الحدائق الناضرة - ج ٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

الوهم ، والشك عبارة عن تساوى الاعتقادين من غير ترجيح ، والأصحاب قد جروا في أكثر هذه المعاني في أبواب الفقه وجل الأحكام على كلام أهل اللغة.

والمفهوم من الأخبار ان العلم شرعا أعم مما ذكروه ومن الظن ، فان يقين الطهارة والحلية المأمور بالأخذ بهما حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك انما هو عبارة عن عدم العلم بالرافع لا العلم بعدمه كما تقدم تحقيقه في الباب الخامس من كتاب الطهارة

والظن لغة لمعان : منها ـ الشك واليقين ، قال في كتاب مجمع البحرين نقلا عن بعضهم انه يقع لمعان أربعة : منها معنيان متضادان أحدهما الشك والآخر اليقين الذي لا شك فيه ، قال : فاما بمعنى الشك فأكثر من ان تحصى شواهده واما بمعنى اليقين فمنه قوله عزوجل «وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» (١) ثم أطال الى ان قال : والمعنيان الغير المتضادين أحدهما الكذب والآخر التهمة. إلى آخر كلامه زيد في مقامه. واما الوهم فكثيرا ما يطلق في الأخبار على الظن كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

واما الشك فقد فسر في الصحاح والقاموس بأنه خلاف اليقين ، وقال في كتاب المصباح المنير : قال أئمة اللغة الشك خلاف اليقين فقولهم خلاف اليقين هو التردد بين شيئين سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر ، قال الله تعالى «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» (٢) قال المفسرون اى غير مستيقن وهو يعم الحالتين. وقال الأزهري في موضع من التهذيب الظن هو الشك وقد يجعل بمعنى اليقين. وقال في موضع آخر : الشك نقيض اليقين. ففسر كل واحد بالآخر ، وكذلك قال جماعة. وقال ابن فارس الظن يكون شكا ويقينا ، وقد استعمل الفقهاء الشك في الحالين على وفق اللغة نحو قولهم من شك في الطلاق ومن شك في الصلاة أي لم يستيقن سواء رجح أحد الجانبين أم لا ، وكذلك قولهم ـ من تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه ـ انه يبنى على اليقين. انتهى ما ذكره في المصباح المنير.

__________________

(١) سورة الجن الآية ١٢.

(٢) سورة يونس الآية ٩٤.

١٦١

وبالجملة فالواجب الرجوع في كل جزئي من جزئيات الشك الى الروايات في ذلك المقام وما تدل عليه من العموم أو الخصوص في هذه المعاني المذكورة كما سنشير اليه ان شاء الله تعالى في ما سيأتي منها.

وكيف كان فالبحث في هذا المطلب يقع في مسائل (الأولى) لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه متى شك في عدد الثنائية ـ كالصبح وصلاة السفر وصلاة الجماعة والعيدين إذا كانت واجبة والكسوف ـ والمغرب فإنه موجب لبطلانها ونقلوا الخلاف هنا عن ابن بابويه ، قال في المنتهى : انه قول علمائنا اجمع إلا ابن بابويه فإنه جوز البناء على الأقل والإعادة.

أقول : قد اشتهر في كلام الأصحاب من العلامة فمن دونه نقل الخلاف عن ابن بابويه في مواضع من الشكوك كما ستمر بك ان شاء الله تعالى مع انه لا أصل له وهذا من أعجب العجاب عند ذوي الألباب ، والسبب في ذلك هو تقليد المتأخر للمتقدم من غير مراجعة لكلام ابن بابويه والنظر فيه بعين التأمل والتحقيق كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في ما نشرحه لك من البيان الرشيق ، ومن جملتها هذا الموضع فان كلامه فيه جار على ما جرى عليه الأصحاب ودلت عليه الأخبار في الباب ، فإنه قال في كتاب الفقيه في باب أحكام السهو في الصلاة : ومن شك في المغرب فعليه الإعادة ومن شك في الغداة فعليه الإعادة ومن شك في الجمعة فعليه الإعادة. وقال في كتاب المقنع : وإذا شككت في الفجر فأعد وإذا شككت في المغرب فأعد. وسيأتيك قريبا ان شاء الله تعالى التنبيه على بقية المواضع التي نسبوا اليه فيها الخلاف

ثم انه مما يدل على الحكم المذكور الأخبار الكثيرة : ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي وحفص بن البختري وغير واحد عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا شككت في المغرب فأعد وإذا شككت في الفجر فأعد». وما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا عبد الله

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من الخلل في الصلاة.

١٦٢

(عليه‌السلام) عن الرجل يصلى ولا يدرى واحدة صلى أم اثنتين؟ قال يستقبل حتى يستيقن انه قد أتم ، وفي الجمعة وفي المغرب وفي الصلاة في السفر».

وعن يونس عن رجل عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «ليس في المغرب والفجر سهو».

وما رواه في التهذيب عن ابى بصير في الموثق عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) في حديث قال : «إذا سهوت في المغرب فأعد».

وعن سماعة في الموثق (٣) قال : «سألته عن السهو في صلاة الغداة قال إذا لم تدر واحدة صليت أم ثنتين فأعد الصلاة من أولها ، والجمعة أيضا إذا سها فيها الامام فعليه ان يعيد الصلاة لأنها ركعتان ، والمغرب إذا سها فيها فلم يدر كم ركعة صلى فعليه ان يعيد الصلاة». أقول : قوله «لأنها ركعتان» كأنه ضابط كلي في وجوب الإعادة في الثنائية.

وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته عن السهو في المغرب؟ قال يعيد حتى يحفظ ، انها ليست مثل الشفع».

وعن العلاء بن رزين في الصحيح عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن الرجل يشك في الفجر؟ قال يعيد. قلت المغرب؟ قال نعم والوتر والجمعة ، من غير أن اسأله».

وروى الصدوق في الخصال في القوى عن ابى بصير ومحمد بن مسلم عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) (٦) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لا يكون السهو في خمس : في الوتر والجمعة والركعتين الأولتين من كل صلاة وفي الصبح والمغرب».

وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن العلاء عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألته عن الرجل يصلى الفجر فلا يدرى أركعة صلى أو ركعتين؟ قال يعيد. فقال له بعض أصحابنا وانا حاضر : والمغرب؟

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧) الوسائل الباب ٢ من الخلل في الصلاة.

١٦٣

قال : والمغرب. فقلت له انا : والوتر؟ قال نعم والوتر والجمعة».

وفي المقام فوائد يحسن التنبيه عليها (الأولى) قد روى الشيخ (قدس‌سره) عن عمار الساباطي في الموثق (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل شك في المغرب فلم يدر ركعتين صلى أم ثلاثا؟ قال يسلم ثم يقوم فيضيف إليها ركعة. ثم قال هذا والله مما لا يقضى أبدا».

وعن عمار الساباطي (٢) أيضا في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل لم يدر صلى الفجر ركعتين أو ركعة؟ قال يتشهد وينصرف ثم يقوم فيصلي ركعة فإن كان صلى ركعتين كانت هذه تطوعا وان كان صلى ركعة كانت هذه تمام الصلاة. قلت فصلى المغرب فلم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا؟ قال يتشهد وينصرف ثم يقوم فيصلي ركعة فإن كان صلى ثلاثا كانت هذه تطوعا وان كان صلى اثنتين كانت هذه تمام الصلاة ، وهذا والله مما لا يقضى أبدا».

وهذان الخبران كما ترى ظاهر ان في المنافاة لما استفاض في الأخبار المعتضدة باتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) والذي ينبغي ارجائهما الى قائلهما (عليه‌السلام) وأجاب الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب عنهما بأنه يحتمل ان يكون المراد من شك ثم غلب على ظنه الأكثر وتكون إضافة الركعة على وجه الاستحباب. وأجاب في الاستبصار بأنهما شاذان مخالفان للاخبار كلها فإن الطائفة قد اجتمعت على ترك العمل بهما. ثم احتمل حملهما على نافلتي الفجر والمغرب. ولا يخفى ما في هذا الحمل من البعد فان الخبرين ظاهران في الفريضة ، فإن قوله «فيضيف إليها ركعة» في الأول وقوله : «فان كان صلى ركعتين كانت هذه تطوعا» في الثاني يناديان بان المراد بهما الفريضة ، وكذا قوله في الخبر الثاني «كانت هذه تمام الصلاة».

قال في الوافي بعد استبعاد حمل الشيخ : أقول ويحتملان في المغرب الرخصة وذلك لانه قد حفظ الركعتين وانما شك في الثالثة فلا يبعد الإتمام ، وفي إطلاق حديث

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من الخلل في الصلاة.

١٦٤

البقباق والخبر الآتي (١) إشعار بذلك. ثم قال : ولو كان الراوي غير عمار لحكمنا بذلك إلا ان عمارا ممن لا يوثق باخباره.

وقال شيخنا المجلسي في البحار بعد نقل خبر عمار الثاني والكلام فيه : وبالجملة فيشكل التعويل على هذا الخبر الذي هو رواية عمار الذي قلما يكون خبر من اخباره خاليا من تشويش واضطراب في اللفظ أو المعنى وترك الأخبار الكثيرة الصحيحة الدالة على البطلان وإلا كان يمكن القول بالتخيير. واما قوله (عليه‌السلام) في آخر الحديثين «وهذا والله مما لا يقضى أبدا» فلعل معناه ان هذا الحكم مما لا يقضى به العامة لأنهم يرون ان مثل هذا الشك مما يوجب الإعادة. انتهى.

أقول : والأظهر في الخبرين المذكورين هو ما قدمنا ذكره والحمل على التقية غير بعيد ، واستقربه في الوسائل قال لموافقتهما لجميع العامة (٢) وهو جيد واما قوله (عليه‌السلام) «انه لا يقضى به ابدا» فالظاهر انه اشارة الى ان هذا الكلام انما خرج منه (عليه‌السلام) مخرج التقية في المخالفة بين الأحكام كما قدمنا بيانه في المقدمة الاولى من مقدمات كتاب الطهارة بمعنى انه لا يقضى به العامة لما ذكره ولا الشيعة أيضا لما استفاض في أخبارهم من إبطال هذا الشك للصلاة ووجوب الإعادة

الثانية ـ ان ما دلت عليه الأخبار المذكورة من بطلان الصلاة بالشك في

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من الخلل في الصلاة رقم (١٣) و (٣).

(٢) في المهذب للشيرازي ج ١ ص ٨٨ «إذا شك هل صلى ركعة أو ركعتين أو صلى ثلاثا أو أربعا لزمه ان يأخذ بالأقل ويأتي بما بقي» وفي شرح النووي على صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري ج ٣ ص ٢٢٨ باب السهو في الصلاة «قال مالك والشافعي واحمد والجمهور متى شك في صلاته هل صلى ثلاثا أم أربعا مثلا لزمه البناء على اليقين فيجب أن يأتي بالرابعة ويسجد للسهو» وفي نيل الأوطار للشوكانى ج ٣ ص ٩٧ «استدل بحديث ابن عوف على البناء على الأقل الشافعي والجمهور» أقول : حديث ابن عوف يأتي في المسألة الثالثة ـ بعد نقل الأخبار الدالة على بطلان الصلاة بالشك في عدد الأوليين والاخبار المعارضة لها ـ شاهدا على ورود الأخبار المعارضة للتقية.

