الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

والتقريب فيهما هو دلالتهما على ان النجاة والأمن من الوقوع في مهاوي الضلال انما هو في التمسك بحبل الآل (عليهم صلوات ذي الجلال) والاقتداء بهم في الأقوال والأفعال ، وحينئذ فاما ان يخص هذا بزمان وجودهم (صلوات الله عليهم) وما قاربه واللازم منه تضييع باقي الأمة إلى يوم القيامة ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالما بامتداد أمته إلى يوم القيامة وكان عالما بان زمان وجود الأئمة (عليهم‌السلام) الى وقت الغيبة إنما هو زمان يسير ، وعلى هذا فلو قصر الأمر بالتمسك بهم على زمان وجودهم وما قاربه فاللازم ما ذكرناه وهو مما يقطع بفساده ، واما ان يجعل هذا الخطاب للأمة والأمر لهم بالإتباع والتمسك الى يوم القيامة وهو لا يتم إلا بالعمل بهذه الأخبار المروية عن أبنائه الأطهار التي هي محل البحث ، إذ لا طريق في مثل زماننا هذا وأمثاله من أزمان الغيبة إلى اتباعهم والأخذ بدينهم والتمسك بهم سواها. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

ثم لا يخفى ان ظاهر الخبرين المذكورين الإشارة إلى سد باب التمسك بسوى الثقلين المذكورين حيث كان رفع الضلال على وجه الشمول لافراده وافراد زمانه والنجاة ليس مرتبا إلا على التمسك بهما ، وبالجملة فإن التمسك بهما طريق علم انها مخلصة من الضلال على كل حال واما غيرهما فما أشد الإشكال فيه والإعضال سيما مع عدم ورود الإذن بالأخذ به في حال من الأحوال.

(المقام الثاني) في الإجماع وقد تقدم في مقدمات الكتاب نزر من القول

__________________

عن مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٥١ عن ابى ذر وصححه. ولفظه فيه «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق» ونقله ايضا عن تاريخ الخطيب ج ١٢ ص ٩١ وكثير من غيرهما. قال وأشار إليه الإمام الشافعي بقوله المأثور عنه في رشفة الصادي ص ٢٤

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغى والجهل

ركبت على اسم الله في سفن النجا

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكت حل الله وهو ولاؤهم

كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل

٣٦١

في بيان بطلان القول به والاعتماد عليه في الأحكام الشرعية وعدم كونه مدركا لها وان اشتهر في كلامهم عده من المدارك القطعية كالكتاب العزيز والسنة النبوية ، ونزيده هنا بمزيد من التحقيق الرشيق والتدقيق الأنيق :

فنقول : قد عرفت مما قدمنا في المقام الأول دلالة خبر الثقلين على ان ما يعمل به أو عليه من حكم فرعى أو مدرك أصلي يجب أن يكون متمسكا فيه بكتاب الله تعالى واخبار العترة على ما مر من البيان لتحقق الأمن من الضلال والنجاة من أهوال المبدأ والمآل ، والزاعم لكون ذلك مدركا شرعيا زائدا على ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله يحتاج إلى إقامة البرهان والدليل وليس له الى ذلك سبيل إلا مجرد القال والقيل

ومن الظاهر عند التأمل بعين الإنصاف وتجنب العصبية للمشهورات الموجبة للاعتسافات ان عد أصحابنا (رضوان الله عليهم) الإجماع مدركا إنما اقتفوا فيه العامة العمياء لاقتفائهم لهم في هذا العلم المسمى بعلم أصول الفقه وما اشتمل عليه من المسائل والأحكام والأبحاث وهذه المسألة من أمهات مسائله ، ولو ان لهذا العلم من أصله أصلا أصيلا لخرج عنهم (عليهم‌السلام) ما يؤذن بذلك ، إذ لا يخفى على من لاحظ الأخبار انه لم يبق أمر من الأمور التي يجري عليها الإنسان في ورود أو صدور من أكل وشرب ونوم ونكاح وتزويج وخلاء وسفر وحضر ولبس ثياب ونحو ذلك إلا وقد خرجت الأخبار ببيان السنن فيه وكذا في الأحكام الشرعية نقيرها وقطميرها ، فكيف غفلوا (عليهم‌السلام) عن هذا العلم مع انه كما زعموه مشتمل على أصول الأحكام الشرعية فهو كالأساس لها لابتنائها عليه ورجوعها اليه هذا ، وعلماء العامة كالشافعي وغيره في زمانهم (عليهم‌السلام) كانوا عاكفين على هذه العلوم تصنيفا وتأليفا واستنباطا للأحكام الشرعية بها وجميع ذلك معلوم للشيعة في تلك الأيام فكيف غفلوا عن السؤال منهم عن شي‌ء من مسائله؟ ومع غفلة الشيعة كيف رضيت الأئمة (عليهم‌السلام) بذلك لهم ولم يهدوهم اليه ولم يوقفوهم عليه؟ مع كون مسائله أصولا للأحكام كما زعمه أولئك الأعلام ، ما هذا إلا عجب عجيب

٣٦٢

كما لا يخفى على الموفق المصيب (١).

