الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

خرجت مخرج التقية كما سيأتيك ان شاء الله تعالى مزيد بيان لذلك ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) حيث الغوا هذه القواعد بالكلية وكذا غيرها من القواعد المنصوصة في مقام اختلاف الأخبار وقعوا في ما وقعوا فيه من هذا الكلام وأمثاله الناقص العيار ، وربما ارتكبوا التأويلات الباردة والتمحلات الشاردة ، والحق أحق أن يتبع.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان مما نقل عن الصدوق أيضا في أحكام الشكوك جواز البناء على الأقل في الشكوك الآتية المتعلقة بالأخيرتين وجعلوه مخالفا للأصحاب والأخبار القائلين بالبناء على الأكثر في تلك الشكوك ، وهنا موضع اشتباه في كلامه (قدس‌سره) في الفقيه ربما كان هو الحامل لهم على ما وقع لهم من الوهم وان كانت بعض نقولاتهم عنه يأبى ذلك مثل نقل العبارة المتقدمة عنه مع انه لا وجود لها في كلامه.

وها انا اذكر لك ملخص كلامه (قدس‌سره) في الكتاب المذكور واشرح لك ما تضمنه ودل عليه ليظهر لك ما في كلامهم من القصور :

قال (قدس‌سره) في أحكام السهو في الصلاة قريبا من أول الباب (١) ما صورته : والأصل في السهو ان من سها في الركعتين الأولتين من كل صلاة فعليه الإعادة ، ومن شك في المغرب فعليه الإعادة ، ومن شك في الغداة فعليه الإعادة ومن شك في الجمعة فعليه الإعادة ، ومن شك في الثانية والثالثة أو في الثالثة والرابعة أخذ بالأكثر فإذا سلم أتم ما ظن انه قد نقص. وقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) (٢) لعمار بن موسى «يا عمار اجمع لك السهو كله في كلمتين متى شككت فخذ بالأكثر فإذا سلمت فأتم ما ظننت انك قد نقصت». ومعنى الخبر الذي روى (٣) «ان الفقيه لا يعيد الصلاة». إنما هو في الثلاث والأربع لا في الأولتين. انتهى. وهذا الكلام كما ترى

__________________

(١) ج ١ ص ٢٢٥.

(٢) الوسائل الباب ٨ من الخلل في الصلاة.

(٣) الوسائل الباب ١ و ٩ و ٢٩ من الخلل في الصلاة.

٢٠١

من أوله الى آخره موافق لما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم) ودلت عليه أخبار تلك الأبواب.

ثم ساق الكلام بعد ما ذكرناه في جملة من مسائل السهو والشك الخارجة عن ما نحن فيه بما يقرب من ورقة كبرى الى أن قال : وروى الحلبي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) انه قال : «إذا لم تدر اثنتين صليت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي‌ء فتشهد وسلم ثم صل ركعتين. الرواية إلى آخرها». وهذا الخبر هو مستند الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه الصورة التي اشتمل عليها الخبر ، وظاهر روايته له وجموده عليه يؤذن بموافقته الأصحاب في ذلك.

ثم ساق الكلام والأخبار في مسائل خارجة عما نحن فيه الى أن قال : وروى الحلبي عنه (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «إذا لم تدر أربعا صليت أم خمسا. الحديث الى آخره». والتقريب فيه ما تقدم في سابقه.

ثم ساق الكلام في أمور خارجة الى أن قال : وروى عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه‌السلام) (٣) قال «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا أم أربعا. الحديث». والتقريب فيه أيضا كما ذكرناه.

ثم قال : وروى على بن أبي حمزة عن العبد الصالح (عليه‌السلام) ثم ساقها كما قدمناه (٤) ثم قال : وروى سهل بن اليسع. الى آخر ما قدمنا نقله أيضا عنه (٥) ثم قال : وقد روى انه يصلى ركعة من قيام وركعتين من جلوس (٦). وليست هذه الأخبار مختلفة وصاحب السهو بالخيار بأي خبر أخذ منها فهو مصيب. وروى عن إسحاق بن عمار (٧) انه قال «قال لي أبو الحسن (عليه‌السلام) إذا شككت فابن

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من الخلل في الصلاة.

(٢) الوسائل الباب ١٤ من الخلل في الصلاة.

(٣ و ٦) الوسائل الباب ١٣ من الخلل في الصلاة.

(٤ و ٥) ص ٢٠٠.

(٧) الوسائل الباب ٨ من الخلل في الصلاة.

٢٠٢

على اليقين. قال قلت هذا أصل؟ قال نعم». ثم ساق الكلام في غير ما نحن فيه وأطال الى أن قال : ومن لم يدر كم صلى ولم يقع وهمه على شي‌ء فليعد الصلاة. هذا خلاصة ما ذكره في الكتاب المذكور بالنسبة إلى المسائل التي نقلوها عنه.

ومن المحتمل قريبا ـ بل هو الظاهر من كلام المحدث الكاشاني في الوافي ـ ان منشأ الشبهة في ما نقلوه عنه قوله هنا «وليست هذه الأخبار مختلفة وصاحب السهو بالخيار.» باعتبار إرجاع الإشارة الى جميع ما تقدم من تلك المسائل المتفرقة.

وفيه (أولا) ان الظاهر ـ بل هو المقطوع به كما سنشرحه لك ان شاء الله تعالى ـ ان مراده بالإشارة انما هو الى هذه الأخبار الثلاثة المتصلة في هذا المقام المتضمنة للشك بين الواحدة والثنتين والثلاث والأربع ، فإنها كما ترى قد اختلفت في ذلك ، فظاهر رواية على بن أبي حمزة وقوله فيها «فليمض في صلاته» انه يتمها بالبناء على الأكثر من غير احتياط ، وظاهر رواية سهل بن اليسع في ذلك أيضا انه يبنى على الواحدة ويتم صلاته ويسجد سجدتي السهو ، وظاهر قوله «وقد روى انه يصلى» انه يبنى على الأكثر ويحتاط بهذا الاحتياط المذكور. والظاهر ان مراده بقوله «روى» هو الإشارة الى كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي المتضمن لهذه الصورة وانه يحتاط فيها بما ذكر ، وهي التي قدمنا نقلها عن أبيه في الرسالة بنقل صاحب الذكرى. وان هذه الروايات الثلاث مع كون موردها أمرا واحدا قد اختلفت في حكمه وهو قد جمع بينها بالتخيير بين العمل بأي الأخبار الثلاثة شاء ، والظاهر من نقله رواية إسحاق بن عمار هو ان مراده تأييد البناء على الأقل. هذا هو ظاهر كلامه.

