الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

(الثاني) ـ الظاهر انه لا خلاف بينهم في انه لو قدر المريض الذي فرضه الإيماء بالرأس سواء كان جالسا أو مضطجعا على رفع موضع السجود والسجدة عليه وجب ذلك لصدق السجود عليه شرعا وان تعذر بعض شروطه للضرورة ، قال في المدارك : وانما يجزئ الإيماء إذا لم يمكن ان يصير بصورة الساجد بان يجعل مسجده على شي‌ء مرتفع يضع جبهته عليه. وقال في الذكرى : ولو أمكن تقريب مسجد اليه ليضع عليه جبهته ويكون بصورة الساجد وجب.

ويدل عليه رواية الكرخي المتقدمة وكذا صحيحة الحلبي أو حسنته المتقدمة فإن قوله (عليه‌السلام) «وان يضع جبهته على الأرض» انما هو برفع ما يسجد عليه ، فان مورد الخبر من تعذر عليه السجود وكان حكمه الإيماء ، والمراد بالأرض شي‌ء منها يرفع اليه

وما رواه الشيخ في الحسن عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض يستقبل به القبلة وتجرئه فاتحة الكتاب ، ويضع بوجهه في الفريضة على ما امكنه من شي‌ء ويومئ في النافلة إيماء».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال «سألته عن المريض فقال يسجد على الأرض أو على المروحة أو على سواك يرفعه وهو أفضل من الإيماء ، إنما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تعبد من دون الله وانا لم نعبد غير الله عزوجل قط فاسجد على المروحة أو على عود أو على سواك».

وعن أبي بصير (٣) قال : «سألته عن المريض هل تمسك له المرأة شيئا يسجد عليه؟ قال لا إلا ان يكون مضطرا ليس عنده غيرها وليس شي‌ء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر اليه».

(الثالث) ـ هل يجب ان يضع على جبهته شيئا حال الإيماء أو يستحب؟

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من القبلة.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من ما يسجد عليه.

(٣) الوسائل الباب ١ من القيام.

٨١

قيل بالأول لظاهر ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (١) قال : «سألته عن المريض لا يستطيع الجلوس؟ قال فليصل وهو مضطجع وليضع على جبهته شيئا إذا سجد فإنه يجزئ عنه ولن يكلف الله ما لا طاقة له به».

وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن المريض الذي لا يستطيع القعود ولا الإيماء كيف يصلي وهو مضطجع؟ قال يرفع مروحة إلى وجهه ويضع على جبينه ويكبر هو. الحديث».

قال في الذكرى بعد نقل موثقة سماعة : قلت يمكن ان يراد به مع اعتماده على ذلك الشي‌ء وهذا لا ريب في وجوبه ، ويمكن ان يكون على الإطلاق اما مع الاعتماد فظاهر واما مع عدمه فلان السجود عبارة عن الانحناء وملاقاة الجبهة ما يصح السجود عليه باعتماد فإذا تعذر ذلك وملاقاة الجبهة ممكنة وجب تحصيله لأن الميسور لا يسقط بالمعسور (٣). فان قلنا به أمكن انسحابه في المستلقي. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مورد الموثقة المذكورة وكذا الرواية الثانية انما هو وضع شي‌ء على الجبهة لا وضع الجبهة على شي‌ء والاعتماد انما يتم مع الثاني لا الأول.

وظاهر السيد في المدارك الاستحباب فإنه قال بعد ان ذكر حسنة الحلبي المتقدمة المشتملة على قوله : «وان يضع جبهته على الأرض أحب الي» ما لفظه : ويستفاد من هذه الرواية استحباب وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه حال الإيماء ، ويدل عليه أيضا صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ثم ساق الرواية المتقدمة ، ثم قال : وقيل بالوجوب لأن السجود عبارة عن الانحناء ، ثم ذكر تعليل الذكرى المتقدم ثم قال ويؤيده مضمرة سماعة ، ثم قال وفي التعليل نظر وفي الرواية ضعف إلا ان العمل بما

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من القيام.

(٣) عوائد النراقي ص ٨٨ وعناوين مير فتاح ص ١٤٦ عن عوالي اللئالي عن على (ع).

٨٢

تضمنته أحوط. انتهى.

أقول : أنت خبير بما ذكرناه ان الكلام هنا يقع في مقامين (أحدهما) وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه ، و (الثاني) وضع ما يصح السجود عليه على الجبهة كما أشرنا إليه في المقام من الصورتين المذكورتين ، وان الصورة الأولى تتعين وتجب مع الإمكان كما عرفت ومحل الخلاف انما هو الثانية ، وحسنة الحلبي وصحيحة زرارة المذكورتان موردهما الصورة الاولى لا الثانية كما يظهر من كلامه غاية الأمر انهما ليستا في الصراحة مثل رواية الكرخي وحسنة عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري.

والظاهر ان السبب في حمله لهما على ما ذكره هو ما صرح به في صدر البحث كما قدمنا نقله عنه من انه متى أمكن ان يرفع له شيئا يسجد عليه فلا يجوز له الإيماء وهاتان الروايتان ربما ظهر منهما التخيير مع استحباب وضع الجبهة على الأرض لقوله في الأولى «أحب الي» وفي الثانية «وهو أفضل من الإيماء» وحينئذ فلا يصح حملهما على إمكان رفع شي‌ء يسجد عليه لأن ذلك واجب البتة فيتعين حملهما على وضع شي‌ء على الجبهة كما تضمنته موثقة سماعة.

