الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

ومن أخبارها مرسلة أحمد بن النضر عن رجل عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال «قال لي : أي شي‌ء يقول هؤلاء في الرجل إذا فاتته مع الامام ركعتان؟ قلت يقولون يقرأ في الركعتين بالحمد وسورة. فقال هذا يقلب صلاته فيجعل أولها آخرها. فقلت فكيف يصنع؟ فقال يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة».

وبذلك يظهر ان المراد من رواية معاوية بن عمار المذكورة انما هو المنع من قراءة الحمد والسورة التي يترتب عليها قلب الصلاة لا قراءة الحمد وحدها التي هي أحد الفردين المخيرين وانها تتعين هنا من حيث النسيان أولا. وبذلك يظهر ان ما ذكره في المختلف وتبعه عليه بعض من تأخر عنه من ان هذه الرواية كما لا دلالة لها على وجوب القراءة فهي تدل على أفضلية التسبيح محل نظر.

ويدل على وجوب القراءة في الصورة المذكورة ـ زيادة على رواية الحسين بن حماد المتقدمة بالتقريب الذي ذكرناه في بيان الاستدلال بها وجواب ما اعترضوا به على دلالتها ـ صحيحة زرارة المروية في الفقيه عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له رجل نسي القراءة في الأولتين فذكرها في الأخيرتين؟ فقال يقضي القراءة والتكبير والتسبيح الذي فاته في الأولتين في الأخيرتين ولا شي‌ء عليه».

والظاهر ان هذه الرواية هي التي تقدمت الإشارة إليها في كلام الشهيد (قدس‌سره) في الذكرى من قوله : وقد روى انه إذا نسي في الأولتين القراءة تعين في الأخيرتين ، وذكر انه لم يظفر بحديث صريح في ذلك فإنه ربما نقل له ذلك مجملا ولكنه لم يقف على الخبر. والظاهر انه هذا الخبر فإنه ـ كما ترى ـ صحيح صريح في الإتيان بالقراءة في الأخيرتين.

وبعض المتأخرين نقل هذه الرواية عارية عن لفظ «في الأخيرتين» في آخر الخبر وأجاب عنه بجواز ان يكون المراد انه يقضي القراءة بعد الفراغ من الصلاة إذ

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٧ من الجماعة.

(٢) الوسائل الباب ٣٠ من القراءة.

٤٢١

ليس فيها تعيين زمان القضاء. وهو مسلم بالنسبة إلى ما نقله من الرواية العارية عن اللفظ المشار اليه واما على ما نقلناه من وجوده كما هو المنقول في كتب الأخبار فلا وجه لكلامه

ومن ذلك يظهر لك ان القول بوجوب القراءة في الصورة المذكورة ليس ببعيد لظاهر الخبرين المذكورين. وتأويلهما وان أمكن إلا انه فرع وجود المعارض. والمعارضة بعموم الأخبار الدالة على التخيير وشمولها للناسي وغيره معارضة بما دل على عدم صحة الصلاة بدون الفاتحة من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب». ونحوه ، فإن أجابوا ـ بأنه محمول على العامد جمعا بينه وبين ما دل على صحة صلاة ناسي الفاتحة في جميع الصلاة ـ أجبنا عن الأول بأنه محمول على غير الناسي جمعا ومرجعه إلى تخصيص عموم اخبار التخيير بهذين الخبرين والعمل بالخاص مقدم كما هو القاعدة المسلمة عندهم.

وكيف كان فأولوية القراءة واستحبابها كما ذكره الشيخ مما لا يرتاب فيه وانما الكلام في الوجوب وقد عرفت ان ظاهر الخبرين ذلك إلا اني لم أقف على قائل به. والله هو العالم.

(المقام الثالث) ـ المفهوم من كلام جملة من الأصحاب ان التخيير المجمع عليه في الأخيرتين بين الحمد والتسبيح انما هو في ما عدا أخيرتي المأموم في الرباعية وأخيرته في الثلاثية ، وذلك فإنهم قد اختلفوا هنا في ما يجب على المأموم وجعلوا هذا الخلاف شعبة من الخلاف في أولتي المأموم بالنسبة إلى جواز القراءة له وعدمه.

واختلفوا في الأخيرتين هنا على أقوال نقلها شيخنا الشهيد الثاني في الروض ولا بأس في التعرض لها وبيان ما هو الحق المستفاد من اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) فيها :

الأول ـ وجوب القراءة مخيرا بينها وبين التسبيح كما لو كان منفردا جهرية كانت الصلاة أو إخفاتية ، قال وهو قول أبي الصلاح وابن زهرة. أقول وهو صريح عبائر أكثرهم وكذا صريح كلام المرتضى (رضي‌الله‌عنه) قال : لا يقرأ المأموم خلف

__________________

(١) ارجع إلى التعليقة ٤ ص ٤١٩.

