الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

والاستحباب انما هو في الاجتماع أو بمعنى أنها أفضل الأمرين الواجبين على التخيير ثم قال : وربما يقال بالوجوب المضيق حال الغيبة لأن قضية التعليلين ذلك فما الذي اقتضى سقوط الوجوب؟ إلا ان عمل الطائفة على عدم الوجوب العيني في سائر الأعصار والأمصار ، ونقل الفاضل فيه الإجماع. وبالغ بعضهم فنفى الشرعية أصلا ورأسا وهو ظاهر كلام المرتضى وصريح سلار وابن إدريس وهو القول الثاني من القولين بناء على ان اذن الامام شرط الصحة وهو مفقود. الى ان قال : وهذا القول متوجه وإلا لزم الوجوب العيني. انتهى ملخصا.

وبالجملة فإنهم مصرحون بان مقتضى الكتاب والسنة هو الوجوب العيني كما عرفت وانما صرفهم عنه الإجماع حيث انه أحد الأدلة الشرعية والجمع بينه وبين دليلي الكتاب والسنة يقتضي حمل الوجوب على الوجوب التخييري كما هو المشهور فيبقى الكلام معهم في هذا الإجماع وحجيته وقد عرفت مما حققناه آنفا ما يبطل التمسك به والاعتماد عليه.

ونزيده تأكيدا (أولا) ـ انه لا ريب ان هؤلاء المتأخرين إنما تلقوا هذا الإجماع من الشيخ والمرتضى اللذين هما أصل الخلاف في هذه المسألة ، وقد قدمنا لك ما في دعاويهم الإجماع في غير مقام من المجازفة والمساهلة سيما ما عدده شيخنا الشهيد الثاني في رسالته التي قدمنا ذكرها ، وحينئذ فهل يثق أحد ممن وقف على ذلك بالركون الى هذا الإجماع والخروج به عن صريح قول الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصريحين في الوجوب العيني بمزيد التأكيد والتشديد؟ ما هذه إلا جرأة تامة على الله ورسوله وأئمته صلى‌الله‌عليه‌وآله. والتستر بأن الإجماع المنقول بخبر الواحد مقبول لا يخفى ما فيه بعد ما عرفت.

و (ثانيا) ـ انه مع تسليم قبوله فهو لا يخرج عن أن يكون من قبيل خبر مرسل في الباب وهو مما لا يعارض به تلك الأدلة الصحيحة الصريحة من السنة والكتاب ، وتخصيصها به متوقف على كونه في الصحة والصراحة مثلها ليجب الجمع بينه وبينها

٤٢١

وإلا فهو مما يرمى به جزافا كما هو المقرر في قواعدهم فإنهم لا يجمعون بين الدليلين إلا مع التكافؤ في الصحة والصراحة وإلا فتراهم يطرحون المرجوح. وهذا بحمد الله سبحانه واضح للمنصف غاية الوضوح.

و (ثالثا) ـ ما عرفته في ما تقدم من اتفاق كلمات جملة من علمائنا الاعلام على تعذر الإجماع في زمن الغيبة لما وجهوه به من الوجوه النيرة الظاهرة التي لا يتطرق المنع إليها إلا بطريق المكابرة.

وجملة منهم قد تمحلوا لتصحيح هذا الإجماع المدعى في المقام فاصطنعوا له دليلا ليجدوا اليه سبيلا ، فقالوا ـ كما تقدمهم فيه العامة العمياء (١) وكم قد تبعوهم في أمثال هذه الظلماء ـ ان الاجتماع لما كان مظنة النزاع ومثار الفتن والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف فالواجب قصر الأمر في ذلك على الإمام بأن يكون هو المباشر لهذه الصلاة أو الاذن فيها وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الخلفاء كانوا يعينون أئمة الجمعات.

قال المحقق في المعتبر : مسألة ـ السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوب الجمعة وهو قول علمائنا ، ثم نقل الخلاف فيه عن فقهاء العامة ، ثم قال والبحث في مقامين (أحدهما) في اشتراط الإمام أو نائبه والمصادمة مع الشافعي (٢) ومعتمدنا فعل النبي

__________________

(١) قال في بدائع الصنائع ج ١ ص ٢٦١ «شرط أداء الجمعة عندنا السلطان حتى لا تجوز إقامتها بدون حضرته أو حضرة نائبه خلافا للشافعي فلم يعتبر السلطان ، ولنا ان النبي (ص) شرط الإمام لإلحاق الوعيد بتارك الجمعة بقوله في الحديث عنه (ص) «وله امام عادل أو جائر» ولانه لو لم يشترط السلطان لأدى إلى الفتنة لأن هذه الصلاة تؤدى بجمع عظيم والتقدم على جميع أهل المصر يعد من باب الشرف والرفعة فيتسارع الى ذلك كل من جبل على علو الهمة والميل إلى الرئاسة فيقع بينهم التجاذب والتنازع فيؤدي ذلك الى التقاتل ففوض ذلك الى الوالي ليقوم به أو ينصب من رآه أهلا له فيمتنع غيره من الناس عن المنازعة لما يرى من طاعة الوالي أو خوفا من عقوبته».

(٢) بدائع الصنائع ج ١ ص ٢٦١ وفي المغني ج ٢ ص ٣٣٠ «اختلفت الرواية

٤٢٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه كان يعين لإمامة الجمعة وكذا الخلفاء بعده كما يعين للقضاء ، فكما لا يصح للإنسان أن ينصب نفسه قاضيا من دون اذن الامام فكذا إمام الجمعة. وليس هذا قياسا بل استدلالا بالعمل المستمر في الأعصار فمخالفته خرق للإجماع. ثم أيده برواية محمد ابن مسلم (١) قال : «لا تجب الجمعة على أقل من سبعة : الامام وقاضيه ومدعى حقا ومدعى عليه وشاهدان ومن يضرب الحدود بين يدي الإمام». ثم قال : المقام الثاني ـ اشتراط عدالة السلطان وهو انفراد الأصحاب خلافا للباقين (٢) وموضع النظر ان الاجتماع مظنة النزاع ومثار الفتن غالبا والحكمة موجبة لحسم مادة الهرج وقطع نائرة الاختلاف ولن يستمر إلا مع السلطان. ثم المعنى الذي باعتباره توقفت نيابة إمامة الجمعة على اذن الامام يوجب عدالته إذ الفاسق يسرع الى بواعث طبعه ومرامي أهويته لا الى مواقع المصلحة فلا يتحقق حسم مادة الهرج على الوجه الصواب ما لم يكن العادل. ولان الفاسق لا يكون اماما فلا يكون له أهلية الاستنابة (لا يقال) لو لزم ما ذكرتم لما انعقدت الجمعة ندبا مع عدمه لانسحاب العلة في الموضعين وقد أجزتم ذلك إذا أمكنت الخطبة ، لأنا نجيب بان الندب لا تتوفر الدواعي على اعتماده فلا يحصل الاجتماع المستلزم للفتن إلا نادرا. الى آخر كلامه (زيد في مقامه) ونحوه كلام العلامة في التذكرة فإنه يحذو حذوه غالبا في كتبه ولا سيما المنتهى والتذكرة.