وفيه ان هذه العبارة كثيرا ما يرمى بها في مقام الوجوب كما قدمنا الإشارة إليه في مبحث الأوقات في معنى قولهم (عليهم‌السلام) (١) «ان الوقت الأول أفضل». من انه لا يستلزم حصول فضل في الوقت الثاني ، فمعنى كون الصلاة بهذه الكيفية أحب اليه وأفضل ليس على معنى التفضيل ، وهو كثير في الكلام كقولهم «السيف امضى من العصا» وقوله تعالى «ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» (٢) ولا ريب في كون الواجب أحب وأفضل.

ويؤيد ما ذكرناه ان مورد الخبرين كما عرفت هو ان يضع جبهته على الأرض ويسجد على الأرض أو على مروحة أو سواك والوضع على الأرض والسجود يقتضي

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من المواقيت.

(٢) سورة الجمعة الآية ١١.

٨٣

الاعتماد غالبا ، لا انه يضع الأرض أو المروحة والسواك على جبهته كما هو مدلول موثقة سماعة وأحدهما غير الآخر.

وبالجملة فالظاهر من الخبرين انما هو ما قلناه من جعلهما من أدلة المسألة التي لا خلاف فيها وهو وجوب رفع ما يسجد عليه إذا أمكن كما هو ظاهرهما ، وما يتوهم من منافاة تلك العبارة فيندفع بما ذكرناه ومثله في الأخبار غير عزيز.

واما ما ذكره في الذكرى في موثقة سماعة أولا من احتمال حملها على الاعتماد على ذلك الشي‌ء فبعيد جدا كما عرفت وانما معناها الظاهر هو وضع شي‌ء على الجبهة.

بقي الكلام في توجيه وجوب ذلك بالتقريب الذي ذكره فإنه محل اشكال لعدم ثبوت الخبر الذي ذكره ، فانا لم نقف عليه مسندا في كتب الأخبار وانما يتناقله الفقهاء في كتب الفروع مع ما فيه من الإجمال المانع من الاستناد إليه في الاستدلال.

وبالجملة فالواجب من السجود يقينا هو الانحناء إلى ان يضع جبهته على الأرض باعتماد ومع تعذر هذه الكيفية فإيجاب غيرها يحتاج إلى دليل. نعم قام الدليل في صورة ما إذا أمكن ان يرفع إليه شي‌ء يسجد عليه كما قدمنا ذكره في الأخبار وبقي الباقي وبذلك يظهر حمل الرواية على الاستحباب. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ قد صرح الأصحاب بأنه لو تجدد عجز القائم قعد ولو تجددت قدرة العاجز عن القيام قام وتفصيل هذا الإجمال يقع في مقامين :

(الأول) ـ ان من كان يصلي قائما فتجدد له العجز عن القيام قعد ومن كان يصلي قاعدا فتجدد له العجز عن القعود اضطجع ، وبالجملة فكل من تجدد له العجز في مرتبة عليا انتقل إلى أدناها.

ثم انه متى كان تجدد العجز قبل القراءة فإنه يقرأ قاعدا وان كان في أثناء القراءة فلا إشكال في انه يبنى على ما اتى به من القراءة حال القيام.

وانما الإشكال في انه هل يقرأ في حال الانتقال أم لا؟ وجهان بل قولان ،

٨٤

ظاهر المشهور الأول وعللوه بالمحافظة على القراءة في المرتبة العليا مهما أمكن لأن حالة الهوي أعلى من حالة القعود فتكون أولى بالقراءة لكونها أقرب إلى ما كان عليه. وقيل بالثاني لاشتراط القراءة بالطمأنينة والاستقرار فيترك القراءة إلى ان يستقر.

والشهيد قد وافق المشهور في سائر كتبه إلا انه استشكل في الذكرى فقال : ويقرأ في انتقاله إلى ما هو أدنى لأن تلك الحال أقرب إلى ما كان عليه. ويشكل بان الاستقرار شرط مع القدرة ولم يحصل وتنبه عليه رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في المصلى يريد التقدم؟ قال يكف عن القراءة في مشيه حتى يتقدم ثم يقرأ». وقد عمل الأصحاب بمضمون الرواية. انتهى.

وأجاب في الروض عن ذلك بان الاستقرار شرط في القراءة مع الاختيار لا مطلقا وحصوله بعد الانتقال إلى الأدنى يوجب فوات الحالة العليا بالكلية وعلى تقدير القراءة يفوت الوصف خاصة وهو الاستقرار وفوات الوصف اولى من فوات الموصوف والصفة أو الموصوف وحده ، وقد تقدم الكلام على نظيره في ما لو تعارض الصلاة قائما غير مستقر وجالسا مستقرا. واما الرواية فعلى تقدير الالتفات إليها لا حجة فيها على محل النزاع بوجه لأن الحالتين متساويتان في الاختيار بخلاف المتنازع. انتهى.

أقول : لا ريب ان المسألة خالية من النص وإثبات الأحكام الشرعية بمثل هذه التعليلات قد عرفت ما فيه في غير موضع مما تقدم ، إلا انا نقول على سبيل المجاراة معهم بناء على قواعدهم ان قول شيخنا في الروض بان الاستقرار شرط في القراءة مع الاختيار صحيح ، وهو هنا كذلك أيضا فإن الاضطرار انما تعلق هنا بالانتقال من حال القيام إلى حال القعود والشارع قد جعل القعود بمنزلة القيام ، واما بالنسبة إلى القراءة فالواجب ان يراعى فيها شرطها وهو الاستقرار والطمأنينة فينبغي ان يترك القراءة بعد الانتقال حتى يستقر جالسا. وما عللوا به الوجوب في حال الانتقال ـ من ان حال الهوي أعلى من حال

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٤ من القراءة.