__________________

(١) أقول : ان توقف معرفة الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها على الأبحاث الأصولية من الوضوح بمكان لا مجال للشك فيه والارتياب ، فإنه بعد ما كان معظم الأحكام الشرعية نظريا تتوقف معرفته على البحث والاستدلال كما هو واضح ولم تكن دليلية أدلتها مستغنية عن الإثبات أصبح من الضروري لمن يريد التفقه في الدين ومعرفة أحكام سيد المرسلين «ص» أن يمهد الطريق لذلك بنحو يقطع بكونه طريقا بحكم الشارع تأسيسا أو إمضاء ويبحث عن كل ما يأمن بسلوكه واتباعه مسؤولية مخالفة الحكم الشرعي المعلوم له إجمالا بالالتفات إلى الشريعة الإسلامية والاعتقاد والتدين بها وان المسائل المتكفلة بالبحث عن ذلك هي مسائل أصول الفقه ، ووجه التسمية مذكور في المتن. وان الأمور التي يلزم ان يبحث عنها الفقيه في المسائل الأصولية أربعة : «الأول» الحجج فيبحث في كل ما يحتمل فيه الحجية والدليلية كالخبر الواحد والشهرة الفتوائية والإجماع وظواهر الكتاب المجيد ، ومن ذلك بحث التعادل والترجيح لانه بحث عن الحجة في فرض التعارض «الثاني» ظواهر المواد والهيئات الإفرادية والتركيبية التي تستعمل في الكتاب والسنة وغيرهما في مقام بيان الحكم بوجه كلى من دون اختصاص بمورد دون مورد كالأمر والنهى والعام والمطلق وغير ذلك مما يبحث عنه في مباحث الألفاظ مما يلزم تشخيص مدلوله وظهوره بعد الفراغ عن حجية الظهور «الثالث» الملازمات العقلية كالملازمة بين وجوب الشي‌ء ووجوب مقدمته والملازمة بين وجوب الشي‌ء وحرمة ضده والملازمة بين حرمة العبادة أو المعاملة وفسادها والملازمة بين وجوب الشي‌ء وعدم حرمة مقارنه وملابسه وبين حرمة الشي‌ء وعدم وجوب مقارنه ، ويعبر عن البحث في الأخير ببحث اجتماع الأمر والنهى ، وكالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. ولا مناص للفقيه من البحث في هذه الملازمات لينتهي بالدليل القطعي إلى الملازمة أو عدمها وبذلك يستكشف الحكم الشرعي «الرابع» الأصول العملية وهي القواعد التي ينتهي إليها الفقيه بعد فحصة وعجزه عن الظفر بالدليل على الحكم الشرعي فيبحث عن وظيفته في هذا الفرض من الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير حسب اختلاف الموارد. وهنا يقع البحث عن الوظيفة الشرعية أولا وعن الوظيفة العقلية ثانيا على تقدير عدم الانتهاء إلى الوظيفة الشرعية. هذه هي مباحث

٣٦٣

ومما يعضد ما ذكرناه بأوضح تأييد رسالة الصادق عليه‌السلام الى الشيعة وامره لهم

__________________

الأصول التي تبتنى عليها معرفة الأحكام الشرعية ولا يستغنى الفقيه عن الاستعانة بها في استنباط الأحكام بنحو يكون معذورا وآمنا من المسؤولية في المخالفة ولا تكون فتواه مصداقا لعنوان التشريع ، وما خرج عن هذه الأمور فليس البحث فيه من المسائل الأصولية نعم قد تذكر في كتب الأصول بعض المباحث الخارجة عن العناوين الأربعة استطرادا لتشريح الأذهان ولا يوجب ذلك هدم البحث الأصولي وقلعه من أساسه بما اشتمل عليه من المسائل والأحكام والأبحاث على حد تعبيره «قدس‌سره» وكيف كان فيندفع ما ذكره «أولا» بما تقدم. و «ثانيا» بالنقض بتحريره المسائل الأصولية في مقدمات كتابه وسيره عليها في الأبحاث الفقهية. و «ثالثا» ان القواعد الأصولية ـ وان لم ترد في كلامهم «ع» بعنوانها الخاص ـ قد وردت متفرقة في الكتاب والسنة في ضمن الآيات والروايات التي يستدل بها في المباحث الأصولية كالآيات والروايات التي يستدل بها على حجية الخبر الواحد على تقدير تمامية الدلالة وكالأخبار العلاجية لتعارض الخبرين واخبار الاستصحاب على تقدير جريانه في الشبهات الحكمية واخبار البراءة والاحتياط وكقوله «ع» «علينا ان نلقى إليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا». المتقدم ج ١ ص ١٣٣ فإنه شامل للقواعد الأصولية والفقهية وكالأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب وانه باطل وزخرف فإنها تتضمن قاعدتين أصوليتين : إحداهما ـ عدم حجية الخبر المخالف للكتاب. الثانية ـ حجية ظواهر الكتاب كما يدل عليها قوله «ع» في رواية عبد الأعلى المتقدمة ج ١ ص ١٥١ «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله». و «رابعا» ان علماء العامة ـ كما هو واضح ـ لم يرجعوا إلى الأئمة (ع) في شي‌ء من الأحكام الشرعية ولم يعترفوا لهم بالمرجعية فيها واستقلوا في فهم الكتاب والسنة والتزموا بحجية القياس والاستحسان وعملوا بالمصالح المرسلة ، الى غير ذلك من الاستنباطات الظنية المتبعة عندهم ، ولم يعملوا بمقتضى حديث الثقلين الذي أناط الأمن من الضلال بالتمسك بالكتاب والعترة وجعل العترة عدل الكتاب في المرجعية في أمر الدين ، وقد وردت عنهم «ع» الأخبار الكثيرة في ذم هذه الطريقة والنهى عن الاستقلال في الفتوى وانهم هم المرجع في الأحكام الشرعية مع الكتاب ، فهذا النحو من الأصول المبتني على الاستقلال في الفتوى والاستغناء عن الأئمة «ع» وعدم

