الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

المتنازع فيه ويلزم منه عدم الوجوب عند عدم الشرط المذكور مطلقا لعدم القائل بالفصل.

(قلنا) إذا حصلت المعارضة بين منطوق الكلام ومفهومه فدلالة المفهوم مطرحة باتفاق المحققين كما حقق في محله ، على ان التعليق بالأذان إنما خرج مخرج الغالب ويعتبر في دلالة المفهوم ان لا يكون للتعليق فائدة سوى انتفاء الجزاء بانتفاء شرطه والأمر هنا بناء على ما ذكرنا ليس كذلك.

قال شيخنا زين الملة والدين في رسالته الموضوعة في المسألة : (لا يقال) الأمر بالسعي في الآية معلق على النداء لها وهو الأذان لا مطلقا والمشروط عدم عند عدم شرطه فيلزم عدم الأمر بها على تقدير عدم الأذان. سلمنا لكن الأمر بالسعي إليها مغاير للأمر بفعلها ضرورة انهما غير ان فلا يدل على المدعى. سلمنا لكن المحققين على ان الأمر لا يدل على التكرار فيحصل الامتثال بفعلها مرة واحدة (لأنا نقول) إذا ثبت بالأمر أصل الوجوب حصل المطلوب لإجماع المسلمين قاطبة فضلا عن الأصحاب على ان الوجوب غير مقيد بالأذان وانما علقه على الأذان حثا على فعله لها حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها لذلك ، وكذا القول في تعليق الأمر بالسعي فإنه أمر مقدماتها على أبلغ وجه ، وإذا وجب السعى لها وجبت هي أيضا إذ لا يحسن الأمر بالسعي إليها وإيجابه مع عدم إيجابها ، ولإجماع المسلمين على عدم وجوبه بدونها ، كما أجمعوا على انها متى وجبت وجب تكرارها في كل وقت من أوقاتها على الوجه المقرر ما بقي التكليف بها كغيرها من الصلوات اليومية والعبادات الواجبة مع ورود الأوامر بها مطلقة كذلك ، والأوامر المطلقة وان لم تدل على التكرار لم تدل على الوحدة فيبقى إثبات التكرار حاصلا من خارج بالإجماع والنصوص ، وسنتلوا عليك ما يدل على التكرار صريحا. انتهى كلامه زيد مقامه.

قال شيخنا غواص بحار الأنوار في الكتاب المذكور ـ ونعم ما قال ـ بعد ذكر أصل الاعتراض الذي قدمنا ذكره : والجواب انه يلزم بصريح الآية الإيجاب متى

٤٠١

تحقق الأذان ويلزم منه الإيجاب مطلقا ، مع انا قد قدمنا ان الظاهر ان المراد دخول وقت النداء. واعترض عليه بوجوه سخيفة اخرى الاعراض عنها أحرى وبعضها يتضمن الاعتراض على الله تعالى ، إذ لا يترتب متتبع في ان الآية إنما نزلت لوجوب صلاة الجمعة والحث عليها فقصورها عن افادة المرام يؤول إلى الاعتراض على الملك العلام ، ويظهر الجواب عن بعضها مما قررناه سابقا في تفسير الآيات. ثم ان أمثال تلك الاعتراضات انما يحسن ممن لم يستدل في عمره بآية ولا خبر في حكم من الأحكام واما من كان دأبه الاستدلال بالظواهر والإيهامات على الأحكام الغريبة لا يليق به تلك المناقشات وهل توجد آية أو خبر لا يمكن المناقشة في الاستدلال به بأمثال ذلك؟ ومن العجب انهم يقولون ورد في الخبر ان الذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمكن أن يكون المراد به هنا السعي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعرفون ان الأخبار الواردة في تأويل الآيات وبطونها لا تنافي الاستدلال بظواهرها ، فقد ورد في كثير من الأخبار ان الصلاة رجل والزكاة رجل وان العدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والإحسان أمير المؤمنين عليه‌السلام والفحشاء والمنكر والبغي الثلاثة ، وأمثال ذلك أكثر من ان يحصى ، وشي‌ء منها لا ينافي العمل بظواهرها والاستدلال بها ، وقد حققنا معانيها وأشبعنا الكلام فيها في تضاعيف هذا الكتاب والله الموفق للصواب. انتهى كلامه (رفع مقامه) وهو جيد رشيق وسيأتي في كلامنا ان شاء الله ما يؤيده من التحقيق.

الثالث ـ ان الخطاب انما يتوجه الى الموجودين عند المحققين ولا يشمل من سيوجد إلا بدليل من خارج وليس إلا الإجماع وهو لا يجري في موضع الخلاف.

والجواب ان التحقيق ـ كما ذكره غير واحد من المحققين ـ ان الخطاب يتوجه الى المعدومين بتبعية الموجودين إذا كان في اللفظ ما يدل على العموم كهذه الآية وقد حقق في محله. والإجماع على عدم اختصاص الأحكام بزمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتحقق على كل مسألة مسألة حتى يقال لا يجري في موضع الخلاف بل على هذا المفهوم الكلى مجملا وإلا فلا يمكن الاستدلال بالآيات والأخبار على شي‌ء من المسائل الخلافية إذا ورد بلفظ

٤٠٢

الخطاب وهذا سفسطة.

على ان التحقيق ان الأخبار المستفيضة دالة على عدم اختصاص أحكام السنة والكتاب بزمان دون زمان

وان حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة (١).

بل جملة منها دالة على ان الخطابات القرآنية شاملة للموجودين في أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمن يأتي بعدهم :

روى ثقة الإسلام في الكافي (٢) عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه حي يجري في من بقي كما جرى في من مضى».

وروى الصدوق في كتاب العلل عن الرضا عن أبيه (عليهما‌السلام) (٣) «ان رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال ان الله لم يجعله لزمان دون زمان وناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض الى يوم القيامة».