١٦٥

المغرب هو المعروف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقد تقدم نقل ذلك عن الصدوق إلا ان العلامة في المختلف والشهيد في الذكرى نقلا عنه في المقنع انه قال : إذا شككت في المغرب فلم تدر أفي ثلاث أنت أم في أربع وقد أحرزت الثنتين في نفسك فأنت في شك من الثلاث والأربع فأضف إليها ركعة أخرى ولا تعتد بالشك ، وان ذهب وهمك إلى الثالثة فسلم وصل ركعتين بأربع سجدات وأنت جالس. قال في الذكرى بعد نقل ذلك : وهو نادر. وكتاب المقنع لا يحضرني الآن لا راجع ذلك منه فليلاحظ.

ثم اعلم ان عموم النص والفتوى يقتضي عدم الفرق في وجوب الإعادة بين الشك في الزيادة والنقصان ، ويعضده ما رواه الشيخ عن الفضيل (١) قال : «سألته عن السهو فقال في صلاة المغرب إذا لم تحفظ ما بين الثلاث إلى الأربع فأعد صلاتك».

الثالثة ـ الظاهر من الروايات ان الشك في الفريضة الثنائية والثلاثية مبطل مطلقا واجبة بالأصل أو بالعارض كصلاة السفر والصبح والجمعة والعيدين الواجبين وصلاة الكسوف والصلاة المنذورة ثنائية أو ثلاثية وركعتي الطواف.

وينبغي ان يعلم انه لو كان الشك في صلاة الكسوف فان كان الشك بين الركعة الاولى والثانية أو بينهما وبين الثالثة بطلت لأنها ثنائية ، وان كان الشك انما هو في عدد الركوعات فان تضمن الشك في الركعتين كما لو شك هل هو في الركوع الخامس أو السادس؟ فإنه ان كان في السادس فهو في الركعة الثانية وان كان في الخامس فهو في الركعة الأولى بطلت ايضا ، وان أحرز ما هو فيه ولكن شك في عدد الركوع فالأشهر الأظهر البناء على الأقل لأصالة عدم فعله ، فهو في الحقيقة شك في فعل شي‌ء وهو في محله فيأتي به كركوع الصلاة اليومية.

وفي المسألة قولان نادران : أحدهما للقطب الراوندي والثاني للسيد جمال الدين ابن طاوس في البشرى قد نقلهما في الذكرى وردهما ، من أحب الوقوف عليهما فليرجع الى الكتاب المذكور.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من الخلل في الصلاة.

١٦٦

الرابعة ـ ظاهر خبري الخصال وقرب الاسناد وكذا صحيح العلاء المنقول برواية الشيخ ان الشك في الوتر يوجب البطلان ، ولا يخلو من الإشكال لأنها نافلة والمعروف من كلام الأصحاب هو التخيير في النافلة متى شك فيها بين البناء على الأقل والأكثر وان كان البناء على الأقل أفضل. وحملها على صلاة الوتر المنذورة وان أمكن إلا انه لا يخلو من بعد. ويحتمل تخصيص عموم حكم النافلة بالأخبار المذكورة فيقال باستثناء الوتر من ذلك الحكم ، وقد نقل بعض مشايخنا المحققين أنه الى ذلك صار بعض المتأخرين.

وقيل انه لما كان الوتر يطلق غالبا على الثلاث فيحمل على الشك بين الاثنتين والثلاث إذ الشك بين الواحدة والاثنتين شك في الشفع حقيقة والشك بين الثلاث والأربع نادر فيعود شكه إلى انه علم إيقاع الشفع وشك في انه أوقع الوتر أم لا ولما كانت الوتر صلاة برأسها فإذا شك في إيقاعها يلزمه الإتيان بها وليس من قبيل الشك في الركعات. انتهى.

الخامسة ـ ينبغي ان يعلم ان المراد بالشك في هذه المسألة ما هو أعم من الظن لمقابلة الشك فيها باليقين كما في صحيح محمد بن مسلم من قوله (عليه‌السلام) «حتى يستيقن انه قد أتم» والتعبير في جملة من الأخبار المتقدمة بالدراية التي هي بمعنى العلم كما صرح به أهل اللغة مثل قوله (عليه‌السلام) «إذا لم تدر واحدة صليت أم اثنتين» أي إذا لم تعلم ، ونحوها غيرها ، فإنه (عليه‌السلام) جعل مناط الإبطال عدم العلم الشامل للظن. والمفهوم من كلام جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) حمل الشك على المعنى المشهور وحينئذ فلو ظن بنى على ظنه صحة وفسادا. والأخبار تدفعه : منها ـ ما أشرنا اليه ومنها ـ ما يأتي في المسألة الآتية بعد هذه المسألة. وسيأتي لهذه المسألة زيادة تحقيق أيضا في المسألة الخامسة ان شاء الله تعالى.

المسألة الثانية ـ قد صرح جملة من الأصحاب بأنه إذا شك في شي‌ء من أفعال الصلاة ركنا كان أو غيره فان كان في موضعه اتى به وان انتقل عنه الى غيره مضى

١٦٧

في صلاته ، وانه لا فرق في ذلك بين الأولتين والأخيرتين.