و (ثانيا) انه كيف يصح حمل الإشارة بهذه الأخبار الى أخبار مسائل الشكوك التي نقلوا عنه الخلاف فيها؟ والحال ان جملة من تلك المسائل التي قدمنا نقلها عنه في الكتاب المذكور انما ذكرها بطريق الفتوى المؤذن بالجزم بذلك لا بطريق الرواية كما عرفت من صدر عبارته التي قدمناها أول الكلام مثل مسألة الشك

٢٠٣

في أولتي الرباعية ومسألة الشك في الثنائية والثلاثية ومسألتي الشك بين الثنتين والثلاث والثلاث والأربع ، فإنه لم ينقل في شي‌ء من هذه المسائل خبرا ، ومثل مسألة «من لم يدر كم صلى» المتأخرة عن هذه الإشارة بكثير ، فكيف يصح الإشارة الى هذه الفتاوى الغير المقرونة بخبر بالكلية بقوله «وليست هذه الأخبار»؟ سيما مع تأخر بعضها عن الإشارة ، ما هذا إلا تعسف صرف وتكلف بحت.

و (ثالثا) انه مع الإغماض عن ذلك كيف يصح الإشارة الى هذه المسائل المتفرقة المتقدمة وفيها ما هو متقدم بورقة كبرى مع تفرقها بين الأخبار والأحكام الخارجة عما نحن فيه؟

و (رابعا) انهم قد نقلوا عنه عبارات في بعض الخلافات التي نسبوها اليه مع ان تلك العبارات لا وجود لها في كتابه بل الموجود انما هو ما يدل على خلاف ذلك.

وبالجملة فإن حمل الإشارة في هذه العبارة ـ على الإشارة الى جميع ما تقدم وما تأخر من المسائل المذكورة والحال ما عرفت ـ تعسف ظاهر كما لا يخفى على كل ناظر فضلا عن الخبير الماهر ، بل كلامه المتقدم في أول الباب والأخبار التي نقلها في الأثناء كله صريح في مطابقة كلام الأصحاب ولم يورد له مناقضا في الباب وانما نقل هذه الأخبار الثلاثة المختلفة في خصوص هذه الصورة وجمع بينها بما ذكر.

بقي الكلام في شي‌ء آخر وهو انه قد دل صدر كلامه الذي قدمنا نقله على ان الشك متى تعلق بالأولتين كان مبطلا وفي هذه الصورة التي اختلفت فيها هذه الأخبار الأمر كذلك ، فكيف حكم بالصحة هنا وخير بين ما دلت عليه هذه الأخبار والواجب هو الحكم بالبطلان وتأويل هذه الأخبار؟

ويمكن الجواب باستثناء هذه الصورة عنده بهذه الأخبار مما دلت عليه أخبار ذلك الحكم ، وأما غيرها فهو جار على ما ذكره أولا لاتفاق الأخبار وعدم ذكره المخالف في شي‌ء من تلك المسائل فلا منافاة حينئذ.

ثم انه لا يخفى ان ما حملنا عليه كلامه ووجهناه به ان لم يكن متعينا ومتحتما

٢٠٤

لما ذكرناه فلا أقل ان يكون هو الأرجح والأظهر ومع التنزل فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه ، وبه يبطل ما زعموه من حمل كلامه على الخلاف في تلك المسائل فإنه متى قام الاحتمال بطل الاستدلال كما هو بينهم مسلم في مقام البحث والجدال. والله العالم.

(المسألة الخامسة) قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الشك انما يعتبر مع تساوى الطرفين واما مع الظن بأحدهما فإنه يبنى على الظن ، ومعناه تقدير الصلاة كأنها وقعت على هذا الوجه المظنون سواء اقتضى الصحة أو الفساد.

وظاهر كلامهم انه لا فرق في حمل الشك على هذا المعنى بين ما إذا شك في الأعداد أو الأفعال ، وقد عرفت في ما تقدم انه في الأفعال محل اشكال لما قدمناه في المسألة الثانية ، وأما في الأعداد فإنه لا اشكال فيه لدلالة الأخبار على البناء على الظن فيها فالمراد بالشك فيها ما هو عبارة عن تساوى طرفي ما شك فيه ، فلو شك بين الاثنتين والثلاث وظن الثلاث بنى عليه من غير احتياط ، ولو شك بين الأربع والخمس وظن الأربع بنى عليه من غير سجود السهو ، ولو ظن كونها خمسا كان كمن زاد ركعة فيجي‌ء فيه الخلاف المتقدم في هذه المسألة.

وقد وقع في كثير من عبائر الأصحاب التعبير هنا بغلبة الظن وربما أشعر بعدم الاكتفاء بمطلق الظن مع انه خلاف النص والفتوى كقوله (عليه‌السلام) (١) «إذا وقع وهمك على الثلاث فابن عليه وان وقع وهمك على الأربع فسلم وانصرف». والمراد بالوهم هنا هو الظن وهو الطرف الراجح ويرجع الى مطلق ترجيح أحد النقيضين ، ولا يمكن حمله على معناه المصرح به في كلام أهل المعقول فإنه باطل إجماعا ، وحينئذ فلا وجه لاعتبار ما زاد على مجرد الظن. قال في الروض : وكأن من عبر بالغلبة تجوز بسبب ان الظن لما كان غالبا بالنسبة إلى الشك والوهم وصفه بما

__________________

(١) هذا المضمون ورد في رواية عبد الرحمن بن سيابة وابى العباس الواردة في الوسائل في الباب ٧ من الخلل في الصلاة. واللفظ فيها الرأي بدل الوهم.

٢٠٥

هو لازم له وأضاف الصفة إلى موصوفها بنوع من التكلف.