وجملة من أصحاب هذا القول أيدوا ذلك بما تقدم (٣) من حديثي زرارة

__________________

في شرط اذن الامام والصحيح لا يشترط اذن الامام وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور والثانية هو شرط روى ذلك عن الحسن والأوزاعي وحبيب بن ثابت وابى حنيفة» وفي البحر الرائق لابن نخيم الحنفي ج ٢ ص ١٤٤ «وشرطها السلطان العادل والجائر والمتغلب».

(١) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) المغني ج ٢ ص ١٨٩ والبحر الرائق ج ٢ ص ١٤٤ وبدائع الصنائع ج ١ ص ٢٦١.

(٣) ص ٤١١ و ٤١٢.

٤٢٣

وعبد الملك الدال أولهما على قوله «حثنا أبو عبد الله عليه‌السلام. الى آخره». وثانيهما على قوله عليه‌السلام «مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها الله». باعتبار ان ظاهر الخبرين يشعر بان الرجلين كانا متهاونين بالجمعة مع انهما من أجلاء الأصحاب وفقهاء أصحابهما (عليهما‌السلام) ولم يقع منهما إنكار بليغ عليهما بل حثاهما على فعلها فدل ذلك على ان الوجوب ليس عينيا وإلا لانكرا عليهما بتركها كمال الإنكار ، نعم يستفاد من حثهما وقوله عليه‌السلام «فريضة فرضها الله» وجوبها في الجملة فيحمل على التخييري (١) أقول ـ وبالله سبحانه الاستعانة والتوفيق إلى هداية سواء الطريق وازالة شبه التعويق ـ : لا يخفى ما في هذا الكلام من انحلال الزمام واختلال النظام بعد ما عرفت في المقام ولكن لا مندوحة عن بيان ما فيه مما يكشف عن فساد باطنه وخافية وذلك من وجوه :

(الأول) ـ ما ادعاه من الإجماع على اشتراط السلطان العادل أو نائبه في وجوب الجمعة فإن فيه (أولا) ما عرفت من الطعن في الإجماع وعدم تحققه في زمن الغيبة ولا سيما بعد وجود المخالف كما تقدم ، ولا ريب ان هذا الاشتراط مذهب المخالفين كالحنفية وغيرهم (٢) وأصحابنا قد تبعوهم فيه كما تبعوهم في حجية الإجماع والاعتماد عليه ونحو ذلك مما استحسنوه من أصولهم فلا اعتداد به ولا سيما في مقابلة الأخبار التي قدمناها بل لو فرضنا وجود خبر بهذا الشرط لوجب حمله على التقية لما عرفت ، بل لقائل أن يقول لو قلبت هذه الدعوى بان يدعى الإجماع على الوجوب العيني لكان وجها إذ لا كلام في الوجوب زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ان مات بغير نسخ ومقتضى الأصل والاستصحاب والأدلة الشرعية بقاؤه ، أما الأولان فظاهران. واما الثالث فللخبر المسلم (٣) «حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة». ووجوب التأسي به في ما علم جهة وجوبه معلوم. ومجرد

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ٣ ص ٤١١ ليتضح لك المطلب المذكور تماما.

(٢) ارجع الى التعليقة ٢ ص ٤٢٢.

(٣) ارجع الى التعليقة ١ ص ٤٠٣.

٤٢٤

احتمال أن يكون الوجوب مقيدا بشرط حاصل بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وغير حاصل بالنسبة إلينا يتوقف على إثباته بالدليل القاطع ، ولقوله عليه‌السلام (١) «إياك أن تنقض اليقين بالشك». وما تقدم (٢) في حديث ابى عمرو الزبيري من قول الصادق عليه‌السلام «لان حكم الله في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون ، والأولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل عنه الأولون ويحاسبون كما يحاسبون به».

ويعضد ذلك ويؤكده ويعلى منارة ويشيده ما قدمنا الإشارة إليه من ان الوجوب العيني مذهب قدماء أصحابنا بالتقريب الذي ذكرناه ذيل الأخبار المتقدمة. واما الشيخ (قدس‌سره) فان كلامه في كتبه في هذه المسألة لا يخلو من اضطراب وهو الى القول بالوجوب العيني في زمن الغيبة أقرب منه الى الوجوب التخييري الذي ادعوه عليه كما لا يخفى على من راجع كلامه في الخلاف والمبسوط والنهاية ، ولم يظهر هذا القول صريحا إلا من المحقق والعلامة والشهيد في غير الذكرى واما من تأخر عن شيخنا زين الملة والحق والدين بعد تصنيفه هذه الرسالة فإنهم كلهم إلا الشاذ النادر على القول بالوجوب العيني كما أسلفنا لك نقل كلام جملة من مشاهيرهم فينحصر الخلاف هنا في المحقق والعلامة والشهيد ، وقد قرروا ان مخالفة معلوم النسب غير قادح ، ولهذا ان شيخنا المشار اليه (قدس‌سره) في الرسالة لم يذكر القول بالتخيير في جملة أقوال المسألة التي عدها وتعرض لنقضها إيذانا بشذوذه وضعفه وإنما أشار إليه في ضمن بعض المباحث :

فقال : واعلم انه قد ظهر من كلام بعض المتأخرين أن الوجوب العيني

__________________

(١) لم نقف في اخبار الاستصحاب على لفظ «إياك» وإنما الوارد في مضمرة زرارة الأولى «ولا ينقض اليقين ابدا بالشك». وفي الثانية «فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك». وقد تقدمتا ج ١ ص ١٤٣ وج ٥ ص ٤٢٧.