وتفصيل هذه الجملة يقع في مقامات (المقام الأول) ان ما ذكروه من التلافي في محله والمضي بعده ركنا كان أو غيره مما لا اعرف فيه خلافا لا في كلام الأصحاب ولا في الأخبار.

ويدل على الأول أصالة عدم فعله وبقاء الخطاب بفعله مضافا الى جملة من الاخبار :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمران الحلبي (١) قال : «قلت الرجل يشك وهو قائم فلا يدرى أركع أم لا؟ قال فليركع».

وعن عبد الرحمن بن ابى عبد الله في الصحيح (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل ان يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال يسجد. قلت فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال يسجد».

وعن ابى بصير بإسنادين أحدهما في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل شك وهو قائم فلا يدري أركع أم لم يركع؟ قال يركع ويسجد».

وفي الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٤) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل سها فلم يدر سجد سجدة أم اثنتين؟ قال يسجد اخرى وليس عليه بعد انقضاء الصلاة سجدتا السهو».

وما رواه في الكافي عن ابى بصير (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل شك فلم يدر سجدة سجد أم سجدتين؟ قال يسجد حتى يستيقن انهما سجدتان».

وعن الشحام عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٦) «في رجل شبه عليه فلم يدر واحدة سجد أو ثنتين؟ قال فليسجد أخرى».

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ١٢ من الركوع.

(٢ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١٥ من السجود.

١٦٨

وما رواه في التهذيب عن ابى بصير والحلبي (١) «في الرجل لا يدرى أركع أم لم يركع؟ قال يركع».

وجملة من هذه الأخبار وان كانت مطلقة إلا انه يجب حملها على بقاء محل التدارك للاخبار المقيدة من قبيل حمل المطلق على المقيد ، والأخبار الآتية الدالة على انه يمضي في صلاته متى دخل في غيره.

واما ما رواه الشيخ عن الفضيل بن يسار في الصحيح (٢) ـ قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) استتم قائما فلا أدرى ركعت أم لا؟ قال : بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنما ذلك من الشيطان». ـ فحملها الشيخ (قدس‌سره) على انه أراد (عليه‌السلام) إذا استتم قائما من الركعة الرابعة فلا يدرى أركع في الثالثة أم لا؟ ولا يخفى بعده.

قال في الذخيرة بعد ذكر تأويل الشيخ ورده بأنه بعيد ما صورته : والجمع بالتخيير ممكن إلا ان الظاهر انه لا قائل بمضمونه من الأصحاب. ويمكن أن يقال المراد بقوله «استتم قائما» القيام عن الانحناء وظاهر ذلك حصول الركوع منه فيكون من باب الظن بالركوع فلم يجب عليه الركوع. أو يقال انه شك في الركوع بعد الاشتغال بواجب آخر وهو القيام عن الركوع. ولعل هذا الوجه أقرب. ويمكن أيضا تأويل هذا الخبر بالحمل على كثرة السهو ويشعر به قوله «استتم» بصيغة الاستقبال الدالة على الاستمرار التجديدي ، وقوله (عليه‌السلام) «انما ذلك من الشيطان» لا يخلو من إيماء اليه. وفيه بعد. انتهى.

أقول : لا ريب ان ما ذكره من التأويل الأول والثالث وهو الذي قربه لا يخلو من بعد ، اما الأول فلان الخروج عن مضمون تلك الأخبار بهذا الخبر المجمل المتشابه لا يخلو من مجازفة. واما الثالث فإنه متى علم انه واجب آخر وانه قيام عن

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من الركوع.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من الركوع.

١٦٩

الركوع فقد سقط البحث ولا معنى للسؤال حينئذ فكيف يقول «فلا أدرى أركعت أم لا؟» والظاهر هو الوجه الثاني أو الرابع وهو الذي يعضده قوله (عليه‌السلام) «فإنما ذلك من الشيطان».

ويدل على الحكم الثاني جملة من الأخبار ايضا : ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال يمضي. قلت رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟ قال يمضي. قلت رجل شك في التكبير وقد قرأ؟ قال يمضى. قلت شك في القراءة وقد ركع؟ قال يمضى. قلت شك في الركوع وقد سجد؟ قال يمضى على صلاته. ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء».

وعن محمد بن مسلم في الموثق عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو».

وعن إسماعيل بن جابر في الصحيح (٣) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه». ورواه الشيخ ايضا بسند آخر عن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) مثله (٤).

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٣ من الخلل في الصلاة.

(٣) الوسائل الباب ١٣ من الركوع و ١٥ من السجود.

(٤) هذه الرواية نقلها في الوافي في باب الشك في اجزاء الصلاة من التهذيب عن الحسين بن سعيد عن محمد بن سنان عن ابن مسكان عن ابى بصير عن ابى عبد الله «ع» ولم نقف عليها في الوسائل والتهذيب بعد الفحص عنها في مظانها. ولا يخفى ان صحيحة إسماعيل ابن جابر المذكورة في التهذيب ج ٢ ص ١٥٣ رقم ٦٠٢ من الطبع الحديث تشتمل على فرعين (أحدهما) وهو الصدر نسيان السجدة الثانية وذكرها حال القيام. و (ثانيهما) وهو العجز الشك في الركوع والسجود بعد تجاوز المحل وهو يشتمل على الضابطة الكلية. وقد

١٧٠

وعن حماد بن عثمان في الصحيح (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أشك وانا ساجد فلا أدرى ركعت أم لا؟ قال امض».