والمشهور بين الأصحاب انه لا فرق في هذا الحكم بين الأوليين والأخيرتين ولا بين الرباعية والثلاثية والثنائية ، فإن حصل الشك في موضع يوجب البطلان كالثنائية وغلب الظن على أحد الطرفين بنى عليه وان تساويا بطلت حتى لو لم يدر كم صلى وظن عددا معينا بنى عليه. وكذا لا فرق في ذلك بين الأفعال والاعداد في الركعات. ونقل عن ابن إدريس ان غلبة الظن انما تعتبر فيما عدا الأوليين وان الأوليين تبطل الصلاة بالشك فيهما وان غلب الظن.

قال في الذكرى : لو غلب على ظنه أحد طرفي ما شك فيه بنى عليه لأن تحصيل اليقين عسر في كثير من الأحوال فاكتفي بالظن تحصيلا لليسر ودفعا للحرج والعسر وروى العامة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «إذا شك أحدكم في الصلاة فلينظر أحرى ذلك الى الصواب فليبن عليه». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٢) بعدة طرق «إذا وقع وهمك على الثلاث فابن عليه وان وقع وهمك على الأربع فسلم وانصرف» ولا فرق بين الشك في الأفعال والاعداد ولا بين الأوليين والأخيرتين في ذلك. ويظهر من كلام ابن إدريس ان غلبة الظن تعتبر فيما عدا الأوليين وان الأوليين تبطل الصلاة بالشك فيهما وان غلب الظن ، فان أراده فهو بعيد وخلاف فتوى الأصحاب وتخصيص لعموم الأدلة. انتهى.

واعترضه في المدارك بأن لقائل أن يقول ان مخالفته لفتوى المعلومين من الأصحاب لا محذور فيه إذا لم يكن الحكم إجماعيا. وما ادعاه من العموم غير ثابت فان الخبر الأول عامي وباقي الروايات مختص بالأخيرتين. نعم يمكن الاستدلال

__________________

(١) في صحيح مسلم ج ٢ باب السهو في الصلاة في حديث «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين». وفي رواية ابن بشر «فلينظر أحرى ذلك للصواب» وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ١٦٥ هكذا أورد الرواية : «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر أقربه إلى الصواب وليبن عليه» ..

(٢) ص ٢٠٥.

٢٠٦

على اعتبار الظن في الأولتين بما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن خالد عن سعد بن سعد عن صفوان عن ابى الحسن (عليه‌السلام) (١) قال «ان كنت لا تدري كم صليت ولم يقع وهمك على شي‌ء فأعد الصلاة». ومقتضى الرواية اعتبار الظن في أعداد الأولتين. انتهى ملخصا. ونحوه ما ذكره في الذخيرة أيضا.

أقول : لقائل أن يقول ان مفهوم هذه الرواية الدال على انه إذا وقع وهمه على شي‌ء فإنه لا يعيد بل يبنى على ظنه الشامل للأوليين في أعدادهما وأفعالهما معارض بمنطوق جملة من الأخبار المتقدمة في المقام الثاني من المسألة الثانية من هذا المطلب (٢) بتقريب ما بيناه في ذيل الرواية الأولى منها ، إلا انك قد عرفت (٣) معارضة صحيحة زرارة المذكورة ثمة ورواية محمد بن منصور لما دلت عليه وان وجه الجمع بين الجميع هو تخصيص الروايات المشار إليها بالشك في الأعداد كما هو المتفق عليه بين جملة علمائنا الأمجاد ، وحينئذ فالشك في الأفعال فيها غير مبطل واما انه مع ترجح أحد الطرفين هل يبنى على الظن الحاصل له أم لا سواء كان قبل التجاوز أو بعده؟ فهو راجع الى ما قدمناه من الاشكال المذكور في آخر المقام الأول من المسألة الثانية. وبالجملة فإنه يجب استثناء الشك في الأفعال إذ لا تعلق للأخبار المشار إليها بالافعال بناء على مقتضى الجمع المذكور ، نعم لا بد في الأعداد فيهما من اليقين فلو شك في عددهما ثم ترجح عنده أحد الأعداد بطريق الظن فإنه لا يجوز البناء بمقتضى الاخبار المشار إليها على ذلك الظن لتصريحها باعتبار العلم واليقين كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٤) التي هي إحدى تلك الروايات «فمن شك في الأولتين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين ومن شك في الأخيرتين عمل

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من الخلل في الصلاة.

(٢) ص ١٧٣.

(٣) ص ١٧٥.

(٤) الوسائل الباب ١ من الخلل في الصلاة.

٢٠٧

بالوهم». فإنه صريح كما ترى في ان البناء على الظن الذي عبر عنه بالوهم إنما هو في الأخيرتين وان الأولتين لا بد فيهما من اليقين فما لم يحصل له اليقين تجب عليه الإعادة. وعلى هذا النحو جملة من الروايات الباقية فإنها صريحة أو ظاهرة في اشتراط اليقين في الأولتين. وهي وان كانت بإطلاقها شاملة للأفعال والأعداد إلا انك قد عرفت تخصيصها بالأعداد جمعا بينها وبين صحيحة زرارة المتقدمة ورواية محمد بن منصور.

ومما ذكرنا يظهر لك قوة كلام ابن إدريس في هذه المسألة بالنسبة إلى اعداد الأولتين وانه لا يجوز البناء فيهما على الظن ، وان ما استدل به في المدارك للقول المشهور من مفهوم الرواية التي ذكرها ليس بجيد لمعارضة هذا المفهوم بمنطوق هذه الاخبار الصحاح الصراح في ما ذكرنا ، وربما يظهر من كلام ابن إدريس (قدس‌سره) في سرائره ان حكم المغرب والغداة حكم الأولتين في وجوب البناء على اليقين حيث قال في جملة كلام له : والسهو المعتدل فيه الظن على ضروب ستة : فأولها ما يجب إعادة الصلاة على كل حال ، وعد منه السهو في الركعتين والمغرب والغداة. وكلامه في الكتاب المشار اليه لا يخلو من نوع تشويش واضطراب كما لا يخفى على من راجعه.

