الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

سجود السهو في هذا الموضع ، ولو ذكراها قبل الركوع فإنهما يجلسان ويأتيان بها ثم يستأنفان الركعة. والثاني كما إذا ذكر الإمام السجدة المنسية بعد الركوع والمأموم قبله فإنه يأتي المأموم بها ثم يلحق الامام وأما الامام فإنه يقضيها بعد صلاته كما تقدم وفي السجود للسهو ما مر. ولو كانا قد نسيانا السجدتين معا وذكرهما الامام بعد الركوع والمأموم قبله بطلت صلاة الإمام وأما المأموم فإنه يأتي بهما وينفرد ويتم صلاته.

(الثالث) ـ لو اختص السهو بالمأموم فلا خلاف ولا إشكال في عدم وجوب شي‌ء لذلك على الإمام ، إنما الخلاف بالنسبة إلى المأموم في انه هل يجب عليه الإتيان بموجب ذلك السهو أم لا؟ والأشهر الأظهر انه يجب عليه الإتيان بموجبه ، وذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط إلى انه لا حكم لسهو المأموم هنا ولا يجب عليه سجود السهو بل ادعى عليه الإجماع ، واختاره المرتضى (رضى الله عنه) ونقله عن جميع الفقهاء إلا مكحولا (١) ومال اليه الشهيد في الذكرى والمحقق في المعتبر على اختلاف بينهما في بعض الأحكام كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المقام.

قال في الذكرى : ولا حكم لسهو المأموم الموجب لسجدتي السهو في حال الانفراد بمعنى انه لو فعل المأموم موجب سجدتي السهو كالتكلم ناسيا أو نسيان السجدة أو التشهد لم تجبا عليه وان وجب قضاء السجدة والتشهد ، وكذا لو نسي ذكر الركوع أو السجود أو الطمأنينة فيهما لم يسجد لهما وان أوجبنا السجود للنقيصة وذلك كله ظاهر قول الشيخ في الخلاف والمبسوط واختاره المرتضى ونقله عن جميع الفقهاء إلا مكحولا (٢) ورواه العامة عن عمر (٣). الى آخر كلامه (قدس‌سره) وقال المحقق في المعتبر ـ بعد نقل ذلك عن الخلاف وعلم الهدى وجميع الفقهاء إلا مكحولا والاستدلال عليه بالرواية العامية ورواية حفص بن البختري والرواية المتقدمة عن الرضا عليه‌السلام في سابق هذا المقام (٤) ـ ما لفظه : والذي أراه ان ما يسهو

__________________

(١ و ٢) المغني ج ٢ ص ٤١.

(٣) سنن الدار قطني ص ١٤٥.

(٤) ص ٢٥٨ و ٢٦٩.

٢٨١

عنه المأموم ان كان محله باقيا اتى به وان تجاوز محله وكان مبطلا استأنف وان كان مما لا يبطل فلا قضاء عليه ولا سجود سهو عملا بالأحاديث المذكورة.

وظاهره كما ترى عدم وجوب القضاء في ما يقضى من الأجزاء المنسية لو كان منفردا وعدم سجود السهو في ما أوجب السجود كذلك ، وظاهر كلام الشهيد المتقدم انما هو سقوط سجود السهو خاصة واما قضاء الأجزاء المنسية فإنه يجب.

استدل الشهيد في الذكرى على ما قدمنا نقله عنه فقال على اثر الكلام المتقدم : ورواه العامة عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «انه ليس عليك خلف الإمام سهو الإمام كافيه وان سها الامام فعليه وعلى من خلفه» وهذا الحديث رواه الدار قطني (١) وفي طريقه ضعف عند المحدثين (٢) ولأن معاوية بن الحكم تكلم خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يأمره بالسجود (٣) وروينا في الحسن عن حفص بن البختري عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «ليس على الامام سهو ولا على من خلف الامام سهو ولا على السهو سهو ولا على الإعادة اعادة». وقال الفاضل لو انفرد المأموم بموجب السهو وجب عليه السجدتان كالمنفرد لقول أحدهما (عليهما‌السلام) (٥) «ليس على الامام ضمان». قلنا الخاص مقدم ، ويعارض بما رواه عيسى الهاشمي عن أبيه عن جده عن على عليه‌السلام (٦) انه قال : «الامام ضامن». وقد يحتج بما رواه في التهذيب عن منهال القصاب ، ثم نقل الرواية

__________________

(١) ص ١٤٥ من سنته ولفظ الحديث فيه هكذا قال : «ليس على من خلف الامام سهو فان سها الامام فعليه وعلى من خلفه السهو وان سها من خلف الامام فليس عليه سهو والامام كافيه».

(٢) قال في هامش سنن الدار قطني في التعليق على سند الحديث : والحديث أخرجه البيهقي والبزار كما في بلوغ المرام والكل من الروايات فيها خارجة بن مصعب وهو ضعيف.

(٣) سنن البيهقي ج ٢ ص ٢٥٠ وأشرنا إليه في التعليقة ٥ ص ١٠٠.

(٤) ص ٢٥٨ وفي الوسائل الباب ٢٤ و ٢٥ من الخلل في الصلاة.

(٥) ص ٢٧٨ وفي الوسائل الباب ٢٤ من الجماعة رقم ٢.

(٦) الوسائل الباب ٣ من الأذان والإقامة.

٢٨٢

كما قدمناه. ثم قال ويمكن حملها على الاستحباب. انتهى كلامه زيد إكرامه.

أقول : أنت خبير بأن أدلة هذا القول ترجع إلى رواية حفص وحديث الرضا عليه‌السلام وموثقة عمار الأولى والثانية ، والجميع لا يخلو من الإشكال فإن منها ما هو في غاية الإجمال الموجب للقدح في الاستدلال ومنها ما هو ظاهر إلا ان تطرق الحمل على التقية اليه متوجه لما عرفت آنفا من أن ذلك مذهب الجمهور.

