الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

بإمام الجماعة ، وليس في عبارات الأصحاب في هذا الباب اجلى ولا أوضح منها ، ويؤكد ذلك قوله في باب الجماعة من الكتاب المذكور : واولى الناس بها إمام الملة أو من نصبه فان تعذر الأمر ان لم تنعقد إلا بإمام عدل. الى آخره. ومنه يعلم ان حكم الجمعة والجماعة عنده أمر واحد.

ومراده بالوجوب العيني كما صرح به أخيرا في كتابه حيث قال بعد ذلك : وإذا تكاملت هذه الشروط انعقدت جمعة وانتقل فرض الظهر من أربع ركعات الى ركعتين بعد الخطبة ، وتعين فرض الحضور على كل رجل مسلم بالغ سليم مخلى السرب حاضر بينه وبينها فرسخان فما دونهما ويسقط فرضها عن من عداه فان حضرها تعين عليه فرض الدخول فيها جمعة.

ومن العجيب مع تصريحه بذلك في الكتاب المذكور ما اتفق لشيخنا الشهيد في البيان حيث انه نقل عنه القول بعدم شرعيتها في حال الغيبة كما ذهب اليه سلار وابن إدريس مع تصريحه كما سمعت بالوجوب العيني ، مع انه نقل عنه في كتاب نكت الإرشاد القول بالاستحباب الراجع الى الوجوب التخييري وكذا نقله عنه العلامة في المختلف ، وكل من النقلين كما ترى ليس في محله لما عرفت من تصريحه بالوجوب العيني.

الثالث ـ الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتابه المسمى بتهذيب المسترشدين قال ـ بعد ان ذكر جملة من أحكام الجمعة وان العدد المعتبر فيها خمسة ـ ما هذا لفظه : وإذا حضرت العدة التي يصح أن تنعقد بحضورها الجماعة يوم الجمعة وكان امامهم مرضيا متمكنا من اقامة الصلاة في وقتها وإيراد الخطبة على وجهها وكانوا حاضرين آمنين ذكورا بالغين كاملين العقول أصحاء وجبت عليهم فريضة الجمعة جماعة وكان على الامام ان يخطب بهم خطبتين ويصلى بهم بعدهما ركعتين. الى آخره. وهذه العبارة أيضا صريحة في الاكتفاء للجمعة بإمام مرضى للجماعة وهي لعمومها لحال الحضور والغيبة كعبارة المفيد في الإشراف.

٣٨١

الرابع ـ الشيخ عماد الدين الطبرسي في كتاب نهج العرفان إلى هداية الإيمان حيث قال بعد نقل الخلاف بين المسلمين في وجوب الجمعة : ان الإمامية أكثر إيجابا للجمعة من الجمهور ومع ذلك يشنعون عليهم بتركها حيث انهم لم يجوزوا الائتمام بالفاسق ومرتكب الكبائر والمخالف في العقيدة الصحيحة. وتقريب الدلالة فيها ـ على ما ذكره شيخنا زين الدين في رسالة الجمعة ـ ان العلة في ترك الشيعة الإمامية صلاة الجمعة والتهاون بها ما عهد من قاعدة مذهبهم انهم لا يقتدون بالمخالف ولا الفاسق والجمعة إنما تقع في الأغلب من أئمة المخالفين ونوابهم فكانوا متهاونين بها لهذا الوجه ، فتركهم الجمعة لهذه العلة لا لأمر آخر فلو كانوا يشترطون في وجوبها بل في جوازها مطلقا اذن الامام المفقود حال الغيبة أصلا أو أكثريا بالنسبة إلى الموضع الذي يحضر فيه النائب بل في زمان حضوره ايضا لعدم تمكنه غالبا من نصب الأئمة لها حينئذ أيضا ولا مباشرتها بنفسه لما تصور العاقل ان الإمامية أكثر إيجابا لها من العامة ، لأن ذلك معلوم البطلان ضرورة وإنما يكونون أكثر إيجابا من حيث انهم لا يشترطون فيها المصر كما يقوله الحنفي ولا جوفه ولا حضور أربعين كما يقوله الشافعي (١) ويكتفون في إيجابها بإمام يقتدي به أربعة مكلفون بها ، فيظهر بذلك كونهم أكثر إيجابا من الجمهور وإنما منعهم من إقامتها غالبا ما ذكرناه من فسق الأئمة. انتهى.

الخامس ـ شيخنا ثقة الإسلام الكليني (قدس‌سره) في الكافي حيث قال في كتاب الصلاة : باب «وجوب الجمعة وعلى كم تجب» ثم نقل صحيحة محمد بن مسلم وابى بصير عن الصادق عليه‌السلام (٢) «ان الله تعالى فرض في كل سبعة أيام خمسا وثلاثين صلاة : منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها إلا خمسة.

__________________

(١) عمدة القارئ ج ٣ ص ٢٦٣ والبحر الرائق ج ٢ ص ١٥١ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٢٨٧ والمهذب ج ١ ص ١١٠ والفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٢.

(٢) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

٣٨٢

الى آخرها» وصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام (١) «فرض الله تعالى على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة : منها صلاة واحدة فرضها الله عزوجل في جماعة وهي الجمعة. إلى آخرها». وسيأتي نقلها بتمامها. ثم روى أخبار أخر في تعيين العدد ووجوب حضور من كان على رأس فرسخين واشتراط الفصل بين الجمعتين بثلاثة أميال واقتصر على ذلك. وهو ظاهر في ان مذهبه وما يفتي به هو الوجوب العيني من دون شرط اذن ولا تجويز الترك الى بدل ، إذ لو كان يعتقد شيئا من ذلك أو وصل اليه حديث بذلك لذكره ولو اشارة. وإنما نسبنا ذلك اليه مذهبا لما صرح به في صدر كتابه من قوله لبعض إخوانه الذي صنف لأجله الكتاب الذي شكى اليه ان أمورا قد أشكلت عليه لا يعرف وجهها وانه يجب ان يكون عنده كتاب كاف يجمع من جميع فنون العلم ما يكتفى به المتعلم ويرجع اليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم‌السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدى فرض الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : وقد يسر الله تعالى وله الحمد تأليف ما سألت. الى آخره.