ويشير الى ذلك أيضا كلام شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في كتاب البحار حيث قال : الأولى ان الشك إنما يعتبر مع تساوى الطرفين ومع غلبة الظن يبنى عليه وهذا في الأخيرتين إجماعي واما في الأولتين والصبح والمغرب فالمشهور أيضا ذلك ، ونسب الى ظاهر ابن إدريس تخصيص الحكم بالأخيرتين من الرباعية. ثم نقل الاحتجاج للمشهور برواية صفوان المتقدمة في كلام السيد السند (قدس‌سره) ثم قال : وبمفهوم الأخبار الواردة في انه إذا شككت في المغرب فأعد وإذا شككت في الفجر فأعد وإذا شككت في الركعتين الأولتين فأعد.

أقول : أما الاستدلال للمشهور برواية صفوان المذكورة فقد عرفت ما فيه ، وأما الاستدلال بالنسبة إلى المغرب والفجر والركعتين الأوليين بالأخبار المشار

٢٠٨

إليها فهو مبنى على ما تقرر في كلامهم من ان الشك عبارة عن تساوى الاعتقادين وتكافؤهما ، ونحن قد قدمنا لك في صدر هذا المطلب ان الشك لغة ـ كما صرح به جملة من أئمة اللغة ـ أعم من هذا المعنى ومن الظن ، وهم قد قرروا في غير مقام ان الواجب مع فقد الحقيقة الشرعية والعرفية الخاصة الرجوع الى الحقيقة اللغوية وكلام أهل اللغة كما ترى أعم ، وحينئذ فكما يجوز حمل الشك في هذه الاخبار على المعنى الذي ذكروه يجوز حمله على الظن أيضا الذي هو أحد معنييه لغة ، وحينئذ فلا تقوم هذه الأخبار حجة على ما ادعوه مع ما عرفت من تصريح الأخبار المتقدمة باشتراط اليقين في الأوليين في صحة الصلاة فلا يبعد ان تكون الثنائية والثلاثية كذلك وبه يحصل الإشكال في هذا المجال لتشابه الدليل المذكور بتعدد الاحتمال.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المفهوم من النصوص وكلام جل الأصحاب ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ انه مع حصول الظن والبناء عليه فإنه في قوة وقوع الصلاة كذلك عن علم ويقين إن أوجب صحة أو إبطالا وانه لا احتياط مع ذلك. ولم يوجد الخلاف في هذا الحكم إلا في كلام الشيخ على بن بابويه (قدس‌سره) في الرسالة ومنه ما تقدم في المسألة الثالثة من قوله «وان شك ثانيا وتوهم الثانية بنى عليها ثم احتاط بعد التسليم بركعتين قاعدا» وما سيأتي ان شاء الله في مسألة الشك بين الاثنتين والثلاث من انه إذا حصل الظن بالثلاث يبنى عليه ويتم ويصلى صلاة الاحتياط ركعة قائما ويسجد سجدتي السهو. وهو شاذ وان كان مأخذه انما هو كتاب الفقه الرضوي كما عرفت وستعرف.

ثم انه قد صرح شيخنا الشهيد الثاني بأن من عرض له الشك في شي‌ء من أفعال الصلاة يجب عليه التروي فإن ترجح عنده أحد الطرفين بنى عليه وان بقي الشك بلا ترجح لزمه حكم الشاك.

وأنت خبير بأن الأخبار خالية من ذلك وتقييد إطلاقها من غير دليل مشكل وان كان الأحوط ما ذكره (قدس‌سره) والله العالم.

٢٠٩

(المسألة السادسة) إذا شك في الرباعية بين الاثنتين والثلاث فالأشهر الأظهر انه يبنى على الثلاث ويتم ثم يأتي بصلاة الاحتياط الآتية ان شاء الله تعالى.

وفي المسألة أقوال أخر : منها ـ البناء على الأقل نقل ، عن المرتضى في المسائل الناصرية حيث قال : من شك في الأولتين استأنف ومن شك في الأخيرتين بنى على اليقين. وفي الانتصار وافق المشهور.

ومنها ـ قول الشيخ على بن الحسين بن بابويه حيث قال : وان ذهب وهمك إلى الثالثة فأضف إليها رابعة فإذا سلمت صليت ركعة بالحمد وحدها ، وان ذهب وهمك إلى الأقل فابن عليه وتشهد في كل ركعة ثم اسجد سجدتين بعد التسليم ، فان اعتدل وهمك فأنت بالخيار ان شئت بنيت على الأقل وتشهدت في كل ركعة وان شئت بنيت على الأكثر وعملت على ما وصفناه. انتهى.

ومنها ـ ما نقلوه بزعمهم عن الصدوق من تجويزه البناء على الأقل. وفيه ما عرفت مما قدمنا تحقيقه في المسألة الرابعة فإنه قد صرح في ما نقلناه عنه ثمة بأن من شك في الثانية والثالثة أو في الثالثة والرابعة أخذ بالأكثر فإذا سلم أتم ما ظن انه نقص. وهذا هو الذي عليه الأصحاب في هذه المسألة ، ولم يصرح بما يخالفه الا بما أشرنا إليه ثمة من موضع الاشتباه الذي ربما كان سببا لارتكابهم لهذه الأوهام السخيفة والخيالات الضعيفة.

ومنها ـ ما نسب إليه في كتاب المقنع من القول بالإبطال متى عرض له هذا الشك حيث قال «سئل الصادق (عليه‌السلام) (١) عن من لا يدرى اثنتين صلى أم ثلاثا؟ قال يعيد. قيل فأين ما روى عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الفقيه لا يعيد الصلاة؟ قال انما ذلك في الثلاث والأربع». والتقريب فيه ان من عادته في هذا الكتاب الإفتاء بمتون الاخبار ولهذا نقل جملة من الأصحاب القول بذلك عنه في الكتاب المذكور الا ان الفاضلين نقلا الإجماع على عدم الإعادة في صور الشك

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من الخلل في الصلاة.

٢١٠

في الأخيرتين ، وهو المؤيد بالأخبار كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

وتحقيق البحث في هذه المسألة يقع في مواضع :

(الموضع الأول) ـ قال في الذكرى : وأما الشك بين الاثنتين والثلاث فأجراه معظم الأصحاب مجرى الشك بين الثلاث والأربع ولم نقف فيه على رواية صريحة ونقل فيه ابن ابى عقيل تواتر الاخبار. انتهى.