(٢) ص ٤٠٣.

٤٢٥

منتف في هذه الصلاة حال الغيبة وإنما يبقى الجواز بالمعنى الأعم ، والمراد منه استحبابها بمعنى كونها أفضل الفردين الواجبين تخييرا اعنى الجمعة والظهر لا انه ينوي الاستحباب لان ذلك منتف عنها على كل حال بإجماع المسلمين بل إما تجتمع شرائطها فتجب أو تنتفي فتسقط ، وقد عرفت أيضا ان هذا الحكم وهو وجوبها تخييرا وان كان أفضل الفردين لا دليل عليه إلا ما ادعوه من الإجماع ولم يدعه منهم صريحا سوى ما ظهر من عبارة التذكرة ودونها في الدلالة عبارة الشهيد في الذكرى ، فإنه قال فيها : إذا عرفت ذلك فقد قال الفاضلان يسقط وجوب الجمعة حال الغيبة ولا يسقط الاستحباب ، وظاهرهما انه لو اتى بها كانت واجبة مجزية عن الظهر. الى قوله ونقل الفاضل فيه الإجماع ـ وقد تقدمت العبارة المذكورة كملا ـ ثم قال : وفي هذه العبارة مع ما اشتملت عليه من المبالغة إشعار بعدم ظهور الإجماع عنده ومن ثم نسبه الى الفاضل ، وقد عرفت مما حكيناه من عبارات المتقدمين ما يقدح في الإجماع وعمل الطائفة معا ، ولعله أشار بقوله : «وربما قيل بالوجوب المضيق» الى ذلك. والظاهر ان عمل الطائفة لا يتم إلا في المتأخرين منهم أو من بعضهم لا من الطائفة مطلقا لما سمعت من كلام المتقدمين الذين هم عمدة فقهاء الطائفة. وما اقتصرت على من ذكرت لخصوصية قولهم في ذلك بل لعدم وقوفي على مصنفاتهم ولا على باقي مصنفات من ذكرت ، وفي وجود ما نقلته في ما حضرني من ذلك دليل بين على أن ذلك من الأحكام المقررة عندهم المفروغ عنها لأن أحدا منهم لم ينقل في ذلك خلافا فكيف يتم للمتأخرين الحكم بخلافه؟ ولا يخفى عليك ان مجرد عمل الطائفة على هذا الوجه لا يكون حجة ولا قريبا منها خصوصا مع دلالة الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة على خلاف ذلك فكيف مع انحصار القول في قليل منهم؟ والقدح في ذلك بمعلومية نسب المخالف مشترك الإلزام ان لم يكن في جانب المخالف أرجح لما عرفت من ان القائل بالوجوب العيني أكثر من القائل بالتخييري مع اشتراكهما في الوصف (١).

__________________

(١) لا يخفى ان عمل الطائفة في مثل هذه المسألة يكشف بنحو القطع عن مطابقته

٤٢٦

انتهى كلامه زيد مقامه. وهو صريح في ما قلناه وواضح في ما ادعيناه.

__________________

للحكم الشرعي ، إذ لازم المخالفة بينهما هو خفاء الحكم على الطائفة وهو ـ في مثل هذه المسألة التي تعم بها البلوى وفي هذه الفريضة المعظمة التي إقامتها من أعظم شعائر الدين مع كثرة ما ورد فيها من الآية والأخبار الواضحة الدلالة ـ كما ادعوا ـ والتأكيدات والتشديدات ـ مستحيل عادة كما يظهر ذلك جليا بالرجوع إلى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ ، وقد تقدم عن الشهيد (قدس‌سره) ص ٤١٥ ان عمل الطائفة على عدم الوجوب العيني في سائر الأعصار والأمصار. وصرح الشهيد الثاني (قدس‌سره) بذلك في رسالته ص ٦٠ حيث قال ـ في الجواب عن استئناس بعض الأصحاب للوجوب التخييري بظاهر روايتي زرارة وعبد الملك ـ والذي يظهر لي ان السر في تهاون الجماعة بصلاة الجمعة ما عهد من قاعدة مذهبهم لأنهم لا يقتدون بالمخالف ولا بالفاسق والجمعة انما تقع في الأغلب من أئمة المخالفين ونوابهم. الى ان قال فكانوا يتهاونون بها لهذا الوجه ، ولما كانت الجمعة من أعظم فرائض الله تعالى وأجلها ما رضى الامام (ع) لهم بتركها مطلقا فلذلك حثهم على فعلها حيث يتمكنون منها. وعلى هذا الوجه استمر حالها مع أصحابنا الى هذا الزمان فأهمل لذلك الوجوب العيني وأثبت التخييري لوجه نرجو من الله تعالى ان يعذرهم فيه وآل الحال منه الى تركها رأسا في أكثر الأوقات ومعظم الأصقاع مع إمكان إقامتها على وجهها. وما كان حق هذه الفريضة المعظم ان يبلغ بها هذا المقدار من التهاون بمجرد هذا العذر الذي يمكن رفعه في كثير من بلاد الايمان سيما هذا الزمان. انتهى. فهو (قدس‌سره) يصرح بأن السيرة مستمرة من زمن الأئمة (ع) الى زمانه على ترك الجمعة ، وقد تقدم في كلام الفقيه السبزواري (قدس‌سره) ص ٣٩١ ما هو صريح في ذلك ايضا ، فاستمرار السيرة العملية على ترك الجمعة ـ من زمن الأئمة «ع» الى زماننا هذا في جميع بلاد الشيعة إلا في بعض الأزمنة والأمكنة على وجه الندور ـ غير قابل للإنكار. ولا يخفى ان ما صرح به الشهيد الثاني «قدس‌سره» من استمرار السيرة على الترك يناقض ما أفاده في كلامه المنقول في المتن من انحصار القائل بالوجوب التخييري في قليل من المتأخرين إلا ان يلتزم بما لا يمكن ان يلتزم به أحد من الإمامية وهو ان معظم فقهاء الإمامية كانوا يرون الوجوب التعييني وأطبقوا على مخالفة فتاويهم واستمروا على ترك هذه الفريضة المعظمة من دون