٣٦٤

__________________

الأخذ منهم «ع» قد منعوا عنه وأسقطوه عن درجة الاعتبار بالكلية ، واما علم الأصول المتبع عند فقهاء الإمامية فمرجعه في الحجج والتعارض بينها وفي الأصول العملية الشرعية هو الكتاب والأخبار الواردة عن المعصومين «صلوات الله عليهم أجمعين» ولا يتخطى فيه قيد شعرة عن أقوالهم تصريحا أو إمضاء ، ومرجعه في الملازمات والأصول العقلية حكم العقل القطعي من حيث كشفه عن الحكم الشرعي أو من حيث المنجزية والمعذرية. ومن الواضح عدم توجه الاعتراض على هذا النحو أصلا لاختلافه تماما من حيث المدرك والدليل عن علم الأصول المتبع عند العامة وتقيده بالمتابعة لأقوال العترة «ع» والاستناد الى حديث الثقلين وتقيد ذاك بعدم المتابعة لهم ، فكيف ينسب علم الأصول المدون على ضوء حديث الثقلين ونحوه والمبتني على اتباع الحجتين الى من لم يرجع في الأحكام إلى العترة أصلا واستقل عنها تماما. وبذلك يتضح ايضا حال الإجماع المتبع عند الإمامية وأنه لا يمت إلى إجماع العامة بصلة إذ بعد ان كان اعتباره عند الإمامية من حيث كشفه عن قول المعصوم ـ وان اختلفوا في وجهه ـ ولم يكن له من حيث كونه اتفاقا آية قيمة عندهم كان مؤسسا على أساس التمسك بالعترة وسائرا على النهج الذي سنه حديث الثقلين وغيره مما يؤدي مؤداه. ولا ينحصر التمسك بالعترة بالعمل بأخبارهم فإن تعيين النبي «ص» المرجع بعده في شرعه والتأكيد الصادر منه «ص» في هذا الشأن في حديث الثقلين وغيره إنما هو في قبال من علم «ص» انهم يرومون عزل العترة بعده عن هذا المنصب والاستغناء عنهم والاكتفاء بكتاب الله تعالى بزعمهم كما جرى ذلك على لسان بعضهم عند ما طلب النبي «ص» ما يكتب به كتابا يضمن سلامة الأمة بعده من الضلال فحال بينه وبين ذلك وقال «يكفينا كتاب الله» ونسب اليه (ص) ما أوجب عدم الأثر في ما يكتبه بل إخلاله بمقام النبوة كما أشار إليه بقوله «ص» «أبعد الذي قلتم» راجع مفتاح كنوز السنة ص ٤٤٥ فالمخالف لمدلول الحديث هم الذين لم يعترفوا للعترة بمقامها الشامخ ولم يرجعوا إليهم في أمر الدين واكتفوا بالكتاب بزعمهم واما من يرى أن العترة عدل الكتاب ويرجع في الدين إليهما معا ولا يرجع الى الكتاب إلا بعد الفحص عن ما ورد من العترة في بيانه ويأخذ أقوالهم «ع» مما ورد من الأخبار عنهم ويستكشفها ايضا من اتفاق أصحابهم وتابعيهم ولا يتخطاها أصلا فهو ليس مخالفا الحديث الثقلين

٣٦٥

بمدارستها والتعهد لها المروية في روضة الكافي (١) بأسانيد ثلاثة ونحن ننقل موضع الحاجة منها :

قال عليه‌السلام «أيتها العصابة المرحومة المفلحة ان الله عزوجل أتم لكم ما آتاكم من الخير ، واعلموا انه ليس من علم الله تعالى ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأى ولا مقاييس ، قد انزل الله تعالى القرآن وجعل فيه تبيان كل شي‌ء وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا ، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأى ولا مقاييس ، أغناهم الله تعالى عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم كرامة من الله تعالى أكرمهم بها وهم أهل الذكر الذين أمر الله تعالى هذه الأمة بسؤالهم (٢) وهم الذين قد سبق في علم الله تعالى ان من يتبعهم ويصدق أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدى به الى الله

__________________

قطعا فكيف تنسب الى مثل هذا الشخص في استكشافه قول العترة من اتفاق أصحابهم وتابعيهم المتابعة لمن خالف النبي «ص» في شأن العترة ولم يرجع إليهم في أمر الدين أصلا ، وقد اعترف هو «قدس‌سره» بحجيته وكشفه عن قول المعصوم في موردين ، راجع ج ١ ص ٣٦. نعم استند الفقهاء في موارد كثيرة الى الإجماع وليس فيها اتفاق أو ليس الاتفاق فيها كاشفا عن قول المعصوم بنظر الآخرين كما انه قد يناقش بعض في كاشفية الاتفاق الكلية ، ولا يصحح شي‌ء من ذلك هذه النسبة إليهم وانما تتوجه عليهم المناقشة بعدم تحقق الكاشف فقط. وقد وجه بعض الفقهاء هذه الدعاوي بما ذكره «قدس‌سره» ج ١ ص ٣٩ و ٤٠. وبما ذكرناه يتضح جليا ان ما ذكره «قدس‌سره» في شأن علم الأصول عموما والإجماع خصوصا لا يمكن المساعدة عليه بوجه من الوجوه. ولعله «قدس‌سره» كتب ذلك قبل أن يكتب المقدمة الثانية عشرة من مقدمات الكتاب التي عقدها لبيان الفرق بين المجتهد والاخبارى فإنها إذا كانت متأخرة عن ما ذكره في المقام يمكن ان تكون رجوعا عنه وبمراجعتها يظهر ذلك جليا.

(١) ص ٥ وفي الوسائل الباب ٦ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٢) سورة النحل الآية ٤٥.

٣٦٦

باذنه والى جميع سبل الحق ، وهم الذين لا يرغب عنهم ولا عن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله تعالى به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله تعالى الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة ، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتى دخلهم الشيطان ، لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله تعالى في كثير من الأمر حلالا فذلك أصل ثمرة أهوائهم ، وقد عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موته فقالوا نحن بعد ما قبض الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأى الناس بعد قبض الله تعالى رسوله وبعد عهده الذي عهد إلينا وأمرنا به مخالفا لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أحد اجرأ على الله تعالى ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم ان ذلك يسعه ، والله ان لله تعالى على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد موته. الحديث».

أقول : وكما يستفاد من هذا الخبر ان أصل الإجماع من مخترعات العامة وبدعهم يستفاد منه ان الرجوع الى القرآن وأخذ الأحكام منه يتوقف على تفسيرهم (عليهم‌السلام) وبيان معانيه عنهم ، ومنه يعلم ان الأخبار كالأصل لمعرفة الكتاب وحل مشكلاته وبيان مفصلاته وتفسير مجملاته وتعيين المراد من أحكامه وبيان إبهامه ، وهو المشار إليه في خبر الثقلين بعدم الافتراق بين العترة والقرآن بمعنى ان القرآن لما كان المرجع فيه إليهم وأحكامه لا تؤخذ إلا منهم (عليهم‌السلام) فهو لا يفارقهم وانه لما كانت أفعالهم وأقوالهم (عليهم‌السلام) مقتبسة من القرآن فهم لا يفارقونه.

وكيف كان فهذا الخبر الشريف ظاهر في ما دل عليه خبر الثقلين من ان الاعتماد ليس الا على القرآن والأخبار وان ما عداهما فهو ساقط عن درجة النظر اليه والاعتبار.

٣٦٧

ولا يخفى ان تكرر كلامه عليه‌السلام ومقابلته عدم الأخذ عنهم (عليهم‌السلام) بالرأي والهوى والمقاييس مما يشير الى ان الاستناد الى هذا الإجماع من جملة الهوى والرأي حيث انه لما لم يكن مستندا إليهم (عليهم‌السلام) حيث لم يأمروا به ولم يشيروا إليه بالكلية فهو إنما استند إلى رأى ذلك القائل به وهواه ، ولهذا ان أصحابنا لما اقتفوهم في جعله من مدارك الأحكام الشرعية عدلوا عن معناه عند العامة بأنه عبارة عن إجماع الناس الى اعتبار دخول المعصوم عليه‌السلام فيه وكشفه عن دخوله وان الحجة في ذلك انما هو قول المعصوم عليه‌السلام.