ونحوه الشهيد الثاني في الروض حيث قال : وليس في مسألة الشك بين الاثنتين والثلاث الآن نص خاص ولكن الأصحاب أجروه مجرى الشك بين الثلاث والأربع. ثم نقل عن ابن ابى عقيل كما نقل في الذكرى.

وظاهر هما ـ كما ترى ـ عدم الوقوف على نص صريح في المسألة مع ان الشيخ استدل في التهذيب بما رواه في الحسن عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «قلت له رجل لا يدرى واحدة صلى أم اثنتين؟ قال يعيد. قلت رجل لا يدرى اثنتين صلى أم ثلاثا؟ قال ان دخله الشك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الأخرى ولا شي‌ء عليه ويسلم».

وعن عمار بن موسى الساباطي (٢) قال «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) كل ما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر ، قال فإذا انصرفت فأتم ما ظننت انك نقصت».

إلا ان السيد السند (قدس‌سره) في المدارك اعترضه فقال : ويتوجه عليه ان الرواية الثانية ضعيفة السند باشتماله على جماعة من الفطحية فلا تنهض حجة ، والرواية الأولى غير دالة على المطلوب وانما تدل على البناء على الأقل إذا وقع الشك بعد الدخول في الثالثة وهي الركعة المترددة بين الثالثة والرابعة حيث قال : «مضى في الثالثة ثم صلى الأخرى ولا شي‌ء عليه» ولا يجوز حمل الثالثة على الركعة

__________________

(١) الوسائل الباب ١ و ٩ من الخلل في الصلاة.

(٢) الوسائل الباب ٨ من الخلل في الصلاة.

٢١١

المترددة بين الثانية والثالثة لأن ذلك شك في الأولتين وهو مبطل. انتهى.

وقد تبعه على هذا التوجيه لمعنى الحسنة المذكورة من تأخر عنه من الفضلاء كما هي عادتهم غالبا كالفاضل الخراساني والمحدث الكاشاني والفاضل المجلسي وغيرهم.

والتحقيق عندي ان ما ذكروه بمحل من القصور بل الرواية المذكورة واضحة الظهور في الدلالة على القول المشهور.

وحاصل كلام السيد المزبور ان قوله (عليه‌السلام) : «ان دخله الشك بعد الدخول في الثالثة يمضي فيها. إلخ» يدل على أن الشك عرض له في أول الدخول في تلك الركعة المعبر عنها بالثالثة. وهذه الركعة التي سماها (عليه‌السلام) ثالثة اما ان تكون مترددة بين الثانية والثالثة فيلزم منه الشك قبل إكمال الأولتين وهو مبطل فلا يجوز حمل الخبر عليه ، واما أن تكون مترددة بين الثالثة والرابعة كما هو ظاهر الخبر وحينئذ فلا يكون من محل الاستدلال في شي‌ء لأنه شك بين الثلاث والأربع وقد أمره (عليه‌السلام) بالبناء على الثلاث التي هي الأقل.

أقول : والظاهر ان منشأ الشبهة الذي أوجب للسيد المذكور الطعن في الخبر وحمله على ما ذكره من وجهين :

(أحدهما) ـ قوله (عليه‌السلام) «ثم صلى الأخرى» فإنه حملها على الركعة الرابعة بمعنى انه بعد البناء على الثالثة وهي التي شك في حال القيام لها أردفها بالركعة الرابعة. وهذا وان توهم في بادئ النظر إلا انه ليس هو المراد بل المراد بالأخرى في الخبر إنما هي ركعة الاحتياط كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

و (ثانيهما) ـ قوله (عليه‌السلام) : «فان دخله الشك بعد دخوله في الثالثة» فإن ظاهر كلام السيد حمل الالف واللام في الشك على العهد الذهني أي شك ما من الشكوك وهو الشك في كون هذه الركعة ثالثة أو رابعة. والتحقيق ان الالف واللام إنما هي للعهد الخارجي والمراد انما هو الشك المسؤول عنه وهو الشك بين الاثنتين والثلاث فحكم (عليه‌السلام) بأنه يمضي في الثالثة التي هي الأكثر ويتمها

٢١٢

بعد البناء على الثلاث فتكون هذه رابعة ثم يصلى اخرى وهي ركعة الاحتياط.

وتوضيح ما قلناه انه لا يخفى على من تأمل روايات هذه المسائل المشتملة على البناء على الأكثر والتعبير عن الاحتياط فيها انها مختلفة في تأدية هذا المعنى والدلالة عليه ، ففي بعضها جعل الاحتياط في عبارة الخبر موصولا كما هنا بمعنى انه لم يصرح في الرواية بأنه يتشهد ويسلم ثم يحتاط بل عبر عنه بمثل هذه العبارة المجملة الموهمة لدخوله في الصلاة الأصلية ، وبعض منها قد صرحت بالفصل وان تفاوتت أيضا تأديته كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وسنشير الى ذلك ان شاء الله تعالى ذيل الروايات الآتية في صورة الشكوك الباقية مذيلا ببيان ما قلناه وإيضاح ما ادعيناه.

وحينئذ فمعنى الخبر المذكور بناء على ما ذكرناه ـ وهو الذي فهمه من استدل به من علمائنا الأعلام ـ انه ان دخله الشك المسؤول عنه بعد إكماله الثنتين ودخوله في الثالثة المتيقنة المترددة بين كونها ثالثة أو رابعة مضى في الثالثة يعني بنى على الثلاث وأتمها بهذه الركعة التي شك حال قيامها ثم أردفها بالركعة الأخرى التي هي صلاة الاحتياط ، لأنه بشكه حال القيام بكونها ثالثة أو رابعة قد حصل له الشك في ما تقدم من انه ركعتان فتكون هذه ثالثة أو ثلاث فتكون هذه رابعة فهو شاك حينئذ في ما قدمه هل هو ثلاث أو اثنتان فأمره (عليه‌السلام) بالمضي في الثالثة بالمعنى الذي ذكرناه ، وفي العطف ب «ثم» اشعار بذلك غاية الأمر انه (عليه‌السلام) جعل صلاة الاحتياط هنا موصولة ولم يصرح بما يوجب الفصل بينها وبين الصلاة الأصلية مما يؤذن بكونها خارجة عن الصلاة الأصلية ومنه نشأ الاشتباه كما عرفت.