وعن حماد بن عثمان أيضا في الصحيح (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أشك وانا ساجد فلا أدرى ركعت أم لا؟ فقال قد ركعت امضه».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «سألته عن رجل شك بعد ما سجد انه لم يركع؟ قال يمضى في صلاته».

بقي الكلام في انه هل المراد بالشك في هذه المسألة ما هو عبارة عن تساوى لطرفين خاصة أو ما يشمل الظن ايضا؟ ظاهر كلام الأصحاب الأول من غير خلاف يعرف وظاهر النصوص المتقدمة هو الثاني وهو المؤيد بكلام أهل اللغة الذي قدمناه في صدر المطلب ، فان قولهم (عليهم‌السلام) في جملة من تلك الأخبار (٤) «شك فلم يدر سجد أم لم يسجد». يعنى لم يعلم سجد أم لا ، وهو شامل لظن السجود فان عدم العلم أعم من ان يكون مترددا أو مرجحا لأحدهما ترجيحا لا يبلغ حد العلم وهو الظن عندهم. وأصرح من ذلك قولهم (عليهم‌السلام) في بعض تلك الأخبار (٥) «يسجد

__________________

ذكر مجموع الرواية في الوسائل بالتقطيع في الباب ١٤ من السجود رقم (١) والباب ١٥ منه رقم «١٤» كما صنع كذلك في الوافي فأورد الفرع الأول في باب السهو في السجود والثاني في باب الشك في الاجزاء. وقد روى الشيخ في التهذيب الفرع الأول عن الحسين ابن سعيد عن محمد بن سنان عن ابن مسكان عن ابى بصير عن ابى عبد الله «ع» قبل صحيحة إسماعيل بن جابر برقم ٥٩٨ ولم يرد فيها ذكر الفرع الثاني أصلا وقد نقلها في الوسائل منه في الباب ١٤ من السجود برقم «٤» وأوردها في الوافي في باب السهو في السجود. وكيف كان فالذي أورده في الوافي في البابين المذكورين ـ من ان الشيخ روى في التهذيب عن ابى بصير الفرعين المتقدمين بالطريق المتقدم كما رواهما عن سعد عن احمد بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن إسماعيل بن جابر عن ابى عبد الله «ع» ـ لم نقف عليه في التهذيب والوسائل وانما الموجود فيهما من طريق ابى بصير هو الفرع الأول فقط.

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٣ من الركوع.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من الركوع.

(٣) الوسائل الباب ١٣ من الركوع.

(٤) ص ١٦٨.

(٥) ص ١٦٨.

١٧١

حتى يستيقن انهما سجدتان».

ومحل الاشكال المتفرع على القولين انه لو شك قبل تجاوز المحل مع ظن الإتيان بما شك فيه فإنه على تقدير كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) يمضي في صلاته وعلى تقدير ما قلناه يأتي بما شك فيه وان ظنه حتى يستيقن الإتيان به ، وفي ما إذا تجاوز المحل لو ظن عدم الإتيان بما شك فيه فعلى كلام الأصحاب يجب الإتيان به وعلى ما قلناه يمضى بمجرد تجاوز المحل وان ظن عدم الإتيان به ولا يلتفت الى هذا الظن في الموضعين.

وبالجملة فإنك قد عرفت من كلام أهل اللغة ان الشك عبارة عما يشمل الظن (١) بل ظاهرهم الاتفاق عليه وظاهر هذه الأخبار يساعد ما ذكروه ولكن ظاهر الأصحاب كما عرفت. والمسألة لذلك محل إشكال فإن الخروج عن ما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل وموافقتهم مع ظهور الأدلة في خلاف ما ذهبوا إليه أشكل ، والاحتياط يقتضي العمل بما قلناه ثم الإعادة من رأس. والله العالم.

(المقام الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا فرق في الحكمين المتقدمين بين ان يكون في الأولتين والأخيرتين ، وقال الشيخ المفيد في المقنعة : وكل سهو يلحق الإنسان في الركعتين الأولتين من فرائضه فعليه الإعادة. وحكى المحقق في المعتبر عن الشيخ قولا بوجوب الإعادة لكل شك يتعلق بكيفية الأولتين كأعدادهما. ونقل في الذكرى عن الشيخين القول بالبطلان إذا شك في أفعالهما كما إذا

__________________

(١) العبارة في الطبعة القديمة ظاهرة النقص وقد كتب في الهامش في المقام العبارة التالية «كذا في عدة نسخ عندنا لكن الظاهر بمعونة آخر العبارة انه سقط بعد قوله «الظن» مثل هذه العبارة : لكن المشهور بين الأصحاب ان المراد بالشك هو بمعنى تساوي الطرفين فمخالفة ما اشتهر عندهم. والله العالم» وفي ما وقفنا عليه من النسخ الخطية العبارة كما جاءت في هذه الطبعة ، ويظهر ان الناسخ قد انتقل من كلمة «الاتفاق عليه» الاولى الى الثانية وأسقط ما بينهما.

١٧٢

شك في أعدادهما ، قال ونقله الشيخ عن بعض القدماء من علمائنا ، ونقله في المختلف عن الشيخ وغيره ، قال نقل الشيخ وغيره عن بعض علمائنا إعادة الصلاة بكل سهو يلحق الركعتين الأولتين سواء كان في أفعالهما أو في عددهما وسواء كان في الأركان من الأفعال أو غيرها.

ويدل على المشهور ما تقدم من إطلاق الأخبار المتقدمة في كل من الحكمين فإنها بإطلاقها شاملة للأولتين والأخيرتين ، وكذا إطلاق الأخبار الدالة على صحة الصلاة بنسيان السجدة وقضائها بعد الصلاة. واما ما ظاهره المعارضة كرواية المعلى ابن خنيس فقد تقدم الجواب عنها.