وروى في الكافي والتهذيب عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) حين سأله عن أحكام الجهاد وساق الخبر الى ان قال «فمن كان قد تمت فيه شرائط الله عزوجل التي وصف بها أهلها من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما اذن لهم لان حكم الله في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والأولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل الأولون ويحاسبون كما يحاسبون به. الحديث».

__________________

(١) الفصول المهمة للحر العاملي ص ٨٤ عن الكليني ، وفي أصول الكافي باب الشرائع وفي الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي عن الباقر «ع» عن النبي (ص) قال «حلالي حلال الى يوم القيامة وحرامي حرام الى يوم القيامة» ...

(٢) الأصول ج ١ ص ١٩٢ الطبع الحديث باب ان الأئمة هم الهداة.

(٣) رواه في العيون ص ٢٣٩ ونقله في البحار ج ١٩ باب «فضل القرآن واعجازه» عن العيون وتفسير العياشي ولم ينقله من العلل.

(٤) الوسائل الباب ٩ من جهاد العدو.

٤٠٣

وروى في الكافي (١) عن ضريس عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «ان الآية تنزل في الرجل ثم تكون في أتباعه. الحديث».

وهذه الأخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في المراد لا تعتريها شبهة النقض ولا الإيراد قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين في بعض تحقيقاته : اعلم أيدك الله تعالى انه يدل على وجوب الجمعة عينا مطلقا كتاب الله تعالى حيث أمر فيه المؤمنين بالسعي إلى ذكر الله وترك البيع بعد النداء للصلاة يوم الجمعة ، وهذا الأمر يعم جميعهم الى يوم القيامة على القول بان خطاب المشافهة يعم الكل ولا كلام فيه ، واما على القول بأنه يخص الموجودين زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا ريب ان حكمه لم ينسخ في زمنه فهو باق بشروطه الثابتة إلى آخر التكليف لا ناسخ له بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنع ثبوته هنا في بعض الأزمنة كزمان الغيبة للإجماع المنقول مما لا يليق ، فإن الإجماع المدعى انما هو على اشتراطه بشرط ولا كلام في انتفاء المشروط حيث انتفى الشرط ، انما الكلام في إثبات الاشتراط وهو على مدعيه وليس على المستدل إثبات العدم ويكفيه عدم وجدان دليله وأصالة العدم وهو واضح ، والأمر حقيقة في الوجوب على ما حقق. انتهى المراد من نقل كلامه زيد مقامه.

أقول : وبذلك يظهر لك ضعف ما ذهب اليه الفاضل المولى محمد باقر الخراساني في كتاب الذخيرة من جعل الآية المذكورة من المؤيدات لا من الأدلة لهذا الإيراد المذكور في المقام مع ما هو عليه كما عرفت من الانتقاض والانهدام ، حيث قال (قدس‌سره) في الكتاب المذكور بعد ذكر الروايات الدالة على ما اختاره من الوجوب العيني : ويؤيده قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...» (٢) ثم ساق الآية وساق الكلام في بيان دلالتها الى ان قال : وانما جعلنا الآية من المؤيدات دون الدلائل إذ لقائل ان ينازع في دلالة الآية ويقول المشهور بين المحققين ان الخطابات القرآنية لا تشمل غير الموجودين في زمن الخطاب وانما

__________________

(١) الأصول باب الشرك.

(٢) سورة الجمعة الآية ٩.

٤٠٤

يعلم شمولها للموجودين وغيرهم بدليل من خارج من الإجماع وغيره ، وعلى هذا فيجوز أن يكون الإيجاب بالنسبة إلى الموجودين في زمن الخطاب بناء على تحقق شرط الوجوب وهو الإمام الصالح لإمامة الجمعة ولا يلزم وجوبه بالنسبة الى غير الموجودين إيجابا مطلقا سواء تحقق الشرط أم لا ، نعم صلاحيتها للتأييد غير منكر كما لا يخفى على المتدبر. انتهى. إلا انه في رسالته التي له في المسألة أورد الآية دليلا وأجاب عن ما أورد عليها في المقام ولم يتعرض لهذا الإيراد. وكيف كان فقد عرفت انه لا ورود له.

الرابع ـ ان الأمر بها معلق على النداء لها والنداء لها يتوقف على الأمر بها للقطع بأنها لو لم تكن مشروعة لم يصح الأذان لها فيلزم الدور. وايضا الحكم معلق على الأذان لها وهو لا يشرع لها إلا إذا كانت مأمورا بها وتحقق ذلك بدون الشرط المتنازع فيه ممنوع

والجواب عن ذلك ما افاده شيخنا زين الملة والدين في الرسالة حيث قال : مقتضى الآية ان الأمر بالسعي معلق على مطلق النداء للصلاة الصالح لجميع افراده ، وخروج بعض الافراد بدليل خارج واشتراط بعض الشرائط فيه لا ينافي أصل الإطلاق ، وكل ما لا يدل دليل على خروجه فالآية متناولة له وبه يحصل المطلوب قال : ويمكن دفع الدور بوجه آخر وهو ان المعلق على النداء هو الأمر بها الدال على الوجوب والأذان غير متوقف على الوجوب بل على أصل المشروعية فيرجع الأمر الى ان الوجوب متوقف على الأذان والأذان متوقف على المشروعية والمشروعية أعم من الوجوب فلا دور. وأيضا فإن النداء المعلق عليه الأمر هو النداء للصلاة يوم الجمعة أعم من كونها أربع ركعات وهي الظهر المعهودة أو ركعتين وهي الجمعة ولا شبهة في مشروعية النداء للصلاة يوم الجمعة مطلقا وحيث ينادى لها يجب السعي إلى ذكر الله وهي صلاة الجمعة أو سماع خطبتها المقتضى لوجوبها وكأنه تعالى قال : إذا نودي للصلاة عند زوال يوم الجمعة فصلوا الجمعة أو فاسعوا إلى صلاة الجمعة وصلوها. وهذا واضح الدلالة لا إشكال فيه. ولعل السر في قوله تعالى «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ»

٤٠٥

ولم يقل «فاسعوا إليها» لئلا يلزم الإشكال المتقدم. انتهى. ومنه يعلم الجواب عن وجهي الإيراد.