٨٥

القعود فيكون أولى بالقراءة ـ عليل إذ الواجب عندنا في تأسيس الأحكام الشرعية هو الاعتماد على النصوص الجلية دون التخريجات العقلية. وما ذكره ههنا في كلامه على الشهيد من ان الاستقرار وصف للقراءة حسبما قدمه في المسألة التي أشار إليها قد بينا ضعفه في تلك المسألة وقلنا ان الاستقرار واجب من واجبات الصلاة وان قارن القراءة أو القيام ونحوهما قالوا : وان كان بعد الفراغ من القراءة ركع جالسا وان كان في أثناء الركوع فان كان بعد الذكر جلس مستقرا للفصل بينه وبين السجود بدلا عن القيام من الركوع وان لم يمكنه رفع رأسه في حالة هويه ، ولو كان قبل الذكر ففي الركوع جالسا أو الاجتزاء بما حصل من الركوع وجهان مبنيان على ان الركوع هل يتحقق بمجرد الانحناء إلى ان يصل كفاه ركبتيه والباقي من الطمأنينة والرفع أفعال خارجة؟ والأصح ان مسمى الركوع يتحقق بمجرد الانحناء المذكور فلا يركع جالسا مرة أخرى لئلا يلزم زيادة الركن ، إلى غير ذلك من الفروع التي رتبوها. وانما ذكرنا ما ذكرناه أنموذجا من كلامهم ومن أراد مزيد تحقيق كلامهم والرجوع إلى نقضهم في ذلك وإبرامهم فليرجع إلى مطولاتهم (رضوان الله عليهم).

(الثاني) ـ ان من كان يصلي قاعدا مثلا فتجددت له القدرة على القيام أو مضطجعا فتجددت له القدرة على الجلوس وهكذا من كان في حالة دنيا وقدر على حالة عليا ، قالوا انه ينتقل إليها تاركا للقراءة ان كانت القدرة في أثنائها أو قبلها لانتقاله إلى الحالة العليا ويبنى على ما قرأ في الحالة الدنيا ، وقيل يجوز الاستئناف بل هو أفضل لتقع القراءة متتالية في الحالة العليا. ويشكل باستلزامه زيادة الواجب مع حصول الامتثال وسقوط الفرض بما اتى به أولا.

ولو خف بعد القراءة وجب القيام للهوى للركوع ليركع عن قيام لما تقدم من ان القيام الركني انما يتحقق مع اتصاله بالركوع.

أقول : وقد تقدم الكلام في وجوب الطمأنينة في هذا القيام وعدمه وان الأظهر

٨٦

العدم وخالف في ذلك الشهيد في الذكرى وقد نقلنا كلامه وبينا ما فيه.

قالوا : ولو خف في الركوع قبل الطمأنينة وجب إكماله بأن يرتفع منحنيا إلى حد الراكع وليس له الانتصاب لئلا يزيد ركنا ثم يأتي بالذكر الواجب من اوله وان كان قد اتى ببعضه بناء على الاجتزاء بالتسبيحة الواحدة فلا يجوز البناء على بعضها لعدم سبق كلام تام ، ويحتمل ضعيفا البناء بناء على ان هذا الفصل يسير لا يقدح في الموالاة. ولو أوجبنا تعدد التسبيح وكان قد شرع فيه فان كان أثناء تسبيحة استأنفها كما مر وان كان بين تسبيحتين اتى بما بقي واحدة كان أو اثنتين.

ولو خف بعد الذكر فقد تم ركوعه فيقوم معتدلا مطمئنا. ولو خف بعد الاعتدال من الركوع قام ليسجد عن قيام ثم ان لم يكن قد اطمأن وجبت في القيام وإلا كفى ما يتحقق به الفصل بين الحركتين المتضادتين.

أقول : وأكثر ما ذكروه في هذا المقام لا يخرج عن القواعد الشرعية والضوابط المرعية ولا بأس بالعمل به. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ من المستحبات في هذا المقام اما بالنسبة إلى القائم فأمور : (منها) ان يفرق الرجل بين قدميه من ثلاث أصابع إلى شبر وقد تقدم الكلام في ذلك في البيان المتعلق برواية حماد في أول المقصد ، واما المرأة فإنها تجمع بين قدميها كما تقدم في رواية زرارة في الموضع المشار اليه.

و (منها) ان يستقبل بأصابع رجليه جميعا القبلة كما تضمنته رواية حماد المذكورة

و (منها) ان يرسل يديه على فخذيه مضمومة الأصابع لقول حماد في خبره «فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه. الحديث» وظاهره ضم الإبهام إلى الأصابع ، وفي صحيح زرارة المتقدم ثمة «واسدل منكبيك وأرسل يديك ولا تشبك أصابعك وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك» واما المرأة فإنها تضم يديها إلى صدرها لمكان ثدييها كما تقدم في رواية زرارة المشار إليها.