على ان التحقيق ان الذين هم الأصل في الإجماع كالشيخ والمرتضى قد كفونا مؤنة القدح فيه وبيان بطلانه بما وقع لهم من دعوى الإجماعات المتناقضة تارة ودعوى الإجماع على ما تفرد به أحدهما تارة أو تبعه عليه شذوذ من أصحابه كما لا يخفى على المطلع على أقوالهم ، وقد وقفت على رسالة لشيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) قد عد فيها إلا جماعات التي ناقض الشيخ فيها نفسه في مسألة واحدة انتهى عددها الى نيف وسبعين مسألة ، قال (قدس‌سره) فيها : افردناها للتنبيه على ان لا يغتر الفقيه بدعوى الإجماع فقد وقع فيه الخطأ والمجازفة كثيرا من كل واحد من الفقهاء سيما من الشيخ والمرتضى ، قال ومما ادعى الإجماع من كتاب النكاح دعواه في الخلاف. ثم ساق الكلام في تعداد تلك المسائل إلى آخرها بما يقرب مما ذكرنا.

قال شيخنا زين الملة والدين في رسالته التي في هذه المسألة : الإجماع عند أصحابنا إنما هو حجة بواسطة دخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوال القائلين والعبرة عندهم إنما هي بقوله دون قولهم ، وقد اعترفوا بان قولهم «الإجماع حجة» إنما هو مشى مع المخالف حيث انه كلام حق في نفسه وان كان حيثية الحجية مختلفة عندنا وعندهم على ما هو محقق في محله ، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من العلم بدخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوالهم حتى يتحقق حجية قولهم ومن اين لهم العلم في أمثال هذه المواضع مع عدم وقوفهم على خبره فضلا عن قوله عليه‌السلام؟ واما

٣٦٨

ما اشتهر بينهم ـ من انه متى لم يعلم في المسألة مخالف أو علم مع معرفة أصل المخالف ونسبه يتحقق الإجماع ويكون حجة ويجعل قول الإمام في الجانب الذي لا ينحصر ونحو ذلك مما بينوه واعتمدوه ـ فهو قول مجانب للتحقيق جدا ضعيف المأخذ ، ومن اين يعلم ان قوله عليه‌السلام وهو بهذه الحالة من جملة أقوال هذه الجماعة المخصوصة دون غيرهم من المسلمين خصوصا في هذه المسألة فإن قوله بالجانب الآخر أشبه وبه اولى لموافقته لقول الله تعالى ورسوله والأئمة (صلوات الله عليهم) على ما قد عرفت. ثم متى بلغ قول أهل الاستدلال من أصحابنا في عصر من الأعصار السالفة حدا لا ينحصر ولا يعلم به بلد القائل ولا نسبه وهم في جميع الأعصار محصورون منضبطون بالاشتهار والكتابة والتحرير لأحوالهم على وجه لا يتخالجه شك ولا تقع معه شبهة ، ومجرد احتمال وجود واحد منهم مجهول الحال مغمور في جملة الناس مع بعده مشترك من الجانبين ، فان هذا ان اثر كان احتمال وجوده مع كل قائل ممكنا ومثل هذا لا يلتفت إليه أصلا ورأسا ، وقد قال المحقق في المعتبر ـ ونعم ما قال ـ الإجماع حجة بانضمام المعصوم عليه‌السلام فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجة ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله عليه‌السلام فلا تغتر إذا بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين إلا مع العلم القطعي بدخول الامام عليه‌السلام في الجملة. انتهى. ومن اين يحصل العلم القطعي بموافقة قوله عليه‌السلام لأقوال الأصحاب مع هذا الانقطاع المحض والمفارقة الكلية والجهل بما يقوله على الإطلاق من مدة تزيد عن ستمائة سنة. انتهى ما أردنا نقله من كلامه زيد في مقامه.

وقال في المسالك ـ في مسألة «ما لو اوصى له بأبيه فقبل الوصية» بعد الطعن في الإجماع ـ ما هذا لفظه : وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم وقد اتفق لهم ذلك كثيرا ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخر.

وقال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : ومن جملة ما عد مدركا من المدارك الأصلية لفروع الأحكام ما يسمونه إجماعا المفسر عند العامة

٣٦٩

باتفاق فقهاء امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر على أمر شرعي وعند الخاصة باتفاق الفرقة المحقة منها فيه عليه. وقد حاولت العامة في استخراج مدرك حجيته من الكتاب بأدلة (١) كلها مزيفة ومن السنة بخبر رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «لا تجتمع أمتي على خطأ». وفيه من النقوض ما هو مذكور في محله ولا طائل في ذكره ، واما أصحابنا الذين حذوا حذو العامة في عده مدركا فحاولوا في الاستدلال على حجيته بأنه إذا تحقق اتفاق فقهاء الطائفة المحقة على أمر اقتضى دخول المعصوم عليه‌السلام فيهم لكونه من الفقهاء وعدم خلو عصر من معصوم يكون قوله حجة والحجة حينئذ قوله والإجماع كاشف عنه. وهذا إقرار بأنه ليس دليلا وان كان كاشفا عنه وليس في عده من الأدلة إلا تكثير العدد واطالة الطريق وإيهام جواز خلو العصر من معصوم حجة كما هو معتقد أولئك الذين هم عن الحق بمرمى سحيق ، ولذا خلا ظاهر الكتاب وما وصل إلينا من اخبار العترة الطاهرة عن ما يشعر بالأمر بالعمل بما يسمى إجماعا.