فاما رواية حفص فلما تقدم من ان السهو فيها مجمل يحتمل شموله للسهو بالمعنى المشهور وعدمه ، والظاهر من مرسلة يونس وصحيحة على بن جعفر هو حمل السهو على الشك فيمكن أن يكون في هذه الرواية كذلك.

واما رواية الرضا عليه‌السلام فهي أشد إجمالا وأكثر احتمالا وقد قيل فيها وجوه :

(أحدها) أن يكون المراد بالوهم الشك أو ما يشمله والظن ، فإن المأموم الشاك يرجع الى يقين الامام اتفاقا والى ظنه على الأشهر كما تقدم ، والظان الى يقينه على الأشهر كما تقدم ايضا ، فيصدق انه يحمل أوهام من خلفه. واما استثناء التكبير فيه فلأنه مع الشك فيه لم يتحقق الدخول في الصلاة فضلا عن تحقق المأمومية فلا يرجع اليه.

و (ثانيها) ـ ان يكون المراد بالوهم الأعم من الشك والسهو ويكون المقصود بيان فضيلة الجماعة وفوائدها وانه لا يقع من المأموم سهو وشك غالبا في الركعات والأفعال لتذكير الامام له. ولا يخلو من بعد.

و (ثالثها) ـ ان يكون المراد بالوهم ما يشمل الشك والظن والسهو أو يختص بالسهو كما فهمه جماعة ، فيدل على عدم ترتب حكم السهو على سهو المأموم كما هو مطلوب المستدل. ومنه يظهر عدم بطلان صلاة المأموم بزيادة الركن سهوا في ما إذا ركع أو سجد قبل الإمام أو رفع رأسه منهما قبله فإنه يرجع في تلك الصور ولا يضره زيادة الركن.

و (رابعها) ـ ان يكون المراد ما يسهو عنه من الأذكار غير تكبيرة الإحرام

٢٨٣

إذ ليس فيها ركن غيرها ، ولعل المراد انه يثاب عليها مع تركه لها سهوا وإتيان الإمام بها بخلاف المنفرد فان غايته انه لا يعاقب على تركها دون أن يثاب عليها وحينئذ فمع تعدد ما ذكرنا من الاحتمال فكيف يصلح للاستدلال.

وأما موثقتا عمار فالأظهر حملهما على التقية ، على ان الثانية منهما غير ظاهرة لأن وجوب سجود السهو في الأمور التي اشتملت عليها إنما يتجه على قول من قال بذلك لكل زيادة ونقيصة وهو خلاف المشهور ودليله لا يخلو من القصور كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى في تلك المسألة.

هذا. واما ما يدل على القول المشهور من وجوب سجود السهو بعروض أحد أسبابه المروية فصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ورواية منهال القصاب ومنها روايات نفى الضمان وقد تقدم جميع ذلك (١).

واما احتمال حمل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج على ان القائل كان منفردا كما قيل فبعيد جدا بل تعسف محض.

واما حمل الشهيد (قدس‌سره) في ما تقدم من كلامه رواية منهال على الاستحباب ففيه ان الدليل ليس منحصرا فيها مع ما عرفت في هذا الحمل في غير مقام واما ما ذكره (قدس‌سره) ايضا ـ من ان نفى الضمان عام ونفى السجود خاص والخاص مقدم على العام مع المعارضة برواية عيسى بن عبد الله الهاشمي ـ ففيه ما عرفت في تلك الروايات من الإجمال وتعدد الاحتمال في بعض والحمل على التقية في آخر.

وبالجملة فإنه مع تسليم تعارض الأخبار يشكل ترك العمل بالأحكام الثابتة بالعمومات القوية عند عروض السهو مع انه الأوفق بالاحتياط ومؤيد بالأخبار الدالة عليه ، فالأقوى والأحوط عدم ترك سجود السهو للمأموم متى عرض له أحد أسبابه. والله العالم.

__________________

(١) ص ٢٧٩ و ٢٧٨.

٢٨٤

(الرابع) ـ لو اختص السهو بالإمام كما لو تكلم ناسيا والحال ان المأموم لم يتابعه فالمشهور سيما بين المتأخرين اختصاصه بحكم السهو ، وذهب الشيخ وجملة من أتباعه إلى انه يجب على المأموم متابعته في سجدتي السهو وان لم يعرض له السبب وبهذا القول قال أكثر العامة (١).

استدل الشيخ بوجوه : (أحدها) وجوب متابعة الامام. ورد بأنه انما تجب متابعته حال كونه اماما وسجدتا السهو إنما هما بعد الفراغ من الصلاة وانقضاء الائتمام على ان صلاة المأموم لا تبنى على صلاة الإمام فقد تبطل صلاة الإمام مع صحة صلاة المأموم كما لو تبين حدثه أو فسقه أو كفره فان ذلك لا يقدح في صحة صلاة المأموم فكذا مع حصول النقص فيها واستدراكه بالسجود مثلا فإنه لا يستلزم تعدى ذلك الى المأموم.

و (ثانيها) ـ ما رواه العامة عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : «ليس على من خلف الامام سهو الإمام كافيه وان سها الامام فعليه وعلى من خلفه» رواه الدار قطني (٢). ورد بان الخبر من روايات العامة فلا يقوم حجة مع انه عندهم ايضا ضعيف (٣)

و (ثالثها) ـ موثقة عمار المتقدمة وهي الثالثة من رواياته والجواب عنه بالحمل على التقية كما عرفت فان القول بذلك مذهب جمهور العامة (٤).

واما ما يشعر به كلام صاحب الذخيرة ـ من التردد هنا والميل الى مذهب الشيخ لما ذكره من الدليل الأول والثالث ـ فهو من تشكيكاته الواهية.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الشهيد في الذكرى قد ذكر فروعا على قول الشيخ في القاعدتين ، قال (الأول) لو رأى المأموم الإمام يسجد للسهو وجب عليه السجود وان لم يعلم عروض السبب حملا على ان الظاهر منه انه يؤدى ما وجب

__________________

(١ و ٤) المغني ج ٢ ص ٤١ «إذا سها الامام فعلى المأموم متابعته في السجود سواء سها معه أو انفرد الامام بالسهو ، قال ابن المنذر اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك وذكر إسحاق انه إجماع أهل العلم».