واما ما يدل على قول الشيخين ومن قبلهما فجملة من الروايات الصحيحة التي لم يتنبه لها أحد من الأصحاب في ما اعلم :

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «كان الذي فرض الله على العباد من الصلاة عشر ركعات وفيهن القراءة وليس فيهن وهم ـ يعنى سهوا ـ فزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سبعا وفيهن الوهم وليس فيهن قراءة فمن شك في الأولتين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين ، ومن شك في الأخيرتين عمل بالوهم».

وإطلاقه شامل للاعداد والأفعال وانه لا بد في الأوليين من اليقين فيهما فلا يكفي البناء على الظن كما عليه جمهور الأصحاب من انه لو ترجح أحد طرفي ما شك فيه بنى عليه في الأوليين كان أو الأخيرتين. وظاهر هذا الخبر وكذا ما يأتي من قبيله تخصيص ذلك بالأخيرتين.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «عشر ركعات : ركعتان من الظهر وركعتان من العصر

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من الخلل في الصلاة.

(٢) الوسائل الباب ١٣ من أعداد الفرائض.

١٧٣

وركعتا الصبح وركعتا المغرب وركعتا العشاء الآخرة لا يجوز الوهم فيهن ومن وهم في شي‌ء منهن استقبل الصلاة استقبالا وهي الصلاة التي فرضها الله تعالى على المؤمنين في القرآن ، وفوض الى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فزاد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الصلاة سبع ركعات هي سنة ليس فيهن قراءة انما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء ، والوهم انما يكون فيهن».

وعن عبد الله بن سليمان العامري عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «لما عرج برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن والحسين (عليهما‌السلام) زاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سبع ركعات. الى ان قال وانما يجب السهو في ما زاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فمن شك في أصل الفرض في الركعتين الأولتين استقبل صلاته».

وعن عمر بن أذينة في الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) في بعض اخبار المعراج وهو طويل (٢) قال (عليه‌السلام) في آخره : «ومن أجل ذلك صارت الركعتان الأولتان كلما حدث فيهما حدث كان على صاحبهما إعادتهما».

ونقل ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب حريز بن عبد الله (٣) قال : «قال زرارة قال أبو جعفر (عليه‌السلام) كان الذي فرض الله من الصلاة عشرا فزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سبعا وفيهن السهو وليس فيهن قراءة فمن شك في الأولتين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين. الحديث» ،.

ولا يخفى ما في هذه الأخبار من الظهور في ما ادعاه أولئك الأعلام. والمراد من الوهم المنفي فيها هو الظن كما تكرر في الأخبار من قولهم (عليهم‌السلام) (٤) «وان ذهب وهمك». ونحوه.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من أعداد الفرائض.

(٢) الوسائل الباب ١ من أفعال الصلاة.

(٣) الوسائل الباب ١ من الخلل في الصلاة.

(٤) الوسائل الباب ٧ و ١٠ و ١١ و ١٥ من الخلل في الصلاة.

١٧٤

ويدل على ذلك ايضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن الفضل بن عبد الملك (١) قال : «قال لي إذا لم تحفظ الركعتين الأولتين فأعد صلاتك».

وعن الوشاء (٢) قال : «قال لي أبو الحسن الرضا (عليه‌السلام) الإعادة في الركعتين الأولتين والسهو في الركعتين الأخيرتين».

وبهذين الخبرين استدل في المدارك للشيخين ثم أجاب عنهما بالحمل على حفظهما من الشك في العدد.

وأنت خبير بأنه لو خلينا وظاهر هذه الروايات التي سردناها لأمكن تخصيص إطلاق الاخبار التي استدل بها للقول المشهور بهذه الأخبار لأنها خاصة والقاعدة تقتضي تقديم العمل بها.

إلا انك قد عرفت من صحيحة زرارة المتقدمة في أدلة الحكم الثاني من المقام الأول الدلالة على ان «من شك في التكبير وقد قرأ قال يمضى ومن شك في القراءة وقد ركع قال يمضى» وهذا الشك لا يكون إلا في الأولتين مع انه (عليه‌السلام) حكم بصحة الصلاة والمضي فيها بعد تجاوز المحل ، ومفهومه الرجوع لو لم يتجاوز المحل كما يدل عليه آخر الخبر وقد تقدم ، وهو ظاهر في عدم بطلان الأوليين بالشك في الأفعال.

ونحوها في ذلك رواية محمد بن منصور (٣) قال : «سألته عن الذي ينسى السجدة الثانية من الركعة الثانية أو شك فيها؟ فقال إذا خفت ألا تكون وضعت وجهك إلا مرة واحدة فإذا سلمت سجدت سجدة واحدة وتضع وجهك مرة واحدة وليس عليك سهو».

والشيخ أجاب عنها في التهذيب بان المراد بالركعة الثانية يعنى من الركعتين الأخيرتين ، ولا يخفى ما فيه. وحينئذ فالواجب حمل إطلاق الأخبار المتقدمة على

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من الخلل في الصلاة.

(٣) الوسائل الباب ١٤ من السجود.

١٧٥

الاعداد خاصة واستثناء الشك في الأفعال من عمومها بهذين الخبرين ، وانه لا بد في العمل بالأعداد من البناء على اليقين فلو شك في عددهما ثم غلب عليه ظن أحد الطرفين فإنه لا يكفي في البناء عليه خلافا لظاهر الأصحاب بل لا بد من اليقين فيهما كما صرحت به هذه الأخبار.

