الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

قلمه بذلك غفلة عن الاخبار المشار إليها.

وأما ما نقله عن ابن بابويه فقد عرفت ما فيه مما كشف عن ضعف باطنه وخافية.

وأما ما نقله من الاخبار الدالة على البناء على الأقل التي هي معظم الشبهة له ولغيره في هذا المقام ونحوه فقد تقدم الجواب عنها ، ونزيده هنا بيانا ببسط الكلام بما يرفع عن المسألة إن شاء الله تعالى غشاوة الإبهام :

فنقول : لا يخفى انه قد اختلفت الاخبار في البناء في مطلق الشك على الأقل والأكثر ، فمما يدل على البناء على الأقل ما نقله من موثقة إسحاق بن عمار وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المذكورتين ، مع انه قد رد موثقة عمار الدالة على البناء على الأكثر بضعف السند بكونها موثقة ، فان كان الأمر كما زعمه من ضعف الموثقات فكيف يستدل هنا بموثقة إسحاق بن عمار؟ وإلا فلا وجه لطعنه في موثقة عمار. وأعجب من ذلك انه حيث اختار العمل بهذه الرواية عبر عنها بموثقة إسحاق بن عمار وحيث لم يختر موثقة عمار عبر عنها برواية عمار من غير أن

__________________

اعتقاد إمامة الحجة المنتظر «عليه‌السلام». واعتقاد أصحابه إمامته لا يستلزم رضاه به فقد ادعى جماعة ألوهية أمير المؤمنين «ع» ولم ينتهوا بزجره ولا بمجاهرته بالعبودية لله حتى أحرقهم بالنار ، إذا فلا عجب من اعتقاد جماعة زيدية الناصر. انتهى كلام الشيخ البهائي ملخصا. هذا ما أفاده بعض المحققين الباحثين في ترجمة الناصر الكبير وعقيدته تلخيصا من المصادر ، وإليك أسماء من تعرض لترجمته مختصرا أو مفصلا : تاريخ الطبري وكامل ابن الأثير ومختصر ابى الفداء في حوادث سنة ٣٠١ وسنة ٣٠٤ ومروج الذهب للمسعودي ج ٢ ص ٥٥٣ وفهرست ابن النديم وعمدة الطالب ورجال الشيخ الطوسي وفهرست النجاشي ومنهج المقال للاسترابادى والتعليقة عليه للاقا البهبهاني ومنتهى المقال للحائرى وروضات الجنات ورياض العلماء ومجالس المؤمنين للتستري وشرح النهج لابن ابى الحديد ومفاخرة بنى هاشم وبنى أمية للجاحظ والمجدي للنسابة العمرى وتاريخ رويان والكنى والألقاب وأعيان الشيعة ج ٢٢ ص ٢٨٨ ، والنقل عن فهرست ابن النديم والمجدي وتاريخ رويان بواسطته.

٢٢١

يعبر عنها بلفظ «موثقة» إيذانا بمزيد الضعف ، وكل ذلك خلاف قواعد الإنصاف كما لا يخفى على ذوي المعرفة والعفاف.

ومما يدل على ذلك أيضا صحيحة على بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل لا يدرى كم صلى واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ قال : يبنى على الجزم ويسجد سجدتي السهو ويتشهد تشهدا خفيفا».

ورواية سهل بن اليسع المروية في الفقيه عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) في ذلك انه قال : «يبنى على يقينه ويسجد سجدتي السهو بعد التسليم ويتشهد تشهدا خفيفا».

وروايته الأخرى (٣) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل لا يدرى أثلاثا صلى أم اثنتين؟ قال : يبنى على النقصان ويأخذ بالجزم».

ومما يدل على البناء على الأكثر موثقة عمار المتقدمة في صدر الموضع الأول وموثقته الأخرى برواية صاحب التهذيب (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن شي‌ء من السهو في الصلاة؟ فقال : الا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شي‌ء؟ قلت : بلى. قال : إذا سهوت فابن على الأكثر فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت انك نقصت فان كنت قد أتممت لم يكن في هذه عليك شي‌ء وان ذكرت انك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت».

وموثقة ثالثة له أيضا برواية صاحب الفقيه (٥) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لعمار بن موسى : يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين : متى ما شككت فخذ بالأكثر فإذا سلمت فأتم ما ظننت انك قد نقصت».

ولا يخفى ان الترجيح للأخبار الأخيرة وذلك من وجوه : (أحدها) الاعتضاد بالأخبار الصحاح الصراح الواردة في خصوصيات الصور المذكورة في

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من الخلل في الصلاة.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من الخلل في الصلاة.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٨ من الخلل في الصلاة.

٢٢٢

هذا المقام فإنها متفقة الدلالة على البناء على الأكثر في جميع الصور كما سنشرحه إن شاء الله تعالى. ويعضدها زيادة على ذلك إجماع الطائفة سلفا وخلفا على العمل بمضمونها إلا الشاذ النادر وهم انما يتوهمون بخلاف المرتضى والصدوق وقد عرفت ما فيه.