٤٢٧

(الثاني) ـ ما استندوا اليه من قولهم : ان الاجتماع مظنة النزاع والفتن. والجواب عنه ما افاده شيخنا الشهيد الثاني في الرسالة حيث قال (قدس‌سره) ونعم ما قال : وبقي من استدلاله ان الاجتماع مظنة النزاع الذي لا يندفع إلا بالإمام العادل أو من نصبه. وهذا بالإعراض عنه حقيق بل ينبغي رفعه من البين وستره فان اجتماع المسلمين على طاعة الله تعالى لو توقف على حضور الامام العادل وما في معناه لما قام للإسلام نظام ولا ارتفع له مقام ، ولا ارتاب مريب من الاجتماع في سائر الصلوات وحضور الخلق عرفات وغيرها من القربات وبها شرف مقامهم وتضاعف ثوابهم ولم يختل نظامهم ، بل وجدنا الخلل حال وجوده وحضوره أكثر والاختلاف أزيد كما لا يخفى على من وقف على سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام في زمن خلافته وحاله مع الناس أجمعين وحال غيره من أئمة الضلال وانتظام الأمر وقلة الخلاف والشقاق في زمنهم. وبالجملة فالحكمة الباعثة على الإمام أمر آخر وراء مجرد الاجتماع في حال الصلاة وغيرها من الطاعات. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما في الركون الى هذه التعليلات الواهية ـ في مقابلة ما قدمناه من الآية الشريفة والأخبار المنيفة ودفعها عن ما دلت عليه بهذه الترهات وتزييفها بهذه الخرافات ـ من المجازفة في أحكام الملك العلام ، ولو تم ما ذكروه للزم ترك سائر الاجتماعات والجماعات في سائر الفرائض اليومية وغيرها من الصلوات كالاجتماع لصلاة العيدين والاستسقاء والكسوفين والجنائز وأفعال الحج كالوقوفين ـ كما تقدم في كلام شيخنا ـ وأفعال منى.

وما اعتذر به في المعتبر ـ من أن وجوب الاجتماع مظنة ذلك دون الجواز إذ لا تتوفر الدواعي على الحضور الجائز توفرها على الحضور الواجب ـ مما لا يسمن

__________________

مسوغ. وبذلك تعرف ما في كلام المحدث الكاشاني المتقدم ص ٣٩١ و ٣٩٢ من نسبة القول بالوجوب التخييري إلى طائفة من متأخري الأصحاب ، وقد نسبه المصنف «قدس‌سره» الى المشهور ص ٤٠٨ و ٤٢٠ و ٤٢١ ولكنه سينفى الشهرة عنه في ما سيأتي من كلامه بعد الوجه الخامس.

٤٢٨

ولا يغني من جوع ، لأنا نرى بالفعل في جميع الأوقات التي مرت بنا وبمن تقدمنا في زمن الغيبة ما وقع من الاجتماع في هذه الفرائض المعدودة والكثرة مثل ما في الاجتماع الواجب للجمعة مع انه لم يترتب عليه مفسدة ولا ضرر وليس العيان كالخبر. على ان الأخبار المتقدمة المصرحة بوجوب الجمعة قد دلت على اشتراط الوجوب بعدم خوف ضرر أو حدوث فتنة كما يرشد اليه قولهم (عليهم‌السلام) «ولم يخافوا» (١) ومعه فلا جواز فضلا عن الوجوب. على انا نقول مجرد حصول النزاع على شي‌ء لا يقتضي عدم شرعيته فإنه أمر ينشأ من فعل المكلفين من غير ان يكون لأصل الحكم الشرعي مدخل فيه ، ولو كان الأمر كما ذكروا لبطل كثير من الأحكام التي هي أعظم من ما نحن فيه بل ما أخضر للإسلام عود ولا استقام له عمود ثم انه لا يخفى عليك ان المحقق المذكور ونحوه قد تبعوا في ذلك علماء العامة ، قال بعض محققي متأخري المتأخرين من مشايخنا الأخباريين بعد نسبة اشتراط حصول الإمام أو نائبه الى ابى حنيفة واتباعه من المخالفين القائلين بهذا الاشتراط ما سوى الحسن البصري والأوزاعي وحبيب بن ابى ثابت بل محمد بن الحسن أيضا واحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه (٢) : وعمدة مستندهم ان الاجتماع مظنة النزاع ومثار الفتن والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف ولن يستمر إلا مع السلطان (٣). انتهى. وهو كما ترى عين ما قدمنا نقله عنهم (رضوان الله عليهم).

(الثالث) ـ ما ذكروه من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء من بعده كانوا يعينون أئمة للجمعات.

وفيه (أولا) ـ انه منقوض بالوجوب التخييري الذي ذهبوا إليه إذ لا فرق بين الوجوبين في ذلك فكيف أثبتوه في أحدهما ونفوه في الآخر؟

و (ثانيا) ـ بالنقض بإمامة الجماعة والأذان فإنهم كانوا يعينون لأمثال ذلك أيضا فيلزم بمقتضى ما ذكروه سقوطهما زمن الغيبة.

__________________

(١) ص ٤١٣.

(٢) المغني ج ٢ ص ٣٣٠.

(٣) ارجع الى التعليقة ١ و ٢ ص ٤٢٢.

٤٢٩

و (ثالثا) ـ بالقضاء كما اعترفوا به فيلزم سقوطه وعدم مشروعيته في زمن الغيبة مطلقا ويلزم تعطيل الأحكام ، فان أجيب بأنه قد ورد عنهم (عليهم‌السلام) الاذن بالقضاء بقولهم (١) «انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما. الحديث». ونحوه غيره ، قلنا قد ورد أيضا في ما قدمناه من الأخبار (٢) ما يدل على انه إذا كان قوم في قرية ولهم من يخطب جمعوا أى صلوا الجمعة. وفي آخر (٣) «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة». ونحو ذلك مما تقدم.

و (رابعا) ـ مع تسليم اطراده في جميع الأمة نمنع دلالته على الشرطية بل هو أعم منها والعام لا يدل على الخاص.