٤٢٢

الموثوق به في الأولتين في جميع الصلوات. إلى ان قال : واما الأخيرتان فالأولى أن يقرأ المأموم أو يسبح وروى انه ليس عليه ذلك (١).

(الثاني) ـ استحباب قراءة الحمد وحدها في الجهرية والإخفاتية ونقله في الروض عن الشيخ بقول مطلق ولم يسنده إلى كتاب والذي في النهاية وكذا في المبسوط لا دلالة فيه على ذلك لانه لم يذكر حكم الأخيرتين في كلامه فيجوز رجوعه إلى ما قدمه في صدر كلامه من الأولتين ، قال في النهاية : إذا تقدم من هو بشرائط الإمامة فلا تقرأن خلقه سواء كانت الصلاة مما يجهر فيها بالقراءة أو لا يجهر بل تسبح مع نفسك وتحمد الله ، وان كانت الصلاة مما يجهر فيها بالقراءة فأنصت للقراءة فإن خفي عليك قراءة الإمام قرأت لنفسك ، وان سمعت مثل الهمهمة من قراءة الإمام جاز لك ان لا تقرأ وأنت مخير في القراءة ، ويستحب لك ان تقرأ الحمد وحدها في ما لا يجهر الامام فيها بالقراءة وان لم تقرأها فليس عليك شي‌ء. انتهى. ونحوه في المبسوط ، وهو ظاهر كما ترى فيما قلناه إذ لا اشارة فيه إلى الأخيرتين بوجه بل جميع ما ذكره من الأحكام بمقتضى سياق الكلام انما يرجع إلى الأولتين.

(الثالث) ـ التخيير في الجهرية بين قراءة الحمد والتسبيح استحبابا ، قال في الروض وهو ظاهر جماعة : منهم ـ العلامة في المختلف أقول قال العلامة في المختلف ـ بعد نقل الأقوال في مسألة القراءة خلف الامام وشطر من اخبار المسألة ـ ما هذا لفظه : والأقرب في الجمع بين الأخبار استحباب القراءة في الجهرية إذا لم يسمع ولا همهمة لا الوجوب وتحريم القراءة فيها مع السماع لقراءة الامام والتخيير بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين من الإخفاتية. وأنت خبير بان ظاهر كلامه هو الوجوب لا الاستحباب وذلك في الإخفاتية لا الجهرية كما نقل عنه فالنقل لا يخلو من الخلل في الموضعين المذكورين ، وبالجملة

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من الجماعة.

٤٢٣

فكلام العلامة هنا يرجع إلى القول الأول إلا انه خص ذلك بالصلاة الإخفاتية وظاهر قول الثلاثة المتقدمين العموم.

(الرابع) ـ سقوط القراءة والتسبيح ولم ينقل هذا القول في الروض مع انه صريح ابن إدريس (قدس‌سره) حيث قال : اختلفت الرواية في القراءة خلف الامام الموثوق به فروى (١) انه لا قراءة على المأموم في جميع الركعات والصلوات سواء كانت جهرية أو إخفاتية. وهي أظهر الروايات والذي تقتضيه أصول المذهب لأن الإمام ضامن للقراءة بلا خلاف بين أصحابنا ، وروي (٢) انه لا قراءة على المأموم في الأولتين في جميع الصلوات الجهرية والإخفاتية إلا ان تكون صلاة جهر لم يسمع فيها المأموم قراءة الإمام فيقرأ لنفسه ،. وروى (٣) انه ينصت في ما جهر فيه الإمام بالقراءة ولا يقرأ هو شيئا ويلزمه القراءة في ما خافت ،. وروى انه بالخيار (٤) في ما خافت فيه الإمام ،. فأما الركعتان الأخيرتان فقد روى (٥) انه لا قراءة على المأموم فيهما ولا تسبيح ،. وروى (٦) انه يقرأ فيهما أو يسبح. والأول أظهر لما قدمناه. انتهى.

(الخامس) ـ التخيير بين القراءة والتسبيح والسكوت وأفضلية الأول ثم الثاني ، وهو قول ابن حمزة في الوسيلة كما نقله عنه في الذكرى. وهذا القول لم ينقله في الروض أيضا ، قال في الكتاب المذكور : وإذا اقتدى بالإمام لم يقرأ في الأولتين فإن جهر الامام وسمع أنصت وان خفي عليه قرأ وان سمع مثل الهمهمة فهو مخير وان خافت الامام سبح في نفسه ، وفي الأخيرتين ان قرأ كان أفضل وان لم يقرأ جاز وان سبح كان أفضل من السكوت.