وقال (قدس‌سره) في موضع آخر : ثم انه على تقدير ما ذكروه في بيان الإجماع وحجيته ان الحجة انما هو دخول المعصوم فان علم دخوله فلا بحث ولا مشاحة في إطلاق اسم الإجماع عليه ثم اسناد الحجية اليه ولو تجوزا فيهما ، وان لم

__________________

(١) استدلوا من الكتاب ـ كما في أصول الفقه لأبي زهرة ص ١٩٣ و ١٤٠ ـ بقوله تعالى «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» قال : وان هذا النص الكريم اثبت ان اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لان من يفعل ذلك يشاقق الله ورسوله ويصليه الله تعالى جهنم وساءت مصيرا وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما فان اتباع سبيلهم واجب ومن يخالفهم ويقرر نقيض رأيهم لا يكون متبعا لسبيلهم. ونقل في الهامش عن الغزالي المناقشة في دلالة الآية وغيرها من أدلتهم واستدلوا من السنة بما دل على عدم اجتماع الأمة على الضلال وان ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وبان عمل الصحابة على ان ما يجمعون عليه حجة ، ونقل عن الشافعي وجها اعتباريا وهو في رسالته ص ٦٥ في مقدمة كتاب الام.

(٢) مفتاح كنوز السنة ص ٦٣ «ان أمتي لا تجتمع على ضلالة» ..

٣٧٠

يعلم فان ظن ولو بمعاضدة خبر واحد يحكى فعله أو قوله أو تقريره فكذلك وإلا فليس نقل الإجماع بمجرده موجبا للظن بدخول المعصوم ولا كاشفا عنه كما زعموه. ثم ان العلم بدخول المعصوم في زمان ظهوره وانحصار حملة الحديث في قوم معروفين أو بلدة محصورة ممكن اما في مثل زماننا هذا كزمان الغيبة الكبرى فالحق انه لا طريق الى العلم به ـ لأنه إنما يكون بطريق التواتر بان ينقله في كل طبقة جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب مستندون الى الحس بمعاينة اعمال جميع من يتوقف انعقاد الإجماع عليه أو سماع أقوالهم على وجه لا يمكن حمل القول والعمل على نوع من التقية ونحوها مع تشتتهم وانتشارهم في أقطار الأرض وانزوائهم في الطوامير والسراديب وحرصهم على ان لا يطلع عليهم ولا على عقائدهم ومذاهبهم وهو كما لا يخفى ممتنع عادة ـ ولا الى ظنه بنقله بطريق الآحاد لما ذكرنا من التشتت والانزواء المانعين من اطلاع آحاد الناس.

وقال المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المعالم ـ بعد ان أسلف انه يتجه ان يقال ان المدار في الحجية على العلم بدخول المعصوم عليه‌السلام من غير حاجة الى اشتراط اتفاق جميع المجتهدين أو أكثرهم ولا سيما معروفى النسب ، ونقل عن المحقق في المعتبر ما تقدم نقله في كلام والده مما يتضمن التصريح باشتراط العلم القطعي بدخول المعصوم عليه‌السلام في حجية الإجماع ـ ما هذا لفظه : هنا فوائد (الأولى) الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا وما ضاهاه من غير جهة النقل ، إذ لا سبيل الى العلم بقول الامام كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله مستورا بين أقوالهم وهذا مما يقطع بانتفائه ، فكل إجماع يذكر في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) مما يقرب من عصر الشيخ الى زماننا هذا وليس مستندا الى نقل متواترا أو آحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم فلا بد ان يراد به ما ذكره الشهيد (قدس‌سره) من الشهرة ، واما الزمان السابق على ما ذكرنا المقارب لعصر ظهور الأئمة (عليهم‌السلام) وإمكان الاطلاع على أقوالهم فيمكن فيه

٣٧١

حصول الإجماع والعلم بطريق التتبع ، والى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف حيث قال : والإنصاف يقتضي ان لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمن الصحابة حيث كان المؤمنون قليلين لا يتعذر معرفتهم بالتفصيل.

وقال الفاضل المولى محمد باقر الخراساني (قدس‌سره) صاحب الذخيرة والكفاية في رسالته في المسألة بعد الكلام في المسألة : (فإن قلت) الآية والأخبار كما ذكرت دالة على الوجوب العيني إلا ان الأصحاب نقلوا الإجماع على انتفاء الوجوب العيني ، وممن نقل ذلك العلامة في النهاية والتذكرة والشيخ على والشهيد الثاني في شرح اللمعة وشرح الألفية وهو ظاهر كلام المحقق والشهيد ، والإجماع الذي نقله هؤلاء الأعيان من فضلاء أصحابنا حجة إذ التعويل في موارد الإجماع والخلاف على قولهم فاذن سقط القول بالوجوب العيني ، واعترف جماعة منهم بان الكتاب والسنة دالان على الوجوب العيني لكن دعاهم الى عدم القول به إجماع الأصحاب (رضوان الله عليهم) على انتفائه (قلت) هذا هو الداء العضال والشبهة التي بها زلت اقدام وعدلت عن الحق أقوام وأخطأت التحقيق افهام لكنه عند الفحص الصحيح والنظر بمكان من الضعف ، ثم أطال في بيان عدم تحققه وإمكانه زمن الغيبة الى ان قال : (الثاني) نجد في كثير من المسائل ادعى بعضهم الإجماع عليه مع وجود الخلاف فيه بل من المدعى نفسه في كتاب آخر سابق عليه أولا حق به ، وكذلك نجد بعض من ادعى الإجماع على حكم وادعى آخر الإجماع على خلافه حتى قد يتفق ذلك من المدعى نفسه ، وحسبك في هذا الباب ما وقع للسيد المرتضى والشيخ ابى جعفر في الانتصار والخلاف مع كونهما امامى الطائفة ومقتدييها ، ومن أغرب ذلك دعوى السيد المرتضى في الكتاب المذكور إجماع الإمامية على وجوب التكبيرات الخمس في كل ركعة للركوع والسجود والقيام منهما ، ثم ساق جملة من إجماعاته التي من هذا القبيل ، ثم نقل ذلك عن العلامة وعن المحقق الشيخ على.

ولهذا الفاضل المذكور في الذخيرة بحث طويل في الطعن في الإجماع في باب

٣٧٢

غسل الجنابة في مسألة الوطء في الدبر وقد أشبع الكلام فيه ونفى كونه من الأدلة الشرعية وإنما غايته الصلوح للتأييد.

واما صاحب المدارك فإنه نقل في الكتاب المذكور انه صنف رسالة في رد الإجماع وإبطاله.

فإن قيل : ان هؤلاء المذكورين كثيرا ما يستندون إليه في جملة من المسائل.