السادس ـ شيخنا رئيس المحدثين الصدوق أبو جعفر محمد بن على بن الحسين ابن بابويه القمي في كتاب الفقيه حيث قال فيه ـ بعد ان قدم ما صدر به كتابه من انه إنما قصد إلى إيراد ما يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد انه حجة بينه وبين ربه ـ باب «وجوب الجمعة وفضلها ومن وضعت عنه والصلاة والخطبة فيها» قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام لزرارة بن أعين «إنما فرض الله عزوجل على لناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة : منها صلاة واحدة فرضها الله عزوجل في جماعة وهي الجمعة.». ثم ذكر الحديث بتمامه. وهو ظاهر بل صريح بالنظر الى ما صرح به في صدر كتابه (٢) في ان مذهبه وما يفتي به هو مضمون هذه الرواية. ولا ريب ان

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) تقدم منه «قدس‌سره» ص ١١٥ خروجه عن هذه القاعدة في مواضع عديدة.

٣٨٣

مقتضى مضمونها هو الوجوب العيني من غير شرط ولا تخيير فإن أصحابنا المخالفين لنا في المسألة ـ كما عرفت آنفا وستعرف ـ معترفون بدلالة هذه الأخبار على الوجوب العيني وانما صرفهم عنها ما يزعمه شذوذ منهم أنها اخبار آحاد وآخرون الإجماع على نفى الوجوب العيني فيرتكب التأويل فيها بالحمل على الوجوب التخييري جمعا بين الأدلة ، وحينئذ فمن ليس لهذا الإجماع عنده عين ولا أثر كالصدوق ونحوه من المتقدمين الذين لا يتجاوزون مدلول الأخبار وبها افتاؤهم وعليها عملهم مع الكتاب العزيز على ممر الأدوار والأعصار فلا ريب في نسبة هذا القول اليه بذكره هذه الاخبار ونقلها في كتابه بعد ان يعنون الباب بالوجوب.

وقال (قدس‌سره) في المقنع في باب صلاة الجمعة : وان صليت الظهر مع الإمام بخطبة صليت ركعتين وان صليت بغير خطبة صليتها أربعا وقد فرض الله تعالى من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة : منها صلاة واحدة فرضها الله تعالى في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة : الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين ، ومن صلاها وحده فليصلها أربعا كصلاة الظهر في سائر الأيام.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الرسالة الموضوعة في المسألة : ودلالة هذه العبارة على المراد واضحة. من وجوه : (منها) قوله «وان صليت الظهر مع الإمام. الى آخره» فان المراد بالإمام حيث يطلق في مقام الاقتداء من يقتدى به في الصلاة أعم من كونه السلطان العادل أو غيره. وهذه العبارة خلاصة قول الصادق عليه‌السلام في موثقة سماعة (١) حيث سأله عن الصلاة يوم الجمعة فقال : «اما مع الامام فركعتان واما من يصلى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر يعني إذا كان امام يخطب فإذا لم يكن امام يخطب فهي أربع ركعات وان صلوا جماعة». هذا آخر الحديث والصدوق طريقته في هذا الكتاب ان يذكر متون الأحاديث مجردة عن الأسانيد

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من صلاة الجمعة وآدابها.

٣٨٤

ولا يغيرها غالبا. وايضا فلا يمكن حمله على السلطان من وجه آخر وهو انه ليس بشرط بإجماع المسلمين فان الشرط عند القائل به هو أو من نصبه ولا شك ان منصوبه غيره. و (منها) قوله «تسقط عن تسعة» وعدهم ، وهو مدلول رواية زرارة المتقدمة (١) الدالة على المطلوب ، فان مفهومها عدم سقوطها عن غيرهم فيتناول موضع النزاع. و (منها) قوله «ومن صلاها وحده فليصلها أربعا» وهذا يقابل قوله سابقا «وان صليت الظهر مع الامام» ومقتضاه ان من صلاها في جماعة مطلقا يصليها اثنتين كما تقدم. ولا تعرض لجميع العبارة باشتراط السلطان العادل وما في معناه مطلقا. انتهى كلامه.

وقال (قدس‌سره) في الأمالي في وصف دين الإمامية : والجماعة يوم الجمعة فريضة واجبة وفي سائر الأيام سنة فمن تركها رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علة فلا صلاة له. ووضعت الجمعة عن تسعة : عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين. انتهى. وتأويلها بالتخصيص بزمان الحضور ـ مع انه بصدد بيان مذهب الإمامية للعمل به في جميع الأحوال والأزمان ـ تعسف محض لا يخفى على ذوي الأذهان والافهام.

هذا ما وقفت عليه من كلام المتقدمين واما المتأخرون عن عصر شيخنا الشهيد الثاني ممن قال بهذا القول فهم أكثر من أن يأتي عليهم قلم الإحصاء وان يدخلوا في حيز الاستقصاء إلا انه لا بأس بذكر جملة من مشاهيرهم ونقل عبائرهم في المقام تتمة لما قدمناه من متقدمي علمائنا الأعلام :

السابع ـ شيخنا الشيخ زين الدين في رسالته المشهورة وهو أول من كشف الغطاء عن هذه المسألة بعد اندراسها وأحيا رسومها بعد انطماسها ، وقد تقدم وسيأتي ان شاء الله تعالى نقل جملة من كلماته.

الثامن ـ حافده سيد المحققين السيد محمد في كتاب المدارك ، قال بعد نقل

__________________

(١) ص ٣٨٣.

٣٨٥

جملة من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى : فهذه الأخبار الصحيحة الطرق الواضحة الدلالة على وجوب الجمعة على كل مسلم عدا ما استثنى تقتضي الوجوب العيني ، إذ لا اشعار فيها بالتخيير بينها وبين فرد آخر خصوصا قوله عليه‌السلام (١) «من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات طبع الله على قلبه». فإنه لو جاز تركها الى بدل لم يحسن هذا الإطلاق ، وليس فيها دلالة على اعتبار حضور الامام عليه‌السلام أو نائبه بوجه بل الظاهر من قوله عليه‌السلام (٢) «فان كان لهم من يخطب جمعوا». وقوله (٣) «فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم». خلافه كما سيجي‌ء تحقيقه ان شاء الله تعالى وقال جدي في رسالته الشريفة التي وضعها في هذه المسألة بعد ان أورد نحو ما أوردناه من الأخبار ونعم ما قال : فكيف يسع المسلم الذي يخاف الله تعالى إذا سمع مواقع أمر الله ورسوله والأئمة (صلوات الله عليهم) بهذه الفريضة وإيجابها على كل مسلم ان يقصر في أمرها ويهملها الى غيرها ويتعلل بخلاف بعض العلماء فيها وأمر الله ورسوله وخاصته (صلوات الله عليهم) أحق ومراعاته اولى ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)» (٤) ولعمري لقد أصابهم الأمر الأول فليرتقبوا الثاني ان لم يعف الله ويسامح (٥) نسأل الله العفو والرحمة بمنه وكرمه. انتهى.