(السادس) ـ استحباب التسبيح في نفسه وحمد الله أو قراءة الحمد مطلقا ، نقله في الروض عن الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد. وعندي ان عبارته ليست

__________________

(١ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٣٢ من الجماعة.

(٢) السرائر ص ٦١.

٤٢٤

صريحة في ان ذلك في الأخيرتين بل ظاهرها كونه في الأوليين ، حيث قال : ولا يقرأ المأموم في صلاة جهر بل يصغي لها فان لم يسمع وسمع كالهمهمة أجزأه وجاز ان يقرأ ، وان كان في صلاة إخفات سبح مع نفسه وحمد الله ، وندب إلى قراءة الحمد في ما لا يجهر فيه. ولا تعرض فيها ـ كما ترى ـ للأخيرتين بل ظاهرها انه في الأوليين من الصلاة الإخفاتية يستحب له التسبيح والحمد لله ، ثم روى استحباب قراءة الحمد في الحال المذكورة

(السابع) ـ ما اختاره الفاضل الخراساني في الذخيرة من تحريم القراءة في أخيرتي الإخفاتية حيث قال ـ بعد نقل جملة من عبائر الأصحاب في المقام وشطر من اخبار مسألة القراءة خلف الامام ـ ما لفظه : إذا عرفت هذا فاعلم ان الذي يترجح عندي بالنظر إلى هذه الأخبار تحريم القراءة في الإخفاتية مطلقا سواء كانت في الأوليين أم في الأخيرتين. انتهى.

أقول : الظاهر ان منشأ اختلاف هذه الأقوال في المقام هو اختلاف الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) في القراءة خلف الامام واختلاف الأذهان في ذلك والافهام من المنع فيها عن القراءة مطلقا أو في الأوليين خاصة أو التفصيل بين الجهرية والإخفاتية.

وأنت خبير بان ما قدمناه من الأخبار المستفيضة على أفضلية التسبيح في الأخيرتين شاملة بعمومها أو إطلاقها للمأموم والأخبار الدالة على التخيير والتساري أو أفضلية القراءة كذلك شاملة لاخيرتي المأموم أيضا ، ويدل على خصوص المأموم وان الأفضل له التسبيح الخبر الرابع وهو صحيح زرارة مكررا ذلك فيه والخبر التاسع والخبر الثالث عشر والسادس عشر (١) بالتقريب المذكور في ذيله. وليس في اخبار القراءة خلف الإمام التي فرعوا عليها هذا الاختلاف ما يدل على خصوص الأخيرتين بل دلالتها على ذلك ان كان انما هو بالإطلاق ، وحينئذ فقد تعارض الإطلاقان فلا بد من تقييد أحدهما بالآخر ، والظاهر ان الأخبار الأولى أظهر في العموم والشمول لوضوح الدلالة فيها بالتقريبات التي وشحناها به كما

__________________

(١) ص ٣٩٠ و ٣٩٤ و ٣٩٥ و ٣٩٦.

٤٢٥

قدمناه سيما مع تأيدها بالأخبار التي أشرنا إليها مصرحة بالمأموم بخصوصه دون هذه الأخبار ، فإن من المحتمل فيها قريبا ـ بل هو الظاهر ـ اختصاص المنع من القراءة بحال المتابعة في الأوليين للإمام وهو الموضع الذي تتعين فيه القراءة حتما وبه انقسمت الصلاة إلى جهرية وإخفاتية دون الأخيرتين بحيث لم تتعين فيهما القراءة بل كانت مرجوحة كما أوضحناه من أولوية التسبيح. وأيضا فلو اختار الإمام القراءة كانت قراءته إخفاتية كما هو المجمع عليه بينهم فكيف يترتب عليه حكم كلي بالنسبة إلى المأموم من تحريم القراءة وعدمه أو التفصيل بالسماع وعدمه والانقسام باعتبار ذلك إلى الجهرية والإخفاتية؟ فانا وان سلمنا جريان هذه الشقوق فيما إذا اختار الإمام القراءة المرجوحة باعتبار انه لا منافاة بين وجوب الإخفات والسماع والإنصات كما قيل إلا انه لا يتم في ما إذا اختار التسبيح فكيف يصح الحكم بتحريم القراءة على المأموم مطلقا؟ مع عدم جريان الدليل على تقدير تسليمه إلا في مادة اختيار الإمام القراءة.