قال بعض مشايخنا المحققين : والظاهر ان التعيين إنما هو لحسم مادة النزاع في هذه المرتبة ورد الناس الى منصوبه من غير تردد واعتمادهم على تقليده بغير ريبة كما انهم كانوا يعينون لإمامة الجماعة والأذان مع عدم توقفهما على اذن الامام إجماعا. وأيضا فإن حسن الأدب يقتضي ان يرجع القوم في مهمات أمورهم إلى رأي سيدهم وإمامهم إذا كان فيهم بل غير هذا لا يكون ، ولا يلزم من ذلك تعطيل الأمور وتركها رأسا إذا لم يوجد فيهم الإمام إلا إذا علم ان لوجوده واذنه مدخلا ودون ثبوته في ما نحن فيه خرط القتاد. انتهى.

أقول : ويؤيده رواية حماد عن الصادق عن أبيه عن على (عليهم‌السلام) (٤) قال «إذا قدم الخليفة مصرا من الأمصار جمع بالناس ليس لأحد ذلك غيره». فإنه يدل بالمفهوم على جواز تجميع غير الإمام إذا لم يكن هو شاهدا وتقديمه من حيث كونه

__________________

(١) في مقبولة عمر بن حنظلة المروية في الوسائل بالتقطيع في الباب ١ و ٩ و ١١ و ١٢ من صفات القاضي وتقدم ما يتعلق بالترجيح منها ج ١ ص ٩١.

(٢ و ٣) ص ٤١٠.

(٤) الوسائل الباب ٢٠ من صلاة الجمعة وآدابها.

٤٣٠

اماما ظاهرا. ونحن لا ننكر تقدم الإمام أو نائبه إذا وجد أحدهما وإنما نمنع سقوط التقديم عند عدم حضور أحدهما. على انك قد عرفت ان أصل هذا الاشتراط إنما هو من العامة تبعهم فيه من تبعهم توهما أنه مذهبنا ، وأخبارنا وكلام قدمائنا كما عرفت خال من ذلك.

(الرابع) ـ ما ذكره من رواية محمد بن مسلم (١) فقد أجاب عنه شيخنا الشهيد الثاني في الرسالة بوجوه نذكر المعتمد منها ملخصا :

(أحدها) ـ الطعن في سند الرواية بان في طريقها الحكم بن مسكين وهو مجهول وما هذا شأنه يرد الحديث لأجله ، وشهرته بين الأصحاب على وجه العمل بمضمونه بحيث يجبر ضعفه ممنوعة فإن مدلوله لا يقول به الأكثر.

و (ثانيها) ـ ان الخبر متروك الظاهر لان مقتضى الظاهر ان الجمعة لا تنعقد إلا باجتماع هؤلاء ، واجتماعهم جميعا ليس بشرط إجماعا وإنما الخلاف في حضور أحدهم وهو الامام ، فما يدل عليه الخبر لا يقول به أحد وما استدل به منه لا يدل عليه بخصوصه (فان قيل) حضور غيره خرج بالإجماع فيكون هو المخصص لمدلول الخبر فتبقى دلالته على ما لم يجمع عليه باقية (قلنا) يكفي في إطراحه وتهافته مع ضعفه مخالفة أكثر مدلوله لإجماع المسلمين وما الذي يضطر معه الى العمل ببعضه مع هذه الحالة العجيبة.

و (ثالثها) ـ ان مدلوله من حيث العدد وهو السبعة متروك ايضا ومعارض بالأخبار الصحيحة الدالة على اعتبار الخمسة خاصة (٢) وما ذكر فيه السبعة غير هذا فإنه نفى فيه وجوبها عن أقل من سبعة.

و (رابعها) ـ انه مع تقدير سلامته من هذه القوادح يمكن حمله على حالة إمكان حضور الإمام واما مع تعذره فيسقط اعتباره جمعا بين الأدلة. ويؤيده

__________________

(١) ص ٤٢٣.

(٢) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة ، وقد تقدم بعضها ص ٤١٠ و ٤١٣.

٤٣١

إطلاق الوجوب فيه الدال بظاهره على الوجوب العيني المشروط عند من اعتبر هذا الحديث بحالة الحضور ، واما حالة الغيبة فلا يطلقون على حكم الصلاة اسم الوجوب بل الاستحباب بناء على ذهابهم الى الوجوب التخييري مع كون الجمعة أفضل الفردين الواجبين تخييرا.

و (خامسها) ـ حمل العدد في الخبر المذكور على اعتبار حضور قوم من المكلفين بها بعدد المذكورين اعنى حضور سبعة وان لم يكونوا عين المذكورين نظرا الى فساد حمله على ظاهره من اعتبار أعيان المذكورين لإجماع المسلمين على عدم اعتباره. وقد نبه على هذا التأويل شيخنا المتقدم السعيد أبو عبد الله المفيد في كتاب الاشراف فقال : وعددهم في عدد الامام والشاهدين والمشهود عليه والمتولي لإقامة الحدود

أقول : قد تقدم ذلك في عبارته المنقولة من الكتاب المذكور ، وهذا الوجه عندي أقرب الوجوه في معنى الخبر فإنهم (عليهم‌السلام) كثيرا ما يأتون بمثل ذلك في قالب التعليل تقريبا للأذهان ، والغرض هنا بيان علية السبعة في الوجوب دون ما زاد وما نقص فعلله عليه‌السلام بان الامام بحسب العادة والطريقة المستمرة لا يخلو من هؤلاء من حيث ترافع الناس اليه واقامة الحدود بين يديه فلا بد من هذه السبعة فجعل في الجمعة هذا العدد لذلك.

ثم ذكر وجها سادسا وهو لا يخلو من تكلف وغموض والغرض منه تكثير الجواب فلم نتعرض لنقله.

ثم قال : و (سابعها) ـ ان العمل بظاهر الخبر يقتضي أن لا يقوم نائبه مقامه وهو خلاف إجماع المسلمين.

و (ثامنها) ـ انه معارض بما رواه محمد بن مسلم ـ راوي هذا الحديث ـ في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن أناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال نعم يصلون أربعا إذا لم يكن من يخطب». ومفهوم الشرط

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من صلاة الجمعة وآدابها.

٤٣٢

انه إذا كان فيهم من يخطب يصلون الجمعة ركعتين ، وهي عامة في من يمكنه الخطبة الشامل لمنصوب الامام وغيره ، ومفهوم الشرط حجة عند المحققين ، وإذا تعارضت رواية الرجل الواحد سقط الاستدلال فكيف مع حصول الترجيح لهذا الجانب بصحة طريقه وموافقته لغيره من الأخبار الصحيحة وغير ذلك؟ انتهى ملخصا

أقول : و (تاسعها) ما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين من ارادة التمثيل دون التخصيص ، وحذف المضاف خصوصا لفظ «مثل» كثير.