و (ثانيها) ـ صراحة هذه الأخبار في المدعى وتطرق وجوه الاحتمالات الى كثير من تلك الأخبار المخالفة كموثقة إسحاق بن عمار المشتملة على البناء على اليقين ، فإنه من المحتمل قريبا ان المراد انما هو البناء على ما يوجب اليقين أى يقين البراءة وذلك في البناء على الأكثر كما فصلته موثقة عمار الثانية ، وقد عرفت من رواية قرب الاسناد المتقدمة إطلاق هذا اللفظ على هذا المعنى بحيث لا يحتمل غيره فلا يبعد إرادته هنا أيضا. ومثلها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١) فإنها محتملة لما ذكرناه ويؤيده قوله فيها : «يأخذ بالجزم ويحتاط بالصلاة كلها» فان الاحتياط وهو فعل ما يوجب براءة الذمة على جميع الوجوه والاحتمالات انما يحصل بالحمل على ما قلناه وإلا فمع البناء على الأقل والإتمام لو ذكر تمام الصلاة فإنه يلزم زيادة ما يوجب بطلانها فتجب الإعادة حينئذ. وبالجملة فإنه لو لم يكن ما ذكرناه في هاتين الروايتين هو الأظهر فلا أقل ان يكون مساويا وبه يسقط الاستدلال بهما. ونحوهما في ذلك أيضا رواية سهل بن اليسع الاولى. وأما صحيحة على بن يقطين فهي معارضة بالأخبار الكثيرة الدالة على الابطال متى تعلق الشك بالأوليين المعتضدة باتفاق الأصحاب سلفا وخلفا على ذلك فلا تصلح للعمل عليها. وأما رواية سهل الثانية فهي معارضة بخصوص حسنة زرارة ورواية قرب الاسناد وعموم الروايات المتقدمة المعتضدة بعمل الطائفة.

و (ثالثها) ـ وهو المعتمد ما قدمنا ذكره آنفا من ان هذه الروايات انما خرجت مخرج التقية لما عرفت من حديث مسلم المتقدم (٢) وكلام البغوي في شرح السنة

__________________

(١) ص ٢١٨.

(٢) ارجع الى التعليقة ٤ ص ١٩٥.

٢٢٣

ويؤيده اشتمال صحيحة على بن يقطين ورواية سهل الاولى على سجدتي السهو بعد الأمر بالبناء على الأقل حسبما تضمنته الرواية العامية ، وقد صرح المحقق في المعتبر بنسبة ذلك إليهم أيضا حيث نقل عن الشافعي البناء على اليقين وعن أبي حنيفة البناء على الظن فان فقده بنى على اليقين (١) محتجا على ذلك بأن الأصل عدم المشكوك فيه ، ولما رووه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) قال : «من لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليلق الشك وليبن على اليقين».

وممن أشار الى ما ذكرنا أيضا شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في كتاب روض الجنان حيث قال بعد نقل رواية ابن اليسع : ورواية ابن اليسع مطرحة لموافقتها لمذهب العامة. ورأيت في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا المجلسي (قدس‌سره) استصواب الحمل على التقية ، وبه صرح المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (طاب ثراه).

__________________

(١) في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ١ ص ١٦٥ : «إذا سها في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فان لم يكن السهو له عادة بأن لم يعرض له كثيرا فعند الشافعي يبنى على الأقل لحديث ابى سعيد الخدري : «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليلغ الشك وليبن على الأقل». وعندنا يستقبل الصلاة لحديث عبد الله بن مسعود : «إذا شك أحدكم في صلاته انه كم صلى فليستقبل الصلاة». وان كان السهو يعرض له كثيرا تحرى وبنى على ما وقع عليه التحري في ظاهر الروايات. وروى الحسن عن أبي حنيفة انه يبنى على الأقل وهو قول الشافعي ولنا رواية ابن مسعود : إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر أقربه إلى الصواب وليبن عليه». وفي البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج ٢ ص ١٠٨ و ١١٠ «إذا شك انه كم صلى وكان عروض الشك له أول مرة استقبل العمل وان كان يعرض له كثيرا يتحرى وهو ما يكون أكبر رأيه عليه ، وعبر عنه تارة بالظن واخرى بغالب الظن فان لم يترجح عنده شي‌ء بنى على الأقل». ويرجع أيضا الى التعليقة ٢ ص ١٦٥.

(٢) صحيح مسلم ج ٢ باب السهو في الصلاة إلا ان فيه «فليطرح الشك وليبن على ما استيقن» وبدائع الصنائع ج ١ ص ١٦٥ وفيه «وليبن على الأقل».

٢٢٤

ومما يستأنس به للحمل على التقية في هذه الأخبار انها كلها إنما خرجت عن الكاظم (عليه‌السلام) ولا يخفى على المتتبع للسير والآثار والعارف بالقصص والأخبار اضطر أم نار التقية في وقته (عليه‌السلام) زيادة على غيره من الأوقات وما وقع عليه (عليه‌السلام) وعلى شيعته من المخافات. ومما يومئ الى ذلك التعبير بهذا اللفظ المجمل في جل تلك الأخبار ، ولهذا تكاثرت الأخبار بالتقية بالنقل عنه (عليه‌السلام) بغير اسمه الشريف من العبد الصالح أو عبد صالح ونحو ذلك.

وبالجملة فالحمل على التقية عندي مما لا ريب فيه ولا شك يعتزيه عملا بالقاعدة المنصوصة عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) في عرض الأخبار عند اختلافها على مذهب العامة والأخذ بخلافه كما استفاضت به النصوص (١) ولكن أصحابنا (رضوان الله عليهم) لما الغوا العمل بهذه القواعد فاتهم ما يترتب عليها من الفائدة ووقعوا في ما وقعوا فيه من مشكلات هذه الإشكالات وارتكاب التمحلات والتكلفات.

وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه في هذه المسألة ـ وقوله في الذكرى : انه لم يقف على مأخذه ـ فهو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي على نحو ما عرفت من الطريقة المعروفة والسجية المألوفة

حيث قال (عليه‌السلام) (٢) : وان شككت فلم تدر اثنتين صليت أم ثلاثا وذهب وهمك إلى الثالثة فأضف إليها الرابعة فإذا سلمت صليت ركعة بالحمد وحدها ، وان ذهب وهمك إلى الأقل فابن عليه وتشهد في كل ركعة ثم اسجد سجدتي السهو بعد التسليم ، وان اعتدل وهمك فأنت بالخيار ان شئت بنيت على الأقل وتشهدت في كل ركعة وان شئت بنيت على الأكثر وعملت ما وصفناه لك. انتهى.