(٢) ارجع الى التعليقة ١ ص ٢٨٢.

(٣) ارجع الى التعليقة ٢ ص ٢٨٢.

٢٨٥

عليه ، ولعدم شرعية التطوع بسجدتي السهو.

واعترضه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بأنه يحتمل أن يكون عرض له السبب في صلاة أخرى وذكره في هذا الوقت فلا يجب على المأموم متابعته.

وأورد عليه بعض مشايخنا المحققين أيضا بالنسبة إلى ادعائه عدم مشروعية التطوع بهما انه في محل المنع ، قال إذ الأصحاب كثيرا ما يحملون الأخبار الواردة بهما مع المعارض أو مخالفة المشهور على الاستحباب.

أقول : يمكن دفع هذا الإيراد بأن الظاهر ان مراد الشيخ الشهيد إنما هو عدم مشروعية سجدتي السهو بدون أحد الأسباب المعدودة في الأخبار وكلام الأصحاب كما انه يستحب السجود مطلقا بل إنما يقع ويشرع مع أحد الأسباب المذكورة ، وحينئذ فلا يرد عليه حمل الأصحاب لهما على الاستحباب باعتبار وجود أحد الأسباب. ومرجع كلام الأصحاب إلى أصل السبب وصلوحه للسببية لا الى نفس السجود فمن حيث عدم صلوحه للسببية لمعارض ونحوه يحملون السجود على الاستحباب وهذا لا يأباه كلام الشهيد بناء على ما فسرناه به.

ثم ذكر جملة من الفروع التي ليس في إيرادها كثير فائدة مع ما عرفت من ضعف القول الذي فرعت عليه.

(الخامس) ـ قوله عليه‌السلام في رواية منهال القصاب «فاسجد سجدتين ولا تهب» يحتمل أن يكون من المضاعف اى لا تقم من مكانك حتى تأتى بهما ، قال في النهاية : فيه «لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يهبون إليها كما يهبون الى المكتوبة» يعنى ركعتي المغرب اى ينهضون إليها. وفي القاموس الهب الانتباه من النوم ونشاط كل سائر وسرعته. ويحتمل أن يكون على بناء الأجوف وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد به عدم الخوف عليه من تشنيع الناس عليه بالسهو في الصلاة أو عدم الخوف من المخالفين للخلاف بينهم في ذلك. والله العالم.

فائدة

روى الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن سماعة عن ابى عبد الله

٢٨٦

عليه‌السلام (١) «في رجل سبقه الإمام بركعة ثم أوهم الإمام فصلى خمسا؟ قال يعيد تلك الركعة ولا يعتد بوهم الامام». كذا في التهذيب (٢) وفي الفقيه (٣) «يقضى تلك الركعة» عوض «يعيد».

قال في الوافي : «يعيد تلك الركعة» أي يصليها منفردا أسماها اعادة لانه قد فاتته مع الامام. انتهى.

أقول : لعل المراد من كلامه ان السؤال وقع عن حكم المأموم قبل الإتمام مع الامام ، بمعنى انه لما صلى ثلاثا وبقيت عليه ركعة واحدة ولكن الإمام في تلك الحال سها فزاد رابعة فما حكم المأموم في حال قيام الإمام للخامسة؟ قال يأتي بما بقي عليه وهي الركعة التي فاتته. ولكنه عبر عن الإتيان بالإعادة ، ولا يخلو من بعد فان ظاهر الخبر ان الرجل أكمل صلاته أربعا مع الامام وتابعه في الخامسة التي زادها الامام سهوا ، وحينئذ فيشكل امره بإعادة تلك الركعة التي تابع الامام فيها حال سهوه لانه يلزم أن تكون صلاته خمسا حينئذ ، فإن هذا ظاهر الخبر والاشكال فيه من جهة ما ذكرناه ظاهر ايضا ، والأقرب على هذا ان قوله «يعيد تلك الركعة» وقع تصحيف «يعتد» بالتاء الفوقانية من الاعتداد عوض الياء التحتانية من الإعادة فإنه لا معنى لإعادة الركعة هنا بالكلية ، وحاصل المعنى انه يعتد بتلك الركعة التي تابع فيها الامام ولكن يجب حمله على نية الانفراد فيها أو مشاركته للإمام في سهوه ، فان بطلان صلاة الإمام بزيادة تلك الركعة لا يوجب بطلان صلاة المأموم لعدم حصول الزيادة في صلاته والاقتداء به فيها على تقديره إنما وقع سهوا فلا اشكال. هذا على ما في التهذيب واما على ما في الفقيه من قوله «يقضى» فالمراد من القضاء مجرد الفعل كقوله «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ» (٤) لا المعنى المشهور ، وحاصله أن يأتي بتلك الركعة ويتم صلاته ولا يعتد ببطلان صلاة

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٨ من الجماعة.

(٢) ج ١ ص ٣٣١.

(٣) ج ١ ص ٢٦٦.

(٤) سورة الجمعة ، الآية ١٠.

٢٨٧

الإمام ، وهو اما بقصد الانفراد ان تابع الإمام في خامسته أو انه انفرد من أول الأمر ولم يتابع فيها. والله العالم.

(المسألة الثالثة عشرة) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف بأنه لا حكم للسهو مع الكثرة لكن ظاهر جملة منهم ان المراد بالسهو هنا الشك كما صرح به في المعتبر وهو ظاهر العلامة في المنتهى والتذكرة واختاره في المدارك ونقل بعض مشايخنا انه مذهب الأكثر ، وظاهر آخرين ـ ومنهم الشيخ وابن زهرة وابن إدريس وغيرهم والظاهر انه المشهور ـ هو العموم للشك والسهو وبه صرح شيخنا الشهيد الثاني وغيره وهو الأظهر.