٨٧

و (منها) اقامة نحره لما تقدم (١) في مرسلة حريز الواردة في تفسير قوله عزوجل «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» قال : «النحر الاعتدال في القيام ان يقيم صلبه ونحره». ونقل عن أبي الصلاح انه يستحب ان يرسل ذقنه إلى صدره حال القيام والخبر المذكور حجة عليه.

و (منها) النظر إلى موضع سجوده نظر تخشع وخضوع لا نظر تحديق اليه لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة في صدر المقصد «وليكن نظرك إلى موضع سجودك». وقوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (٢) «ويكون بصرك في موضع سجودك ما دمت قائما».

و (منها) ما ذكره الشهيد في النفلية وهو عدم التورك وهو الاعتماد على احدى الرجلين تارة وعلى الأخرى أخرى ، وعد في الذكرى في المستحبات ان يثبت على قدميه ولا يتكى‌ء مرة على هذه ومرة على الأخرى ولا يتقدم مرة ويتأخر أخرى قال قاله الجعفي.

أقول : ويدل عليه قوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (٣) «ولا تتكى‌ء مرة على رجلك ومرة على الأخرى».

ثم انه لا يخفى انه قد تقدم ان مذهب الأصحاب وجوب الاعتماد على الرجلين وظاهره ان الاتكاء على إحداهما مناف للاعتماد عليهما إذ الاتكاء هو الاعتماد لغة وعرفا ، فكيف حكموا هنا بالكراهة ومقتضى ما ذكروه ثمة هو التحريم لا الكراهة؟ مع انه قد تقدم خبر أبي حمزة الدال على ان علي بن الحسين (عليهما‌السلام) كان يطول القيام يتوكأ مرة على رجله اليمنى ومرة على رجله اليسرى.

و (منها) لزوم السمت الذي يتوجه اليه فلا يلتفت إلى أحد الجانبين لما روى عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٤) من قوله «اما يخاف الذي يحول وجهه في الصلاة ان يحول الله وجهه وجه حمار؟». قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية ووجه التخويف العظيم ان الغرض من الصلاة الالتفات إلى الله تعالى والملتفت فيها يمينا وشمالا ملتفت عن الله وغافل

__________________

(١) ص ٦٥.

(٢ و ٣) ص ٧.

(٤) البحار ج ١٨ الصلاة ص ٢٠١.

٨٨

عن مطالعة أنوار كبريائه ومن كان كذلك فيوشك ان تدوم تلك الغفلة عليه فيتحول وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلة غفلة للأمور العلوية وعدم إكرامه بشي‌ء من العلوم والقرب من الله تعالى.

و (منها) ما ذكره الصادق (عليه‌السلام) في خبر ابان ومعاوية بن وهب وهو ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن ابان ومعاوية بن وهب (١) قالا «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا قمت إلى الصلاة فقل اللهم إني أقدم إليك محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بين يدي حاجتي وأتوجه به إليك فاجعلني به وجيها عندك في الدنيا والآخرة ومن المقربين واجعل صلاتي به مقبولة وذنبي به مغفورا ودعائي به مستجابا انك أنت الغفور الرحيم».

وروى في الكافي عن احمد بن محمد البرقي عن بعض أصحابنا رفعه (٢) قال : «تقول قبل دخولك في الصلاة اللهم إني أقدم محمدا نبيك (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بين يدي حاجتي وأتوجه به إليك في طلبتي فاجعلني به وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين اللهم اجعل صلاتي بهم مقبولة وذنبي بهم مغفورا ودعائي بهم مستجابا يا ارحم الراحمين».

وروى الشيخ في التهذيب عن صفوان الجمال (٣) قال : «شهدت أبا عبد الله (عليه‌السلام) استقل القبلة قبل التكبير فقال اللهم لا تؤيسني من روحك ولا تقنطني من رحمتك ولا تؤمني مكرك فإنه لا يأمن (مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٤). قلت جعلت فداك ما سمعت بهذا من أحد قبلك؟ فقال ان من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله».

وروى في الكافي عن علي بن النعمان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يقول من قال هذا القول كان

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٥) الوسائل الباب ١٥ من القيام. والرواية (٣) للكليني لا للشيخ كما في الوسائل والوافي باب القيام إلى الصلاة.

(٤) سورة الأعراف ، الآية ٩٧ «فَلا يَأْمَنُ ...».

٨٩

مع محمد وآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا قام من قبل ان يستفتح الصلاة : اللهم إني أتوجه إليك بمحمد وآل محمد وأقدمهم بين يدي صلاتي وأتقرب بهم إليك فاجعلني بهم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين أنت مننت علي بمعرفتهم فاختم لي بطاعتهم ومعرفتهم وولايتهم فإنها السعادة اختم لي بها انك على كل شي‌ء قدير ثم تصلي. الحديث».