الخامس ـ ان مطلق النداء لها غير مراد في الأمر بالسعي عنده بل يحتمل ان يراد به نداء خاص وهو حال وجود الامام عليه‌السلام وقرينة الخصوص الأمر بالسعي الدال على الوجوب لأن الأصحاب لا يقولون به عينا حال الغيبة بل غايتهم القول بالوجوب التخييري ومن ثم عبر أكثرهم بالاستحباب أو الجواز حينئذ.

والجواب ما افاده شيخنا المتقدم ذكره في الرسالة ، قال : لأنا نقول لا شك ان النداء المأمور بالسعي معه مطلق شامل بإطلاقه لجميع الأزمان التي من جملتها زمان الغيبة فيدل بإطلاقه على الوجوب المضيق ، والوجوب التخييري الذي ادعاه متأخرو الأصحاب ستعرف ضعف مبناه ان شاء الله تعالى ولكن على تقدير تسليمه يمكن ان يقال ان الأمر بالسعي المقتضي للوجوب لا ينافيه لان الوجوب التخييري داخل في مطلق الوجوب الذي يدل عليه الأمر وفرد من أفراده ، فإن الأمر لا يدل على وجوب خاص بل على مطلقه الشامل للعيني المضيق والتخييري والكفائي وغيرها وان كان إطلاقه على الفرد الأول منها أظهر وتخصيص كل منها في مورده بدليل خارج عن أصل الأمر الدال على ماهية الوجوب الكلية كما لا يخفى.

السادس ـ ان الأمر بالسعي على تقدير النداء المذكور ليس عاما بحيث يشمل جميع المكلفين للإجماع على ان الوجوب مشروط بشرائط خاصة كالعدد والجماعة وغيرهما ، وإذا كان مشروطا بشرائط غير معينة في الآية كانت مجملة بالنسبة إلى الدلالة على الوجوب المتنازع فلا يثبت بها المطلوب.

والجواب ما افاده شيخنا المذكور (منحه الله بالقرب والحبور) قال : لأنا نقول مقتضى الأمر المذكور وإطلاقه يدل على وجوبها على كل مؤمن وتبقى دلالة باقي الشروط من خارج ، فكل شرط يدل عليه دليل صالح يثبت به ويكون مقيدا لهذا

٤٠٦

الأمر المطلق وما لا يدل عليه دليل صالح تبقى دلالة هذه الآية الكريمة على أصل الوجوب ثابتة مطلقا. انتهى.

أقول : والتحقيق ان هذه المناقشات في هذه الآية إنما حمل عليها التعصب للقول المشهور وإلا فأي آية من الآيات التي استدلوا بها في الأحكام بل والأخبار ايضا لا يتطرق إليها أمثال ذلك من الاحتمالات البعيدة والتمحلات السخيفة العديدة؟ ولو قامت هذه الاحتمالات في مقابلة الظواهر لانسد باب الاستدلال إذ لا قول إلا وللقائل فيه مجال ، فكيف تقوم الحجة لهم على مخالفيهم في الإمامة بل وأصحاب الملل والأديان إذا قابلوهم بالاحتمالات في ما يستدلون به من الآيات والأخبار ونحوها؟ مع ان الناظر المنصف إذا تأمل الآية المذكورة وما قرنت به في هذه السورة من أولها إلى آخرها لا تخفى عليه دلالة الآية على ما قلناه ، وهل المناقش بهذه المناقشات الواهية إلا متعرض للرد على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ إذ من المعلوم ضرورة من الدين وجوب هذه الفريضة المعظمة ولو في الجملة ، ومن المعلوم بين الخاصة والعامة ان هذه الآية إنما نزلت في الأمر بها والحث عليها منه تعالى ، والراد لدلالة الآية راد عليه تعالى وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما لا يخفى (١) ومن أراد الاطلاع على ما في السورة المذكورة من الإيماء والإشارة الى ما ذكرنا فليرجع الى ما فصله شيخنا غواص بحار الأنوار (نور الله مرقده) في الكتاب المذكور.

ثم ان مما يؤيد هذه الآية أيضا قوله عزوجل «لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» (٢) حيث فسر الذكر هنا أيضا بصلاة الجمعة كما نقله جمع من الأصحاب ، وقوله عزوجل «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» (٣) حيث ان الذي عليه المحققون ان الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر في غير يوم الجمعة وفي يوم الجمعة هي صلاة الجمعة لا غير ، وقد مر تحقيق ذلك في مقدمات هذا الكتاب في شرح صحيحة

__________________

(١) بالرجوع إلى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ يهون أمر هذا التهويل.

(٢) سورة المنافقين الآية ٩.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٣٩.

٤٠٧

زرارة الواردة بذلك (١) بل قال جماعة من الأصحاب انها هي الجمعة لا غير كما نقله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين عن الشهيد الثاني في بعض فوائده.

(المقام الثاني) ـ وهو الدليل الواضح الظهور بل الساطع النور الذي لا يعتريه نقص ولا قصور إلا عند من غطت على قلبه ولبه غشاوة العصبية للقول المشهور الأخبار المستفيضة الصحيحة الصريحة كالنور على الطور :

ومنها ـ صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام (٢) قال : «فرض الله على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة : منها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة : عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين».