والظاهر ان منشأ الشبهة في هذا الاختلاف هو ما اتفقت عليه كلمتهم من أصالة القراءة في الأخيرتين وان التسبيح إنما يؤتى به عوضا عنها ولذا ترى أكثر عباراتهم بالتسبيح بلفظ البدلية عن القراءة فيقولون «ويجزئ بدلا عن القراءة التسبيح» ولا سيما بالنسبة إلى الامام عندهم فإن القراءة في حقه آكد ، وقد عرفت ان الظاهر من الأخبار خلافه للنهى عن القراءة في تلك الأخبار الصحاح الصراح والنفي لها ودلالة صحيحة عبيد بن زرارة (١) على فرعية القراءة كما تقدمت الإشارة اليه. ومنه يظهر ان الأظهر هنا هو التخيير مع أفضلية التسبيح كغيره حسبما حققناه سابقا.

ومن الأخبار التي اعتمدوها هنا في ما ذهبوا اليه وبنوا عليها صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة خلف الامام اقرأ خلفه؟ فقال اما الصلاة التي لا يجهر فيها بالقراءة فإن ذلك جعل اليه فلا تقرأ خلفه واما

__________________

(١) ص ٤١٤.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من الجماعة.

٤٢٦

الصلاة التي يجهر فيها فإنما أمر بالجهر لينصت من خلفه فان سمعت فأنصت وان لم تسمع فاقرأ». فإن قضية الجعل إلى الامام في الصلاة الإخفاتية بمعنى الاعتماد على قراءته والاكتفاء بها فلا يجوز للمأموم القراءة لذلك لا يتم كليا إلا في الأوليين لوجوب القراءة عليه فيهما حتما واما الأخيرتان فحيث كان مخيرا فيهما سيما مع أفضلية التسبيح له كما اخترناه فكيف يتم الجعل اليه والاعتماد عليه في سقوط القراءة عن المأموم وتحريمها عليه؟ والحال انه ليس القراءة عليه واجبة بل الأفضل له التسبيح كما هو المفروض ، وقضية الإنصات في الجهرية أظهر فإن تحريم القراءة من حيث وجوب الإنصات لا يجري إلا في الأوليين فإن القراءة في الأخيرتين على تقدير اختيارها إخفاتية إجماعا ، وجملة الروايات الواردة في هذا المجال كلها على هذا المنوال وان تفاوتت في وضوح الدلالة على ذلك.

واما ما دل على المنع من القراءة خلف الامام بعمومه وإطلاقه كقوله (عليه‌السلام) (١) «من قرأ خلف إمام يأتم به فمات بعث على غير الفطرة». ونحوه فهو غير معمول عليه عندهم على عمومه كما نبهوا عليه وشذ من قال به على عمومه.

هذا ، وما نقل من الرواية في كلام جملة منهم بعدم القراءة والتسبيح كما اختاره ابن إدريس لم أقف عليها في شي‌ء من كتب الأخبار التي تحضرني الآن إلا انه قد روى الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (٢) «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الامام أيقرأ فيهما بالحمد وهو امام يقتدى به؟ قال ان قرأت فلا بأس. وان سكت فلا بأس». ومن المحتمل ان تكون هذه الرواية هي المشار إليها في كلامهم فان ظاهرها التخيير بين القراءة والسكوت إلا ان القول بذلك قول أبي حنيفة كما تقدم ذكره (٣) فيجب حمل الرواية على التقية لذلك ولمعارضتها بالأخبار المستفيضة الدال أكثرها على التسبيح وجملة منها على القراءة أو الأفضلية في أحدهما أو

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣١ من الجماعة.

(٣) ارجع إلى التعليقة ٢ ص ٣٩٨.

٤٢٧

التخيير. وبه يظهر ان ما ذهب اليه ابن إدريس من اختيار السكوت غير جيد.

(المقام الرابع) ـ لو قلنا بالتخيير بين الصور المتقدمة كما هو أحد الأقوال في المسألة ـ واختار المكلف الإتيان بما زاد على الأربع التسبيحات كما هو القول الأول من الأقوال المتقدمة أو الثلاث كما هو مذهب ابن الجنيد ـ فهل يوصف الزائد هنا بالوجوب أو الاستحباب؟ قولان ظاهر العلامة في كتبه الفقهية ـ وبه صرح في كتبه الأصولية ـ الثاني محتجا عليه بجواز تركه ولا شي‌ء من الواجب يجوز تركه.