والأصل في المسألة الأخبار ، ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن زرارة وابى بصير (١) قالا : «قلنا له الرجل يشك كثيرا في صلاته حتى لا يدرى كم صلى ولا ما بقي عليه؟ قال يعيد. قلنا فإنه يكثر عليه ذلك كلما أعاد شك؟ قال يمضى في شكه ثم قال لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه فان الشيطان خبيث معتاد لما عود فليمض أحدكم في الوهم ولا يكثرن نقض الصلاة فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد اليه الشك. قال زرارة ثم قال انما يريد الخبيث ان يطاع فإذا عصى لم يعد إلى أحدكم».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن مسلم في الصحيح عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك فإنه يوشك ان يدعك انما هو من الشيطان». وفي الفقيه (٣) «فدعه» مكان «فامض في صلاتك».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن سنان ـ والظاهر انه عبد الله الثقة ـ عن غير واحد عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك».

وعن عمار الساباطي في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) «في الرجل يكثر

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١٦ من الخلل في الصلاة.

(٣) ج ١ ص ٢٢٤.

٢٨٨

عليه الوهم في الصلاة فيشك في الركوع فلا يدرى أركع أم لا ويشك في السجود فلا يدرى أسجد أم لا؟ فقال لا يسجد ولا يركع ويمضى في صلاته حتى يستيقن يقينا».

وروى الصدوق مرسلا عن الرضا عليه‌السلام (١) قال : «إذا كثر عليك السهو في الصلاة فامض على صلاتك».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن على بن أبي حمزة عن رجل صالح عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن رجل يشك فلا يدرى أواحدة صلى أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا تلتبس عليه صلاته؟ قال كل ذي؟ قال قلت نعم. قال فليمض في صلاته ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإنه يوشك أن يذهب عنه».

وهذا الخبر حمله الشيخ على النوافل أولا ثم حمله ثانيا على كثير الشك وهو الصواب ولذا أوردناه في اخبار الباب إذا عرفت هذا فاعلم ان تحقيق الكلام في هذا المقام يحتاج إلى بسطه في موارد

(الأول) ـ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة وابى بصير المتقدمة أو حسنتهما «الرجل يشك كثيرا في صلاته» الظاهر ان المراد بالكثرة هنا كثرة أطراف الشك ومحتملاته وان كان شكا واحدا كأن يشك لا يدرى واحدة صلى أم اثنتين أم ثلاثا أم أربعا ومن ثم أمره بالإعادة وليس المراد به كثرة افراد الشك الذي هو محل البحث فإنه لا اعادة معه اتفاقا نصا وفتوى إلا ما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المقام من بعض الأعلام ، ثم انه لما راجعه السائل وقال : «انه يكثر عليه ذلك كلما أعاد شك» امره بما هو الحكم في كثير الشك من المضي في شكه وعدم الالتفات فإنه بكثرة ذلك عليه قد دخل تحت كثير الشك فوجب عليه ما ذكرناه من حكمه.

واحتمل المحقق الأردبيلي حمل قوله في صدر الخبر «يشك كثيرا» على كثرة افراد الشك اى يقع منه الشك كثيرا حتى يبلغ الى حد لا يعرف عدد ركعاته ، ويدل الخبر على ما اختاره من التخيير في الحكم في كثير الشك بين ان يكون حكمه المضي وعدم الالتفات أو العمل بمقتضى الشك فهو عنده مخير بين العمل بالشك

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٦ من الخلل في الصلاة.

٢٨٩

وعدم الالتفات اليه مستندا إلى انه عليه‌السلام أمره أولا بالإعادة ثم لما بالغ في الكثرة أمره بعدم الالتفات اليه.

وأنت خبير بما فيه من البعد عن سياق الخبر المذكور كما لا يخفى على المتأمل البصير ولا ينبئك مثل خبير ، فان نهيه عليه‌السلام عن تعويد الخبيث وامره بالمضي في الشك ونهيه عن إكثار نقض الصلاة وذكر التعليلات المذكورة لا يجامع شي‌ء منها التخيير فضلا عن اجتماعها وصراحتها في المدعى. وبالجملة فإن معنى الخبر انما هو ما قدمنا ذكره من حمل الكثرة في صدر الخبر على كثرة أطراف الشك ومحتملاته والكثرة بالمعنى المراد في المقام انما هي ما أشار إليه السائل بعد المراجعة بقوله : «فإنه يكثر عليه ذلك. إلخ» ومن ثم أمره عليه‌السلام بالإعادة في الأول والمضي في الثاني

وبذلك يظهر لك ان ما ذكره المحقق المشار اليه غير موجه وان سبقه الى ذلك ايضا الشهيد الأول (طاب ثراه) في الذكرى حيث انه احتمل حمل الأمر بالمضي في الشك على الرخصة.

قال (قدس‌سره) في الكتاب المذكور لو اتى بعد الحكم بالكثرة بما شك فيه فالظاهر بطلان صلاته لأنه في حكم الزيادة في الصلاة متعمدا إلا ان يقال هذا رخصة لقول الباقر عليه‌السلام (١) «فامض في صلاتك فإنه يوشك ان يدعك الشيطان». إذ الرخصة هنا غير واجبة. انتهى.

ولا يخفى ما فيه سيما مع عدم دلالة الخبر على ما يدعيه ان لم يدل على خلافه كما لا يخفى على من يتدبر في ما ذكرناه ويعيه ، فإن الأصل في الأوامر الواردة في هذه الأخبار بالمضي هو الوجوب والنواهي المانعة عن تعويد الشيطان من نفسه وعن إكثار نقض الصلاة هو التحريم ، وحملهما على المجاز يحتاج الى دليل لا بمجرد التشهي والظن.

واما ما يظهر من خبر على بن أبي حمزة من ان كثرة الشك تحصل بتعدد

__________________

(١) في صحيح محمد بن مسلم ص ٢٨٨.

٢٩٠

الاحتمالات في الشك الواحد ـ وقد أشرنا سابقا الى ان مثل هذا ليس من كثرة الشك في شي‌ء ـ فينبغي حمله على علم الامام عليه‌السلام من حال السائل انه كان كثير الشك لا من مجرد هذا السؤال أو دلالة قرائن الأحوال يومئذ على انه لا يصدر عنه مثل هذا الشك إلا من حيث كونه كثير الشك دائما.