و (عاشرها) ما ذكره من ان تخصيصهم بالذكر ليس لاختصاص مطلق الوجوب بهم لما مر بل لاختصاص الوجوب المطلق بهم بمعنى ان عند اجتماع هذه السبعة يكون وجوب الجمعة وجوبا مطلقا لا يتوقف على شرط آخر لتحقق جميع شرائط الوجوب وارتفاع جميع موانعه حتى الخوف عند اجتماعهم ، فان وجود من هو معد للقضاء وآخر يضرب الحدود من جهته عليه‌السلام عند ثبوته لأحد المتداعيين على الآخر بالشاهدين يقتضي بسطه اليد وانتفاء الخوف بخلاف ما لو اجتمعت سبعة سواهم وان كان المعصوم أحدهم فإنه يجامع الخوف فلا يتحقق الوجوب إذ هو مشروط بفقده.

وقد يزاد هذا الجواب إيضاحا وتقريرا بان يقال : لا ريب انه ليس المراد حصر متعلق الوجوب في السبعة بمعنى السقوط عن غيرهم بل ان اجتماع هذه السبعة بأعيانها سبب لتعلق الوجوب المطلق بكل واحد منهم وبغيرهم ممن تعلق به الخطاب بوجوب الجمعة ، فليس تخصيص السبعة المعينة بالذكر إلا بيانا لسبب الوجوب المطلق لا حصرا لمتعلق الوجوب فيها ، ف «على» للسببية. فتأمل فإنه من غوامض الأسرار وعرائس الأفكار.

و (حادي عشرها) ما ذكره أيضا من انه بتقدير تسليم ان ذكر أعيان السبعة لبيان متعلق الوجوب دون سببه ـ مع ما قد عرفت من وضوح فساده ـ لا يدل على انتفاء الوجوب عند انتفائها إلا من حيث المفهوم ، وهو ـ بعد تسليم انه مفهوم

٤٣٣

وصف وانه حجة وان الخبر صحيح ـ واجب الطرح عند معارضة ما هو أقوى منه من مناطيق الكتاب والسنة وعموماتها. انتهى. وهو جيد نفيس.

(الخامس) ما اعتضد به جملة منهم من خبري زرارة وعبد الملك بالتقريب المتقدم في كلامهم ، فان فيه انه لا ريب ان ذلك الزمان الذي كانا فيه زمان تقية وخوف وكانت الشيعة لا يتمكنون من اقامة الجمعة منفردين عن المخالفين لاشتراطها باذن الخليفة ، وامام ذلك الوقت والأئمة المنصوبون لها كانوا من المخالفين المنصوبين من أئمة الضلال ، وهم لا يجوزون الاقتداء بهم وانما يصلون يوم الجمعة وغيره في بيوتهم ثم يخرجون الى جماعتهم ويصلون معهم تقية يجعلونها نافلة أو يصلون معهم ويقرأون لأنفسهم فيصيرون منفردين ، وربما صلوا الجمعة معهم بهذه الكيفية ثم صلوا على أثرها ركعتين كما فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام في صلاته خلف اللصوص الثلاثة وهذا هو السبب في تركهم الجمعة يومئذ. وهذه احدى الشبه الباعثة لمتأخرى أصحابنا على القول بالتخيير في هذه الفريضة فإنهم ظنوا ان ترك أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) لها زمانا وصلاتها زمانا آخر إنما كان لذلك ، وليس الأمر كما زعموه بل ان السر في ذلك هو ما ذكرناه ، وكأنه لما كان في ذلك الوقت الذي صدر منهما (عليهما‌السلام) ما ذكر في هذين الخبرين كانت سورة التقية أهون وهو زمن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) لم يرضوا للشيعة بتركها بل حثوهم على فعلها سرا في بيوتهم ولم يرضوا لهم بترك هذه الفريضة الجليلة وإهمالها مع إمكان الإتيان بها على الوجه المذكور (١).

وملخص الكلام في هذا المقام ان العمدة في ثبوت هذا القول هو الإجماع المدعى على اشتراط الإمام أو نائبه في هذه الفريضة كما سمعته من كلام شيخنا المجلسي المتقدم ذكره وقوله فيه : لو لم يكن الإجماع المدعى فيها لم يكن لأحد مجال شك

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ والتعليقة ٣ ص ٤١١ والتعليقة ١ ص ٤٢٦ لتتجلى لك الحقيقة.

٤٣٤

في وجوبها على الأعيان في جميع الأحيان والأزمان. إلى آخر ما قدمنا ذكره. وأنت قد عرفت ما في ثبوت الإجماع وان دونه خرط القتاد وخصوصا في هذه المسألة كما هو ظاهر لمن وفق للسداد والرشاد ، ولهذا ان جملة من أفاضل المتأخرين عن عصر شيخنا الشهيد الثاني إلا الشاذ النادر ممن لا يعبأ به ولا يعد قوله في أقوال العلماء المشهورين كلهم على القول بالوجوب العيني كما أسلفنا لك نقل أسماء جملة ممن حضرنا كلامهم وأطلعنا على مذهبهم. واما من أخذته العصبية للقول بالتخيير الذي ظن بزعمه انه المشهور ـ مع ان الأمر بالعكس (١) كما عرفت مما قدمناه في هذه السطور ، لما اعتراه في ذهنه من الفتور والقصور فحاد عن هذا القول المؤيد المنصور بالآيات والروايات الساطعة الظهور ـ فهو أقصى نصيبه في المقام وغاية حظه من الافهام. ويا عجبا انهم يستندون الى الآيات القرآنية في جملة من الأحكام مع انه ليس فيها ما هو أظهر دلالة ولا أوضح مقالة من آية الجمعة (٢) المشتملة على مزيد التأكيد والحث الشديد ويستندون في الأحكام الى خبر أو خبرين من الأخبار ولو بالإطلاق أو العموم كما هو مسلم بينهم ومعلوم ، ويقابلون هذه الأخبار الواضحة الظهور كالنور على الطور بما عرفت من التمحلات البعيدة والتأويلات الغير السديدة ، مع انه لم يخرج في حكم مسألة من مسائل الفقه ما خرج عنهم (عليهم‌السلام) في هذه المسألة من الأخبار البالغة في الاشتهار والانتشار والتهديد والتشديد والحث الأكيد إلى حد لا يقبل الإنكار ، إلا انها (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٣) ولله در من قال :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ونار لو نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد(٤)

__________________

(١) قد وصف القول بالتخيير بالشهرة في ما تقدم من كلامه ص ٤٠٨ و ٤٢٠ و ٤٢١.