و (منها) ما ذكره الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (١) وأسنده في الذكرى إلى الصدوق ومن الظاهر انه انما أخذه من الكتاب المذكور ، قال (عليه‌السلام) : «إذا أردت ان تقوم إلى الصلاة فلا تقم إليها متكاسلا ولا متناعسا ولا مستعجلا ولا متلاهيا ولكن تأتيها على السكون والوقار والتؤدة وعليك بالخشوع والخضوع متواضعا لله عزوجل متخاشعا عليك خشية وسيما الخوف راجيا خائفا بالطمأنينة على الوجل والحذر فقف بين يديه كالعبد الآبق المذنب بين يدي مولاه فصف قدميك وانصب نفسك ولا تلتفت يمينا وشمالا وتحسب انك تراه فان لم يكن تراه فإنه يراك ، ولا تعبث بلحيتك ولا بشي‌ء من جوارحك ولا تفرقع أصابعك ولا تحك بدنك ولا تولع بأنفك ولا بثوبك ، ولا تصل وأنت متلثم ولا يجوز للنساء الصلاة وهن متنقبات ، ويكون بصرك في موضع سجودك ما دمت قائما ، وأظهر عليك الجزع والهلع والخوف وارغب مع ذلك إلى الله عزوجل ، ولا تتكى‌ء مرة على رجلك ومرة على الأخرى ، وتصلي صلاة مودع ترى انك لا تصلي أبدا ، واعلم انك بين يدي الجبار ولا تعبث بشي‌ء من الأشياء ولا تحدث لنفسك وافرغ قلبك وليكن شغلك في صلاتك وأرسل يديك ألصقهما بفخذيك فإذا افتتحت الصلاة فكبر. إلى آخره» واما بالنسبة إلى القعود فقد تقدم في الموضع الرابع من المسألة الثالثة (٢). والله العالم.

__________________

(١) ص ٧.

(٢) ص ٧٣.

٩٠

الفصل الرابع

في القراءة والنظر في واجباتها ومستحباتها ولواحقها وحينئذ فيجب بسط الكلام فيها في بحوث ثلاثة (الأول) في واجباتها وفيه مسائل (الأولى) لا خلاف نصا وفتوى في وجوب قراءة الحمد عينا في الصلاة الواجبة في ركعتي الصبح وأوليي الصلوات الباقية ، وعليه عمل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) من بعده وبه استفاضت اخبارهم.

انما الخلاف في الركنية وعدمها فالمشهور ـ بل ادعى عليه الشيخ (قدس‌سره) في الخلاف الإجماع ـ على العدم ، ونقل في المبسوط عن بعض أصحابنا القول بركنيتها. ويدل على المشهور ما رواه الكليني في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «ان الله عزوجل فرض الركوع والسجود ، والقراءة سنة فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن نسي القراءة فقد تمت صلاته ولا شي‌ء عليه». ورواه الصدوق في الصحيح عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) مثله (٢).

وروى في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ، ثم قال القراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأوليين فيذكر في الركعتين الأخيرتين انه لم يقرأ؟ قال أتم الركوع والسجود؟ قلت نعم. قال اني اكره أن أجعل آخر صلاتي أولها».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٧ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٢٩ من القراءة.

(٤) الوسائل الباب ٣٠ من القراءة.

٩١

وعن أبي بصير في الموثق (١) قال : «إذا نسي أن يقرأ في الاولى والثانية أجزأه تسبيح الركوع والسجود ، وان كانت الغداة فنسي ان يقرأ فيها فليمض في صلاته». الى غير ذلك من الأخبار الدالة على صحة الصلاة مع نسيانها.

وربما استدل على القول بالركنية بما رواه محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الذي لا يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته؟ قال لا صلاة له إلا ان يقرأ بها في جهر أو إخفات». وحملها الأصحاب على ترك القراءة عمدا جمعا بينها وبين ما تقدم من الأخبار.

وعندي في المقام اشكال لم أعثر على من تنبه له ولا نبه عليه وهو ان الفرض الذي تجب إعادة الصلاة بتركه عمدا أو نسيانا هو ما ثبت وجوبه بالكتاب العزيز واما ما ثبت وجوبه بالسنة فهو واجب لا تبطل الصلاة بتركه سهوا ، وبذلك صرح الأصحاب واليه تشير صحاح زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمات ، مع انه قد ورد في القرآن العزيز ما يدل على الأمر بالقراءة في الصلاة كقوله عزوجل «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» (٣) وهي ظاهرة في ما ذكرناه.

وبعض الأصحاب استدل بالآية على وجوب القراءة في الصلاة من حيث دلالة الأمر على الوجوب وأجمعوا على انها لا تجب في غير الصلاة فتجب فيها. وبعض استدل بالتقريب المذكور على وجوب السورة حيث قالوا الأمر للوجوب وما تيسر عام فوجب قراءة كل ما تيسر لكن وجوب الزائد على مقدار الحمد والسورة منفي بالإجماع فيبقى وجوب السورة سالما عن المعارض. وفيه ما سيأتي عند ذكر المسألة ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من القراءة.

(٢) الوسائل الباب ١ و ٢٧ من القراءة.

(٣) سورة المزمل ، الآية ٢٠.

٩٢

ويعضد هذه الآية أيضا قوله عزوجل «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» (١) وقوله : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ» (٢) فإنهم قد استدلوا على استحباب الاستعاذة في الصلاة بهذه الآية.

وبذلك ينبغي ان تكون القراءة فريضة كالركوع والسجود ، وهذه الآيات في دلالتها على ما قلناه لا تقصر عن آيات الركوع والسجود من قوله عزوجل «وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ» (٣) وقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا» (٤) ونحوهما. وبالجملة فإن دلالتها على ما ذكرناه أظهر من ان يذكر. ولعل من ذهب إلى الركنية نظر إلى دلالة هذه الآيات فتكون من قبيل الركوع والسجود وفرائض الصلاة. إلا ان الأخبار كما عرفت قد صرحت بأنها ليست بفريضة وان الصلاة لا تبطل بتركها سهوا كالفرائض من الركوع والسجود ، والأمر في ذلك مرجوع إليهم (عليهم‌السلام) فليس لنا إلا الانقياد والتسليم بعد ثبوت الحكم عنهم (عليهم‌السلام).