وكيف كان فالظاهر ان الترجيح للقول المشهور المؤيد بالأخبار الموافقة لمقتضى الأصول المعتضدة بعمل الطائفة ، وهذه الرواية لا تبلغ قوة

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٢) ص ١٠.

٢٢٥

المعارضة فهي مفوضة إلى قائلها (عليه‌السلام).

وأنت خبير أيضا بما في عدول الشيخ المذكور عن القول المشهور المعتضد بالأخبار المشار إليها إلى القول بعبارة الكتاب من الدلالة على مزيد الاعتماد على الكتاب المذكور وثبوت حجيته عنده.

وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه في هذه المواضع الثلاثة نقاب الإبهام يظهر لك ان المسألة بحمد الله سبحانه ذي الجلال خالية من الاشكال كما وقع فيه صاحب المدارك ومن نسج معه على ذلك المنوال حيث لم يعطوا التأمل حقه في ما شرحناه في هذا المجال من واضح المقال. والله العالم.

(الموضع الرابع) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) التخيير في احتياط هذه الصورة بين ركعة من قيام وركعتين من جلوس ، ونقل عن ابن ابى عقيل والجعفي انهما لم يذكرا التخيير وانما ذكرا الركعتين من جلوس. والموجود في حسنة زرارة (١) التي هي مستند هذا الحكم كما عرفت إنما هو الركعة من قيام ، وكذا في رواية قرب الاسناد (٢) ونحوهما في عبارة كتاب الفقه على تقدير البناء على الأكثر وهو فتوى الشيخ على بن الحسين بن بابويه كما عرفت ، والمعتمد ما دلت عليه هذه الأخبار. وأما القولان الآخران فلم أقف فيهما على دليل.

(الموضع الخامس) قال في المدارك في هذا المقام : واعلم ان ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان كل موضع تعلق فيه الشك بالاثنتين يشترط فيه إكمال السجدتين محافظة على ما سبق من اعتبار سلامة الأولتين ، ونقل عن بعض الأصحاب الاكتفاء بالركوع لصدق مسمى الركعة وهو غير واضح ، قال في الذكرى نعم لو كان ساجدا في الثانية ولما يرفع رأسه وتعلق الشك لم استبعد صحته لحصول مسمى الركعة. وهو غير بعيد. انتهى. أقول : قد صرح بما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى.

__________________

(١) ص ٢١١.

(٢) ص ٢١٥.

٢٢٦

وأنت خبير بأن هنا شيئين : (أحدهما) ـ أن ما يصدق عليه الركعة هل هو عبارة عن ما يدخل فيه السجود أو يكفي مجرد الركوع؟ قولان : المشهور الأول وبه صرح السيد السند هنا وفي ما تقدم في بحث المواقيت في شرح قول المصنف : «ولو زال المانع فإن أدرك الطهارة وركعة. إلخ» ونقله عن العلامة أيضا حيث قال : وتتحقق الركعة برفع الرأس من السجدة الثانية كما صرح به في التذكرة. واحتمل الشهيد في الذكرى الاجتزاء بالركوع للتسمية لغة وعرفا ولأنه المعظم. وهو بعيد.

أقول : ونحن قد حققنا في مقدمة المواقيت بأن حكمهم بكون الركعة عبارة عن ما ذكروه يوجب انقداح اشكال عليهم في مسألة الشك بين الأربع والخمس فيما إذا حصل الشك بعد الركوع وقبل السجود ، حيث انهم قالوا بالصحة في هذه الصورة مع انه لم يأت بالركعة بزعمهم فلا يكون داخلا تحت النص الوارد في المسألة. والمحقق في أجوبة المسائل البغدادية إنما تخلص من هذا الاشكال بالتزام كون الركعة عبارة عن مجرد الركوع كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في المسألة المذكورة ونقل كلامه في ذلك.

و (ثانيهما) ـ انه على تقدير القول المشهور هل تتحقق الركعة بمجرد إتمام ذكر السجدة الثانية أو يتوقف على رفع الرأس من السجود؟ وجهان : جزم بالأول منهما شيخنا الشهيد الثاني في الروض حيث قال : ويتحقق إكمالها بتمام السجدة الثانية وان لم يرفع رأسه منها على الظاهر لأن الرفع ليس جزء من السجود وإنما هو واجب آخر. انتهى. وهو جيد. والمشهور الثاني ولهذا انه في الذكرى إنما أشار إليه احتمالا في المقام.

(المسألة السابعة) ـ إذا شك بين الثلاث والأربع فالمشهور انه يجب البناء على الأكثر ويحتاط بركعة قائما أو ركعتين جالسا ، ونقل في المختلف ومثله السيد السند في المدارك ومن تبعهما عن ابن بابويه وابن الجنيد انهما قالا : يتخير الشاك بين

٢٢٧

الثلاث والأربع بين البناء على الأقل ولا احتياط والأكثر مع الاحتياط.

وأنت خبير بما في هذا النقل عن ابن بابويه في هذا المقام فإنه على قياس ما قدمناه من النقولات المختلفة والحكايات المعتلة ، حيث انه لا وجود لشي‌ء من ذلك في كتابه بالمرة بل الموجود فيه انما هو ما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) كما عرفت من البناء على الأكثر من غير تردد ولا ذكر لفرد آخر ، ونسبة هذه العبارة إليه ـ باعتبار التوهم الذي ينشأ من قوله : «وليست هذه الأخبار مختلفة» كما قدمنا ذكره ـ بعيد عن سياق الكلام وخارج عن سلك ذلك النظام.