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٤) سورة النور الآية ٦٣.

(٥) أقول : ان كان نظره «قدس‌سره» في ما ذكره الى الفقيه وهو من تكون وظيفته الرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلى الأدلة واستنباطها منها فاللازم على مثل هذا الشخص في هذه المسألة ـ كسائر المسائل الفقهية ـ أن يفحص بالمقدار الميسور له عن أدلتها وينظر فيها ويستفرغ وسعه ويعمل غاية جهده في ذلك ولا يكون منه ادنى تهاون في هذا الشأن ، ويلزمه العمل على طبق ما يؤدى إليه نظره ان ادى الى اللزوم ، ويجزئه ذلك ان ادى الى عدم اللزوم ويكون معذورا في مخالفة الواقع ان كانت كما هو واضح ، وعليه فان

٣٨٦

التاسع ـ شيخنا الفاضل الشيخ حسين بن عبد الصمد تلميذ شيخنا الشهيد الثاني

__________________

تم بنظره ظهور الآية والأخبار في الوجوب التعييني وتحقق عنده الإجماع الكاشف عن قول المعصوم على عدم الوجوب التعييني فاللازم عليه ان يفتي بالوجوب التخييري لأن قول المعصوم يكون قرينة قطعية على عدم ارادة الظاهر منهما ، وان لم يتحقق عنده الإجماع على ذلك فمن الواضح انه يجب عليه الجري على ظواهر الأدلة والفتوى على طبقها ، وهل يحتمل في حق فقيه من فقهائنا أن يقصر في أمر الحكم الشرعي ويفتي بما لا يعتقد صحته بينه وبين الله ويعرض عن أمر الله تعالى ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المعلوم له بالدليل ويتعلل في ذلك بخلاف بعض العلماء؟ كلا ثم كلا ، وانما الخلاف والاشكال في تشخيص أمر الله وانه بأي شي‌ء تعلق. نعم هنا شي‌ء ربما يوجب اطمئنان الفقيه بعدم كون الحكم هو الوجوب التعييني وان تم بنظره ظهور الآية والأخبار فيه ولم يقم عنده إجماع على الخلاف وهو انه إذا كان الفرض يوم الجمعة هو صلاة الجمعة على التعيين لكان اللازم ـ مع ظهور الآية فيه وورود الأخبار الكثيرة عنهم «ع» في شأنها بحد لم يخرج في حكم مسألة من مسائل الفقه ما خرج عنهم «ع» في هذه المسألة من الاخبار البالغة في الاشتهار والانتشار والتهديد والتشديد والحث الأكيد إلى حد لا يقبل الإنكار كما ذكر ذلك المصنف «قدس‌سره» في نهاية القول الثاني من الأقوال ـ اشتهار هذا الحكم بين أصحاب الأئمة «ع» والفقهاء وتسالمهم عليه بل كونه من الأمور الواضحة الضرورية بين جميع الشيعة كسائر الفرائض اليومية ، وحيث ان الأمر ليس كذلك بالوجدان ـ بل عمل الطائفة على عدم الوجوب التعييني في سائر الأعصار والأمصار كما ذكره الشهيد في كلامه الآتي ص ٣٩٢ ـ يكشف ذلك عن ان الحكم الواضح المعروف بين أصحاب الأئمة «ع» لم يكن ذلك وإلا لاستمر وضوح الحكم الى يومنا هذا وتواتر بحيث لم يكن فيه مجال للشك والارتياب. هذا كله إذا كان نظره الى الفقيه الذي وظيفته الاستنباط وإذا كان نظره الى من لم يبلغ مرتبة الاستنباط فمن الواضح ان وظيفته الرجوع الى الفقيه وأخذ الحكم الشرعي منه ، وكل ما يفتي به من يجب عليه الرجوع اليه فهو حكم الله في حقه وليس له العمل بما يفهمه من الأخبار. وبما ذكرناه يظهر ما في الكلام المذكور من التهويل من دون ان يقتضيه دليل.

٣٨٧

ووالد شيخنا البهائي ، قال في رسالته المعروفة بالعقد الطهماسى : تتمة مهمة ـ ومما يتحتم فعله في زماننا صلاة الجمعة اما لدفع تشنيع أهل السنة إذ يعتقدون انا نخالف الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجماع العلماء في تركها وظاهر الحال معهم ، واما بطريق الوجوب الحتمي والإعراض عن الخلاف لضعفه لقيام الأدلة القاطعة الباهرة على وجوبها من القرآن وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل التأويل بوجه ، وكلها خالية من اشتراط الإمام والمجتهد بحيث انه لم تحضرني مسألة من مسائل الفقه عليها أدلة بقدر أدلة صلاة الجمعة من كثرتها وصحتها والمبالغة فيها ، ولم نقف لمن اشترط المجتهد على دليل ناهض وكيف مع معارضة القرآن والأحاديث الصحيحة ، ولا قال باشتراطه أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين ما عدا الشهيد في اللمعة وفي باقي كتبه وافق العلماء ولم يشترطه نعم تبعه عليه المحقق الشيخ على. ثم قال وملخص الأقوال ثلاثة : الوجوب الحتمي من غير تعرض للمجتهدين وهو ظاهر كلام كل العلماء المتقدمين وجماعة من المتأخرين. والثاني ـ الوجوب التخييري بينها وبين الظهر وهو مذهب المتأخرين ما عدا سلار وابن إدريس ، وادعوا عليه الإجماع ولم يشترطوا مجتهدا. والثالث ـ المنع منها حال الغيبة مطلقا سواء حضر المجتهد أو لا وهو مذهب سلار وابن إدريس ، واتفق الكل على ضعف دليله وبطلانه. والذي يصلى الجمعة يكون قد برئت ذمته وادى الفرض بمقتضى كلام الله ورسوله والأئمة (صلوات الله عليهم) وجميع العلماء ، وخلاف سلار وابن إدريس والشيخ لا يقدح في الإجماع لما تقرر من قواعدنا ان خلاف الثلاثة والأربعة بل والعشرة والعشرين لا يقدح في الإجماع إذا كانوا معلومي النسب وهذا من قواعدنا الأصولية الإجماعية ، والذي يصلى الظهر تصح صلاته على مذهب هذين الرجلين والمتأخرين لأنهم ذهبوا الى التخيير ولا تصح بمقتضى كلام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين والعلماء المتقدمين «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١) نعم لو أراد أحد تمام الاحتياط للخروج من خلاف هذين

__________________

(١) سورة الانعام الآية ٨١.

