوا النفس هياماً ووفاءا؟

أيُّ عقيلة هذه التي أخرست المتغطرس المختالا؟

أيُّ سجّاد هذا الذي هزّ عروش البغي وأجاد حكمةً وبيانا؟

أيُّ طفٍّ هذا الذي يشمخ كلّ حين فيزداد ألَقاً وعنفوانا؟

أيُّ شهيد هذا الذي عجزت عن كشف سرّه الألبابا؟

قبل الوصول إلى كربلاء المشرّفة بخمسة كيلومترات كان حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ عبدالمهدي الكربلائي إمام جمعة كربلاء والأمين العام للعتبة الحسينيّة وجمعٌ معه باستقبال سماحة السيّد والوفد المرافق له.

من الالتفاتات الممتازة التي سهّلت على المشاة والزائرين معرفة المواقع والمسافات هو ترقيم أعمدة الكهرباء من أوّل مدينة النجف الأشرف حتى حرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، ومجموعها حوالي ١٤٦٧ عموداً ، ما بين عمود وآخر مسافة خمسين متراً.

١٧٩

عند العمود رقم ١٠٦٦ صلّينا صلاتي الظهر والعصر جماعةً خلف الشيخ عبدالمهدي الكربلائي ، في مجمّع الإمام المجتبى (عليه السلام). وقد أصرّ الشيخ كثيراً على سماحة السيّد بإمامة المصلّين الذين امتلأت بهم الصالة ، لكنّ السيّد رفض كعادته.

سرنا بعد ذلك برفقة محافظَي النجف وكربلاء حتى العمود ١١٠١ حيث مضيف العتبة العبّاسيّة ، هناك التقينا الشيخ المرحوم شاكر السماوي (أبا شيماء) ، وكان من بين الحضور آية الله الشيخ محمّد السند وآية الله السيّد عبدالمنعم الحكيم ، في صالة غصّت بالحضور.

تناولنا طعام الغداء في المضيف المذكور ، طعاماً طاب ولذّ.

استأنفنا الحركة بعد استراحة قصيرة إلى حيث مستشفى الإمام الحسين (عليه السلام) الواقع في حيّ الاُسرة ، أطراف كربلاء ، الساعة تشير إلى الثالثة عصراً ، لاحت أمام أعيننا القبّة والمنائر الذهبيّة لحرم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) ، لحظاتٌ لا تمحى من الذاكرة مطلقاً ، وحماسٌ منقطع النظير ، حينها ترجّلنا جميعاً لبدء المشي سيراً على الأقدام حتى الحرمين الشريفين. وكان المقرّر بدء المشي من مخازن الحبوب ، أي قبل هذه المسافة بحوالي الضعفين ، لكنّ الرأي تغيّر لأسباب أمنية حسب ما نُقل عن بعض الجهات المختصّة.

كنّا بلهفة لا توصف لبدء المسير مشياً على الأقدام ; إذ كيف بنا أن نأتي من مسافات نائية ولا نساهم في هذه الشعيرة المقدّسة؟! ولاسيّما

١٨٠