ثم ان من الأخبار الدالة على ما ذكرناه من وجوب القراءة صحيحة محمد بن مسلم الأخيرة ورواية أبي بصير (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل نسي أم القرآن؟ فقال ان كان لم يركع فليعد أم القرآن».

وعن سماعة في الموثق (٦) قال : «سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب؟ قال فليقل أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم انه هو السميع العليم ثم ليقرأها ما دام لم يركع فإنه لا قراءة حتى يبدأ بها في جهر أو إخفات».

وروى الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه‌السلام) (٧) انه قال : «إنما أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجورا منسيا وليكون

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية ٤.

(٢) سورة النحل ، الآية ١٠٠.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٤٠.

(٤) سورة الحج ، الآية ٧٦.

(٥ و ٦) الوسائل الباب ٢٨ من القراءة.

(٧) الوسائل الباب ١ من القراءة.

٩٣

محفوظا مدروسا فلا يضمحل ولا يجهل ، وانما بدئ بالحمد دون سائر السور لانه ليس شي‌ء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد. الحديث». قال : وقال الرضا (عليه‌السلام) «انما جعل القراءة في الركعتين الأوليين والتسبيح في الأخيرتين للفرق بين ما فرض الله من عنده وبين ما فرضه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وروى محمد بن الحسين الرضي في كتاب المجازات النبوية عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج». الى غير ذلك من الأخبار.

وتنقيح الكلام في المقام لئلا يتطرق اليه النقض والإبرام يتوقف على بيان جملة من الأحكام (الأول) قد عرفت بما ذكرنا من الأخبار مضافا إلى اتفاق علمائنا الأبرار وجوب الحمد في كل من الثنائية وأوليي غيرها ، وهل تتعين الفاتحة في النافلة؟ الأشهر الأظهر ذلك لأن الصلاة كيفية متلقاة من الشرع فيجب الوقوف فيها على ما ثبت نقله عن الشارع. ونقل عن العلامة في التذكرة انه لا يجب قراءة الفاتحة فيها للأصل. وقيل عليه انه ان أراد الوجوب بالمعنى المصطلح الشرعي فهو حق لأن الأصل إذا لم يكن واجبا لم تجب اجزاؤه ، وان أراد ما يعم الوجوب الشرطي بحيث تنعقد النافلة بدون القراءة ـ وهو الظاهر من كلامه ـ فهو ممنوع وسند المنع ما ذكرنا آنفا. أقول : ولو تم ما ذكره لجرى في جميع واجبات الصلاة من ذكر الركوع والسجود والتشهد ونحوها والظاهر انه لا يلتزمه.

(الثاني) ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف في الباب بأنه يجب قراءة الحمد اجمع ولا تصح الصلاة مع الإخلال ولو بحرف واحد منها عمدا حتى التشديد لأن الإتيان بها انما يتحقق مع الإتيان بجميع اجزائها فيلزم من الإخلال بالجزء الإخلال بها ، ومن الحروف التشديد في مواضعه فإنه حرف وزيادة : أحدهما الحرف والآخر ادغامه

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من القراءة.

٩٤

في حرف آخر ، والإدغام بمنزلة الاعراب لا يجوز الإخلال به فالإخلال بالإدغام إخلال بشيئين حينئذ ، ولو فكه بطلت وان لم يسقط الحرف لزوال الإدغام وعدم وقوع القراءة على الكيفية المنزلة.

وكما تبطل بالإخلال بحرف تبطل أيضا بترك الاعراب والمراد به ما يشمل الحركات البنائية ، ولا فرق في الإخلال بين كونه مغيرا للمعنى كضم تاء «أنعمت» أولا كفتح دال «الحمد» وان كان قد ورد في الشواذ لأن الاعراب كيفية للقراءة وكما وجب الإتيان بحروفها وجب الإتيان بالإعراب المتلقى من صاحب الشرع.

وحكى في المعتبر عن بعض الجمهور انه لا يقدح في الصحة الإخلال بالإعراب الذي لا يغير المعنى لصدق القراءة معه ، قال في المدارك وهو منسوب للمرتضى في بعض رسائله ثم قال ولا ريب في ضعفه.

ثم قال ولا يخفى ان المراد بالإعراب هنا ما تواتر نقله في القرآن لا ما وافق العربية لأن القراءة سنة متبعة ، وقد نقل جمع من الأصحاب الإجماع على تواتر القراءات السبع (١) وحكى في الذكرى عن بعض الأصحاب انه منع من قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف وهي كمال العشر ثم رجح الجواز لثبوت تواترها كتواتر السبع. قال المحقق الشيخ علي بعد نقل ذلك وهذا لا يقصر عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد فيجوز القراءة بها. وهو غير جيد لأن ذلك رجوع عن اعتبار التواتر. وقد نقل جدي (قدس‌سره) عن بعض محققي القراء أنه أفرد كتابا في أسماء الرجال الذين نقلوا هذه القراءات في كل طبقة وهم يزيدون عما يعتبر في التواتر ، ثم حكى عن جماعة من القراء انهم قالوا ليس المراد بتواتر السبع والعشر ان كل ما ورد من هذه القراءات متواتر بل المراد انحصار التواتر الآن في ما نقل من هذه القراءات فان بعض ما نقل عن السبعة شاذ فضلا عن

__________________

(١) القراء السبعة هم عبد الله بن عامر وعبد الله بن كثير وعاصم وأبو عمرو بن العلاء وحمزة بن زيات ونافع والكسائي.