٣٨٨

الرجلين صلى الظهر بعدها. وليهيئ تاركها الجواب لله تعالى لو سأله يوم القيامة لم تركت صلاة الجمعة وقد أمرت بها في كتابي العزيز على أبلغ وجه وأمر بها رسولي الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله على آكد وجه وأمر بها الأئمة الهادون (عليهم‌السلام) وأكدوا فيها غاية التأكيد ووقع إجماع المسلمين على وجوبها في الجملة؟ فهل يليق من العاقل الرشيد ان يقول تركتها لأجل خلاف سلار وابن إدريس؟ ما هذا إلا عمى أو تعامى أو تعصب مضر بالدين أجارنا الله وإياكم منه وجميع المسلمين (١) انتهى كلامه زيد مقامه

العاشر ـ الفاضل المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني في رسالته الموسومة بالاثني عشرية وابنه الفاضل الشيخ محمد ، قال في الرسالة : شرط وجوب الجمعة الآن حضور خمسة من المؤمنين فما زاد ويتأكد في السبعة وان يكون فيهم من يصلح للإمامة ويتمكن من الخطبة. وقال ابنه الفاضل في شرح هذه الرسالة مشيرا الى الأخبار المتقدمة : وهذه الأخبار كما ترى مطلقة في وجوب الجمعة عينا والحمل على التخييري موقوف على قيام ما يصلح للدلالة على وجوب الآخر وإلا فالدلالة على الفرد المذكور وحده لا يعتريه شوب الارتياب ولا يخفى مفادها على ذوي الألباب. وما ينقل من الإجماع على انتفاء العيني في زمن الغيبة فقد سمعت الكلام في نظيره. انتهى.

الحادي عشر ـ الشيخ الفقيه الزاهد الشيخ فخر الدين بن طريح النجفي في شرح الرسالة المتقدمة ، حيث قال : اما في زمن الغيبة كهذا الزمان الذي عبر عنه المصنف بالآن فللعلماء في انعقادها وعدمه أقوال ثلاثة. الى ان قال : و (ثالثها) الوجوب العيني من غير تعرض للمجتهد وهو ظاهر كلام أكثر المتقدمين كما نقل عنهم ، وما ظفرنا فيه شاهد على هذا النقل كعبارة المفيد في المقنعة فإنها صريحة في عدم اشتراط الإمام أو نائبه في الوجوب العيني وقد نقل ذلك عنه في كتاب الاشراف ، ثم ساق ملخص العبارة ونقل القول بذلك من جملة ممن قدمنا ذكره ، الى

__________________

(١) راجع التعليقة ٥ ص ٣٨٦ لتظهر لك حقيقة الحال.

٣٨٩

أن قال : وما ادعوه من الإجماع غير تام فإنه لو تم فإنما هو بنقل الواحد ، وعلى تقدير تسليم حجيته لا يزيد عن الخبر بل ربما يكون بمنزلة الخبر المرسل فإذا عارض الأخبار رجعنا الى الترجيح ورجحان الأخبار هنا غير خفي لصراحتها. ثم قال ولله در الشهيد الثاني حيث قال في بعض كتبه كيف يسع المسلم. الى آخر ما قدمناه.

الثاني عشر ـ الفقيه المحدث محمد تقى المشهور بالمجلسي والد شيخنا صاحب البحار في رسالة مبسوطة ألفها في تحقيق هذه المسألة وإثبات الوجوب العيني من غير اشتراط ، وقد أبلغ الكلام فيها غايته وجاوز نهايته بنقل آيات باهرة واخبار كثيرة ظاهرة وذكر وجوه دلالتها متعاضدة متكاثرة ، قال (قدس‌سره) فذلكة : فصار مجموع الأخبار مائتي حديث ، فالذي يدل على الوجوب بصريحه من الصحاح والحسان والموثقات وغيرها أربعون حديثا ، والذي يدل بظاهره على الوجوب خمسون حديثا ، والذي يدل على المشروعية في الجملة أعم من أن يكون عينيا أو تخييريا تسعون حديثا ، والذي يدل بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثا ثم الذي يدل بصريحه على وجوب الجمعة إلى يوم القيامة حديثان ، والذي يدل على عدم اشتراط الاذن بظاهره ستة عشر حديثا بل أكثرها كذلك كما مرت الإشارة إليه في تضاعيف الفصول ، وأكثرها أيضا يدل على الوجوب العيني كما أشير إليه ، فظهر من هذه الأخبار المتواترة الواضحة الدلالة التي لا يشوبها شك ولا يحوم حولها شبهة من طرف سيد الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ان صلاة الجمعة واجبة على كل مسلم عدا ما استثنى. وليس في هذه الأخبار مع كثرتها تعرض لشرط الامام ولا من نصبه ولا لاعتبار حضوره في إيجاب هذه الفريضة العظيمة ، فكيف يليق بالمؤمن الذي يخاف الله إذا سمع مواقع أمر الله ورسوله وأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وإيجابها على كل مسلم وعلى كل مؤمن وعلى كل عاقل ان يقصر في أمرها ويتعلل بخلاف سلار وابن إدريس فيها مع اتفاق كافة العلماء على وجوبها؟ وأمر الله تعالى ورسوله وأئمته (صلوات الله عليهم أجمعين) أحق ومراعاته أولى «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ

٣٩٠

يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١) انتهى.