ومما يوضح ما قلناه بأظهر إيضاح ويفصح عنه بأنور إفصاح (أولا) ان الشك في جميع الصور انما يطلق على ما تقدم من الصلاة لا ما يأتي فإذا قيل شك بين الاثنتين والثلاث فالمراد ان ما قدمه هل هو اثنتان أو ثلاث ، وكذلك قولك شك بين الثلاث والأربع انما هو بمعنى ان ما قدمه هل هو ثلاث أو أربع ، ولهذا صرح العلامة في القواعد والمنتهى والمختلف بأنه لو قال : لا أدرى قيامي هذا

٢١٣

للثالثة أو الرابعة فهو شك بين الاثنتين والثلاث وهو عين ما اشتملت عليه الرواية المذكورة لا انه شك بين الثلاث والأربع كما توهموه وبنوا عليه ما بنوا من الإيراد وعدم دلالة الخبر على ما هو المطلوب والمراد. وقد صرح العلامة في المختلف وغيره أيضا بأنه لو قال : لا أدرى قيامي هذا للخامسة أو الرابعة فإنه شك بين الثلاث والأربع وانه يجلس ويبنى على الأربع. ومما ينبه على هذا الألف واللام في قوله : «فان دخله الشك» أى الشك المسؤول عنه وهو الشك بين الاثنتين والثلاث.

و (ثانيا) ـ انه يلزم بناء على ما توهموه ان الامام (عليه‌السلام) لم يجب عن أصل السؤال بشي‌ء بالكلية لأن السائل إنما سأله عن من لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا فكيف يجيبه الامام بحكم الثلاث والأربع وانه يبنى على الثلاث التي هي الأقل؟ وكيف سكت السائل وقنع بذلك وهو زرارة الذي من عادته تنقيح أجوبة المسائل وطلب الحجج فيها والدلائل؟ وكيف ينسب الى الامام (عليه‌السلام) العدول عن ذلك ولا مانع في البين.

و (ثالثا) ان البناء على الأقل في هذه الصور المنصوصة بل مطلقا لا مستند له ولا دليل عليه وان ظهر من جملة منهم ـ لعدم إمعان النظر في الاخبار ـ الركون اليه ، وأخباره كلها محمولة على التقية كما عرفت آنفا (١) وستعرف ان شاء الله تعالى ، وحينئذ فلا يصح حمل هذه الرواية عليه بالكلية.

وإذا ثبت بما ذكرناه ان مورد الرواية إنما هو الشك بين الاثنتين والثلاث وانه (عليه‌السلام) أمره في ذلك بالبناء على الثلاث فإنه يتحتم البتة حمل قوله (عليه‌السلام) (٢) : «ثم صلى الأخرى» على ركعة الاحتياط وإلا لزم البناء على الأكثر في الصورة المذكورة مع عدم الاحتياط بالكلية وهو باطل إجماعا.

وبالجملة فإن الخبر المذكور بتقريب ما أوضحناه في هذه السطور ظاهر الدلالة

__________________

(١) ص ١٩٥.

(٢) ص ٢١١.

٢١٤

عار عن القصور.

ومثله في ذلك ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن محمد بن خالد عن العلاء (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة؟ قال : يبنى على اليقين فإذا فرغ تشهد وقام قائما فصلى ركعة بفاتحة الكتاب». والمراد باليقين هنا ما يحصل به يقين البراءة وهو البناء على الأكثر فإنه ان ظهر التمام كان الاحتياط نافلة وان ظهر النقصان كان الاحتياط متمما. وأما حمل اليقين هنا على البناء على الأقل فإنه ينافيه الاحتياط المذكور.

وهذه الرواية من الاخبار التي صرح فيها بفصل الاحتياط بالتشهد الشامل للتسليم تجوزا. والله العالم.

(الموضع الثاني) قال في المدارك على اثر الكلام المتقدم نقله عنه : وربما ظهر من هذه الرواية بطلان الصلاة بالشك بين الاثنتين والثلاث إذا عرض الشك قبل الدخول في الثالثة ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد بن زرارة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل لم يدر ركعتين صلى أم ثلاثا؟ قال : يعيد. قلت : أليس يقال لا يعيد الصلاة فقيه؟ قال : انما ذلك في الثلاث والأربع». وبمضمون هذه الرواية أفتى ابن بابويه (قدس‌سره) في كتاب المقنع ، وأجاب عنها الشيخ في التهذيب بالحمل على صلاة المغرب. ويدفعه الحصر المستفاد من قوله (عليه‌السلام) : «انما ذلك في الثلاث والأربع». الى ان قال : والمسألة قوية الإشكال ولا ريب ان الإتمام والاحتياط مع الإعادة إذا عرض الشك قبل الدخول في الثالثة طريق الاحتياط. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مقتضى ما ذكره من انه بعروض الشك حال القيام في الثالثة المترددة بين كونها ثالثة أو رابعة وانه يصير من قبيل الشك بين الثلاث والأربع هو بطلان الصلاة بالشك بين الاثنتين والثلاث ، فان المفهوم من الخبر على هذا انه

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٩ من الخلل في الصلاة.

٢١٥

ان دخله الشك قبل الدخول في الثالثة لم يمض بل تبطل صلاته ، وهو ظاهر في الإبطال بالشك بين الاثنتين والثلاث ، لانه متى شك بعد السجدة الثانية بين كون ما صلاة اثنتين أو ثلاثا فإن الصلاة باطلة بمقتضى ظاهر التعليق ، ولهذا استدل بصحيحة عبيد بن زرارة الظاهرة في بطلان الصلاة بالشك في الصورة المذكورة. واما على ما ذكرناه من ان هذا الشك الذي وقع منه بعد القيام للركعة المذكورة انما هو الشك بين الاثنتين والثلاث فإنه لا فرق بين عروض هذا الشك في حال القيام أو قبله بعد إتمام الركعتين المتيقنتين بالسجدة الثانية فإنه يجب العمل فيه بالبناء على الأكثر والاحتياط كما هو المشهور.