٩٥

غيرهم ، وهو مشكل جدا لكن المتواتر لا يشتبه بغيره كما يشهد به الوجدان.

وعلى هذا المنوال من الحكم بتواتر هذه القراءات عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جرى كلام غيره من علمائنا في هذه المجال ، وهو عند من رجع إلى اخبار الآل (عليهم صلوات ذي الجلال) لا يخلو من الاشكال وان اشتهر في كلامهم وصار عليه مدار نقضهم وإبرامهم حتى قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة الألفية مشير الى القراءات السبع : فان الكل من عند الله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) على قلب سيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تخفيفا على الأمة وتهوينا على أهل هذه الملة (١) انتهى.

وفيه (أولا) ان هذا التواتر المدعى ان ثبت فإنما هو من طريق العامة الذين

__________________

(١) قال آية الله الأستاذ السيد أبو القاسم الخوئي دام ظله في البيان ج ١ ص ٩٢ : ذهب جمع من علماء أهل السنة إلى تواترها ـ القراءات ـ عن النبي (ص) ونقل عن السبكى القول بتواتر القراءات العشر ، وأفرط بعضهم فزعم ان من قال ان القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر ، ونسب هذا الرأي إلى مفتى البلاد الاندلسية (أبي سعيد فرج بن لب) والمعروف عند الشيعة انها غير متواترة بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة من المحققين من أهل السنة وغير بعيد ان يكون هذا هو المشهور بينهم ، وقد حقق ـ دامت بركاته ـ البحث تحقيقا وافيا بما لا مزيد عليه وبرهن على عدم تواترها ـ بعد بيان حال القراء ـ بما حاصله (١) ان استقراء حال القراء يورث القطع بان القراءات نقلت إلينا بأخبار الآحاد فليست هي متواترة عن القراء (٢) وان التأمل في الطرق التي أخذ القراء عنها يدل بالقطع على انها انما نقلت إليهم بطريق الآحاد (٣) وان اتصال الأسانيد بهم أنفسهم يقطع التواتر حتى لو كان متحققا في جميع الطبقات فان كل قارئ انما ينقل قراءته بنفسه (٤) وان احتجاج كل قارئ على صحة قراءته وإعراضه عن قراءة غيره دليل قطعي على استنادها إلى اجتهادهم دون التواتر عن النبي (ص) وإلا لم يحتج إلى الاحتجاج (٥) أضف إلى ذلك إنكار جملة من الاعلام على جملة من القراءات ولو كانت متواترة لما صح هذا الإنكار. ومن أراد التفصيل فليرجع اليه.

٩٦

هم النقلة لتلك القراءات والرواة لها في جميع الطبقات وانما تلقاها غيرهم عنهم وأخذوها منهم ، وثبوت الأحكام الشرعية بنقلهم وان ادعوا تواتره لا يخفى ما فيه.

و (ثانيا) ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره الكبير حيث قال على ما نقله بعض محدثي أصحابنا (رضوان الله عليهم) : اتفق الأكثرون على ان القراءات المشهورة منقولة بالتواتر ، وفيه إشكال لأنا نقول ان هذه القراءات منقولة بالتواتر ، وان الله خير المكلفين بين هذه القراءات فان كان كذلك كان ترجيح بعضها على بعض واقعا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر فوجب ان يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للفسق ان لم يلزمهم الكفر ، كما ترى ان كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة ويحمل الناس عليه ويمنعهم من غيره ، وان قلنا بعدم التواتر بل ثبوتها من طرق الآحاد فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم والقطع وذلك باطل قطعا. انتهى.

والجواب عن ذلك ـ بما ذكره شيخنا الشهيد الثاني الذي هو أحد المشيدين لهذه المباني وهو ما أشار إليه سبطه هنا من انه ليس المراد بتواترها ان كل ما ورد متواتر بل المراد انحصار المتواتر الآن في ما نقل إلا من القراءات فان بعض ما نقل عن السبعة شاذ فضلا عن غيرهم كما حققه جماعة من أهل هذا الشأن. انتهى ـ منظور فيه من وجهين (أحدهما) ما ذكره سبطه في الجواب عن ذلك من ان المتواتر لا يشتبه بغيره كما يشهد به الوجدان فلو كان بعضها متواترا كما ادعاه لصار معلوما على حدة لا يشتبه بما هو شاذ نادر كما ذكره والحال ان الأمر ليس كذلك.

و (ثانيهما) ما ذكره في شرح الألفية مما قدمنا نقله عنه فان ظاهره كون جميع تلك القراءات مما ثبت عن الله عزوجل بطريق واحد وهو ما ادعوه من التواتر.

وبالجملة فإنه لو كان هنا شي‌ء متواتر من هذه القراءات في الصدر الأول أعني زمن أولئك القراء أو كلها متواترة لم يجز هذا التعصب الذي ذكره الرازي بين أولئك القراء في حمل

٩٧

كل منهم الناس على قراءته والمنع من متابعة غيره ، وهذا كما نقل عن النحويين من التعصب من كل منهم في ما ذهب اليه ونسبة غيره إلى الغلط مع أنهم الواسطة في النقل عن الغرب ومذاهبهم في النحو كاشفة عن كلام العرب في تلك المسائل. والاشكال الذي ذكره الرازي ثمة جار أيضا في هذا المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

و (ثالثا) وهو العمدة ان الوارد في أخبارنا يدفع ما ذكروه فروى ثقة الإسلام في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «ان القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن الاختلاف يجي‌ء من قبل الرواة».