وبالجملة فإن هذه النقولات في هذه المقامات محل عجب عجاب سيما مع متابعة الخلف للسلف في هذا الباب ، والفقيه بمنظر منهم مطبقين على درسه وشرحه ومراجعته فكيف اتفق لهم هذا الأمر الغريب ولم يتنبه أحد منهم الى هذا العجب العجيب؟

وأما نقل ذلك عن ابن الجنيد فان كلامه لا يحضرني ولا أعلم صحته ولا بطلانه.

وكيف كان فالمعتمد هو القول المشهور وهو المؤيد المنصور للأخبار الكثيرة

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الرحمن بن سيابة وابى العباس عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا لم تدر ثلاثا صليت أو أربعا ووقع رأيك على الثلاث فابن على الثلاث ، وان وقع رأيك على الأربع فسلم وانصرف ، وان اعتدل وهمك فانصرف وصل ركعتين وأنت جالس».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) في حديث قال : «وان كنت لا تدري ثلاثا صليت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي‌ء فسلم ثم صل ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأم الكتاب وان ذهب وهمك الى الثلاث فقم فصل الركعة الرابعة ولا تسجد سجدتي السهو ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من الخلل في الصلاة.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من الخلل في الصلاة.

٢٢٨

فإن ذهب وهمك إلى الأربع فتشهد وسلم ثم اسجد سجدتي السهو».

قال في الوافي : لعل الأمر بسجدتي السهو في الصورة الأخيرة لتدارك النقصان الموهوم وينبغي حمله على الاستحباب. أقول : وسيأتي تحقيق القول في ذلك في موجبات سجدتي السهو إن شاء الله تعالى.

وعن جميل عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «في من لا يدرى أثلاثا صلى أم أربعا ووهمه في ذلك سواء؟ قال فقال : إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار إن شاء صلى ركعة وهو قائم وان شاء صلى ركعتين واربع سجدات وهو جالس».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن ابى العلاء في الحسن عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إن استوى وهمه في الثلاث والأربع سلم وصلى ركعتين وأربع سجدات بفاتحة الكتاب وهو جالس يقصر في التشهد». قوله «يقصر في التشهد» أى يخففه. وربما وجد في بعض النسخ «يقصد» بالدال من القصد وهو بمعنى التوسط.

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٣) : «وان شككت فلم تدر ثلاثا صليت أم أربعا وذهب وهمك إلى الثالثة فأضف إليها ركعة من قيام وان اعتدل وهمك فصل ركعتين وأنت جالس».

ومن أخبار المسألة التي لا تخلو من الإشكال ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم (٤) قال : «انما السهو ما بين الثلاث والأربع وفي الاثنتين والأربع بتلك المنزلة ، ومن سها فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا واعتدل شكه قال : يقوم فيتم ثم يجلس فيتشهد ويسلم ويصلى ركعتين واربع سجدات وهو جالس ، وان كان أكثر

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٠ من الخلل في الصلاة.

(٣) ص ١٠.

(٤) الوسائل الباب ١٠ من الخلل في الصلاة.

٢٢٩

وهمه إلى الأربع تشهد وسلم ثم قرأ فاتحة الكتاب وركع وسجد ثم قرأ وسجد سجدتين وتشهد وسلم ، وان كان أكثر وهمه الى الثنتين نهض فصلى ركعتين وتشهد وسلم».

وجه الإشكال فيه انه حكم في من شك بين الثلاث والأربع واعتدل شكه بأنه يقوم فيتم ثم يجلس فيتشهد ويسلم ويصلى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس ، وهو ظاهر في انه يبنى على الأقل ويتم صلاته ثم يحتاط مع ذلك بركعتين جالسا ولا قائل به. وأيضا فإن الاحتياط إنما هو مع البناء على الأكثر لا مع البناء على الأقل. وكذا الإشكال في قوله : «وان كان أكثر وهمه إلى الأربع تشهد وسلم ثم قرأ فاتحة الكتاب. الى آخره» فإنه ظاهر في انه مع ظن الأربع وترجيحها يبنى عليها ويحتاط مع ذلك بركعتين جالسا مع انه لا خلاف ولا إشكال في انه مع ترجيح أحد الطرفين وظنه يبنى عليه زيادة أو نقصانا ولا احتياط بالكلية.

وما ذكره في الوافي بالنسبة إلى الأول ـ حيث قال : الظاهر ان «أو» بدل الواو في قوله : «ويصلى ركعتين» ـ لا يدفع الإشكال فإن غايته انه مع تساوى طرفي الشك في الصورة المذكورة يتخير بين البناء على الأقل والأكثر ولا قائل به ايضا.

وكيف كان فان الخبر المذكور لما لم يكن مسندا عن الإمام (عليه‌السلام) وإنما هو كلام محمد بن مسلم كان الخطب هينا.

ومن ذلك ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن ابى بصير في الموثق (١) قال : «سألته عن رجل صلى فلم يدر أفي الثالثة هو أم في الرابعة؟ قال : فما ذهب وهمه اليه ، ان رأى أنه في الثالثة وفي قلبه من الرابعة شي‌ء سلم بينه وبين نفسه ثم يصلى ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب».

وظاهره انه مع غلبة ظنه انه في الثالثة يبنى على الأربع ويصلى صلاة الاحتياط وهو خلاف فتوى الأصحاب (رضوان الله عليهم) وخلاف ما عليه غير هذا الخبر من الأخبار. ويمكن تأويله بحمل جوابه (عليه‌السلام) على التفصيل بين ما ذهب

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من الخلل في الصلاة.

٢٣٠

إليه وهمه فيبني عليه وبين ما لم يكن كذلك فيعمل فيه بموجب الشك في المسألة. وقوله : «ان رأى أنه في الثالثة وفي قلبه من الرابعة شي‌ء» بمعنى مساواته لما رآه في الثالثة فيحمل على الشك الموجب لتساوى الطرفين.