(قلنا) نعم ربما يستسلقونه مجازفة في مواضع وربما قيدوه بقولهم «ان تم» أو «ان ثبت» واما في مقام التحقيق فإنهم يمزقونه تمزيقا ويجعلونه حريقا. وعلى هذا النهج كلام جملة من متأخري المتأخرين.

وبالجملة فإن ملخص القول في ذلك هو انه غير متحقق الوقوع ولا الإمكان لما عرفت من اتفاق كلمة هؤلاء الأعيان ، وغاية ما ربما يتشبث به الخصم هو ان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة وهو باطل من وجوه :

الأول ـ انه حيث قد عرفت ما وقع لهم من الاختلاف والاضطراب في دعوى الإجماع كما قدمنا نقله عن رسالة شيخنا الشهيد الثاني من ضبط جملة من الإجماعات التي ادعى الشيخ فيها الإجماع على حكم وادعى الإجماع على خلافه وهكذا دعاوي المرتضى الإجماع على ما يتفرد به ونحوه غيره ، فإنه لا وثوق حينئذ بنقلهم لهذا الإجماع في هذه المسألة فلعله من قبيل تلك الإجماعات التي نفاها عليهم من تأخر عنهم.

الثاني ـ انه مع غض النظر عن ذلك فإنه من المقرر في كلامهم والجاري في قواعدهم انهم لا يجمعون بين الدليلين متى تعارضا إلا مع التكافؤ في الصحة وإلا فتراهم يطرحون المرجوح أو يأولونه بما يرجع به الى الراجح ، ولا ريب في ان هذا الإجماع المدعى إنما هو في قوة خبر مرسل بل أضعف فلا يقوم بمعارضة ما سنذكره ان شاء الله تعالى من الأخبار المستفيضة الصحيحة الصريحة فالواجب طرحه من البين.

الثالث ـ انه من القواعد المقررة عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) عرض

٣٧٣

الأخبار في مقام الاختلاف على الكتاب العزيز والأخذ بما وافقه وما خالفه يضرب به عرض الحائط (١) فإذا كانت اخبارهم الصحيحة الصريحة ترد مع مخالفة الكتاب العزيز فكيف هذا الإجماع الذي يرجع في التحقيق الى قول جماعة قليلة من الأصحاب؟

الرابع ـ تحقق الخلاف في المسألة كما سيأتي ان شاء الله تعالى نقله عن جماعة من متقدمي الأصحاب كالشيخ المفيد والكليني والصدوق وابى الصلاح والكراجكي بل هو ظاهر غيرهم من المتقدمين كما ذكره شيخنا زين الدين في الرسالة وتلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد في كتاب العقد الطهماسى ، وسيأتي نقل كلامهما ان شاء الله تعالى وحينئذ فكيف تتم دعوى الإجماع والحال كما عرفت؟

الخامس ـ انهم عللوا هذا الإجماع بعلة ضعيفة روما لتقويته وزيادته على سائر الإجماعات كما سيأتي نقله عن المحقق في المعتبر ، وسيأتي الكلام عليها وبيان ضعفها ان شاء الله تعالى عند نقل القول بالتخيير.

السادس ـ ان ظاهر كلام أكثرهم ان هذا الشرط إنما هو عند حضور الامام عليه‌السلام والتمكن منه كما أومأ إليه المحقق (قدس‌سره) حيث شبهه بالقضاء ، فان التعيين في القضاء عندهم إنما هو عند حضور الامام عليه‌السلام واما مع غيبته فيجب على الفقهاء القيام به مع تمكنهم منه.

وأظهر منها عبارة الشهيد في الذكرى حيث قال : التاسع ـ اذن الامام كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأذن لأئمة الجماعات وأمير المؤمنين عليه‌السلام بعده وعليه اتفاق الإمامية ، هذا مع حضور الامام واما مع غيبته كهذا الزمان ففي انعقادها قولان. الى آخر كلامه وسيأتي نقله ان شاء الله تعالى بتمامه.

ونحوه كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروضة وقال (قدس‌سره) : ان الذي يدل عليه كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان موضع الإجماع المدعى انما هو

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

٣٧٤

حال حضور الامام وتمكنه والشرط المذكور حينئذ انما هو إمكانه لا مطلقا في وجوبها عينا لا تخييرا كما هو مدعاهم حال الغيبة ، لأنهم يطلقون القول باشتراطه في الوجوب ويدعون الإجماع عليه أولا ثم يذكرون حال الغيبة وينقلون الخلاف فيه ويختارون جوازها حينئذ أو استحبابها معترفين بفقد الشرط. هكذا عبروا به في المسألة وصرحوا به في الموضعين ، فلو كان الإجماع المدعى لهم شاملا لموضع النزاع لما ساغ لهم نقل الخلاف بعد ذلك بل اختيار جواز فعلها بدونه أيضا ، فإنهم يصرحون بأنه شرط للوجوب ثم يذكرون الحكم حال الغيبة ويجعلون الخلاف في الاستحباب فلا يعبرون عن حكمها حينئذ بالوجوب ، وهو دليل بين على ان الوجوب الذي يجعلونه مشروطا بالإمام وما في معناه إنما هو حيث يمكن أو في الوجوب العيني حال حضوره بناء منهم على ان ما عداه لا يسمونه واجبا وان أمكن إطلاقه عليه من حيث انه واجب تخييري. وعلى هذا الوجه يسقط الاستدلال بالإجماع في موضع النزاع لو سلمنا تمامه في غيره.

السابع ـ ان كلامهم في الاذن لا يخلو من تشويش لدلالة بعض عباراتهم على ان المراد الاذن لخصوص شخص بعينه لهذه الصلاة بخصوصها أو لما يشملها وبعض يدل على الاذن العام الشامل للفقيه ، وبعضها على الأعم الشامل لكل من يصلح للإمامة وعلى هذا تسقط فائدة النزاع.

قال الشيخ في الخلاف ـ بعد ان اشترط أولا في الجمعة الإمام أو نائبه ونقل فيه الإجماع ـ ما هذا لفظه (فان قيل) أليس قد رويتم في ما مضى من كتبكم انه يجوز لأهل القرى والسواد من المؤمنين إذا اجتمعوا العدد الذي تنعقد بهم ان يصلوا جمعة؟ (قلنا) ذلك مأذون فيه مرغب فيه فجرى مجرى ان ينصب الامام من يصلى بهم. انتهى. وظاهره ان الاذن الذي ادعى الإجماع على اشتراطه أولا يشمل الاذن العام كما ينادى به قوله «فجرى مجرى ان ينصب الامام من يصلى بهم» وحينئذ فإذا قام الاذن العام مقام النصب الخاص فأي مانع من الوجوب العيني

٣٧٥

ولهذا نسب الوجوب العيني إلى الشيخ في الخلاف لظاهر هذه العبارة ، قالوا : وقوله «مأذون ومرغب» لا ينافي ذلك.