أقول : لا يخفى ان غير الجمعة من هذه الفرائض المشار إليها مما لا خلاف ولا إشكال في وجوبها عينا من غير شرط زائد على ما قرر في الصلوات اليومية ، ونظم الجمعة فيها وعدها معها أظهر ظاهر في أنها مثلها في الوجوب العيني مع استكمال ما دلت عليه الاخبار واتفقت عليه علماؤنا الأبرار من الشرائط فيها. وادعاء الوجوب التخييري على بعض الوجوه موجب لتهافت الكلام واختلاف حكم الفرائض بغير مائز. وايضا لو كان وجوبها تخييريا على بعض الوجوه لاستثني ذلك الوجه كما استثنى المملوك والمسافر وغيرهما ، فان استثناء هؤلاء إنما هو من الوجوب العيني لا مطلق الوجوب لوجوبها عليهم لو حضروا وإنما لهم الخيرة في الحضور كما تقرر عندهم فالوجوب التخييري ثابت لهم فلا وجه لاستثنائهم دون شركائهم.

واما تخصيص الوجوب بزمان حضور الإمام عليه‌السلام فغير جائز (أما أولا) فلأنه خلاف الظاهر فيحتاج الى دليل واضح وليس فليس كما ظهر وسيظهر ان شاء الله تعالى تمام الظهور.

__________________

(١) ج ٦ ص ٢٠ و ٢١.

(٢) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

٤٠٨

و (اما ثانيا) فلأنه ان أريد بزمان حضوره زمان ظهوره على وجه الشوكة والسلطنة والاستيلاء كما نقل عن جماعة منهم التصريح به فاللازم حينئذ خروج أكثر الجمعات وأكثر الناس عن هذا الحكم لأن أيام ظهور الامام على وجه السلطنة والاستيلاء قليلة جدا بالنسبة إلى غيرها ، ويلزم منه خروج أكثر أفراد العام وهو غير جائز عند المحققين وسياق الخبر ظاهر في رده ، وهل يستقيم في الطباع السليمة تجويز أن يكون المعصوم عليه‌السلام في بيان الحكم الشرعي وافادته يبالغ في وجوب شي‌ء ويقول انه واجب على كل مسلم في كل أسبوع إلا جماعة خاصة ويقرنه بصلوات واجبة التكرار في اليوم والليلة ومع ذلك لا يثبت ذلك الحكم لأحد من أهل عصره ولا لمعظم المسلمين بل انما ثبت لقليل مضوا في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وزمان خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام وسوف يثبت في آخر الزمان بعد ظهور القائم عليه‌السلام ليس إلا؟ وان أريد بزمن الحضور ما هو أعم من السلطنة والاستيلاء فلا وجه للتخصيص المذكور ، إذ لا فرق بين حضوره مع الخوف وبين غيبته في عدم تمكنه من الصلاة بنفسه ولا بتعيين نائب عنه الذي هو مناط الوجوب العيني عند من نفاه في زمن الغيبة

ومنها ـ صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : «ان الله فرض في كل سبعة أيام خمسا وثلاثين صلاة : منها صلاة واجبة على كل مسلم ان يشهدها إلا خمسة : المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبي».

والتقريب في هذا الخبر كما في سابقه من المبالغة والتأكيد والإتيان بلفظ الفرض الدال على تأكد الوجوب كما في سابقه الصريح بلفظ «كل» الذي هو أوضح الألفاظ في العموم في الموضعين مع الاستثناء الموجب لزيادة التأكيد في العموم والشمول لسائر الأزمنة كالصلوات الأخر التي جمع بينها وبين الجمعة في الحكم ومنها ـ صحيحة زرارة (٢) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام على من تجب

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة وآدابها.

٤٠٩

الجمعة؟ قال تجب على سبعة نفر من المسلمين ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم».

قال بعض المحدثين من متأخري المتأخرين : وهذا نص في عدم اشتراط الإذن الذي ادعوه ، وان مرادهم بالإمام في مثل هذا الموضع امام الصلاة لا المعصوم عليه‌السلام فان سموا مثل هذا إذنا من الإمام واكتفوا به فهو ثابت الى يوم القيامة لكل من يصلح لان يخطب ويؤم.

ومنها ـ صحيحة منصور بن حازم عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا فان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم. والجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها إلا خمسة : المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي». قال بعض المحدثين «يجمع القوم» بتشديد الميم اى يصلون الجمعة.

ومنها ـ صحيحة عمر بن يزيد عنه عليه‌السلام (٢) «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة وليلبس البرد والعمامة ويتوكأ على قوس أو عصى وليقعد قعدة بين الخطبتين ويجهر بالقراءة ويقنت في الركعة الأولى منهما قبل الركوع».

ومنها ـ صحيحة الفضل بن عبد الملك (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات فان كان لهم من يخطب بهم جمعوا إذا كانوا خمسة نفر وإنما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».

أقول : وهذا نص أيضا في عدم اشتراط اذن الامام أو حضوره إلا ان يكتفوا بمثل هذا الإذن العام.

ومنها ـ صحيحة زرارة (٤) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام الجمعة واجبة على من ان صلى الغداة في أهله أدرك الجمعة وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انما يصلى العصر

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ و ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) الوسائل الباب ٦ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) الوسائل الباب ٢ و ٣ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٤) الوسائل الباب ٤ من صلاة الجمعة وآدابها.

٤١٠

في وقت الظهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجعوا الى رحالهم قبل الليل وذلك سنة الى يوم القيامة».

ومنها ـ صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام (١) قال : «من ترك الجمعة ثلاث جمع متوالية طبع الله على قلبه».

ومنها ـ صحيحة زرارة (٢) قال «حثنا أبو عبد الله عليه‌السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت انه يريد ان نأتيه فقلت نغدو عليك؟ فقال لا انما عنيت عندكم» (٣).

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة.

(٢) الوسائل الباب ٥ من صلاة الجمعة.