واعترضه شيخنا الشهيد الثاني في الروض بان قوله : «لا شي‌ء من الواجب يجوز تركه» ان أريد تركه مطلقا يعني ولو إلى بدل فمنعه واضح لانتقاضه بالواجبات الكلية كالتخييرية وإخوتها ، وان أريد به لا إلى بدل فمسلم لكن المتروك له ههنا بدل وهو الفرد الناقص بمعنى ان مقولية الواجب على الفرد الزائد والناقص كمقولية الكلي على أفراده المختلفة قوة وضعفا ، وحصول البراءة بالفرد الناقص لا من حيث هو جزء الزائد بل من حيث انه الفرد الناقص ، وقد وقع مثله في تخيير المسافر بين القصر والإتمام. وهذا هو التحقيق في المقام. انتهى

والمشهور الأول وهو الذي جزم به في الروض ونسبه في الروضة إلى ظاهر النص والفتوى والظاهر انه الأقوى ، وعلى تقديره ففي المقام سؤالات :

أحدها ـ انه لقائل أن يقول ان اللازم مما ذكر إمكان كون الزائد واجبا لكن إذا تحققت البراءة في ضمن الفرد الناقص لم يبق دليل على وجوب الزائد فنحن لا نستبعده لكن ننفيه حتى يقوم عليه الدليل.

هكذا قرره في الروض ثم أجاب عنه بان الروايات الدالة على القدر الزائد الواقعة بصيغة الأمر ـ كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة حريز عن زرارة (١) «فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله (ثلاث مرات)». وكون ذلك واقعا بيانا للواجب ـ تدل على

__________________

(١) ص ٣٨٩.

٤٢٨

وصف الزائد بالوجوب ولما لم يتم وجوبه عينا للرواية الدالة على الاجتزاء بالأقل لزم القول بوجوبه تخييرا من جهة تأدي الواجب به وحصول الامتثال.

هكذا حقق (قدس‌سره) الجواب والظاهر ان مراده يرجع إلى منع تحقق البراءة في ضمن الفرد الناقص بقول مطلق بل انما يتم ذلك فيما لو قصد الامتثال بالناقص لكونه فردا ناقصا من افراد الواجب الكلي بأن قصده أولا أو عدل اليه عند تمامه ، اما إذا قصد الامتثال بالكامل وإيقاع الناقص ضروري من حيث انه جرؤه فتحقق البراءة بالفرد الناقص والحال هذه ممنوع ، كما انه لو قصد المكلف في مقام التخيير بين القصر والإتمام الامتثال بالأربع فإنه لا يبرأ بما لو سلم ساهيا على الركعتين أو أحدث أو فعل منافيا على القول باستحباب التسليم أو وجوبه خارجا ، وحينئذ فدلالة الرواية على وصف الزائد بالوجوب من حيث انه جزء الواجب وهو مجموع التسبيحات التسع مثلا لا من حيث الزيادة وإطلاق الزائد عليه مجازا بالنظر إلى اختيار الفرد الناقص. هكذا ينبغي ان يحقق كلامه وإلا فلو سلم للسائل تحقق البراءة في ضمن الفرد الناقص مطلقا وانه يخرج به من العهدة وجعل مطرح الكلام في الزائد خاصة لم يتم الجواب بالتزام خطابه بالزيادة على وجه الإيجاب إذ بعد الخروج عن عهدة الخطاب كيف يبقى الإيجاب؟

وأورد بعضهم السؤال بما صورته : لقائل أن يقول لا ريب ان المكلف إذا اتى بالتسبيحة الواحدة منها برئت ذمته بذلك ولا مجال لقصده بالثانية والثالثة الوجوب إذ لا يعقل بعد ذلك في المأتي به وصف الوجوب.

ثم أجاب عنه بما لفظه : ولك ان تقول لا ريب ان المأمور به هنا هو الأمر الكلي الذي هو الموصوف بالوجوب ووجوده في الخارج انما هو في ضمن جزئياته وتحقق الكلي في ضمن جزئياته لا يلزم ان يكون على وجه واحد بل قد يتفاوت ذلك بالقوة والضعف فعلى هذا نقول كون التسبيحة الواحدة فردا للكلي مبرئا للذمة لا يمنع منه انضمام ما به يتحقق الفرد الكامل ويكون ذلك طريق البراءة. انتهى.