وأما ما ذكره المحدث الكاشاني ـ بعد نقله لهذه الرواية حيث قال : هذا برزخ بين الفصل والوصل لان سهوه برزخ بين الظن والشك. انتهى ـ فلا أعرف له وجها وجيها لما عرفت من انه مع ظن أحد الطرفين فإنه يجب البناء عليه ولا احتياط كما ذكره الأصحاب (رحمهم‌الله) وعليه دلت صحيحة عبد الرحمن ابن سيابة وابى العباس وصحيحة الحلبي أو حسنته وغيرهما (١) وان تساوى الطرفان فالواجب البناء على الأكثر والاحتياط كما هو المشهور وهو الذي عبر عنه بالفصل ، وعلى القول الآخر يتخير بينه وبين البناء على الأقل والإتمام وهو الذي عبر عنه بالوصل ، وحينئذ فهذه الرواية ان حملت على المعنى الأول أشكل الأمر فيها بالاحتياط المذكور وان حملت على المعنى الثاني ـ وان كان خلاف ظاهرها ـ فلا إشكال. والفصل والوصل الذي ذكره محله إنما هو في صورة الشك وتساوى الطرفين فإنه عنده يتخير بين البناء على الأقل ولا احتياط وهو المسمى بالوصل وبين البناء على الأكثر والاحتياط ، وما في هذا الخبر لا يخرج عن أحد الفردين المتقدمين ليكون برزخا وواسطة في البين ، فان زعم ان ذلك باعتبار قوله : «وفي قلبه من الرابعة شي‌ء» فإنه لا يخفى ان كل من رجح أحد الطرفين وظنه فان في قلبه شيئا من الطرف الآخر وهو المسمى عندهم بالوهم ولكن لا عمل عليه في مقابلة الظن. وبالجملة فإن كلامه غير موجه ولا واضح.

وأما ما نقل عن ابن الجنيد ـ من القول بالتخيير ، وعن الصدوق بزعمهم ـ فلم أقف له على خبر يدل عليه ، إلا انه قال في المدارك : احتج القائلون بالتخيير بأن فيه جمعا بين ما تضمن البناء على الأكثر وبين ما تضمن البناء على الأقل

__________________

(١) ص ٢٢٨.

٢٣١

كصحيحة زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شي‌ء عليه.». وهذا القول لا يخلو من رجحان إلا أن الأول أجود. انتهى.

أقول ـ وبالله الثقة لإدراك المأمول ونيل المسؤول ـ الظاهر ان هذا الدليل الذي نقله عن القائلين بالتخيير إنما هو من مخترعاته (قدس‌سره) بناء على ما توهمه من الصحيحة المذكورة وانها دالة على البناء على الأقل حسبما جرى له في حسنة زرارة المتقدمة ، ويدل على ذلك (أولا) ان العلامة في المختلف إنما احتج لأصحاب هذا القول بدليل عقلي إقناعي ثم رده وأبطله. و (ثانيا) انه قد نسب هذا القول والاحتجاج بهذا الدليل الى ابن بابويه مع انه ليس له في كتابه عين ولا اثر كما عرفت ، ولكنه (قدس‌سره) حيث فهم من الرواية المذكورة ـ وقوله فيها :

«قام فأضاف إليها أخرى» يعني بنى على الثلاث وقام فأضاف إليها رابعة ـ البناء على الأقل مع صراحة الأخبار المتقدمة في البناء على الأكثر جمع بينها بالتخيير وجعله دليلا لهذا القول ، وكان الاولى على هذا ان يقول : ويدل على هذا القول ان فيه جمعا بين الاخبار لا انه ينسب ذلك الى أصحاب هذا القول والحال كما عرفت.

وتحقيق القول في هذا المقام على وجه تنكشف به غشاوة الاشكال ويتضح به هذا الإجمال هو ان يقال : لا يخفى على المتأمل في اخبار الاحتياط التي وردت في هذه الصور المنصوصة بعين الإنصاف أن الأئمة (عليهم‌السلام) ربما أجملوا في التعبير عن ذلك الاحتياط إجمالا زائدا يوهم الناظر ما وقع فيه السيد المشار اليه ومن تبعه من توهم انه من نفس الصلاة الأصلية وربما أوضحوا ذلك إيضاحا تاما وبينهما مراتب متفاوتة في الوضوح والخفاء وكل ذلك بالنظر الى أحوال السامعين وزيادة الغباوة والبلادة والفهم والذكاء ، ولهذا ان أصحابنا (رضوان الله عليهم)

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من الخلل في الصلاة.

٢٣٢

قديما وحديثا لم يزالوا يستدلون بهذه الأخبار على وجوب الاحتياط في كل صورة صورة من هذه الصور مجملها ومفصلها وموصولها ومفصولها فيحملون المجمل على المفصل والموصول على المفصول حتى انتهت النوبة إلى السيد السند فوقع في هذا الإشكال وتبعه جملة ممن تأخر عنه كما هي عادتهم غالبا مثل المحدث الكاشاني والفاضل الخراساني وغيرهما ، حتى ان المحدث الكاشاني في الوافي عمد الى هذه الأخبار الغير المصرح فيها بالفصل فجعلها أصلا وقاعدة كلية وقابلها بالأخبار الصريحة في الفصل وجعلها قاعدة ثانية فأثبت هنا ضابطتين ، وقوى الشبهة عنده في ذلك (أولا) ما ورد في الأخبار من الروايات الدالة على البناء على الأكثر بقول مطلق وما ورد منها دالا على البناء على الأقل مطلقا كما تقدم نقله في المسألة المتقدمة. و (ثانيا) توهم ذهاب الصدوق الى ما ذكروه واستدلاله بهذا الخبر كما سمعت من كلام صاحب المدارك. والجميع من قبيل البناء على غير أساس فلهذا عظم فيه الاشتباه والالتباس وهو عند التأمل في ما ذكرناه ظاهر الانهدام والانطماس.