وروى فيه أيضا في الصحيح عن الفضيل بن يسار (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ان الناس يقولون نزل القرآن على سبعة أحرف؟ فقال كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد».

قال المحدث الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الخبرين المذكورين : والمقصود منهما واحد وهو ان القراءة الصحيحة واحدة إلا انه (عليه‌السلام) لما علم انهم فهموا من الحديث الذي رووه صحة القراءات جميعا مع اختلافها كذبهم. انتهى.

ويقرب من ذلك ما رواه في الكافي أيضا في الصحيح إلى المعلى بن خنيس (٣) قال : «كنا عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) ومعنا ربيعة الرأي فذكر القرآن فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال فقال ربيعة الرأي ضال؟ فقال نعم. ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) اما نحن فنقرأ على قراءة أبي».

قال في كتاب الوافي : والمستفاد من هذا الحديث ان القراءة الصحيحة هي قراءة ابي وانها الموافقة لقراءة أهل البيت (عليهم‌السلام) إلا انها اليوم غير مضبوطة عندنا إذ لم تصل إلينا قرائته في جميع ألفاظ القرآن. انتهى.

أقول : لعل كلامه (عليه‌السلام) في آخر الحديث انما وقع على سبيل التنزل

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوافي ج ٥ باب «اختلاف القراءات».

٩٨

والرعاية لربيعة الرأي حيث انه معتمد العامة في وقته تلافيا لما قاله في حق ابن مسعود وتضليله له مع انه عندهم بالمنزلة العليا سيما في القراءة وإلا فإنهم (عليهم‌السلام) لا يتبعون أحدا وانما هو متبوعون لا تابعون.

ثم اعلم ان العامة قد رووا في أخبارهم ان القرآن قد نزل على سبعة أحرف كلها شاف واف (١) وادعوا تواتر ذلك عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واختلفوا في معناه إلى ما يبلغ أربعين قولا أشهرها الحمل على القراءات السبع.

وقد روى الصدوق (قدس‌سره) في كتاب الخصال (٢) بإسناده إليهم (عليهم‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتاني آت من الله عزوجل يقول ان الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت يا رب وسع على أمتي فقال ان الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف».

وفي هذا الحديث ما يوافق خبر العامة المذكور مع انه (عليه‌السلام) قد نفى ذلك في الأحاديث المتقدمة وكذبهم في ما زعموه من التعدد ، فهذا الخبر بظاهره مناف لما دلت عليه تلك الأخبار والحمل على التقية أقرب قريب فيه وان احتمل أيضا حمل السبعة الأحرف فيه على اللغات يعني سبع لغات كما قاله ابن الأثير في نهايته في تفسير حديثهم المتقدم ، قال أراد بالحرف اللغة أي سبع لغات من لغات العرب أي أنها مفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وليس معناه ان يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، على انه قد جاء في القرآن ما قرئ بسبعة وعشرة. ومما يبين ذلك قول ابن مسعود اني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم انما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال واقبل. وفيه أقوال غير ذلك هذا أحسنها. انتهى.

ثم ان الذي يظهر من الأخبار أيضا هو وجوب القراءة بهذه القراءات المشهورة لا من حيث ما ذكروه من ثبوتها وتواترها عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بل من حيث

__________________

(١) تفسير الطبري ج ١ ص ٩.

(٢) ج ٢ ص ١١.

٩٩

الاستصلاح والتقية.

فروى في الكافي بسنده إلى بعض الأصحاب عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له جعلت فداك انا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟ فقال لا اقرأوا كما تعلمتم فسيجي‌ء من يعلمكم».

وروى فيه بسنده إلى سالم بن سلمة (٢) قال : «قرأ رجل على أبي عبد الله (عليه‌السلام) ـ وانا استمع ـ حروفا من القرآن ليس على ما يقرأها الناس؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم. الحديث».

وبالجملة فالنظر في الأخبار وضم بعضها إلى بعض يعطي جواز القراءة لنا بتلك القراءات رخصة وتقية وان كانت القراءة الثابتة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما هي واحدة وإلى ذلك أيضا يشير كلام شيخ الطائفة المحقة (قدس‌سره) في التبيان حيث قال : ان المعروف من مذهب الإمامية والتطلع في اخبارهم ورواياتهم ان القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء وان الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها. انتهى ومثله أيضا كلام الشيخ أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان حيث قال : الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على القراءة المتداولة بين القراء وكرهوا تجريد قراءة مفردة والشائع في أخبارهم (عليهم‌السلام) ان القرآن نزل بحرف واحد. انتهى.

وكلام هذين الشيخين (عطر الله مرقديهما) صريح في رد ما ادعاه أصحابنا المتأخرون (رضوان الله عليهم) من تواتر السبع أو العشر ، على ان ظاهر جملة من علماء العامة ومحققي هذا الفن إنكار ما ادعى هنا من التواتر أيضا.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٧٤ من القراءة. وقد صححنا الحديث على كتب الحديث ارجع إلى الوافي باب «اختلاف القراءات» وأصول الكافي باب «ان القرآن يرفع كما انزل» والنوادر.

١٠٠