(٣) أورد الوحيد البهبهاني «قدس‌سره» في تعليقته على المدارك على عد المصنف هذه الصحيحة من أدلة الوجوب التعيني بما ملخصه : ان الاستدلال بها على مدعاه في غاية الغرابة لان الحث لا يدل على أزيد من الترغيب بل لا خفاء في ظهوره في الاستحباب ، أضف الى ذلك ان زرارة مع عدالته وجلالته وفقاهته كيف يروي عن الباقر «ع» في مرات متعددة ما يدل على وجوب الجمعة تعيينا ويكون شاملا له ويضبطه في أصله المشتهر بين الشيعة ويرويه الأجلة عنه ويدونونه في أصولهم ومع ذلك يتركها حتى يحتاج الى حث الصادق «ع» عليها ، وكيف يكتفى «ع» بالحث ولم ينفعه الإيجاب والتشديد والتأكيد المتعدد من الباقر «ع» وفظاعة عدم الإتيان بها وشناعته ، وكان المناسب ان يستفسر «ع» أولا عن سبب تركه فان اعتذر بوجه صحيح تركه على حاله وإلا بين خطأه فان لم يرتدع عن تركها أنكر عليه أشد الإنكار وهدده بأزيد مما صدر من الباقر «ع» وهو «ع» قد أنكر على حماد عدم إتيانه بالصلاة بحدودها تامة مع انها من المستحبات بقوله «ع» «ما أقبح بالرجل منكم.» بل كانوا ينكرون «ع» ترك مثل غسل الجمعة والنوافل اليومية ونحو ذلك فكيف بمثل هذه الفريضة من مثل هذا الجليل ولا سيما بعد إيجابات سابقة كثيرة أكيدة شديدة رواها هو بنفسه وكذا نظراؤه كابن مسلم وابى بصير وغيرهما من الأجلة ودونوها في أصولهم المشهورة ، على انهم كانوا دائما يقرأون القرآن وسورة الجمعة ويفهمون المعنى أحسن منا وكذا الأخبار الصادرة عن المعصومين «ع» ولا سيما ما رووه بأنفسهم وكان بإمكانهم الرجوع الى المعصوم (ع) في معرفة القيود والشروط. الى ان قال بعد كلام من هذا القبيل : ومما يدل بظاهره على عدم الوجوب عينا ما رواه الشيخ في

٤١١

ومنها ـ موثقة عبد الملك عن الباقر عليه‌السلام (١) قال «مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها الله؟ قال قلت كيف أصنع؟ قال صلوا جماعة يعني صلاة الجمعة».

ومنها ـ حسنة محمد بن مسلم بإبراهيم بن هاشم التي هي عندنا وعند جملة من المحققين من الصحيح على الاصطلاح الغير الصحيح (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجمعة فقال تجب على من كان منها على رأس فرسخين فان زاد على ذلك فليس عليه شي‌ء».

ومنها ـ حسنة محمد بن مسلم وزرارة ـ بإبراهيم الذي قد عرفت ان حديثه عندنا من الصحيح ـ عن ابى جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «تجب الجمعة على كل من كان منها على فرسخين».

ومنها ـ موثقة سماعة (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة يوم

__________________

مصباحه والصدوق في أماليه بسند صحيح انه «ع» قال : «انى أحب للرجل ان لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع ولو مرة ويصلى الجمعة ولو مرة». ثم قال : ويظهر منه «قدس‌سره» في المصباح ان مستند التخيير عندهم هو هذا الحديث ثم قال ما ملخصه : ويؤيده أيضا رواية عبد الملك فان المراد من الهلاك فيها الموت لا الوقوع في العذاب لان المناسب لذلك التعليل بترك الفريضة لا الإتيان بالواو الحالية ، والظاهر من الخبر ان ترك عبد الملك للجمعة لم يكن عصيانا بل من جهة انه لم يكن يدري ما يصنع حيث كان يعتقد انه لا يجوز ان تقام بغير المنصوب من قبل الإمام فأزال حيرته بقوله (ع) «صلوا جماعة» أي لا تتوقف إقامتها على المنصوب ، ولو كان تركه للتقية لم يكن لسؤاله مناسبة وكذا جوابه (ع) والمستفاد من الخبر ـ كما لا يخفى على المتأمل فيه ـ ان منشأ التوبيخ فيه هو عدم صدور الفريضة منه أصلا بحيث لو تحققت منه مرة لم يتوجه التوبيخ اليه ولو كان المراد الوجوب التعييني لكان المناسب أن يقول له كيف تترك فريضة الله في مدة عمرك مرة واحدة لا ان يقول له كيف ينقضي عمرك ولم تتحقق منك فريضة الله أصلا. إلى آخر كلامه في المقام ومن أراد الاطلاع عليه فليراجعه.

(١ و ٤) الوسائل الباب ٥ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٤ من صلاة الجمعة وآدابها.

٤١٢

الجمعة؟ فقال اما مع الإمام فركعتان واما من يصلى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر يعني إذا كان امام يخطب فان لم يكن امام يخطب فهي أربع ركعات وان صلوا جماعة».

ومنها ـ موثقة سماعة عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) انه قال : «صلاة الجمعة مع الامام ركعتان فمن صلى وحده فهي أربع ركعات».

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «سألته عن أناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال نعم يصلونها أربعا إذا لم يكن من يخطب».

ومنها ـ حسنة زرارة (٣) قال : «كان أبو جعفر عليه‌السلام يقول لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط : الإمام وأربعة».

ومنها ـ صحيحة زرارة برواية الفقيه (٤) قال : «قال زرارة قلت له على من تجب الجمعة؟ قال تجب على سبعة نفر من المسلمين ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم».

ومنها ـ ما نقله جمع من الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في رسالته والمحدث الكاشاني في الوافي (٥) وغيرهما من الأخبار المرسلة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «من ترك ثلاث جمع متعمدا من غير علة ختم الله على قلبه بخاتم النفاق».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) الوسائل الباب ٣ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٥) باب (وجوب صلاة الجمعة وشرائطها) والرسالة ص ٥٤ و ٥٥ و ٦١.