أقول : فلينظر العاقل الفطن المنصف المتقيد بقيود الشريعة في هذا الإجماع المدعى في هذا المقام والمعول عليه عند هؤلاء الاعلام ما هو عليه من الضعف وتطرق الطعن اليه الظاهر لكل ناظر من الأنام ، وهل يستجيز مؤمن يخاف الله تعالى ان يخرج عن ظواهر الأخبار الساطعة الأنوار المستفيضة الصحيحة الصريحة مضافا الى الآية الشريفة (١) بهذا الإجماع (٢) الذي لما عرفت تمجه الطباع مضافا الى ما عرفت في أصل الإجماع. ثم انه كيف يشترط في العمل بالكتاب والسنة عمل الشيخ والمرتضى وأتباعهما بذلك (٣) واى فرق بين الشيخ ومن تبعه في هذه المسألة وبين الشهيد الثاني ومن تأخر عنه؟ حيث تعتبر أقوال أولئك ولا تعتبر أقوال

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٩.

(٢) قد ظهر بما تقدم ص ٣٦٥ في التعليقة ١ ص ٣٦٣ ان هذا الإجماع ان كان بنظر الفقيه كاشفا عن قول المعصوم فلا مناص له من رفع اليد عن ظهور الأخبار والآية في الوجوب التعييني إن تم ظهورهما فيه عنده لان قول المعصوم المستكشف بالإجماع يكون قرينة قطعية على عدم ارادة الظاهر منهما ، وان لم يكن كاشفا عنه عنده فلا مسوغ لتقديمه على ظهور الآية والأخبار إلا إذا كان قائلا بحجية الشهرة الفتوائية وكانت الشهرة متحققة في جانب نفى الوجوب التعييني بنظره فإنه يمكن القول بترجيحها على ظهور الأدلة لكونها قرينة على عدم ارادة الظاهر منها كالخبر الصحيح الصريح في نفى الوجوب التعييني.

(٣) لم يعتبر فقيه من فقهاء الإمامية عمل الشيخ والمرتضى وأتباعهما بالكتاب في العمل به ولا وجه لتوهم ذلك وانما المعتبر فيه عند الفقهاء الرجوع الى ما ورد عن الأئمة «ع» في بيانه فان ورد شي‌ء عنهم «ع» يكون بيانا فهو المتبع وإلا كان ظاهره حجة خلافا لبعض حيث أوقف جواز العمل به في كل مورد على ورود البيان عنهم «ع» وقد تقدم الكلام منه «قدس‌سره» في هذا الموضوع في المقدمة الثالثة ج ١ ص ٢٧ وان أردت تجلى الحقيقة في هذا البحث فارجع الى البيان الآية الله الخوئي ج ١ ص ١٨٢.

٣٧٦

هؤلاء مع انه لا ريب عند كل ناظر وسامع ممن عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال ان هؤلاء أدق فهما واذكى ذهنا وأشد تيقظا وأكثر تتبعا وأقرب الى الصواب (١) وابتداء الفحص والتحقيق وترك التقليد للسلف نشأ من زمن الشهيد الأول وان أحدث المحقق والعلامة شيئا من ذلك.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الدراية : ان أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به فلما جاء المتأخرون وجدوا أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه فحسبوها شهرة بين العلماء وما دروا ان مرجعها الى الشيخ (قدس‌سره) وان الشهرة إنما حصلت بمتابعته. ثم قال : وممن اطلع على هذا الذي تبينته وتحققته من غير تقليد الشيخ الفاضل سديد الدين محمود الحمصي والسيد رضى الدين بن طاوس وجماعة ، قال السيد (قدس‌سره) في كتابه المسمى بالبهجة لثمرة المهجة : أخبرني جدي الصالح ورام بن أبي فراس (قدس الله تعالى روحه) ان الحمصي حدثه انه لم يبق للإمامية مفت على التحقيق بل كلهم حاك. وقال السيد عقيب ذلك : والآن قد ظهر ان الذي يفتي به ويجاب على سبيل ما حفظ من كلام العلماء المتقدمين. انتهى.

أقول : ومن إبطال هذين الأصلين يظهر بطلان ما ابتنى عليهما من القول

__________________

(١) المعروف بين الفقهاء عدم جواز العمل بالخبر الذي يعرض عنه القدماء منهم وان كان واجدا لشروط الحجية ، والسر في ذلك ان إعراضهم عنه مع كونه بمرأى منهم يكشف عن اطلاعهم على خلل فيه يوجب سقوطه عن الحجية ، وبهذا يظهر وجه اعتبار عمل المتقدمين وان عمل المتأخرين دون المتقدمين لا اثر له لأن الأخبار انما وصلت الى المتأخرين من طريق المتقدمين وعصرهم قريب من عصر الأئمة «ع» فيمكن ان يطلعوا على ما لا يطلع عليه المتأخرون مما يكشف عن وجود خلل في الخبر ولهذا ينسب الى بعضهم ان الخبر المعرض عنه كلما ازداد صحة ازداد وهنا. واما كون المتأخرين أدق فهما فهذا شي‌ء لا يرتبط بناحية سند الخبر والاطلاع على ان فيه خللا أو لا ولا دخل له فيه أصلا وهو واضح.

٣٧٧

بالتحريم في هذه المسألة كما هو القول النادر الشديد الندور ، والقول بالوجوب التخييري كما هو بين جملة من المتأخرين مشهور ، ومنه يظهر قوة القول بالوجوب العيني المؤيد بالآية والأخبار والمنصور كما ستأتي أدلته ان شاء الله تعالى ساطعة الظهور كالنور على الطور.