(الثاني) ـ قد تقدمت الإشارة إلى الخلاف في ان الحكم المذكور هنا هل هو مخصوص بالشك أو شامل له وللسهو؟ وربما رجح الأول بنسبة ذلك الى الشيطان والذي يقع من الشيطان انما هو الشك واما السهو فهو من لوازم طبيعة الإنسان. وفيه نظر لتصريح الآيات والروايات بنسبة السهو ايضا الى الشيطان كقوله عزوجل «وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» (١) وقوله «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ» (٢) مع ان الشك انما يحصل من الشيطان فلا فرق بينهما في ان كلا منهما من الشيطان.

والظاهر عندي هو العموم لان اخبار المسألة منها ما ورد بلفظ الشك ومنها ما ورد بلفظ السهو والقول بالعموم جامع للعمل بالأخبار كملا واما التخصيص بالشك فيحتاج إلى التأويل في اخبار السهو بالحمل على الشك وإخراجه عن ظاهر حقيقته اللغوية التي هي النسيان وهو يحتاج الى دليل مع انه لا ضرورة تلجئ اليه.

ويؤيد ما قلناه ما تشير إليه الأخبار المذكورة من ان العلة في هذا الحكم هو رفع الحرج والتخفيف على المكلفين لأن الإعادة موجبة للزيادة حيث ان ذلك من الشيطان وهو معتاد لما عود ، وهذا مما يجري في الشك والسهو.

وممن وافقنا في المقام الفاضل الخراساني في الذخيرة مع اقتفائه أثر صاحب المدارك غالبا فقال : واعلم ان ظاهر عبارات كثير من الأصحاب التسوية بين الشك والسهو في عدم الالتفات إليهما بل شمول الحكم للسهو في كلامهم أظهر. وهو ظاهر النصوص. وفي عبارة المعتبر وكلام المصنف في عدة من كتبه اشعار باختصاص الحكم بالشك. والأول يقتضي عدم الإبطال بالسهو في الركن وعدم

__________________

(١) سورة الانعام الآية ٦٧.

(٢) سورة الكهف الآية ٦٢.

٢٩١

القضاء إذا كان السهو موجبا له ، ولم أجد من الأصحاب من صرح بهما بل صرح جماعة منهم بخلافهما مع تصريح بعضهم بسقوط سجود السهو والفرق بينه وبين القضاء محل تأمل واحتمل الشارح الفاضل عدم وجوب القضاء. انتهى. وهو جيد وسيأتي في المقام ان شاء الله تعالى ما فيه مزيد تحقيق لما اخترناه وتأييد لما ذكرناه.

(الثالث) ـ قال في المدارك : ولو كثر السهو عن واجب يستدرك اما في محله أو في غير محله وجب الإتيان به ، ولو كان عن ركن وتجاوز محله فلا بد من الإعادة تمسكا بعموم ما دل على الحكمين المتناول لكثرة السهو وغيره السالم من المعارض. وهل تؤثر الكثرة في سقوط سجدات السهو؟ قيل نعم وهو خيرة الذكرى دفعا للحرج ، وقيل لا وهو الأظهر لأن أقصى ما تدل عليه الروايات المتقدمة وجوب المضي في الصلاة وعدم الالتفات الى الشك فتبقى الأوامر المتضمنة للسجود بفعل موجبه سالمة من المعارض. انتهى.

أقول : فيه ان هذا الكلام لا يلائم ما قدمه في صدر البحث من اختصاص الحكم بالشك ، فان اللازم من ذلك ان كثرة السهو ليس من هذه المسألة في شي‌ء حتى يستثني منه هذين الفردين. اللهمّ إلا ان يقال ان غرضه بيان حكم هذين الفردين بناء على القول بالعموم. وفيه ان عبارته قاصرة عن افادة هذا المفهوم.

وكيف كان فإنه على تقدير القول بالعموم فهل يكون الحكم في هذين الفردين ما ذكره من عدم العمل بموجب الكثرة فيهما وبقاء حكمهما على ما كان أو انه يجرى حكم الكثرة فيهما؟ ظاهر كلامهم الأول كما تقدمت الإشارة إليه في كلام الفاضل الخراساني وبه صرح في الذكرى كما ذكره السيد السند هنا.

وما استدل به السيد من التمسك بعموم ما دل على الحكمين المتناول لكثرة السهو وغيره معارض بعموم ما دل على المضي في الصلاة مع الكثرة وإلغاء السهو الشامل لهذين الفردين وغيرهما ، وكيف استجاز تخصيص عموم اخبار السهو في غير هذين الموضعين واخبار الشك بهذه الأخبار ويمنعه في هذين الموضعين مع عدم ظهور

٢٩٢

الفرق في البين وهل هو إلا تحكم محض؟ واما ما دل على وجوب الاحتياط في افراد الشكوك فشامل بإطلاقه لكثير السهو وغيره.

وبالجملة فإنه قد تعارض هنا عمومان عموم أخبار المضي مع كثرة الشك والسهو الشامل للسهو في ركن وغيره ولما كان في محله أو غير محله مما يقضي أو لا يقضى ، وعموم ما دل على البطلان بالسهو عن الركن حتى تجاوز محله أو دل على التدارك في المحل والقضاء بعده الشامل لكثير السهو وغيره ، فدعوى تخصيص العموم الأول بالثاني دون العكس ترجيح من غير مرجح بل الأمر بالعكس لما ثبت في جملة أفراد الشك وأفراد السهو في غير الموضعين المذكورين من تخصيص أدلة تلك الأحكام فليكن مثله في هذين الفردين مؤيدا بما اشتملت عليه التعليلات في الأخبار من مراعاة حال المكلف وتخفيف الأمر عليه وتخليصه من شباك الوسواس الخناس.