٤١٣

ثم ليكونن من الغافلين».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة طويلة حث فيها على صلاة الجمعة «ان الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتى وله امام عادل استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في امره ، ألا ولا صلاة له ألا ولا زكاة له ألا ولا حج له ألا ولا صوم له ألا ولا بر له حتى يتوب». قال في الوافي : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «وله امام عادل» ليس في بعض الروايات ، ورواه العامة هكذا «وله امام عادل أو فاجر» (١) انتهى.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «كتبت عليكم الجمعة فريضة واجبة إلى يوم القيامة».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «الجمعة واجبة على كل مسلم إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض».

ومنها ـ ما نقله شيخنا مفيد الطائفة (٢) قال : واعلم ان الرواية جاءت عن الصادقين (عليهم‌السلام) «ان الله جل جلاله فرض على عباده من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة لم يفرض فيها الاجتماع إلا في صلاة الجمعة خاصة فقال عز من قائل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)» (٣).

ومنها ـ صحيحة زرارة بن أعين عن ابى جعفر عليه‌السلام (٤) قال : «صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق». رواه الصدوق في كتاب المجالس (٥).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٣٤ باب (فرض الجمعة) وفيه هكذا «وله امام عادل أو جائر».

(٢) ص ٢٧.

(٣) سورة الجمعة الآية ٩.

(٤) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٥) ص ٢٩٠.

٤١٤

ومنها ـ ما رواه في كتاب ثواب الأعمال في الصحيح أو الموثق عن ابى بصير ومحمد بن مسلم (١) قالا «سمعنا أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من ترك الجمعة ثلاثا متوالية بغير علة طبع الله على قلبه».

ومنها ـ ما رواه في كتاب عقاب الأعمال في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام.».

أقول : فلينظر العاقل المنصف الى ما دلت عليه هذه الأخبار من الدلالة الصريحة الواضحة على وجوب هذه الفريضة المعظمة وجوبا عينيا من غير ما زعموه من الشرائط التي تمحلوها بمجرد آرائهم وعقولهم ، وهل ورد في مسألة من مسائل الفقه المسلمة بينهم مثل ما ورد في هذه المسألة من الأخبار؟ ولا معارض لها إلا ما يدعونه ويصولون به من الإجماع على نفى الوجوب العيني زمن الغيبة وقد عرفت آنفا ما فيه مما أوضح فساد باطنه وخافية ، وقصاراه مع تسليمه انه في قوة خبر مرسل ومن المقرر في كلامهم والمتفق عليه من قواعدهم انهم لا يجمعون بين الأدلة إلا مع التكافؤ في الصحة ، وهل يبلغ هذا الإجماع على تقدير ما ذكرنا إلى مقاومة خبر من هذه الأخبار فضلا عنها كلها حتى انه يجب تخصيصها به؟ ما هذا إلا قلة تأمل وانصاف بل عدم صيانة وعفاف وجرأة تامة على ترك هذه الفريضة الجليلة نعوذ بالله من زيغ الافهام وطغيان الأحلام وزلل أقدام الأقلام في أحكام الملك العلام (٣).

وممن اعترف بما قلناه من دلالة الأخبار المذكورة على الوجوب العيني شيخنا الشهيد في الذكرى إلا انه تعلل بان عمل الطائفة على عدم الوجوب العيني في سائر الأعصار والأمصار.

وفيه انك قد عرفت من كلام المشايخ الذين قدمنا نقل عبائرهم دلالة كلامهم

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ والتعليقة ٣ ص ٤١١ والتعليقة الآتية على كلام الشهيد الثاني.

٤١٥

على الوجوب العيني كالشيخ المفيد وثقة الإسلام والصدوق في كتبهم المتقدم ذكرها وغيرهم ما بين صريح في ذلك وظاهر ، والظاهر ان جملة المتقدمين وان لم يبلغ إلينا كلامهم كانوا كذلك فان هذا القول الذي ادعاه انما ثبت عن الشيخ والمرتضى ومن تأخر عنهما وإلا فمن تقدمهما لم يصرح بشي‌ء من ذلك ، ويوضح صحة ما قلناه ان جملة المتقدمين كانوا من أرباب النصوص الذين لا يعولون إلا عليها بالخصوص وليس لهذا الإجماع في هذه المسألة ولا في غيرها في كلامهم عين ولا أثر ، وكتبهم التي تشتمل على مذاهبهم انما تضمنت النصوص خاصة وفتاويهم فيها تعلم من تبويب الأبواب للنصوص التي ينقلونها كما عرفت من الصدوق وثقة الإسلام ، ونصوص هذه المسألة كما عرفت كلها دالة على الوجوب العيني ، ولعله لما ذكرنا نقل جملة من متأخري أصحابنا المتأخرين القائلين بالوجوب العيني عن القدماء هذا القول مع انه لم يوجد مصرح منهم بذلك إلا من قدمنا نقله عنه من المشايخ المتقدم ذكرهم وما ذكرناه واضح في صحة نسبة القول إليهم بذلك. وبالجملة فدعوى شيخنا المشار اليه اتفاق الطائفة على ما ذكره دعوى عارية عن البرهان يكذبها صريح العيان (١).