الثالث عشر ـ الفقيه الفاضل المولى محمد باقر السبزواري في رسالة ألفها في الوجوب العيني في هذه المسألة فإنه قال فيها ـ بعد نقل الأدلة والبراهين على الوجوب العيني بلا شرط ـ ما صورته : ومما ذكرنا ظهر ان الذي يقتضيه التحقيق والأدلة القاهرة الظاهرة ان صلاة الجمعة في زمن الغيبة واجبة عينا وانه لا يعتبر فيها الفقيه بل يكفى العدل الجامع لشرائط الإمامة. الى ان قال فلا يليق إهمالها وتعطيلها وهجرها استنادا الى العلل العليلة والأهواء الردية ومع ذلك فقد أهمل الناس مثل هذه الفريضة المؤكدة وتركوها وهجروها في بلاد المؤمنين مع انتفاء التقية من قبل المخالفين.

وقال في موضع آخر من هذه الرسالة أيضا : وما كان حق هذه الفريضة العظيمة من فرائض الدين ان يبلغ التهاون بها الى هذا الحد مع أن شرائط الوجوب متحققة في أكثر بلاد الايمان خصوصا في هذه الأعصار والأزمان ، والعجب كل العجب من طائفة من المسلمين كيف يقدمون على إنكار هذه الفريضة العظيمة ويشنعون على من فعلها أو قصد الإتيان بها ويبالغون في ذلك أشد المبالغة من غير أن يكونوا على بينة ويتمسكوا في ذلك بحجة؟ فيا عجبا كيف جرأتهم على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله واقدامهم على الحق واهله. وسيجمع الله بين الفريقين في موقف واحد هناك ويرفع حجاب كل مكتوم ويعرف الظالم من المظلوم «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» (٢) فالى الله المشتكى في كل حال وعليه التوكل في المبدأ والمآل. انتهى.

الرابع عشر ـ المحدث الكاشاني وله في المسألة رسالة اختار فيها الوجوب العيني ، قال في صدر الرسالة المذكورة : مقدمة ـ اعلم أيدك الله بروح منه ان وجوب صلاة الجمعة أظهر من الشمس في رابعة النهار وانه مما اتفق عليه علماء الإسلام في جميع الأعصار وسائر الأمصار والأقطار كما صرح به جم غفير من

__________________

(١) التعليقة ٥ ص ٣٨٦.

(٢) سورة الشعراء الآية ٢٢٨ ويرجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦.

٣٩١

الأخبار ، وان جميع علماء الإسلام طبقة بعد طبقة قاطعون بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استمر بفعلها على الوجوب العيني طول حياته المقدسة وان النسخ لا يكون بعده ، ولم يذهب الى اشتراط وجوبها بشرط يوجب سقوطها إلا رجل أو رجلان من متأخري فقهائنا الذين هم أصحاب الرأي والاجتهاد دون الأخباريين من القدماء الذين هم لا يتجاوزون مدلول ألفاظ الكتاب والسنة واخبار أهل البيت (عليهم‌السلام) (١) فإنه لا خلاف بينهم في وجوبها العيني الحتمي وعدم سقوطها أصلا إلا للتقية ، كما لا اختلاف في ألفاظ القرآن والحديث في ذلك ، وانما وقعت في الشبهة أصحاب الآراء من المتأخرين لما رأوا من ترك أجلة الأصحاب لها برهة من الزمان دون برهة فزعموا ان لها شرطا آخر غير ما ثبت من الأخبار الصحيحة وانه قد يوجد وقد لا يوجد وإلا لما تركها هؤلاء الأجلاء وقتا دون وقت كما قال الشيخ الشهيد (قدس‌سره) بعد إثباته الوجوب العيني بالبرهان : إلا ان عمل الطائفة على عدم الوجوب العيني في سائر الأعصار والأمصار (٢) واتفقت آراؤهم على ان ذلك الشرط إنما هو حضور السلطان العادل أو من نصبه لذلك ، وكأنهم عنوا بالسلطان العادل ـ كما صرح به بعضهم ـ الإمام المعصوم عليه‌السلام فاشترطوا حضوره إذا تيسر كما في بلد إقامته في دولة الحق واذنه عليه‌السلام لها إذا لم يتيسر الحضور كما في البلاد الأخر ذلك الوقت ، ولذلك لما رأوا أن الأئمة كانوا كذلك يفعلون في دولتهم محقين كانوا أو مبطلين ولما رأوا ان العامة يستدلون عليه بان الاجتماع مظنة النزاع ومثار الفتن والحكمة موجبة لحسم مادة الاختلاف ولن يستمر الأمر إلا مع السلطان فاستحسنوا هذا الاستدلال كما استحسنوا أصل الاجتهاد والقول بالرأي منهم ثم زعموا ان ذلك كان شرطا لشرعية هذه الصلاة. ثم اختلف هؤلاء فمنهم من عمم هذا الشرط لزمان الحضور والغيبة

__________________

(١) مقتضى كلامه (قدس‌سره) ان المجتهدين لا يتقيدون في استنباط الأحكام بالكتاب والسنة واخبار أهل البيت «ع» وقد تقدم في التعليقة ١ ص ٣٦٣ ما يرتبط بالمقام.

(٢) ارجع الى التعليقة ٥ ص ٣٨٦ فقد تقدم فيها ما يتعلق بالمقام.

٣٩٢

فحكم بسقوط الصلاة في الغيبة لعدم إمكان الشرط حينئذ وهو محمد بن إدريس صريحا وسلار بن عبد العزيز ظاهرا وهما اللذان كنينا عنهما بالرجل والرجلين ، وانما أتينا بالترديد لاحتمال كلام سلار التأويل بما يرجع الى الحق ، ومنهم من خص الشرط بزمان الظهور وأسقطه في زمان الغيبة لامتناعه. ثم اختلف هؤلاء فمنهم من جعل الوجوب حينئذ حتميا من دون رخصة في تركها فوافق رأيهم مذهب القدماء الأخباريين وسائر الأمة ، ومنهم من زعم ان في تركها حينئذ رخصة وان وجوبها حينئذ تخييري وانها أفضل الفردين الواجبين تخييرا فهي مستحبة عينا واجبة تخييرا واليه ذهب شرذمة من مشاهيرهم ، وذلك لما رأوا من ترك أصحابنا لها في بعض الأوقات كما ذكرناه ، والاشتباه وقع لهم من عبارات بعض من تقدم عليهم ولا سيما الشيخ الطوسي الذي هو قدوتهم كما ستقف عليه ان شاء الله تعالى. وكأنهم عنوا بالتخيير ـ كما صرح به بعضهم ـ ان الناس بالخيار في إنشائها وجمع العدد لها وتعيين الإمام لأجلها فإذا فعلوا ذلك وعزموا على فعلها تعين على كل من اجتمعت له الشرائط الأخر حضورها ولا يسع أحدا التخلف عنها حينئذ لا ان لآحاد الناس حينئذ التخيير في حضورها وعدمه ، ومنهم من زعم ان الإذن العام قائم مقام الإذن الخاص في زمان الغيبة فاشترط فيها حضور الفقيه لأنه نائب الامام على العموم ومأذون من قبله في إجراء الأحكام ، واليه ذهب واحد أو اثنان من متأخريهم. وكل من أصحاب هذه الآراء ادعى الإجماع على رأيه مع انه لا مستند لإجماعه من كتاب ولا سنة ولا خبر وليس لرأيه من هذه الدلائل الثلاثة عين ولا اثر. انتهى ما أردنا نقله من كلام المحدث المتقدم ذكره.