٤٢٩

وأنت خبير بما فيه مما أشرنا إليه آنفا فإنه متى سلم كون التسبيحة الواحدة التي أنى بها أحد أفراد الكلي وان الذمة قد برئت بالإتيان بها فبعد براءة الذمة من ذلك الواجب الكلي بالإتيان بأحد أفراده كما هو المفروض كيف يعقل عود الوجوب واشتغال الذمة حتى يكون انضمام ما به يتحقق الفرد الكامل طريق البراءة؟

والتحقيق في ذلك هو ما أشرنا إليه من التفصيل ودوران ذلك مدار قصد المكلف فإنه متى قصد المكلف الصورة الناقصة من أول الأمر أو عدل إليها قبل تجاوزها فلا ريب في صحة ما اتى به ، وعلى هذا فالزيادة لا توصف بوجوب ـ لحصول البراءة بما اتى به وسقوط التكليف ، ولعدم تعلق النية بهذه الزيادة والعبادات تابعة للقصود والنيات ـ ولا باستحباب لعدم الدليل عليه. نعم نفس الصورة الكاملة هي الموصوفة بالوجوب لأنها أحد أفراد الكلي التخييري وبالاستحباب لأنها الفرد الكامل منه لا هذه الزيادة كما توهموه ، ومتى قصد المكلف الصورة الزائدة فالواجب هو مجموع تلك الصورة ، وما اتى به من الصورة الناقصة ضمن هذه الصورة الكاملة لا يكون مبرئا للذمة ما لم يتعلق به قصد من أول الأمر أو عدول اليه ، ولو حصل براءة الذمة بها بمجرد الإتيان بها كما يوهمه ظاهر كلامهم للزم مثله في من قصد في مواضع التخيير أربعا ثم سلم ساهيا على الركعتين فإنه يجتزئ بهما وتصح صلاته وان لم يقصدهما مع انه ليس كذلك. وبالجملة فإن كلامهم هنا غير منقح وقد تقدم لنا تحقيق في ذلك في كتاب الطهارة في مسألة المسح من باب الوضوء.

الثاني ـ انهم صرحوا بوصف الزائد بالاستحباب مع حكمهم بوجوبه تخييرا والوجوب والاستحباب حكمان متقابلان.

وأجاب عن ذلك جمع من الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني بحمل الاستحباب على العيني ، قال بعد ان جزم بالوجوب التخييري ما لفظه : ويبقى إطلاق الاستحباب على الفرد الزائد محمولا على استحبابه عينا بمعنى كونه أفضل الفردين الواجبين

٤٣٠

وذلك لا ينافي وجوبه تخييرا من جهة تأدي الواجب به وحصول الامتثال. انتهى.

أقول : وبذلك يظهر الجواب عما أورده السيد السند صاحب المدارك في المقام من انه ان أريد بالاستحباب المعنى العرفي وهو رجحان الفعل مع جواز تركه لا إلى بدل لم يمكن تعلقه بشي‌ء من افراد الواجب التخييري ، وان أريد به كون أحد الفردين الواجبين أكثر ثوابا من الآخر فلا امتناع فيه إلا انه خروج عن المعنى المصطلح. انتهى وحاصل الجواب حينئذ التزام الشق الثاني من الترديد ولا محذور فيه بعد ظهور المراد فقد صرح به جملة من أجلاء الأصحاب.

وربما أجيب عن ذلك أيضا بالتزام الشق الأول ، وجواز ترك المندوب لا إلى بدل من جهة ندبه لا ينافي عدم جواز تركه من جهة أخرى وهي جهة وجوبه التخييري باعتبار كونه أحد أفراد الواجب ، وغاية ما يلزم اتصافه بالوجوب والاستحباب باعتبارين ولا امتناع فيه وانما يمتنع اتصافه بهما من جهة واحدة وهو غير لازم هنا.

وأجيب عنه أيضا بناء على ذلك بان الاستحباب متعلق بالفرد الكامل من افراد المخير ويجوز تركه لا إلى بدل إذ لا يقوم مقامه في الكمال غيره ، والبدل الحاصل من فعل الواجب انما هو بدل لهذا الفرد من حيث الوجوب لا من حيث الاستحباب. وأنت خبير بان هذا الجواب راجع في المعنى إلى ما قبله كما لا يخفى.

ثم انه لا يخفى ان ظاهر كلامهم كون محل البحث ومطرح النزاع هو الزائد بعد الإتيان بالصورة الناقصة وقد أشرنا في جواب السؤال الأول إلى عدم صحته بل ينبغي ان يجعل مطرح البحث هو مجموع التسبيحات الزائدة وهي الاثنتا عشرة أو التسع أيهما اتى بها فإنه الموصوف بالوجوب التخييري والاستحباب الذاتي ، واتصافها بالأول لكونها أحد أفراد الواجب التخييري وبالثاني لكونها الفرد الكامل ، وكلام الأصحاب لا يخلو من الإجمال بل الاختلال وان أحببت تحقيق الحال زيادة على ما ذكرناه في هذا المجال فارجع إلى ما حققناه في باب الوضوء في مسألة المسح على الرأس فإنا قد استوفينا ثمة

٤٣١

الكلام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام. والله الهادي لمن يشاء.