وأما ما دل عليه الخبر بمفهومه ـ من انه لو دخله الشك قبل دخوله في الثالثة لم يمض بل تبطل صلاته كما ذكره ـ فإنه يجب ارتكاب التأويل فيه ، ولهذا ان جملة ممن تبع السيد السند في الطعن في الخبر بما تقدم ذكره أجابوا عن مفهوم ما دل عليه الخبر الموجب لبطلان الصلاة بالشك بين الاثنتين والثلاث بحمل الدخول في الثالثة على ما هو أعم من الدخول فيها أو في مقدماتها والرفع من السجود من جملة مقدماتها. وأجاب بعضهم بتقييد المفهوم بما إذا وقع الشك قبل إكمال الأوليين ، ولا يخفى ما في الجميع من البعد.

والذي يقرب عندي ان هذه العبارة إنما خرجت مخرج التجوز وان التعليق غير مراد منها بمعنى ان قوله (عليه‌السلام) : «ان دخله الشك بعد دخوله في الثالثة» إنما هو كناية عن إتمام الأولتين فكأنه قال : «إذا دخله الشك بعد إكمال الأولتين مضى. إلخ» وباب المجاز في الكلام واسع ، ولعل الإجمال في هذه الرواية في كل من هذا الحكم والحكم الأول مبنى على معلومية ذلك يومئذ عند أصحابهم (عليهم‌السلام) كما هو الآن معلوم بين علمائنا.

وبالجملة فإنه متى ثبت ما حققناه آنفا من ان الرواية دالة على حكم الشك بين الاثنتين والثلاث حسبما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقد علم اتفاقا

٢١٦

نصا وفتوى ان المدار في العمل في الشك في الأخيرتين على إتمام الأوليين فلا معنى لصحته حال القيام وبطلانه قبله بعد إتمام الأوليين وأيضا فإن القاعدة الجارية في سائر الشكوك المنصوصة لا يفرق فيها بين عروض الشك جالسا أو قائما ، وبه يظهر ان هذه العبارة إنما خرجت مخرج التجوز وكم مثلها وأمثالها في الكتاب العزيز والأخبار.

وأما ما استند اليه في حجية هذا المفهوم ـ من صحيحة عبيد بن زرارة التي من أجلها استشكل في المسألة كما صرح به في آخر كلامه ـ فهو أيضا بمحل من الوهن والضعف :

(أما أولا) فلما شرحناه من معنى حسنة زرارة وبيان دلالتها على حكم المسألة فتكون معارضة لهذه الرواية ، وكذا رواية العلاء التي قدمنا نقلها عن كتاب قرب الاسناد.

و (أما ثانيا) فلمعارضتها بالروايات الكثيرة الدالة بإطلاقها على وجوب البناء على الأكثر في جميع الشكوك كموثقة عمار التي قدمنا نقلها عن الشيخ (١) وان كان السيد المذكور قد ردها بضعف السند بناء على هذا الاصطلاح الغير المعتمد مع ما جرى له من التمسك بالموثقات إذا احتاج إليها كما نبهنا عليه في غير موضع مما تقدم.

و (أما ثالثا) فلمعارضتها بالأخبار الصحيحة الصريحة الدالة على ان الإعادة في الأوليين والسهو في الأخيرتين ، وقد تقدمت في المقام الثاني من المسألة الثانية من هذا المطلب (٢).

وحينئذ فلا بد من تأويل هذه الرواية وإلا فارجائها إلى قائلها ولكنه لما كان من عادته انه إنما يحوم حول الأسانيد في جميع الأحكام والمقامات ولا ينظر الى ما اشتمل عليه متن الرواية من المخالفات والمناقضات وقع في الإشكال الذي أشار اليه. ومن تأمل ما ذكرناه حق التأمل ظهر له ان ما ذكره الأصحاب (رضوان الله

__________________

(١) ص ٢١١.

(٢) ص ١٧٣.

٢١٧

عليهم) هو الحق الذي لا غشاوة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه. والأظهر في صحيحة عبيد بن زرارة المذكورة هو الحمل على الشك قبل إكمال الركعتين كما ذكره جملة من متأخري الأصحاب في البين. والله العالم.

(الموضع الثالث) قال في المدارك أيضا على اثر الكلام المتقدم في سابق هذا الموضع : ونقل عن السيد المرتضى في المسائل الناصرية انه جوز البناء على الأقل في جميع هذه الصور ، وهو الظاهر من كلام ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه ، ويدل عليه ما رواه في الموثق عن إسحاق بن عمار (١) قال : «قال لي أبو الحسن الأول (عليه‌السلام) إذا شككت فابن على اليقين. قلت : هذا أصل؟ قال : نعم». وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج وعلى عن أبي إبراهيم (عليه‌السلام) (٢) «في السهو في الصلاة؟ فقال : يبنى على اليقين ويأخذ بالجزم ويحتاط بالصلاة كلها». ثم نقل كلام الشيخ على بن بابويه حسبما قدمنا نقله عنه وقال بعده قال في الذكرى : ولم نقف على مأخذه. ثم قال : والمسألة قوية الإشكال. إلى آخر ما قدمناه.

أقول : وهذه الروايات أيضا هنا حيث ان فيها الصحيح باصطلاحه مما قوى هذا الإشكال عنده في هذا المجال ولكن قد عرفت وستعرف انه لا إشكال بحمد الملك المتعال.

ولا بأس بالتعرض لبيان ما في كلامه (قدس‌سره) أيضا هنا من الاختلال ليظهر لك صحة ما ذكره وقوة ما قويناه :

فنقول : أما ما نقله عن المرتضى (رضى الله عنه) من انه جوز البناء على الأقل فالمنقول عنه في الكتاب المذكور إنما هو تعين البناء على الأقل ، وهذا هو الذي تنادي به عبارة الكتاب المشار اليه حيث ان جده الناصر قال : «ومن شك في الأولتين استأنف الصلاة ومن شك في الأخيرتين بنى على اليقين» فقال السيد

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٨ من الخلل في الصلاة.