(المقام الثالث) ـ لا ريب في انه متى شك في فعل من الأفعال وقد دخل في غيره فإنه يمضى وقبل الدخول فيه يرجع لكن هذه الأفعال التي يترتب عليها هذا الحكم هل هي عبارة عن أفعال الصلاة المعدودة في كتاب الصلاة المفردة بالتبويب من النية وتكبيرة الإحرام والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد مثلا أو ما هو أعم منها ومن مقدماتها كالهوي للركوع والهوى للسجود ولما يركع ولما يسجد والنهوض للقيام ولما يستتم قائما والرفع من السجود لأجل التشهد مثلا ونحو ذلك؟ ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض الأول وهو ظاهر صحيحة زرارة المتقدمة في أول روايات الحكم الثاني من المقام الأول وصحيحة إسماعيل بن جابر (١) المروية أيضا عن ابى بصير (٢).

ويدل عليه صحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل ان يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال يسجد. قلت فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال يسجد». وهي كما ترى ظاهرة في انه بالدخول في مقدمات الفعل يجب عليه الرجوع ، وهو ظاهر في تخصيص الغيرية التي يترتب عليها الحكم المذكور بنفس تلك الأفعال دون مقدماتها.

إلا انه قد روى ايضا هذا الراوي بعينه في الصحيح (٤) قال : «قلت

__________________

(١) ص ١٧٠.

(٢) ارجع الى التعليقة ٤ ص ١٧٠.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من السجود.

(٤) الوسائل الباب ١٣ من الركوع.

١٧٦

لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال قد ركع». وهو ظاهر المنافاة لخبره الأول.

والعجب ان صاحب المدارك قد عمل بكل من الخبرين فقال في تعداد المواضع التي وقع الخلاف فيها في هذا المقام : الثاني ـ ان يشك في الركوع وقد هوى إلى السجود ، والأظهر عدم وجوب تداركه لصحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، ثم أورد الصحيحة الثانية ، ثم قال : وقد قوى الشارح وجوب العود ما لم يصر الى حد السجود وهو ضعيف. الى ان قال : الرابع ـ ان يشك في السجود وقد أخذ في القيام ولما يستكمله ، والأقرب وجوب الإتيان به كما اختاره الشهيدان لما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، ثم ذكر الصحيحة الاولى.

وأنت خبير بما فيه وذلك فان مقتضى القاعدة المنصوصة في الاخبار وكلام الأصحاب من انه متى شك في شي‌ء وقد دخل في غيره فلا يلتفت والا فإنه يرجع هو ان مناط الرجوع الى المشكوك فيه وعدم الرجوع هو الدخول في ذلك الفعل الآخر وعدمه ، وحينئذ فإن صدق ذلك الغير على مقدمات الأفعال فما اختاره في الثاني جيد للصحيحة المذكورة لكنه يرد عليه ان ما اختاره في الرابع ليس كذلك وان الصحيحة التي أوردها مما يجب تأويلها ، وان لم يصدق ذلك الغير على المقدمات بل يختص بالأفعال المعدودة أو لا كان الأمر بالعكس. وبالجملة فإن الروايتين المذكورتين قد تعارضتا في هذا الحكم فالقول بهما قول بالمتناقضين.

واما ما أجاب به المحدث الكاشاني في الوافي ـ عن تعارض هاتين الروايتين حيث قال ـ بعد ذكر الصحيحة الأولى أولا ثم الثانية ثانيا ـ ما لفظه : (ان قيل) ما الفرق بين النهوض قبل استواء القيام والهوى للسجود قبل السقوط له؟ حيث حكم في الأول في حديث البصري بالإتيان بالسجود المبتني على بقاء محله وحكم في الثاني هنا بالمضي المبتني على تجاوز وقت الركوع (قلنا) الفرق بينهما ان الهوى للسجود مستلزم للانتصاب الذي منه أهوى له والانتصاب فعل آخر غير الركوع وقد

١٧٧

دخل فيه وتجاوز عن محل الركوع ، بخلاف النهوض قبل ان يستتم قائما فإنه بذلك لم يدخل بعد في فعل آخر. انتهى ـ

فالظاهر ضعفه (أما أولا) فلاستلزامه انه لو شك في حال القيام قبل الهوى للسجود في انه ركع أم لا انه يمضى ولا يركع مع انه لا خلاف نصا وفتوى في انه يجب عليه الركوع في الصورة المذكورة فكيف يتم ما ادعاه من ان الانتصاب فعل آخر يمضى مع الدخول فيه وانه تجاوز وقت الركوع؟

و (اما ثانيا) فان آخرية القيام وغيريته بالنسبة إلى الركوع انما تثبت لو كان مرتبته التأخر عنه كما هو في سائر الأفعال التي يجب المضي فيها بالشك في ما قبلها ، وهو هنا غير معلوم لجواز ان يكون هذا القيام الذي أهوى عنه الى السجود انما هو القيام الذي يجب أن يركع عنه ، وهذا هو السبب في وجوب الركوع لو شك وهو قائم كما هو مدلول الأخبار وكلام الأصحاب. وبالجملة فتوجيهه عندي غير موجه كما لا يخفى على التأمل.