الخامس عشر ـ شيخنا غواص بحار الأنوار ومستخرج ليالي النكت والآثار قال (قدس‌سره) في كتاب البحار ـ بعد الأبحاث الطويلة وذكر جملة من اخبار المسألة ـ تتميم : جملة القول في هذه المسألة التي تحيرت فيها الأفهام واضطربت فيها الإعلام انه لا أظن عاقلا يترتب في انه لو لم يكن الإجماع المدعى فيها لم يكن لأحد

٣٩٣

مجال شك في وجوبها على الأعيان في جميع الأحيان والأزمان كما في سائر الفرائض الثابتة بالكتاب والسنة ، فكما ليس لأحد أن يقول لعل وجوب صلاة العصر وزكاة الغنم مشروطان بوجود الإمام وحضوره واذنه فكذا ههنا لعدم الفرق بين الأدلة الدالة عليها ، لكن طرأ ههنا نقل إجماع من الشيخ وتبعه جماعة ممن تأخر عنه كما هو دأبهم في سائر المسائل فهو عروتهم الوثقى وحجتهم العظمى به يتصاولون فاشتهر في الأصقاع ومالت اليه الطباع ، والإجماع عندنا ـ على ما حققه علماؤنا في الأصول ـ هو قول جماعة من الأمة يعلم دخول قول المعصوم عليه‌السلام في أقوالهم وحجيته إنما هو باعتبار دخول قوله عليه‌السلام فهو كاشف عن الحجة والحجة إنما هو قوله عليه‌السلام قال المحقق في المعتبر. ثم نقل كلامه المؤذن بذلك ثم قال والإجماع بهذا المعنى لا ريب في حجيته على فرض تحققه والكلام في ذلك. ثم انهم (قدس الله أرواحهم) لما رجعوا الى الفروع كأنهم نسوا ما أسسوه في الأصول فادعوا الإجماع في أكثر المسائل سواء ظهر الاختلاف فيها أم لا وافق الروايات المنقولة فيها أم لا ، حتى ان السيد (رضى الله عنه) وأضرابه كثيرا ما يدعون الإجماع في ما ينفردون بالقول به أو يوافقهم عليه قليل من اتباعهم ، وقد يختار هذا المدعى للإجماع قولا آخر في كتابه الآخر ، وكثيرا ما يدعى أحدهم الإجماع على مسألة ويدعى غيره الإجماع على خلافه ، فيغلب على الظن ان مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأصول بأن سموا الشهرة عند جماعة من الأصحاب إجماعا كما نبه عليه الشهيد في الذكرى وهذا بمعزل عن الحجية ، ولعلهم انما احتجوا به في مقابلة المخالفين ردا عليهم أو تقوية لغيره من الدلائل التي ظهرت لهم. ولا يخفى ان في زمان الغيبة لا يمكن الاطلاع على الإجماع إذ مع فرض الاطلاع على مذاهب جميع الإمامية مع تفرقهم وانتشارهم في أقطار البلاد والعلم بكونهم متفقين على مذهب واحد لا حجة فيه ، لما عرفت ان العبرة عندنا بقول المعصوم ولا يعلم دخوله فيها. وما يقال ـ من انه يجب حينئذ على المعصوم ان يظهر القول بخلاف ما أجمعوا عليه لو كان باطلا فلما لم

٣٩٤

يظهر ظهر انه حق (١) ـ لا يتم سيما إذا كانت في روايات أصحابنا رواية بخلاف ما أجمعوا عليه ، إذ لا فرق بين ان يكون إظهار الخلاف على تقدير وجوبه بعنوان انه قول فقيه وبين أن يكون الخلاف مدلولا عليه بالرواية الموجودة في روايات أصحابنا. الى ان قال : وايضا دعوى الإجماع إنما نشأ من زمن السيد والشيخ ومن عاصرهما ثم تابعهما القوم ومعلوم عدم تحقق الإجماع في زمانهم فهم ناقلون عن من تقدمهم فعلى تقدير كون مرادهم بالإجماع هذا المعنى لكان في قوة خبر مرسل فكيف ترد به الأخبار الصحيحة المستفيضة (٢) ومثل هذا يمكن أن يركن اليه عند الضرورة وفقد دليل آخر أصلا. إلى آخر كلامه زيد في إكرامه

فهذه جملة من عبائر من وصل إلينا كلامهم في القول بالوجوب العيني ، واما غيرهم ممن قال بهذا القول فقد ذكرنا آنفا ان قلم الإحصاء لا يأتي عليهم إلا ان الذي حضرني الآن منهم جماعة : منهم ـ المحقق العماد مير محمد باقر الداماد ، قال المحدث الكاشاني في رسالته المشار إليها آنفا انه كان يواظب على فعلها متى تيسر له ، قال وقد صلينا معه غير مرة. ومنهم ـ العلامة السيد الماجد البحراني ، قال المحدث المشار إليه في الرسالة : وكان استاذنا المتبحر السيد ماجد بن هاشم الصادقي البحراني (طاب ثراه) من المواظبين عليها بشيراز وقد صليت معه زمانا طويلا وكنا في ذلك الأوان نستفيد من بركات صحبته بكرة وأصيلا ، وكان يقول مقتضى الدليل

__________________

(١) اختلف الاعلام في مستند القطع برأي المعصوم «ع» من الإجماع ، فقيل انه دخول شخصه «ع» في المجمعين ويحكى ذلك عن السيد المرتضى ، وقيل انه قاعدة اللطف بالتقريب المذكور في المتن ويحكى ذلك عن شيخ الطائفة ، وقيل ان سببه هو الحدس برأيه «ع» ورضاه بما أجمع عليه للملازمة العادية بين اتفاق المرؤوسين المنقادين على شي‌ء وبين رضا الرئيس بذلك الشي‌ء ويحكى ذلك عن بعض المتقدمين ، وقيل ان سببه هو تراكم الظنون من الفتاوى الى حد يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر وقيل ان سببه هو كشفه عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.