وقال المحدث المشار إليه في الكتاب المذكور بعد نقل صحيحة زرارة أو حسنته التي استند السيد السند هنا الى عجزها الوارد في حكم هذه الصورة ، وصورتها كملا هكذا : زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «قلت له من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شي‌ء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شي‌ء عليه». فقال المحدث المشار اليه بعد نقلها بطولها ما صورته : لم يتعرض في هذا الحديث لذكر فصل الركعتين أو الركعة المضافة للاحتياط ووصلها كما تعرض في الخبر السابق والاخبار في ذلك مختلفة وفي بعضها إجمال كما ستقف عليه ، وطريق التوفيق بينها التخيير كما ذكره في الفقيه ويأتي كلامه فيه ، وربما يسمى الفصل بالبناء على الأكثر والوصل

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ و ١١ من الخلل في الصلاة.

٢٣٣

بالبناء على الأقل وما سمعت أحدا تعرض لهذه الدقيقة ، وفي حديث عمار الآتي إشارة الى ذلك فلا تكونن من الغافلين. انتهى.

أقول : أشار بحديث عمار الى روايته التي قدمناها (١) وهي قوله (عليه‌السلام): «كل ما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر. إلخ». فإنه قد قال بعدها : هذه هي الضابطة الكلية المشتملة على أكثر أخبار هذا الباب وهي فذلكتها وفي مقابلتها ضابطة أخرى هي البناء على الأقل وإتمام الصلاة جملة واحدة. انتهى.

ولا بد في دفع هذه الأوهام التي وقع فيها هؤلاء الأعلام من نقل جملة من الروايات الواردة في المقام وبيان ما اشتملت عليه من المراتب في الإيضاح والإفهام عن ذلك المعنى الذي اضطربت فيه هذه الافهام. لكن ينبغي أن يعلم أولا انه لما ثبت بما حققناه آنفا ان هذه الاخبار الصريحة في البناء على الأقل مطلقا إنما خرجت مخرج التقية (٢) والعمل إنما هو على الاخبار الدالة على البناء على الأكثر مطلقا كان أو في خصوص هذه الصور فالواجب حمل ما دل من هذه الأخبار الواردة في هذه الصور المذكورة على التقية أيضا لو كان صريحا في البناء على الأقل والإعراض عن العمل به فكيف وهو قابل للحمل على تلك الروايات المفصلة بل بعضه ظاهر في ذلك. وهذه الجملة كافية في دفع شبهة هذا الخصم ولكنا مع ذلك نستظهر بنقل الروايات التي أشرنا إليها :

فمن ذلك ـ الصحيحة التي ذكر المحدث المذكور هذا الكلام على أثرها فإنه (عليه‌السلام) قد أجمل في صدرها وعجزها إلا ان صدرها أظهر في الدلالة على ما ندعيه لأن ذكر فاتحة الكتاب قرينة على إرادة الاحتياط كما هو مصرح به في غيرها وان كانت القراءة في الأخيرتين جائزة من حيث التخيير بناء على المشهور لكنه لم يجر في هذه الأخبار ولا عبر به في شي‌ء منها بل ذكر القراءة في روايات الاحتياط كلها إنما هو من حيث الفصل ، وكأنهم (ع) قصدوا إلى أنها صلاة منفردة لا بد فيها

__________________

(١) ص ٢١١.

(٢) ص ٢٢٣.

٢٣٤

من فاتحة الكتاب كما ربما ذكروا أيضا فيها التشهد والتسليم.

ومن ذلك ـ قوله (عليه‌السلام) في صحيحة البقباق (١) : «وان اعتدل وهمك فانصرف وصل ركعتين وأنت جالس». والاحتياط ههنا موصول لكن قرينة الأمر بالجلوس دفع توهم دخوله في الصلاة.

ومن ذلك ـ قوله (عليه‌السلام) في مرسلة جميل (٢) : «إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار ان شاء صلى ركعة وهو قائم وان شاء صلى ركعتين واربع سجدات وهو جالس». وهذه الرواية أيضا لم يصرح فيها بالفصل وانما علم من حيث التخيير في الاحتياط بين الفردين المذكورين ، ولو لم يذكر الركعتين من جلوس لسبق الى الوهم كون تلك الركعة من قيام متصلة داخلة في الصلاة الأصلية وكل ذلك انما جرى على التوسع في التعبير كما أشرنا إليه آنفا.

ومن ذلك ـ قوله (عليه‌السلام) في رواية ابن ابى يعفور (٣) : «في رجل لا يدرى ركعتين صلى أم أربعا؟ قال : يتشهد ويسلم ثم يقوم فيصلي ركعتين وأربع سجدات».

وفي صحيحة محمد بن مسلم (٤) : «في رجل صلى ركعتين فلا يدرى ركعتان هي أو أربع؟ قال : يسلم ثم يقوم فيصلي ركعتين بفاتحة الكتاب».

وقد أفصح (عليه‌السلام) في هذين الخبرين أى إفصاح وصرح بالفصل الصراح. وفي موثقة أبي بصير (٥) : «إذا لم تدر أربعا صليت أم ركعتين فقم واركع ركعتين ثم سلم واسجد سجدتين». وقد أجمل (عليه‌السلام) في هذا الخبر كمل أجمل في صدر صحيحة زرارة أو حسنته المتقدمة إلا أنه هناك صرح بفاتحة الكتاب التي هي قرينة على كونها صلاة الاحتياط كما قدمنا ذكره.