واما ما جرى عليه السيد السند (قدس‌سره) ـ من القول بالروايتين المذكورتين فأفتى في صورة الشك في الركوع وقد أهوى إلى السجود بأن الأظهر عدم وجوب تداركه للصحيحة التي ذكرها وافتى في ما إذا شك في السجود وقد أخذ في القيام ولما يستكمله بأن الأقرب وجوب الإتيان به ـ

فقد عرفت ما فيه ، وحينئذ فلا يخلو اما ان يخص ذلك الفعل الذي يتصل (١) بالدخول فيه بتلك الأفعال المعهودة التي أشرنا إليها آنفا كما هو ظاهر الشهيدين ، وحينئذ فيجب الرجوع بالدخول في مقدماتها ، ولهذا ذهب جده كما نقل عنه في الموضع الثاني إلى وجوب العود ما لم يصر الى حد السجود حيث انه يخص الفعل

__________________

(١) هكذا في النسخة المطبوعة ، وفي ما وقفنا عليه من المخطوطة هكذا «الذي بالدخول فيه» من دون كلمة «يتصل» والظاهر سقوط كلمة «يمضي» ونحوها بان تكون العبارة هكذا «الذي يمضى بالدخول فيه».

١٧٨

الموجب للمضى بتلك الأفعال المعدودة ، وعلى هذا فيجب تأويل صحيحة عبد الرحمن الدالة على المضي في الصورة المذكورة ، أو انه يقول بالعموم لمقدمات تلك الأفعال فيجب المضي في الصورتين ، وحينئذ يجب تأويل صحيحة عبد الرحمن الأخرى أو القول بها وتخصيصها بموردها والعمل في ما عدا هذا الموضع بإطلاق الأخبار المتقدمة من صحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر ونحوهما باعتبار صدق الغيرية في المقدمات.

إذا عرفت هذا فاعلم ان الذي يقرب عندي هو القول بالفرق بين الأفعال المشار إليها آنفا وبين مقدماتها وانه لا يجب عليه المضي إلا بالدخول في تلك الأفعال وفاقا للشهيدين اما بالدخول في مقدماتها فإنه يرجع عملا بصحيحة عبد الرحمن الاولى

وما ذكروه ـ من عموم تلك الأخبار المتقدمة مثل صحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر ونحوهما باعتبار صدق الغيرية على مقدمات الأفعال وقد جعل (عليه‌السلام) المناط في المضي هو الدخول في الغير والغيرية ثابتة في تلك المقدمات ـ فهو وان تم في بادئ النظر إلا انه بالتأمل في الاخبار المذكورة ليس كذلك ، وذلك فان قوله (عليه‌السلام) في صحيحة إسماعيل بن جابر (١) «ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض». يدل بمفهومه الشرطي الذي هو حجة عند المحققين على عدم المضي قبل ذلك وانه ليس هنا حد يوجب المضي في الأول قبل السجود وفي الثاني قبل القيام ، وحينئذ فقوله «كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره» وان كان مطلقا كما تمسك به الخصم إلا انه يجب تقييده بما دل عليه صدر الخبر. وهذا المعنى قد وقع

في صحيحة زرارة (٢) على وجه ظاهر في ما ذكرناه حيث قال : «يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء». فإن عطف قوله «دخلت في غيره» ب «ثم» الدالة على المهلة والتراخي يشعر بوجود واسطة بين الدخول والخروج كما هو موجود في تلك الأفعال المعدودة في الرواية ،

__________________

(١) ص ١٧٠.

(٢) ص ١٧٠.

١٧٩

وإلا فالخروج عن الشي‌ء مستلزم للدخول في غيره والتلبس به البتة فلا معنى لهذا التراخي والمهلة المدلول عليها ب «ثم» لو كان المراد ما هو أعم من الأفعال ومقدماتها

ولعل الإجمال في الاخبار انما وقع بناء على معلومية الحكم يومئذ كما هو الآن معلوم بين الفقهاء فإنهم يعدون أفعال الصلاة ويفسرونها بهذه الأفعال المشار إليها آنفا المخصوصة بالبحث والتبويب في الكتب الفقهية وكذا في الاخبار.

وبالجملة فصحيحة عبد الرحمن الاولى صريحة في هذا الحكم فيحمل عليها إجمال هذين الخبرين بالتقريب الذي ذكرناه.

واما صحيحته الثانية الدالة على انه متى شك حال الهوى للسجود في انه ركع قال (عليه‌السلام) «قد ركع» فالذي يقرب عندي انها ليست من محل البحث في شي‌ء بل هي محمولة على كثير السهو ، ولعله (عليه‌السلام) علم ذلك من قرينة الحال والسؤال يومئذ أو ان ذلك مجرد وسواس.

ومما يدفع الاستبعاد عما ذكرنا صحيحة الفضيل المتقدمة قريبا (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) استتم قائما فلا أدرى ركعت أم لا؟ قال بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنما ذلك من الشيطان». فإنه لا إشكال في ان من شك في الركوع وهو قائم انه يجب عليه الركوع كما دلت عليه الاخبار واتفقت عليه كلمة الأصحاب مع انه (عليه‌السلام) أمره بالمضي وحكم بأنه ركع ونسب شكه الى مجرد الوسواس.

ومما يستأنس به لذلك ايضا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة الفضيل المذكورة «بلى قد ركعت» وفي صحيحة عبد الرحمن ايضا (٢) قال : «قد ركع» مع ان الأمر بالمضي بعد تجاوز الفعل المشكوك لا يستلزم التمام وانه انما أمر بالتجاوز لانه قد فعله بل وقع الأمر بذلك تسهيلا وتخفيفا في التكليف ودفعا لتسلط الشيطان ، وفي هاتين الروايتين قد حكم بأنه ركع وهو كناية عن عدم الالتفات الى الشك

__________________

(١) ص ١٦٩.

(٢) ص ١٧٦ و ١٧٧.

١٨٠