(٢) سورة الجمعة الآية ٩.

(٣) سورة الحج الآية ٤٥ «فَإِنَّها لا تَعْمَى ...».

(٤) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ والتعليقة ٣ ص ٤١١ والتعليقة ١ ص ٤٢٦ لتتجلى لك الحقيقة ويهون عليك التهويل.

٤٣٥

(الثالث) ـ من الأقوال في المسألة المذكورة القول بالتحريم في زمن الغيبة ، وهذا القول صريح ابن إدريس وسلار وظاهر المرتضى في أجوبة المسائل الميافارقيات والعلامة في المنتهى وجهاد التحرير والشهيد في الذكرى ، وهؤلاء الثلاثة في غير هذه الكتب المذكورة قد وافقوا أصحاب القول بالتخيير. وأنت خبير بان من عدا الأولين فإن كلامهم في المسألة صار متعارضا فيصير من قبيل ما قيل : تعارضا تساقطا. واما نقل القول به عن الشيخ في الخلاف فهو ليس بصحيح كما لا يخفى على من راجع العبارة المذكورة. واما نقله عن ابى الصلاح فقد بينا آنفا فساده.

ولنذكر في هذا المقام جملة ما وصل إلينا من أدلة أصحاب هذا القول مما ذكره ابن إدريس وغيره وهي ثلاثة :

(الأول) ـ ان وجوب الظهر ثابت بيقين ولا يعدل عنه إلا بيقين مثله فلا تقابله وتزيله صلاة مشكوك فيها ، لان اليقين لا ينقضه الشك ابدا للإجماع ولما رواه زرارة في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام (١) «ليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك ابدا».

والجواب ـ والله الهادي إلى جادة الصواب ـ ان نقول (أولا) ـ انه ان أراد بالظهر الثابت وجوبها بيقين الفريضة الواجبة عند الظهيرة مقدمة على غيرها ليكون يقينية وجوبها شاملا لجميع الأحوال والأوضاع فيكون متناولا لموضع النزاع ، فنحن قائلون به ولكن لا يجديه نفعا إذ هي بهذا المعنى شاملة لذات الركعتين المفروضتين قبل ان تسن الزيادة وبعدها مع الخطبتين وبدونهما ولذات الأربع ، وتيقن وجوب مفهوم كلى لا ينقض تيقن وجوب جزئي خاص منه إلا بدليل خارج ، والثابت وجوبه بيقين في موضع النزاع ذلك المفهوم الكلى ، والمشكوك فيه خصوصية أحد الفردين : الأربع بدون الخطبة أم الاثنتين معها ، وهما سيان في تعلق الشك بهما ، فأين العدول عن اليقين الى الشك واين نقضه به؟ إذ تيقن وجوب ذلك المفهوم لا ينقضه الشك في أن ذلك الوجوب المحقق بأي الفردين على الخصوص

__________________

(١) الوسائل الباب ٤١ و ٤٤ من النجاسات.

٤٣٦

يتعلق أو انه بأي الفردين يتحقق. وان أراد بالظهر الثابتة بيقين ذات الأربع أو مقصورتها بلا تعويض الخطبتين ، ففيه انه ان أراد عموم وجوبها بالنسبة الى جميع المكلفين في جميع الأزمان فهو أوضح واضح في البطلان ، إذ عينية الركعتين بالخطبتين على بعض المكلفين في بعض الأزمان وتحريم فعل الأربع حينئذ على ذلك البعض في ذلك البعض غنى عن البيان في المقام إذ هو من ضروريات دين الإسلام ، وان أراد أن يقين وجوبها ثابت في الجملة فلا يجديه نفعا إذ يقين وجوب الجمعة ثابت كذلك. وان أراد ان وجوب الظهر ثابت في يوم الجمعة باعتبار تناول عموم وجوب خمس فرائض كل يوم إحداها الظهر ففيه ـ بعد تسليم اختصاص الظهر بما هو قسيم للركعتين ذات الخطبتين لا ما يعمهما ـ انه أول المسألة ومحل البحث وهل الكلام والنزاع إلا في ذلك؟ وتناول عمومات وجوب الجمعة في يومها لموضع النزاع أقوى والعمل به أظهر وأولى. وان أراد معنى آخر غير ما ذكرنا فلا بد من بيانه حتى ننظر فيه.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره من الدليل مقلوب عليه في المقام بالنظر الى أصل مشروعية الصلاة وما ورد في ذلك عنهم (عليهم‌السلام) فان الثابت بأصل الشرع إنما هو ركعتان على جميع الناس في جميع الأزمان مقرونة بالخطبتين في يوم الجمعة. ثم زيد فيهما حضرا في غير يوم الجمعة وبقي يوم الجمعة والسفر على ما كان عليه الأمر سابقا والذي يفصح عن ذلك

ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) في حديث طويل قال فيه : «وقال تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢) وهي صلاة الظهر وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي وسط النهار ووسط صلاتين بالنهار : صلاة الغداة وصلاة العصر ، وفي بعض القراءة «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين».

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أعداد الفرائض.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٣٩.

٤٣٧

قال : ونزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفر فقنت فيها وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين ، وانما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام».

والتقريب فيها ان قوله عليه‌السلام «وتركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على حالها في السفر والحضر» مع قوله : «وأضاف للمقيم ركعتين» صريح في بقاء يوم الجمعة على حكم الركعتين وتساوى حالها في الحالين لان ضمير «تركها» راجع الى صلاة الجمعة المدلول عليها بسياق الكلام وان اختلاف الحالين باعتبار اضافة الركعتين للمقيم إنما هو في غيرها ، إلا انه لما كان مقتضى ذلك نفى الأربع فيها مطلقا حتى بالنسبة الى من لم يصل الجمعة ذات الخطبتين لفقد شرائطها أو لتعمد تفويتها استدرك عليه‌السلام بما هو كالتخصيص فقال «وانما وضعت الركعتان. الى قوله كصلاة الظهر في سائر الأيام» وفي ذلك إشارة الى ان صلاة الظهر كما تطلق على الأربع في سائر الأيام كذا تطلق على الركعتين مع الخطبتين في يوم الجمعة وإلا لم يكن للتشبيه معنى.