وهذه كلها كما ترى في الشك بين الاثنتين والأربع والاحتياط فيها واحد

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٠ من الخلل في الصلاة.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١١ من الخلل في الصلاة.

٢٣٥

لكن الأخبار اختلفت في الإجمال والتصريح ، والأصحاب قد حملوا مجملها على مفصلها كما هو القاعدة في أمثال ذلك.

وهؤلاء الأعلام باعتبار الروايات الدالة على جواز البناء على الأقل مطلقا ونسبتهم ذلك الى الصدوق عمدوا الى هذه الأخبار المجملة وألحقوها بتلك الروايات المطلقة. وأنت قد عرفت ما في أساسهم الذي بنوا عليه من الخراب والانهدام لوجوب حمل تلك الروايات على التقية وفساد ما نسبوه الى الصدوق في هذا المقام ومتى بطل الأصل الذي بنوا عليه بطل ما فرعوه وجعلوه راجعا اليه.

هذا. وأما ما ذكره المحدث المذكور ـ وسجل به مما قدمنا نقله عنه وان ما ذكره دقيقة لم يتفطن لها غيره ـ

ففيه (أولا) ـ ان هذه الدقيقة ان أراد بها ما فهمه من الأخبار المجملة من حيث عدم التصريح بالفصل بين الصلاة الأصلية وبين صلاة الاحتياط فقال فيها بالبناء على الأقل وجعلها ضابطة كلية وقابلها بالأخبار الصريحة في الفصل الدالة على البناء على الأكثر فجعلها ضابطة اخرى ، ففيه انه قد سبقه صاحب المدارك الى ذلك بل الصدوق أيضا بزعمهم. نعم ان السيد قد وقف على مورد تلك الأخبار المجملة وهو قد جعل ذلك قاعدة كلية في جميع الشكوك اعتضادا بعموم تلك الأخبار المطلقة. وأنت قد عرفت ان تلك الأخبار التي هي أصل الشبهة الحاملة له على جعل ذلك ضابطة كلية إنما خرجت مخرج التقية. وأما هذه الأخبار المجملة في هذه الصور فيجب حمل إجمالها على الروايات المفصلة كما هي القاعدة الكلية.

و (ثانيا) ـ ان ما زعمه من نسبة التخيير في جميع الشكوك الى الفقيه بناء على قوله : «وليست هذه الاخبار مختلفة وصاحب السهو بالخيار. إلخ» وهو الذي أشار إليه في كلامه المتقدم بقوله «ويأتي كلامه فيه» فقد أوضحنا بطلانه بما لا مزيد عليه. والله العالم ورسوله وأولياؤه (عليهم‌السلام).

٢٣٦

بقي الكلام في الاحتياط في هذه الصورة والمشهور ما قدمناه من التخيير ونقل عن ظاهر ابن ابى عقيل والجعفي تعين الركعتين من جلوس وهو الذي تضمنه أكثر أخبار المسألة المتقدمة إلا ان مرسلة جميل قد دلت على التخيير وعليها عمل الأصحاب (رضوان الله عليهم) وبها قيدوا إطلاق تلك الاخبار. وصاحب المدارك ومن حذا حذوه بناء على الاصطلاح المحدث بينهم قد ردوا الرواية بضعف السند فلا تصلح لتخصيص تلك الاخبار ، وهو جيد على ذلك الأصل الغير الأصل. وكيف كان فالاحتياط يقتضي الوقوف على ما تضمنه أكثر الاخبار من الركعتين من جلوس. والله العالم.

(المسألة الثامنة) ـ لو شك بين الاثنتين والأربع فالمشهور هو البناء على الأكثر والاحتياط بركعتين من قيام.

ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل صلى ركعتين فلا يدرى ركعتان هي أو أربع؟ قال يسلم ثم يقوم فيصلي ركعتين بفاتحة الكتاب ويتشهد وينصرف وليس عليه شي‌ء».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن والصدوق في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا لم تدر اثنتين صليت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي‌ء فتشهد وسلم ثم صل ركعتين واربع سجدات تقرأ فيهما بأم القرآن ثم تشهد وسلم ، فان كنت إنما صليت ركعتين كانت هاتان تمام الأربع ، وان كنت صليت الأربع كانت هاتان نافلة».

وما رواه في الكافي عن ابن ابى يعفور (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل لا يدرى ركعتين صلى أم أربعا؟ قال يتشهد ويسلم ثم يقوم فيصلي ركعتين وأربع سجدات يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يتشهد ويسلم ، فان كان

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من الخلل في الصلاة.

٢٣٧

صلى أربعا كانت هاتان نافلة وان كان صلى ركعتين كانت هاتان تمام الأربع ، وان تكلم فليسجد سجدتي السهو».

وعن زرارة في الصحيح (١) قال : «قلت له من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال يركع ركعتين واربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شي‌ء عليه. الحديث».

وعن جميل عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «في رجل لم يدر ركعتين صلى أم أربعا ووهمه يذهب إلى الأربع والى الركعتين؟ فقال يصلى ركعتين واربع سجدات. الحديث». قوله : «ووهمه يذهب إلى الأربع والى الركعتين» اى من غير ترجيح ولا ظن أحدهما».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٣) «وان شككت في الثانية أو الرابعة فصل ركعتين من قيام بالحمد».

وروى الشيخ عن ابى بصير في الموثق عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا لم تدر أربعا صليت أم ركعتين فقم واركع ركعتين ثم سلم واسجد سجدتين وأنت جالس ثم سلم بعدهما».