قال المحدث الكاشاني في كتاب الوافي ـ بعد نقل أخبار المسألة المذكورة في الكتب الأربعة ـ ما لفظه : لا يخفى دلالة هذه الأخبار المستفيضة على وجوب صلاة الجمعة على كل مسلم عدا من استثنى من غير شرط سوى ما ذكر كوجوب سائر الصلوات اليومية وجوب حتم وتعيين من غير تخيير في تركها ولا توقف على حضور معصوم أو اذن منه (صلوات الله عليه) وذلك لانه ليس في شي‌ء منها ذكر لشي‌ء من ذلك وأوامر الشارع إنما تكون شاملة للازمان والأشخاص إلا ما خرج بدليل خاص ، فما زعمته طائفة من متأخري أصحابنا من التخيير في هذه الصلاة في زمن غيبة الإمام أو عدم جواز فعلها حينئذ أو عدم جوازه مطلقا من دون اذن منه فلا وجه له ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة (٢).

__________________

(١ و ٢) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ والتعليقة ٣ ص ٤١١ والتعليقة الآتية على كلام الشهيد الثاني (قدس‌سره).

٤١٦

وقال شيخنا زين المحققين في الرسالة بعد نقل الآية وبعض ما قدمناه من الأخبار : فهذه الأخبار الصحيحة الطرق الواضحة الدلالة التي لا يشوبها شك ولا تحوم حولها شبهة من طرق أهل البيت (عليهم‌السلام) في الأمر بصلاة الجمعة والحث عليها وإيجابها على كل مسلم عدا من استثنى والتوعد على تركها بالطبع على القلب الذي هو علامة الكفر والعياذ بالله كما نبه عليه في كتابه العزيز. وتركنا ذكر غيرها من الأخبار الموثقة وغيرها حسما لمادة النزاع ودفعا لشبهة المعارضة في الطريق ، وليس في هذه الأخبار مع كثرتها تعرض لشرط الامام ولا من نصبه ولا لاعتبار حضوره في إيجاب هذه الفريضة المعظمة ، فكيف يسع المسلم الذي يخاف الله تعالى إذا سمع مواقع أمر الله ورسوله وأئمته (عليهم‌السلام) بهذه الفريضة وإيجابها على كل مسلم ان يقصر في أمرها ويهملها الى غيرها ويتعلل بخلاف بعض العلماء فيها؟ وأمر الله ورسوله وخاصته (عليهم‌السلام) أحق ومراعاته اولى «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١) ولعمري لقد أصابهم الأمر الأول فليرتقبوا الثاني ان لم يعف الله ويسامح نسأل الله العفو والرحمة. وقد تحصل بهذين الدليلين ان من كان مؤمنا فقد دخل تحت نداء الله وأمره في الآية الكريمة بهذه الفريضة العظيمة ونهيه عن الانتهاء عنها ، ومن كان مسلما فقد دخل تحت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقول الأئمة (عليهم‌السلام) انها واجبة على كل مسلم ، ومن كان عاقلا فقد دخل تحت تهديد قوله تعالى «(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) ـ يعنى الانتهاء عنها ـ (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)» (٢) وقولهم (عليهم‌السلام) «من تركها على ذلك الوجه طبع الله على قلبه». لان من موضوعة لمن يعقل ان لم تكن أعم ، فاختر لنفسك واحدة من هذه الثلاث وانتسب الى اسم من هذه الأسماء اعنى الإيمان أو الإسلام أو العقل وادخل تحت مقتضاه أو اختر قسما رابعا ان شئت. نعوذ بالله من قبح الزلة وسنة الغفلة (٣).

__________________

(١) سورة النور الآية ٦٣.

(٢) سورة المنافقين الآية ٩.

(٣) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ ففيها ما يتعلق بالمقام. وقال الوحيد البهبهاني

٤١٧

ثم انه اعترض على نفسه بأن دلالة هذه الأخبار مطلقة فلا ينافي تقييدها بشرط من دليل خارج.

وأجاب بأن مقتضى القواعد الأصولية وجوب إجرائها على إطلاقها والعمل على مدلولها الى ان يتحقق الدليل المقيد ، وسنبين ان شاء الله تعالى انه غير متحقق.

ثم اعترض على نفسه ثانيا بأنه يجوز استناد الوجوب في خبري حث زرارة وعتاب عبد الملك إلى إذن الإمامين (عليهما‌السلام) كما نبه عليه العلامة في النهاية بقوله : لما أذنا لزرارة وعبد الملك جاز لوجود المقتضى وهو اذن الإمام عليه‌السلام.

وأجاب بأن المعتبر عند القائل بهذا الشرط كون إمام الجمعة الإمام عليه‌السلام أو من نصبه وليس في الخبرين ان الإمام نصب أحد الرجلين إماما لصلاة الجمعة وإنما أمرهما

__________________

(قدس‌سره) في تعليقته على المدارك تعليقا على نقل المصنف عبارة رسالة جده : في هذه الرسالة ما لا يرضى المتأمل أن ينسب الى جاهل فضلا عن العاقل فضلا عن الفقيه فضلا عن الشهيد (قدس‌سره) فإنه ما كان يرضى ان ينسب الفسق الى المجاهر بالفسق فكيف يحكم بفسق علمائنا وفقهائنا العظام الزهاد الكرام الثقات العدول بلا كلام ، أمناء الله في الحلال والحرام والمروجين لحلالهم وحرامهم وحجج الله على الأنام بعد الأئمة ، المتكفلين لأيتامهم والمؤسسين لشرعهم وأحكامهم ، وعليهم المدار في الدين والمذهب في الأعصار والأمصار ، الراد عليهم كالراد على الله ، الى غير ذلك مما ورد عن الله تعالى ورسوله (ص) والأئمة (عليهم‌السلام) حيث قال بعد التوبيخ والتقريع والتشنيع والتفظيع : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ...» مع ان الجماعة الذين كانوا تاركين أكثرهم كان تركهم من جهة التقية ومنهم الشهيد الثاني ومن كان متمكنا منها أكثرهم كانوا يصلونها لكونها واجبة عندهم وان كان بالوجوب التخييري ومستحبة عندنا عينا ، ومن لا يصلى اما لانه كان يعتقد الحرمة فكيف يمكنه فعل الحرام وكيف يتأتى منه قصد القربة؟ فما ندري ان الشنيعة على اى جماعة وأى شخص؟. الى أن قال : وقيل انه كتبها في الطفولية وصغر السن. وحاشاه ثم حاشاه من هذه الشنائع والقبائح كيف وهو في جميع تأليفاته المعلومة أنها منه اختار عدم الوجوب العيني. إلى آخر كلامه وقد أطنب فيه ومن أراد الاطلاع عليه فليراجعه.