٢١٨

«قدس‌سره» : هذا مذهبنا وهو الصحيح عندنا. إلخ. وهو كما ترى صريح في تعين البناء على الأقل لا تجويزه ، ولا ريب في ضعف هذا القول ان حمل اليقين على البناء على الأقل كما هو الظاهر من سياق عبارة جده لأن فيه طرحا للأخبار المتكاثرة الصحيحة الصريحة في أحكام هذه الصور في البناء على الأكثر ، ويشبه ان يكون قائله لم يراجع الاخبار في هذا المجال ولم يخطر له يومئذ بالبال. ولا يخفى ان الناصر جد السيد المذكور كان من كبراء الزيدية علما وشرفا وجاها (١)

__________________

(١) هو أبو محمد الحسن بن على بن الحسن بن على الأصغر بن عمر الأشرف بن الامام السجاد بن الحسين الشهيد بن على بن ابى طالب «عليهم‌السلام» قيل له الأطروش من ضربة سيف على رأسه في حرب الداعي أذهبت سمعه ، واشتهر بالناصر الكبير لظهور ناصر بعده من أئمة الزيدية. كان شريفا فاضلا كبيرا إماميا اثنى عشريا متفننا في العلوم له كتب في الإمامة كبير وصغير وفي الطلاق وفي فدك والخمس وفضل الشهداء وفصاحة أبي طالب ومعاذير بنى هاشم في ما نقم عليهم ومواليد الأئمة إلى الحجة «عجل الله فرجه» خرج مع الداعي الكبير الحسن بن زيد وأخيه محمد بن زيد واتصل بعماد الدولة الديلمي وفي سنة ٣٠١ ظهر بطبرستان وملك أكثر بلادها ولعدالته وحسن سيرته أثرت دعوته للحق في أولئك المجوس فدان بدين الإسلام أهل طبرستان وآمل فبنى المساجد وأسس مدرسة درس فيها الفقه والحديث. ورميه باعتناق المذهب الزيدي لا أساس له في قرارة نفسه والسر فيه اعتقاد الزيدية إمامته من جهة خروجه بالسيف في وجه المنكر ورأيهم على امامة الناهض لذلك وزاد عليه تحره في فقه الزيدية فكان في مؤلفاته يوافقهم تارة ويرد عليهم اخرى فتخيل من لا خبرة له بحقيقته انه زيدي الطريقة التي لا تبتعد عن خلافة الشيخين وان كان علي «عليه‌السلام» أفضل منهما ، وفقه الزيدية يتفق مع الفقه السني كثيرا كما يشهد به من كتبهم البحر الزخار ونيل الأوطار والروض النضير في شرح فقه زيد والمجموع الفقهي لزيد ، ومن هنا سجل المحققون في آثار الرجال اعتقادهم ببراءته من الانتساب إلى الزيدية إشارة وتصريحا وان وردت النسبة إلى الزيدية في فهرست ابن النديم ومعالم العلماء لابن شهرآشوب وكامل ابن الأثير وعمدة الطالب ، فهذا الشيخ الصدوق المعاصر له يقول عند ذكره : «قدس الله سره» ويترحم عليه النجاشي المتوفى سنة ٤٥٠

٢١٩

والزيدية قد جروا في فقههم غالبا على فقه العامة والسيد (قدس‌سره) قد جرى

__________________

بعد اعترافه بأنه امامى المذهب ويقول سبطه على الهدى الشريف المرتضى في مقدمة المسائل «الناصريات» : وانا بتشييد علوم هذا الفاضل البارع «كرم الله وجهه» أحق وأولى. الى أن يقول : والناصر كما تراه من أرومتي وغصن من أغصان دو حتى وهذا نسب عريق في الفضل والنجابة والرئاسة. الى أن يقول : وأما أبو محمد الناصر الكبير وهو الحسن بن علي ففضله في علمه وزهده وفقهه أظهر من الشمس الباهرة وهو الذي نشر الإسلام في الديلم حتى اهتدوا به بعد الضلالة وعدلوا بدعايته عن الجهالة ، وسيرته الجميلة أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى. هذا رأي الشريف المرتضى في جدة الناصر الأكبر ولو كان للزيدية في نفسه أثر لنبه عليه ولما اطراه وافتخر بالانتساب اليه وهو البعيد عن هذا المذهب المشلول والرأي المؤسس على كثيب رمل. ولو ضاءة مذهبه الحق وسطوع رأيه الصريح في إمامة أهل البيت من آل الرسول «ص» الى الحجة المنتظر «عجل الله فرجه» سجل اعتقاده فيه صاحب رياض العلماء فقال : الناصر الكبير من عظماء الإمامية وان كان الزيدية يعتقدون انه من جملة أئمتهم فظن من ذلك انه زيدي المذهب وليس كذلك. وتابعه أبو على الحائري في منتهى المقال قال : لا غبار في مدحه والثناء عليه لانه من علماء الإمامية ومصنفي الاثني عشرية. وكلمة شيخنا البهائي في رسالة إثبات الحجة المنتظر «عليه‌السلام» تنادي بأعلى صوتها باعتدال طريقته وحسن سريرته وتباعده عما لا يلتئم مع المذهب الحق ، قال : ان المحققين من علمائنا اعتقدوا انه ناصر الحق وتابع طريقة ابى عبد الله الصادق «عليه‌السلام» فرضوان الله عليه وتحياته. نعم لما اقتضت دعوته تأليف النفوس المائلة عن الصراط السوي والداعية الى عبادة النار أظهر بعض الأمور التي تدين بها أهل المذاهب وان كانت نفسه نافرة عنها لئلا تفشل دعوته ويذهب جهاده سدى وارجاء تعديل ميلهم الى الظروف المناسبة كما هي طريقة آبائه المعصومين «عليهم‌السلام» فتراه يجمع في الوضوء بين الغسل والمسح وفي القنوت على مذهب الشيعة والشافعية ويتردد في تحليل المتعة ، إلى أمثالها مما اعتنقه أرباب المذاهب ، والذي يشهد بذلك رأيه الذي سجله في كتابه المسترشد على طبق الحديث المروي عن على «عليه‌السلام» «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة اما ظاهر مشهور أو خائف مغمور». وهذا كما يراه النابه نص في

٢٢٠