وحمل الشيخ والعلامة سجدتي السهو هنا على ما إذا تكلم ناسيا. ولا يخلو من البعد. وجملة من متأخري المتأخرين حملوهما على الاستحباب. ومن المحتمل قريبا ان الأمر بالسجود هنا انما هو من حيث البناء على الأقل وان الحديث يراد به البناء على الأقل ويكون حينئذ محمولا على التقية لما قدمنا (٥) تحقيقه من ان العامة على البناء على الأقل وسجود السهو كما مر في خبر صحيح مسلم (٦) عن عبد الرحمن بن عوف وبه صرح البغوي في شرح السنة. وحينئذ فلا يكون هذا الخبر من اخبار المسألة في شي‌ء لخروجه مخرج التقية.

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ١١ من الخلل في الصلاة.

(٣) ص ١٠.

(٥) ص ٢٢٣ و ٢٢٤.

(٦) ارجع الى التعليقة ٤ ص ١٩٥.

٢٣٨

ونحوه في ذلك ما رواه احمد بن محمد بن خالد البرقي في المحاسن عن بكير بن أعين في الحسن عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له رجل شك فلم يدر أربعا صلى أم اثنتين وهو قاعد؟ قال يركع ركعتين واربع سجدات ويسلم ثم يسجد سجدتين وهو جالس».

قال في المدارك في هذا المقام بعد ذكر صحيحة محمد بن مسلم والحلبي دليلا للقول المشهور : ويحتمل قويا التخيير في هذه المسألة بين ذلك وبين البناء على الأقل ولا احتياط جمعا بين هذه الروايات وبين ما رواه الكليني في الصحيح عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «قلت له من لم يدر.» ثم ساق الخبر المتقدم (٢)

أقول : هذا من جملة ما قدمنا ذكره من توهم وصل الاحتياط بالصلاة الأصلية في الأخبار لعدم ذكر الفصل بالتشهد والتسليم بينه وبين الصلاة الأصلية أو أحدهما ، وهذه الرواية هي التي قدمنا الكلام عليها وبينا ان قوله فيها «بفاتحة الكتاب» قرينة على ان المراد صلاة الاحتياط لا كونهما أخيرتي الرباعية لما شرحناه آنفا ، فان التعبير بذلك وقع في جملة من الروايات كصحيحة محمد بن مسلم المذكورة في هذه المسألة ، وكذا صحيحة الحلبي المذكورة هنا ايضا ، ومثلهما حسنة الحلبي المتقدمة في صورة الشك بين الثلاث والأربع ، وعبارة كتاب الفقه. وهو مع هذه القرينة الظاهرة تعسف في حملهما على الركعتين الأخيرتين وان قراءة الفاتحة انما هي لكونها أحد الفردين المخير بينهما. ولا يخفى عليك ما فيه من التعسف

وبالجملة فإنه إنما وقع في هذا الوهم من حيث انه ذكر في صحيحتي محمد بن مسلم والحلبي المذكورتين في كلامه الفصل بالتشهد والتسليم أو التسليم وفي هذه الرواية قال : «يركع ركعتين. الى آخره» ولم يذكر انه يتشهد أو يسلم ، فهو يدل على كون هاتين الركعتين من الصلاة الأصلية بأنه يكون قد بنى على الأقل.

وفيه انه كيف يتم الاستناد الى مجرد هذه العبارة والحال انه قد وقع التعبير

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من الخلل في الصلاة.

(٢) ص ٢٣٣.

٢٣٩

بها في جملة من الروايات التي علم الفصل فيها بقرائن آخر كما قدمنا ذكره ، وغاية ما يلزم انها باعتبار عدم التصريح بالفصل وعدم وجود قرينة أخرى على ارادة الفصل مجملة محتملة لكل من الأمرين لا انها تكون صريحة أو ظاهرة في ما يدعيه ولهذا ان صاحب الذخيرة ـ بعد نقل رواية أبي بصير المتقدمة التي هي في الإجمال مثل هذه الرواية ـ قال يمكن ان يحمل على البناء على الأقل والأكثر ولا يبعد ادعاء ظهوره في الأول. انتهى. وادعاء ظهوره في الأول ممنوع لما عرفت.

وبالجملة فإنه مع هذا الإجمال لا يصح الاستناد إليها أو الى غيرها متى كان كذلك في إثبات حكم شرعي مخالف للاخبار الصحيحة الصريحة المتكاثرة المعتضدة بفتوى الأصحاب قديما وحديثا عدا من وقع في هذا الوهم من هؤلاء المذكورين ولا ريب ان هذا التعبير وهذا الإجمال انما نشأ من معلومية الحكم يومئذ وكم مثله في سعة التجوز في العبارات كما لا يخفى على من خاض بحور الاستدلالات وتتبع المقالات ، بل الواجب حمل إجمالها على ما فصل في غيرها.

وكيف كان فإنك قد عرفت ان كلامهم في هذه الروايات انما نشأ من تلك الأخبار المطلقة في البناء على الأقل فإنهم اتخذوها كالأساس ، ونحن قد هدمنا بحمد الله سبحانه بنيانها وزعزعنا أركانها فزال الالتباس. ولم تر مثل هذا التحقيق الرشيق في غير زبرنا ومصنفاتنا فتأمله بعين البصيرة وأنظره بمقلة عير حسيرة ليظهر لك ما في الزوايا من الخبايا.

ونقل في المختلف عن ابن بابويه في كتاب المقنع انه يعيد الصلاة ، وربما كان مستنده ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد (١) ـ وهو ابن مسلم على الظاهر ـ قال : «سألته عن الرجل لا يدرى صلى ركعتين أم أربعا؟ قال يعيد الصلاة». والجواب عنها ما تقدم من الجواب عن صحيحة عبيد بن زرارة المذكورة في مسألة الشك بين الاثنتين والثلاث ويجب حملها على ما حملت تلك عليه. والشيخ حملها على الشك في

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من الخلل في الصلاة.

٢٤٠