ونحوه في ذلك ـ وان كان ليس فيه من مزيد البيان ما في الخبر المتقدم ـ ما رواه ثقة الإسلام في الحسن عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام (١) قال : «عشر ركعات : ركعتان من الظهر وركعتان من العصر وركعتا الصبح وركعتا المغرب وركعتا العشاء الآخرة. الى أن قال وهي الصلاة التي فرضها الله تعالى على المؤمنين في القرآن وفوض الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. الى ان قال فزاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة المقيم غير المسافر ركعتين في الظهر والعصر والعشاء الآخرة وركعة في المغرب للمقيم والمسافر». ونحوها غيرها.

الثاني ـ ان شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من نصبه لها إجماعا وفي حال الغيبة الشرط منتف فينتفى المشروط.

والجواب منع هذا الشرط مطلقا ولو مع حضور الامام كما تقدم بيانه ، والإجماع

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من أعداد الفرائض.

٤٣٨

قد عرفت ما فيه. وما اعتمدوه في تقريب هذا الإجماع والدلالة عليه ـ من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء من بعده وانه مع عدمه يكون موجبا للفتنة والاختلاف ـ فقد عرفت ما فيه أيضا في ما تقدم مشروحا مبرهنا بما لا يحوم حوله للمتأمل الطالب للحق شك ولا شبهة.

ونزيده بيانا وتأكيدا فنقول (أولا) ـ انه على تقدير إمكان انعقاد مثل هذا الإجماع فلا بد من نقله مسلسلا من زمان الانعقاد الى زمان النزاع ولو آحاد ان اكتفينا به وليس فليس ، فلم يبق إلا إجماع منقول بخبر واحد مرسل ، فان نقلة هذا الإجماع كابن إدريس والمقداد وغيرهما ليس أحد منهم ممن عاين سيرة الأئمة (عليهم‌السلام) فكيف يمكن نقلها فضلا عن انها مجمع عليها بدون واسطة بل لا بد من وسائط معلومة تنتهي الى من عاين تلك السيرة ، وليس لناقل هذا الإجماع دليل يلجأ اليه ولا مستمسك يعتمد عليه سوى ما عرفت من دعوى ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء الراشدين بعده كانوا يباشرون هذه الصلاة أو يعينون لها من يقوم بها كما عرفت ، مع ان المباشرة والتعيين الثابتين أعم من الواجبين بالأصالة أو بالعارض ولو باعتبار مصلحة مدنية والندبين والمختلفين ، ولا دلالة للعام على الخاص ولو دل لدل تعيين المؤذنين وأئمة الجماعات وسقاة الحج وقابضى مفاتيح الكعبة وامارة الحجيج ونحو ذلك على الوجوب ، وشي‌ء من ذلك ليس بواجب إلا لعروض عارض مدني ؛ وبالجملة فإنه إنما يدل على رجحان عارض يختلف باختلاف المعين والمعين والزمان والمكان والسكان لا رجحان أصلي شرعي لا يختلف باختلافها فأين دلالته على الوجوب الشرعي المدعى؟

ثم من العجب العجاب عند ذوي البصائر والألباب والدعوى التي هي أبعد شي‌ء من الصواب ادعاء الإجماع على سنة من سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل على سيرة من سيره لم يخرج عن مستودعي سره وخازني علمه أهل بيت العصمة والطهارة فيها نبأ من الإنباء الآحادية يدل على ثبوتها ولو دلالة إيماء واشارة ، هذا والصوارف عن نقلها

٤٣٩

من جهة التقية ـ حيث كان مقتضاها أشبه بمذهب أبي حنيفة (١) ـ مصروفة والبواعث عليها ـ لشدة الحاجة الى الحكم المبنى عليه ـ بالتحقيق معروفة ، أو ما علموا انه ليس لسره وسريرته وسنته مظهر سوى ما ظهر منهم (عليهم‌السلام) من الآثار؟ أو ما سمعوا مناديهم ينادى ان لا شي‌ء من الحق والصواب في أيدي الناس إلا ما برز من وراء تلك الحجب والأستار؟

قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين : ولعل تعيين من يباشر صلاة الجمعة كان من جملة المحدثات التي أحدثها من كان بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدعهم التي لم يجر عليها قلم التغيير أو آراء أبي حنيفة التي بنيت أكثرها على الاستحسان وملائمة طباع سلاطين الوقت والمنصوبين من قبلهم من قاض أو أمير ثم عمت البلية فسرى الاشتباه الى هذه الفرقة الناجية وانقدح في بعض الأذهان حيث كان منسوبا إلى سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصادف قلوبا عن التحلي بحلية ما هو الحق الواقعي خالية كما قيل «وصادف قلبا خاليا فتمكنا» وانضاف الى ذلك عموم التقية المقتضية لعدم مباشرتهم (عليهم‌السلام) وشيعتهم تلك الوظيفة إلا سرا ولزوم حضورهم جمعة أهل الخلاف وجماعاتهم وحثهم عليها نهيا وامرا. ولعل الله ان يجعل هذه الشبهة في حق من ذهب الى الإبداع أو التخيير علة وعذرا (٢). انتهى كلامه زيد مقامه. وهو جيد نفيس مؤيد لما قلناه مؤكد لما سطرناه.

و (ثانيا) ـ ما أجاب به شيخنا زين المحققين في الرسالة من انه على تقدير تسليمه لا يلزم منه تحريم فعلها حال الغيبة مطلقا كما زعمه هذا القائل ، فإن الفقهاء نواب الامام على العموم لقول الصادق (٣) «انظروا الى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما. الحديث». وغيره مما في معناه. وجعله حاكما من قبله عليه‌السلام على العموم

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ١ و ٢ ص ٤٢٢.

(٢) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ والتعليقة ٣ ص ٤١١ والتعليقة ١ ص ٤٢٦ ليتضح لك الحق.

(٣) ارجع الى التعليقة ١ ص ٤٣٠.

٤٤٠