وبذلك يتبين لك ايضا ما في كلام شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) حيث انه من جملة من مال الى تخصيص حكم الكثرة بالشك تبعا لصاحب المدارك ومن تقدمه حيث قال ـ بعد الكلام في المقام واختيار حمل الأخبار كملا على الشك ـ ما صورته : بل الأصوب ان يقال شمول لفظ السهو في تلك الأخبار للسهو المقابل للشك غير معلوم وان سلم كونه بحسب أصل اللغة حقيقة فيه ، إذ كثرة استعماله في المعنى الآخر بلغت حدا لا يمكن فهم أحدهما منه إلا بالقرينة ، وشمولها للشك معلوم بمعونة الأخبار الصريحة ، فيشكل الاستدلال على المعنى الآخر بمجرد الاحتمال ، مع ان حمله عليه يوجب تخصيصات كثيرة تخرجه عن الظهور لو كان ظاهرا فيه ، إذ لو ترك بعض الركعات أو الأفعال سهوا يجب عليه الإتيان به في محله إجماعا ، ولو ترك ركنا سهوا وفات محله تبطل صلاته إجماعا ولو كان غير ركن يأتي به بعد الصلاة لو كان مما يتدارك ، فلم يبق للتعميم فائدة إلا في سقوط سجود السهو وتحمل تلك التخصيصات الكثيرة أبعد من حمل السهو على خصوص الشك لو كان بعيدا ، مع ان مدلول الروايات المضي في الصلاة وهو لا ينافي وجوب سجود السهو

٢٩٣

إذ هو خارج عن الصلاة ، فظهر ان من عمم النصوص لا تحصل له في التعميم فائدة. انتهى

أقول : لا يخفى ان ما ذكره وأورده وارد على من قال بهذه الإجماعات ووافق عليها وجعلها حججا شرعية ومع ذلك كله يقول بالعموم ، واما من لا يعتبر هذه الإجماعات ولا يجعلها دليلا شرعيا وإنما يعتمد على الروايات ويجعل البحث منوطا بها ومعلقا عليها من غير نظر الى خلاف أو وفاق فلا ريب ان الحق عنده في المسألة هو ما قدمناه كما قدمناه في سابق هذا المورد وأوضحناه.

واما دعواه ـ ان كثرة استعمال السهو بمعنى الشك أوجبت الاشتراك بين المعنى الحقيقي للسهو وبين هذا المعنى المجازي لشيوعه وكثرته حتى انه لا يحمل على أحدهما إلا بالقرينة. إلخ. فإن فيه مع غض النظر عن المناقشة انه وان كان الأمر كما ذكره إلا ان التعليلات التي اشتملت عليها الأخبار ظاهرة في العموم ، فان الغرض من المضي في السهو والشك وعدم الالتفات إليهما إنما هو رعاية حال المكلف وتخفيف الأمر عليه بعدم استيلاء الشيطان وتطرقه اليه وهذا أمر مشترك بين الشك والسهو بل ربما كان أظهر في السهو كما يشعر به نقض الصلاة بمعنى ابطالها بالكلية الناشئ عن السهو في ركن حتى تجاوز محله ونحو ذلك.

واما قوله ـ مع ان مدلول الروايات المضي في الصلاة. الى آخره ـ ففيه ان الظاهر من قولهم «يمضي في شكه ويمضى في صلاته» انما هو الكناية عن عدم الالتفات الى ما يوجبه الشك أو السهو من الإتيان بالمشكوك فيه أو الاحتياط أو الإتيان بما سها عنه في محله أو بعد فوات محله أو ما أوجباه من سجود سهو ونحوه ، وبالجملة فالمراد جعل ذلك في حكم العدم كأنه لم يكن ثمة سهو ولا شك بالمرة ، وهذا هو المعنى الملائم لتلك التعليلات المشار إليها آنفا من التخفيف على المصلى وان لا يطمع الشيطان في العود اليه وهو الظاهر كما لا يخفى على الخبير الماهر.

وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال والاحتياط مما لا ينبغي تركه بحال. والله العالم.

٢٩٤

(الرابع) ـ اعلم ان ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف ان حكم الشك مع الكثرة عدم الالتفات إليه بالكلية كما تقدمت الإشارة إليه ، فلو اشتمل على ما يبطلها في غير تلك الحال من الأركان أو الأفعال لم تبطل في صورة الكثرة بل يمضي في صلاته ويبنى على وقوع المشكوك فيه وان كان محله باقيا ركنا كان أو غيره ما لم يستلزم الزيادة فيبني على الصحيح ، وقد دلت موثقة عمار (١) على انه بالشك في الركوع والسجود وان كان في محله فإنه يمضى ولا يركع ولا يسجد. وإذا ثبت ذلك في الأركان ثبت في غيرها من الأفعال بطريق اولى ، مضافا الى الأمر بالمضي في الأخبار وهكذا يقال بالنسبة إلى السهو على ما اخترناه من العموم. ومن جملة ذلك أيضا صلاة الاحتياط في صور الشك المتقدمة فإنه لا يأتي بها ، وتردد المحقق الأردبيلي (طاب ثراه) في سقوط صلاة الاحتياط. ولا يخفى ما فيه.

وقد أشرنا في ما تقدم ايضا الى ان الحكم بما ذكرناه من عدم الالتفات الى الشك أو السهو حتى لظواهر الأوامر والنواهي الواردة في الأخبار ، ولم يظهر خلاف في ذلك إلا ما قدمناه عن المحقق الأردبيلي وقبله الشهيد في الذكرى.

ومقتضى كلام الأصحاب ان من كثر شكه فإنه يبنى على الأكثر وتسقط عنه صلاة الاحتياط لعلة الكثرة ، واختار المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) البناء على الأقل للأصل مع العمل بعدم اعتبار الشك مع الكثرة في الجملة. ولم أقف على قائل بذلك سواه.

ولا يخفى على الناظر في الأخبار بعين التأمل والاعتبار انه ليس العلة في تغيير الحكم في كثير الشك عن ما كان عليه غيره إلا مراعاة جانبه والتخفيف عليه بدفع وساوس الشياطين عنه ، والتخفيف إنما يحصل بما عليه الأصحاب من البناء على الأكثر وجعل المشكوك فيه كأنه فعله واتى به من غير ان يترتب على ذلك شي‌ء زائد على إتمامه الصلاة على تلك الحال ، إذ في البناء على الأقل يحصل زيادة تكليف موجب

__________________

(١) ص ٢٨٨ وفي الوسائل الباب ١٦ من الخلل في الصلاة.