الثالث ـ لو شرع في الزائد على الأقل فهل يجب عليه المضي فيه ويجب إيقاعه على الوجه المأمور به في الواجب من الطمأنينة وغيرها من الهيئات الواجبة أم يجوز تركه وتغييره عن الهيئة الواجبة؟ يحتمل الأول لما تقدم من كونه موصوفا بالوجوب ولا ينافيه تركه بالكلية كما مر فيكون المكلف مخيرا ابتداء بين الشروع فيه فيوقعه على وجهه وبين تركه ، ويحتمل الثاني لأن جواز تركه أصلا قد يقتضي جواز تبعيضه وتغييره عن وصفه مع كونه ذكر الله تعالى بطريق اولى فيبقى حاله مراعى منظورا إليه في آخره ، فان طابق وصف الواجب كان واجبا وترتب عليه ثواب الواجب وحكمه وإلا فلا ، ولا قاطع بأحد الأمرين فليلاحظ ذلك. هكذا قرره في الروض سؤالا وجوابا. وقال بعض مشايخنا المتأخرين بعد نقل ملخص ذلك عنه ما لفظه : أقول لا يبعد ان يقال ان قصد الامتثال بالأقل فالحق الثاني لأن الزائد حينئذ ليس بواجب فلا محذور في تركه وتغييره بل هو من قبيل الأذكار المأذون فيها في الصلاة عموما ، وان قصد الامتثال بالفرد الزائد فالحق الأول لعدم تحقق الخروج عن عهدة الخطاب بالناقص كما حررناه في ما سبق. انتهى.

أقول : وهذا الكلام ناظر إلى ما أشرنا إليه في جواب السؤال الأول ولكنه لا يخلو من نظر ، وذلك لأن ما ذكره (قدس‌سره) أولا بناء على قصد الامتثال بالأقل من انه لا محذور في ترك الزائد ولا تغييره متجه لو كان قصد المكلف من الإتيان بالزائد مجرد الذكر فإنه لا محذور في تركه ولا تغييره عن وصفه اما لو قصد به التسبيح الموظف في المقام كما يعطيه مراعاة حاله في آخره على ما ذكره في الروض ولم يأت به على الوجه المأمور به مع انه قصد أولا الامتثال بالأقل ففيه إشكال ، لأنه مع قصد الامتثال بالأقل كما لا يكون الزائد واجبا لحصول البراءة بالأقل كذلك لا يكون مستحبا لعدم الدليل عليه. والركون في أمثال هذه المقامات إلى قضية الذكر لا يسد باب الإيراد فإن المكلف

٤٣٢

لو فعل بعض الأذكار في الصلاة في مقام لم يعينه الشارع فيه معتقدا تعيينه واستحبابه هناك كان تشريعا محرما البتة.

وما ذكره ثانيا ـ من انه ان قصد الامتثال بالفرد الزائد فالحق الأول لعدم تحقق الخروج عن عهدة الخطاب بالناقص ـ متجه في مقام الزيادة على الناقص كما هو فرض المسألة ، لاستلزامه مع القطع قبلها عدم الإتيان بما قصده من الفرد الزائد فلا بد ان يوقعه على وجهه أو يتركه حذرا من تغيير الهيئة الواجبة ، اما لو قطع على الناقص بعد قصد الفرد الزائد قاصدا العدول اليه فلم لا يجوز ذلك وما المانع منه؟ وقد صرح المحقق في المعتبر في مسألة القصر والإتمام بأنه يجوز لمن نوى الإتمام الاقتصار على الركعتين ولمن نوى القصر الإتمام أيضا ، واستحسنه في المدارك فلم لا يجوز ان يكون هنا كذلك؟

وبالجملة فإنه قد تلخص مما ذكرنا ان الأظهر في المقام ان يقال انه متى قصد أحد الأفراد الزائدة وتجاوز الفرد الناقص فالظاهر وجوب الإتمام لما ذكرنا ، ومتى قصد الفرد الناقص وزاد عليه قاصدا العدول إلى أحد الأفراد الزائدة وجب ذلك أيضا ، لأن الظاهر انه لا فرق بين قصده أولا والعدول اليه ثانيا كما صرحوا به في صورة التخيير بين القصر والإتمام ، وان قصد بالزائد مجرد الذكر فأولى بالصحة ، واما انه يقصد به التسبيح الموظف ويقطع بعد تجاوز المرتبة الاولى وقبل بلوغ احدى المراتب الزائدة ففيه اشكال لما ذكرنا.

تنبيه

لا يخفى ان ما ذكر من الخلاف في المقام وما وقع فيه من النقض والإبرام جار أيضا بالنسبة إلى القدر الزائد على المسمى في مسح الرأس كما تقدم البحث فيه في كتاب الطهارة ، وكذا في تكرير التسبيح في الركوع والسجود زيادة على القدر المجزئ وما يتأدى به أقل الواجب.