(٢) قد تقدم في التعليقة ٥ ص ٣٨٦ ما يرتبط بالمقام.

٣٩٥

الوجوب الحتمي ولم يثبت الإجماع على خلافه. انتهى.

وقال أيضا في الرسالة : وكان السيدان الجليلان أمير محمد زمان ولد أمير محمد جعفر وأمير معز الدين محمد (رحمهم‌الله تعالى) مواظبين على هذه الصلاة بمشهد الرضا (صلوات الله عليه) برهة من الزمان ، وقد صنف أحدهما في الوجوب العيني في زمان الغيبة رسالة رأيتها ولم تحضرني الآن. انتهى.

ومنهم ـ المحقق المدقق الشيخ احمد بن الشيخ محمد بن يوسف البحراني صاحب كتاب رياض المسائل ، وله في المسألة رسالة قد رد فيها على الشيخ الفقيه الشيخ سليمان ابن على بن أبي ظبية الشاخورى البحراني ، حيث ان الشيخ سليمان المذكور كان يذهب الى التحريم في هذه المسألة وكتب فيها رسالة فكتب الشيخ المحقق المذكور رسالة في ردها ونقضها.

ومنهم ـ الشيخ العلامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني وتلميذه المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ وقد جرى بين الشيخ عبد الله المذكور وبين الفاضل المشهور بالفاضل الهندي من علماء أصفهان ـ وكان يقول بالتحريم ـ مباحثات في المسألة وصنف الشيخ المذكور رسالة في الرد عليه سماها اسالة الدمعة للقائل بتحريم صلاة الجمعة ، كذا ذكر في بعض تحقيقاته. ولم أقف على الرسالة المذكورة ـ والفاضل المشهور المولى عبد الله التستري ، ونقله شيخنا المحقق المدقق الشيخ احمد بن الشيخ محمد بن يوسف البحراني عن الشيخ ابن ميثم البحراني صاحب شرح نهج البلاغة.

ومنهم ـ الآخوند المشهور بملا رفيعا المجاور بالمشهد الرضوي حيا وميتا والمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي والشيخ على بن الشيخ جعفر بن الشيخ على بن سليمان البحراني والشيخ أحمد بن عبد الله البحراني أحد تلامذة شيخنا الشيخ سليمان والفاضل الشريف الملا أبو الحسن بن الشيخ محمد طاهر المجاور بالنجف الأشرف حيا وميتا في شرحه على المفاتيح.

٣٩٦

وبالجملة فجملة من تأخر عن شيخنا الشهيد الثاني ووقفت على رسالته من الفضلاء المحققين فكلهم على الوجوب العيني إلا الشاذ النادر ممن قال بالتحريم أو الوجوب التخييري كما لا يخفى على من له انس واطلاع على العلماء وسيرهم وأحوالهم

وانما أطلنا الكلام بنقل كلام هؤلاء الأعلام وأسماء من ذهب الى هذا القول وان كان خارجا عن ما هو المقصود والمرام لما ذكره بعض الفضلاء المعاصرين (سامحه الله بعفوه وغفرانه) مما لا يليق ان ينسب إليه في هذا المقام ، حيث قال : الصنف السادس ـ جماعة جاهلون قاصرون أو غافلون أو متجاهلون متغافلون وهم الذين يقولون وجوب الجمعة في زمن الغيبة بالوجوب العيني أيضا من اليقينيات ، ينسبون فقهاءنا المتقدمين والمتأخرين إلى الإجماع على الجهل والقصور والغفلة والغرور نعوذ بالله من هذا. الى آخر كلامه ، فان فيه (أولا) ان القائلين بالوجوب العيني هم الأكثر كما عرفت من كلامنا وكلام شيخنا الشهيد الثاني وغيره. و (ثانيا) ان أحدا لم يقل ما ذكره من هذه الألفاظ الظاهرة في سوء الأدب وغاية ما ربما يقولون ان منشأ القول بالتخيير هو الغفلة عن تتبع الأدلة وإعطاء التأمل حقه في المسألة. وهذا ليس ببدع ولا منكر كما هو شائع في كلام علمائنا جيلا بعد جيلا ، على انه قد وقع منهم ما هو أعظم من ذلك كما سجل به المحقق والعلامة على ابن إدريس من الطعن فيه حتى نسبوه الى الجهل في جملة من المواضع ، ومن شيخنا المفيد في كتاب تصحيح اعتقادات الصدوق ورسالته التي في الرد عليه في عدم جواز السهو على المعصوم كما لا يخفى على من راجعها ، وهذه سجية بين العلماء جارية قديما وحديثا. وبالجملة فكلامه ـ دام ظله ـ لا يخلو من غفلة عن تتبع أقوال من نقلنا عنه القول بالوجوب وعدم الاطلاع على مذاهبهم وأقوالهم وعدم إعطاء النظر حقه في الأدلة والأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال الديار والتقط من لذيذ هذه الثمار. وفي كلامه سلمه الله تعالى مناقشات واسعة ليس في التعرض لها كثير فائدة. فهذا ما ذكر من معى وذكر من قبلي (١) في إيجاب هذه الفريضة المعظمة والصلاة المحتمة.

__________________

(١) اقتباس من الآية ٢٤ سورة الأنبياء.

٣٩٧

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الدليل على هذا القول المختار منحصر في الآية والأخبار وهما الثقلان المأمور بالتمسك بهما من النبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله اللذان من أخذ بهما نجى من أهوال المبدأ والمآل ومن تنكب عنهما وقع في تيه الضلال.