٤١٨

بصلاتها أعم من فعلهما لها إمامين أو مؤتمين وليس في الخبرين زيادة على غيرهما من الأوامر الواقعة بها من الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة (عليهم‌السلام) لسائر المكلفين ، فان كان هذا كافيا في الاذن فلتكن تلك الأوامر كافية ويكون كل مكلف جامع لشرائط الإمامة مأذونا فيها منهم أو كل مكلف مطلقا مأذونا فيها ولو بالائتمام بغيره كما يقتضيه الإطلاق ، إذ لا فرق في الشرع بين الأمر الخاص والعام من حيث العمل بمقتضاه. وايضا فامرهما (عليهما‌السلام) للرجلين ورد بطريق يشمل الرجلين وغيرهما من المكلفين أو من المؤمنين كقوله «صلوا جماعة». وقول زرارة «حثنا أبو عبد الله عليه‌السلام على صلاة الجمعة». وقوله «إنما عنيت عندكم». من غير فرق بين المخاطبين وغيرهما إلا في قوله عليه‌السلام «مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها الله». وذلك أمر خارج عن موضع الدلالة ، وعلى تقدير اختصاص المخاطبين فظاهر رواية زرارة انهم كانوا بحضرته عليه‌السلام جماعة ولم يعين أحدا منهم للإمامة ولا خصه بالأمر والحث. انتهى.

الثاني من الأقوال في المسألة القول بالوجوب التخييري ، والمراد به ـ كما تقدم في كلام المحدث الكاشاني (قدس‌سره) نقله عن بعض أصحاب هذا القول ـ ان للناس الخيار في إنشائها وجمع العدد لها وتعيين الامام لها فإذا فعلوا ذلك تعين على كل من اجتمعت له الشرائط حضورها والإتيان بها ويصير الوجوب حينئذ عينيا لا ان لآحاد الناس التخيير في حضورها وعدمه بعد اجتماع الامام والعدد المشترط معه. والظاهر ان البعض المصرح بما ذكر هو شيخنا الشهيد في كتاب نكت الإرشاد حيث صرح ـ بعد قول المصنف : وفي استحبابها حال الغيبة وإمكان الاجتماع قولان ـ بان الاستحباب انما هو في الاجتماع لها في الحالة المذكورة لا في إيقاع الجمعة فإنه مع الاجتماع يجب الإيقاع وتتحقق البدلية عن الظهر.

واستدلوا على هذا القول بأدلة أقواها وأمتنها بزعمهم ان الكتاب والسنة وان دلا على الوجوب العيني إلا انه يعارضهما الإجماع المدعى على اشتراط الإمام أو اذنه في الوجوب العيني ويرجع الى الإجماع على نفى الوجوب العيني زمان الغيبة.

٤١٩

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ حيث انه في أول الأمر قبل تسريح النظر وإمعان الفكر في أدلة المسألة من الجماعة القائلين بالقول المشهور ـ ما لفظه بعد الكلام في المسألة وذكر الآية وجملة من روايات المسألة : والدليل الدال على الوجوب أعم من الحتمي والتخييري ولما انتفى الحتمي في حال الغيبة بالإجماع تعين الحمل على التخييري ولولا الإجماع على عدم العيني لما كان لنا عنه عدول. انتهى.

وقال (قدس‌سره) في الروضة بعد الكلام في المسألة : ولو لا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب العيني لكان القول به في غاية القوة. انتهى.

وشيخنا الشهيد في الذكرى بسبب هذا الإجماع قد تخطى بعد اختياره القول المشهور الى القول بالتحريم في المسألة وتبع ابن إدريس حيث انه ان عمل بمقتضى الأدلة المذكورة فاللازم هو الوجوب العيني ، قال في الكتاب المذكور في تعداد شروط الوجوب : التاسع ـ اذن الامام كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأذن لأئمة الجمعات وأمير المؤمنين عليه‌السلام بعده وعليه إطباق الإمامية ، هذا مع حضور الامام واما مع غيبته كهذا الزمان ففي انعقادها قولان أصحهما وبه قال معظم الأصحاب الجواز إذا أمكن الاجتماع والخطبتان ، ويعلل بأمرين : أحدهما ـ ان الاذن حاصل من الأئمة الماضين (عليهم‌السلام) فهو كالاذن من امام الوقت ، واليه أشار الشيخ في الخلاف ، ويؤيده صحيح زرارة (١) قال : «حثنا أبو عبد الله عليه‌السلام. الحديث كما تقدم» ثم قال : ولان الفقهاء حال الغيبة يباشرون ما هو أعظم من ذلك بالاذن كالحكم والإفتاء فهذا اولى. والتعليل الثاني ان الاذن إنما يعتبر مع إمكانه اما مع عدمه فيسقط اعتباره ويبقى عموم القرآن والأخبار خاليا من المعارض ، وقد روى عمر بن يزيد. ثم ساق الرواية وقد تقدمت (٢) ثم نقل بعدها موثقة عبد الملك (٣) ثم قال : في اخبار كثيرة مطلقة والتعليلان حسنان والاعتماد على الثاني. ثم نقل عن الفاضلين سقوط وجوب الجمعة حال الغيبة وعدم سقوط الاستحباب ، قال وظاهرهما انه لو اتى بها كانت واجبة مجزية عن الظهر

__________________

(١) ص ٤١١.

(٢) ص ٤١٠.

(٣) ص ٤١٢.

٤٢٠