٢٩٥

لإعادة الشيطان له ورغبته في تشكيكه.

وبالجملة فإن جميع ما ذكره هذا المحقق من الأقوال وخلاف الأصحاب كله خلاف ظواهر النصوص الدالة على تسهيل التكليف مضافا الى عموم النصوص الدالة على ان دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمح سهل كما تمدح به صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) من قوله «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة».

قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) بعد الكلام في الشك بنحو ما ذكرناه : واما السهو فقد عرفت ان المشهور بين الأصحاب عدم ترتب حكم على الكثرة فيه ، وذهب الشهيد الثاني إلى ترتب الحكم عليه مع موافقته لسائر الأصحاب في وجوب العود الى الفعل الذي سها فيه إذا ذكره مع بقاء محله ، وقضائه بعد الصلاة مع تذكره بعد فوات محله ، وبطلان الصلاة بترك الركن أو الركعة نسيانا مع مضى وقت التدارك وكذا زيادة الركن والركعة على التفصيل المقرر في أحكام السهو ، فلم يبق النزاع إلا في سجود السهو ويشكل الاستدلال بالنصوص على سقوطه فالأحوط الإتيان به. واحتمل الشهيد في الذكرى اغتفار زيادة الركن سهوا ، من كثير السهو دفعا للحرج ولاغتفار زيادته في بعض المواضع. أقول طريق الاحتياط واضح. انتهى.

أقول : اما ما ذكره من نسبة الاختصاص بالشك الى المشهور فهو اعرف به فإنه لم ينقل ذلك إلا عن ظاهر المحقق والعلامة. وأما تخصيص العموم بالشهيد الثاني ففيه ما تقدم من ان ذلك مذهب الشيخ وابن زهرة وابن إدريس ، نقل ذلك الفاضل الخراساني في الذخيرة. واما ما أورده على الشهيد الثاني فهو في محله كما تقدمت الإشارة اليه ولكن ظواهر الأخبار ـ كما قدمنا بيانه ـ تدفع ذلك لظهور عمومها للسهو والشك في ركن كان أو غيره في محله أو في غير محله كما تقدم تحقيقه.

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٨ من مقدمات النكاح وآدابه وفي نهج الفصاحة ص ٢١٩ «بعثت بالحنيفية السمحة».

٢٩٦

واما ما ذكره من الإشكال في الاستدلال بالنصوص على سقوط سجدتي السهو فقد تقدم الجواب عنه ايضا ، وان العبارة المذكورة في النصوص إنما خرجت مخرج الكناية عن عدم الالتفات بالكلية الى ما يترتب على ذلك السهو والشك. والله العالم.

(الخامس) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما تتحقق به الكثرة الموجبة لسقوط الأحكام في هذا المقام ، فظاهر المشهور بين المتأخرين ومتأخريهم هو إرجاع ذلك الى العرف ، ذهب اليه الفاضلان والشهيدان ومن بعدهم ، وقال الشيخ في المبسوط : واما ما لا حكم له ففي اثنى عشر موضعا : من كثر سهوه وتواتر وقيل ان حد ذلك ان يسهو ثلاث مرات متوالية.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : وهذا يدل على عدم الرضا بهذا القول. وقال ابن إدريس السهو الذي لا حكم له هو الذي يكثر ويتواتر ، وحده ان يسهو في شي‌ء واحد أو فريضة واحدة ثلاث مرات فيسقط بعد ذلك حكمه أو يسهو في أكثر الخمس فرائض أعني ثلاث صلوات من الخمس كل منهن قام إليها فسها فيها فيسقط بعد ذلك حكم السهو ولا يلتفت الى سهوه في الفريضة الرابعة. وقال ابن حمزة لا حكم له إذا سها ثلاث مرات متواليات وأطلق في فريضة أو فرائض.

وأنكر المحقق ما ذكره ابن إدريس تمام الإنكار وقال بعد نقل ذلك عنه انه يجب ان يطالب هذا القائل بمأخذ دعواه فانا لا نعلم لذلك أصلا في لغة ولا شرع والدعوى من غير دلالة تحكم. انتهى.

أقول : يمكن أن يكون الوجه في ما ذكره ابن إدريس هو ان النصوص تضمنت سقوط حكم السهو مع الكثرة ولم تحد هذه الكثرة في الأخبار بحد معين والكثرة لغة وعرفا تحصل بثلاث مرات ، إلا انه يبقى الكلام في محلها وهو أعم من الشي‌ء الواحد أو الفريضة الواحدة أو الفرائض الخمس حسبما ذكره ، فلو سها أو شك في شي‌ء واحد ثلاث مرات مضى في الرابعة ولم يلتفت ، أو كان كذلك في فريضة واحدة شخصية فإنه يمضى في الرابع ولا يلتفت ، أو كان كذلك في

٢٩٧

ثلاث فرائض متوالية فيسقط حكمه في الفريضة الرابعة. وهذا القول ليس بذلك البعيد إلا ان المحقق لما كان مولعا بتتبع سقطات الشيخ المزبور والتشنيع عليه سارع قلمه الى ما ذكره.

والذي ورد في هذا المقام من الأخبار ما رواه الصدوق عن محمد بن ابى عمير عن محمد بن أبي حمزة في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) انه قال : «إذا كان الرجل ممن يسهو في كل ثلاث فهو ممن كثر عليه السهو». ولا يخفى ما فيه من الإجمال الموجب لسعة دائرة الاحتمال.