والكلام هنا يقع في مقامين (المقام الأول) الآية الشريفة أعني قوله عزوجل «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١) والتقريب فيها اتفاق المفسرين على ان المراد بالذكر في الآية صلاة الجمعة أو خطبتها أو هما معا ، نقل ذلك غير واحد من العلماء ، والأمر للوجوب على ما تحقق في الأصول ، وقد قدمنا في مقدمات الكتاب ما يدل على ذلك من الآيات القرآنية والأخبار المعصومية ، فلا حاجة الى الأدلة الأصولية القابلة للبحث والنزاع ، ولا سيما الأوامر القرآنية فإن الخلاف بينهم إنما هو في أوامر السنة كما تقدم ذكره في المقدمات المشار إليها. وسياق الآية ظاهر في إرادة الصلاة أو ما يشمل الخطبة فكأنه قال : «إذا نودي للصلاة فاسعوا إليها» وسماها ذكرا تنويها بشأنها ، وبه أيضا ينادى قوله تعالى «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ»

ويعضد ذلك ما رواه في الكافي عن جابر بن يزيد عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له قول الله عزوجل (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)؟ قال اعملوا وعجلوا فإنه يوم مضيق على المسلمين فيه وثواب اعمال المسلمين فيه على قدر ما ضيق عليهم والحسنة والسيئة تضاعف فيه. قال وقال أبو جعفر عليه‌السلام والله لقد بلغني ان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس لانه يوم مضيق على المسلمين».

أقول : الظاهر ان المراد من الخبر المذكور انه حيث كان وقت صلاة الجمعة مضيقا بساعة زوال الشمس ـ كما ستأتيك الأخبار به ان شاء الله تعالى في المقام ـ لا اتساع فيه كغيره من أوقات الصلاة في سائر الأيام وقع الحث على تقطيع العلائق وازالة

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٩.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من صلاة الجمعة وآدابها.

٣٩٨

العوائق عن الإتيان بالصلاة في ذلك الوقت إذ لا سعة فيه كما عرفت حتى انهم كانوا يتجهزون للفراغ للصلاة ويقضون اعراضهم التي ربما تمنع من الإتيان بها في وقتها في يوم الخميس كما دل عليه الخبر المذكور.

والمراد بالنداء الأذان أو دخول وقته كما ذكره المفسرون ، وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (١) قال : «روى انه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد حرم البيع لقول الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)» (٢).

وحينئذ فالمستفاد من الآية المذكورة الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة لكل واحد من المؤمنين متى تحقق الأذان لها أو دخول وقته ، وحيث ان الأصل عدم التقييد بشرط يلزم عموم الوجوب بالنسبة إلى زمان الغيبة والحضور.

وقد أورد على هذا الدليل وجوه من الإيرادات لا بأس بذكرها وذكر ما أجيب به عنها :

الأول ـ ان كلمة «إذا» غير موضوعة للعموم لغة فلا يلزم وجوب السعى كلما تحقق النداء بل يتحقق بالمرة وهي عند تحقق الشرط.

والجواب عن ذلك ان «إذا» وان لم تكن موضوعة للعموم لغة إلا انه يستفاد منها العموم في أمثال هذه المواضع اما بحسب الوضع العرفي أو بحسب القرائن الدالة عليه كما قالوه في آية الوضوء وأمثالها ، على ان حملها على الإهمال يجعل الكلام خاليا من الفائدة المعتد بها وهو مما يجب تنزيه كلام الحكيم عنه. وأيضا فإنه لا يخلو اما أن يكون المراد إيجاب السعي ولو في العمر مرة واحدة أو إيجابه على سبيل العموم أو إيجابه بشرط حضور الإمام أو نائبه ، لا سبيل إلى الأول لمخالفته لإجماع المسلمين إذ الظاهر انهم متفقون على انه ليس المراد من الآية إيجاب

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٣ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) سورة الجمعة الآية ٩.

٣٩٩

السعي ولو في الجملة بحيث يتحقق بالمرة بل الظاهر المعلوم اطباقهم على ان المراد التكرار ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا يقبل الإنكار. واما الثالث فإنه لا سبيل إليه أيضا لكونه خلاف الظاهر من اللفظ إذ لا دلالة للفظ عليه ولا قرينة تؤنس به وتشير اليه ، والعدول عن الظاهر يحتاج الى دليل قاهر. على انك قد عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى انه لا وجود لهذا الشرط الذي ذكروه ولا معنى لهذا الاعتبار الذي اعتبروه. وحينئذ فيتعين الثاني وهو المطلوب.

وزاد بعض الأفاضل في الجواب قال : وايضا الخطاب عام بالنسبة الى جميع المؤمنين سواء تحقق الشرط المدعى بالنسبة إليه أم لا فعلى تقدير تجويز ان لم يكن المراد بالآية التكرار يلزم إيجاب السعي على من لم يتحقق الشرط بالنسبة اليه ولو مرة ويلزم منه الدوام والتكرار لعدم القائل بالفصل. انتهى.

وبالجملة فإنه لا يخفى على المتأمل بعين التحقيق والمنصف الناظر بالفكر الصائب الدقيق ان هذه المناقشة من المناقشات الواهية المضاهية لبيت العنكبوت وانه لا ضعف البيوت ، إذ لا يخفى على من تأمل سياق السورة المذكورة وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة حياته والخلفاء من بعده حقا أو جورا ان المراد من الآية انما هو التكرار والاستمرار مدى الأزمان والأعصار لا ما توهمه هذا المورد من صدق ذلك ولو مرة واحدة.

الثاني ـ ان الأمر في الآية معلق على ثبوت الأذان فمن اين ثبت الوجوب مطلقا؟

والجواب انه يلزم بصريح الآية الإيجاب متى تحقق الأذان ويلزم منه الإيجاب مطلقا لعدم القائل بالفصل واتفاق المسلمين على ان الأذان ليس شرطا لوجوب الجمعة ، ولعل فائدة التعليق على الأذان الحث على فعله لتأكد استحباب الأذان لها حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها. ويحتمل أن يكون المراد من النداء دخول الوقت على سبيل الكناية كما ذكره في الكشاف.

(فان قيل) لنا ان نعارض ذلك ونقول انه يستفاد من الآية عدم وجوب السعى عند عدم الأذان ويلزم من ذلك انتفاء الوجوب في بعض صور انتفاء الشرط

٤٠٠