وإذ قد عرفت ذلك فلنشرع الآن في الأقوال المذكورة في المسألة وما يتعلق بها من الكلام وتحقيق البحث فيها وما ذكر فيها من نقض وإبرام مستمدين منه سبحانه التوفيق للسلامة من زلل الاقدام وزيغ الافهام متوسلين في ذلك بأهل الذكر (عليهم‌السلام) :

فنقول : ينبغي أن يعلم أولا ان هنا مقامات (الأول) انه هل يشترط الامام المعصوم في الجمعة أو نائبه أم لا؟ (الثاني) انه هل هذا الشرط شرط في الانعقاد أو الوجوب؟ (الثالث) ان هذا الشرط مخصوص بزمان الحضور أو يشمل الغيبة أيضا؟ (الرابع) ان المراد بالنائب هل هو الخاص أو العام الذي يشمل الفقيه حال الغيبة أو الأعم الشامل لإمام الجماعة؟ (الخامس) ان وجوبها على تقدير اشتراط الفقيه عيني أو تخييري؟ أقوال ولكل من هذه الشقوق قائل ، والذي استقر عليه رأي جملة من محققي متأخري المتأخرين وهو الحق اليقين الذي لا يداخله الظن ولا التخمين هو ان وجوب هذه الفريضة مع اجتماع شرائطها الآتية ان شاء الله تعالى كغيرها من الفرائض اليومية لا توقف فيها على حضور الامام ولا غيبته ولا اذنه ولا غير ذلك وقوفا على ظواهر الأدلة الواردة فيها من الكتاب والسنة.

ولا خلاف بين أصحابنا في وجوبها عينا مع حضوره عليه‌السلام أو نائبه الخاص وانما الخلاف في زمن الغيبة وعدم وجود الاذن على الخصوص على أقوال :

(الأول) القول بالوجوب العيني وهو المختار المعتضد بالآية والأخبار وبه صرح جملة من مشاهير علمائنا الأبرار (رضوان الله عليهم) متقدميهم ومتأخريهم :

أحدهم ـ الشيخ المفيد (قدس‌سره) حيث قال في المقنعة : واعلم ان الرواية

٣٧٨

جاءت عن الصادقين (عليهم‌السلام) (١) «ان الله جل جلاله فرض على عباده من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة لم يفرض فيها الاجتماع إلا في صلاة الجمعة خاصة فقال جل من قائل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)» (٢). وقال الصادق عليه‌السلام (٣) «من ترك الجمعة ثلاثا من غير علة طبع الله على قلبه». ففرضها ـ وفقك الله ـ الاجتماع على ما قدمناه إلا انه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات يتقدم الجماعة ويخطبهم خطبتين يسقط بهما وبالاجتماع عن المجتمعين من الأربع ركعات ركعتان ، وإذا حضر الإمام وجبت الجمعة على سائر المكلفين إلا من عذره الله تعالى منهم ، وان لم يحضر امام سقط فرض الاجتماع ، وان حضر امام يخل شرائطه بشريطة من يتقدم فيصلح به الاجتماع فحكم حضوره حكم عدم الإمام. والشرائط التي تجب في من يجب معه الاجتماع ان يكون حرا بالغا طاهرا في ولادته مجنبا من الأمراض الجذام والبرص خاصة في خلقته مسلما مؤمنا معتقدا للحق في ديانته مصليا للفرض في ساعته ، فإذا كان كذلك واجتمع معه أربعة نفر وجب الاجتماع. ومن صلى خلف امام بهذه الصفات وجب عليه الإنصات عند قراءته والقنوت في الاولى من الركعتين في فريضته ومن صلى خلف امام بخلاف ما وصفناه رتب الفرض على المشروح في ما قدمناه. ويجب حضور الجمعة مع من وصفناه من الأئمة فرضا ويستحب مع من خالفهم تقية. انتهى.

وظاهر الشيخ في التهذيب موافقته في ذلك حيث انه بعد نقل هذا الكلام استدل له بجملة من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى الدالة على ما نقله عنه ولم يتعرض لتأويلها ولا الجواب عنها كما هو دأبه في ما يخالف اختياره.

__________________

(١ و ٣) المقنعة ص ٢٧ وفي الوسائل الباب ١ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) سورة الجمعة الآية ٩.

٣٧٩

وقال (قدس‌سره) في كتاب الاشراف باب عدد ما يجب به الاجتماع في صلاة الجمعة : عدد ذلك ثمانية عشرة خصلة : الحرية والبلوغ والتذكير وسلامة العقل وصحة الجسم والسلامة من العمى وحضور المصر والشهادة للنداء وتخلية السرب ووجود أربعة نفر بما تقدم ذكره من هذه الصفات ووجود خامس يؤمهم له صفات يختص بها على الإيجاب : ظاهر الإيمان والطهارة في المولد من السفاح والسلامة من ثلاثة أدواء البرص والجذام والمعرة بالحدود المشينة لمن أقيمت عليه في الإسلام والمعرفة بفقه الصلاة والإفصاح بالخطبة والقرآن واقامة فرض الصلاة في وقتها من غير تقديم ولا تأخير عنه بحال والخطبة بما تصدق عليه من الكلام. وإذا اجتمعت هذه الثمانية عشرة خصلة وجب الاجتماع في الظهر يوم الجمعة على ما ذكرناه وكان فرضها على النصف من فرض الظهر للحاضر في سائر الأيام. انتهى. وهو صريح في ان المعتبر في إمام الجمعة هو المعتبر في إمام الجماعة.

والمراد من الوجوب في عبارته هو الوجوب العيني لأن ذلك هو ظاهر الإطلاق والمنصرف اليه اللفظ بالاتفاق سيما مع قوله في العبارة الاولى : ويجب الحضور مع من ذكرناه فرضا.

ثم عقب ما ذكره في كتاب الاشراف بقوله : باب من يجتمع في الجمعة وهو خمسة نفر في عدد الامام والشاهدين والمشهود عليه والمتولي لإقامة الحدود. وهو ظاهر بل صريح في ان المعتبر حضور قوم بعدد المذكورين لا عينهم كما توهمه من ذهب الى ذلك استنادا الى خبر محمد بن مسلم الآتي ان شاء الله تعالى (١) وان اشتمل على سبعة بزيادة القاضي والمدعى.

الثاني ـ الشيخ أبو الصلاح الحلبي في كتابه الكافي حيث قال : لا تنعقد الجمعة إلا بإمام الملة أو منصوب من قبله أو من تتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذر الأمرين. هذه عبارته وهي صريحة الدلالة في الاكتفاء عند تعذر الامام ومنصوبه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة وآدابها.

٣٨٠