قال في الذخيرة بعد الحكم بترجيح القول المشهور وهو الرجوع الى العرف ثم نقل الخبر : انه يحتمل وجهين (أحدهما) ان يكون المراد الشك في جميع الثلاث بان يكون المراد الشك في كل واحد واحد من اجزاء الثلاث اى ثلاث كان. و (ثانيهما) ان يكون المراد انه كلما صلى ثلاث صلوات يقع فيها الشك بحيث لا تسلم له ثلاث صلوات خالية من الشك ثبت له حكم الكثرة ، وحينئذ يقع الاحتياج الى العرف أيضا إذ ليس المراد كل ثلاث صلوات تجب على المكلف على التعاقب الى انقضاء التكليف وإلا يلزم انتفاء حكم الكثرة وسقوطه بالكلية. وترجيح أحد الاحتمالين على الآخر على وجه واضح لا يخلو من إشكال وان لم يبعد ترجيح الأخير ومع هذا فالثلاث مجمل فيحتمل أن يكون المراد الصلوات أو الفرائض أو الركعات أو الأفعال مطلقا ولا يبعد ترجيح الأولين ، ومع هذا فغاية ما يستفاد من الرواية حصول الكثرة بذلك وهو غير مناف للعرف لا حصرها فيه فاذن لا معدل عن الإحالة إلى العرف. انتهى.

أقول : ما ذكره من المعنى الأول فهو الذي فهمه المحقق الأردبيلي (نور الله مرقده) من الخبر المذكور ، حيث قال : ويمكن ان يكون معنى رواية محمد بن ابى عمير ان السهو في كل واحدة واحدة من اجزاء الثلاث بحيث يتحقق في جميعه موجب

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من الخلل في الصلاة.

٢٩٨

لصدق الكثرة وانه لا خصوصية له بثلاث دون ثلاث بل في كل ثلاث تحقق تتحقق كثرة السهو فتزول بواحدة واثنتين ايضا ويتحقق حكمها في المرتبة الثالثة فيكون تحديد التحقق وزوال حكم الشك معا ، فتأمل فإنه قريب. انتهى كلامه (علا مقامه) والظاهر انه لا يخلو من البعد من لفظ الخبر.

واما المعنى الثاني فالظاهر انه الأقرب الى لفظ الخبر وهو ان يسهو في كل ثلاث صلوات متواليات سهوا واحدا ولا تكون ثلاث صلوات متواليات خالية من السهو ، كأن يسهو مثلا في الصبح ثم في المغرب ثم في الظهر وهكذا ، فهو إنما يفيد تحديد انقطاع كثرة السهو بخلو ثلاث فرائض متواليات من السهو فيها لا تحديد حصول الكثرة ، فإن مقتضى لفظ «كل» هو الدوام ، فان جعل ذلك باعتبار الاستمرار الى آخر عمره لزم ان لا يعلم كونه كثير السهو إلا بعد موته ؛ وان جعل باعتبار اليوم والليلة أو الأسبوع أو الشهر فلا دلالة للخبر على شي‌ء من ذلك ، مع انه لا تتعدد الثلاث في اليوم والليلة وظاهر الخبر كون ذلك في زمان تتعدد فيه الثلاث ، فلا بد من الخروج عن ظاهر لفظ الخبر والرجوع الى العرف بمعنى انه تكررت تلك الحال منه بحيث يقال في العرف انه ليس له ثلاث صلوات خالية من الشك ، فيصير الخبر من هذه الجهة خاليا من الفائدة إذ ظاهر سياقه انما هو لبيان حكم الانقطاع فقط ففي حصول الكثرة يرجع الى العرف وفي انقطاعها الى خلو ثلاث صلوات متوالية عن السهو.

ثم أقول : لا يخفى انه لما كان من القواعد المقررة في كلامهم انه مع عدم وجود الحقيقة الشرعية أو العرفية الخاصة فإنه يجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية أو العرفية حيث كانت الحقيقة اللغوية أو العرفية ، وحيث كانت الحقيقة اللغوية هنا غير معلومة حملوا لفظ الكثرة على العرف والعادة.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : والمرجع في الكثرة إلى العرف لعدم تقديرها شرعا ، وقيل تتحقق بالسهو في ثلاث فرائض متوالية أو في فريضة واحدة

٢٩٩

ثلاث مرات ، والظاهر انه غير مناف للعرف. وفي حكمه السهو ثلاثا في فريضتين متواليتين ، وربما خصها بعضهم بالسهو في ثلاث فرائض لقول الصادق عليه‌السلام في رواية ابن ابى عمير (١) «إذا كان الرجل ممن يسهو في كل ثلاث فهو ممن يكثر عليه السهو». وهي غير صريحة في ذلك فان ظاهرها ان المراد وجود الشك في كل ثلاث بحيث لا تسلم له ثلاث صلوات خالية من شك. ولم يقل أحد بانحصار الاعتبار في ذلك. انتهى.

وأنت خبير بما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف من الإشكال كما نبهنا عليه في غير مقام مما تقدم :

اما (أولا) فلما علم اختلاف الناس والأقاليم والبلدان في العرف والعادات فان لكل بلد عرفا وعادة خاصة.

و (ثانيا) انه ان أريد العرف الخاص بمعنى عرف كل بلد بالنسبة الى من فيها فإنه موجب لاختلاف الحكم الشرعي باختلاف الناس في عرفهم وهو غير معهود من الشارع ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه واضح السبيل ، وان أريد العام فهو في تعذر الوقوف عليه والاطلاع أظهر من أن يحتاج الى البيان. ومن ذا الذي يدعى الإحاطة بعرف عامة البلدان في حكم واحد فضلا عن أحكام عديدة مما ناطوه بالعرف.

و (ثالثا) ان المفهوم من الأخبار انه مع تعذر الوقوف على المعنى المراد من اللفظ وما عنى به وقصده الشارع فان الواجب الوقوف عن الفتوى والعمل بالاحتياط متى احتيج الى العمل بذلك لدخول هذا الفرد في الشبهات المأمور فيها بذلك (٢) والاحتياط في المقام بالعمل بأحكام الشك والسهو ثم الإعادة من رأس.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من الخلل في الصلاة. وابن ابى عمير روى هذه الرواية عن محمد بن أبي حمزة عن الصادق «ع» وقد تقدمت ص ٢٩٨.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

٣٠٠