٤٣٣

ونقل بعض مشايخنا المحققين المتأخرين عن شيخنا الشهيد في الذكرى انه اختار هنا وجوب الزائد مع انه اختار في المسح الزائد على المسمى الاستحباب التفاتا إلى جواز تركه. قال وهو عجيب.

ونقل عنه ذلك في الروض تفصيلا واستحسنه ، قال واستقرب شيخنا الشهيد في الذكرى استحباب الزائد عن أقل الواجب محتجا بجواز تركه ، قال هذا إذا أوقعه دفعة واحدة ولو أوقعه تدريجا فالزائد مستحب قطعا. وهذا التفصيل حسن لانه مع التدريج يتأدى الوجوب بمسح جزء فيحتاج إيجاب الباقي إلى دليل والأصل يقتضي عدم الوجوب بخلاف ما لو مسحه دفعة واحدة إذ لم يتحقق فعل الواجب إلا بالجميع. انتهى.

وقيل عليه ان ذلك مناف لما صرح به (قدس‌سره) في هذا المقام من وجوب الزائد من التسبيحات كما نص عليه في الروض ونسبه في الروضة إلى ظاهر النص والفتوى إذ التدريج هنا ضروري فينبغي القطع باستحباب الثانية والثالثة من التسبيحات.

ونقل عن شيخنا البهائي (قدس‌سره) انه فرق بين المسح والتسبيح بأنه يجوز في التسبيح قصد استحباب الزائد على الواحدة بخلاف المسح فإنه يجب قصد وجوب الزائد مطلقا حذرا من لزوم تكرار المسح. وهو تحكم وتعليله عليل.

والذي يظهر لي ان ما ذكره الشهيدان (رفع الله مقامهما) من التفصيل المذكور صحيح لا غبار عليه ، والإيراد عليهما بمسألة التسبيح لا يصغى اليه ولا يلتفت اليه لظهور الفرق بين المقامين ، لا كما نقل عن شيخنا البهائي بل من حيث ان وجه التخيير بالنسبة إلى المسح غيره بالنسبة إلى التسبيح ، فان القول بالتخيير في التسبيح إنما ادى اليه ضرورة الجمع بين الأخبار المختلفة في بيان كيفيته كما أشار إليه كلام الروض في ما تقدم في جواب السؤال الأول ، والقول به في المسح انما نشأ من إطلاق الأمر الصادق بمجرد المسمى ولو بجزء من إصبع وبالمسح بمجموع الثلاث الأصابع وما بينهما من الافراد ، وافراد الكلي في الأول هي مجموع كل واحدة من الصور التي وردت بها النصوص وفي

٤٣٤

الثاني هو كل مسحة أوقعها المكلف دفعة أعم من ان تكون يسيرة أو مستوعبة ، وحينئذ فالمكلف إذا مسح تدريجا فقد ادى الواجب الذي هو مسمى المسح بهذا الجزء الذي قطع عليه ، فإيجاب المسح على الباقي بعد القطع على ذلك الجزء الذي حصل المسمى في ضمنه وبرئت الذمة به يحتاج إلى دليل وليس ، بخلاف التسبيح فان المكلف إذا تجاوز الصورة الناقصة قاصدا إيجاد الكلي في ضمن احدى الصور الزائدة لم يصدق أنه أوجد الكلي في ضمن الناقصة ، حيث انه لم يقصدها بالكلية وان كان حصولها ضروريا من حيث الجزئية ، والعبادات تابعة للقصود والنيات وإلا لم تكن الأفراد الزائدة افرادا للواجب الكلي بالمرة ، لأن الصورة الصغرى حاصلة في ضمنها البتة فلو كان مجرد الإتيان بها وان لم تكن مقصودة موجبا لحصول الكلي في ضمنها وحصول البراءة اليقينية من التكليف لزم ما قلناه وفيه رد للأخبار الدالة على وجوبها المحمولة على الوجوب التخييري جمعا.

والظاهر ان منشأ الإيراد هو توهم كون محل الاتصاف بالاستحباب والوجوب التخييري هو الزائد على الصورة الناقصة كما تقدمت الإشارة إليه ، إذ على تقديره لو جعل مناط الحكم بالوجوب والاستحباب هو الاتصال والانفصال تعين هنا الحكم بالاستحباب لتحتم انفصال التسبيحة الثانية والثالثة عما قبلها.

ومما ذكرنا يعلم الكلام أيضا في تسبيح الركوع والسجود ، فان قلنا ان الواجب فيهما هو مجرد الذكر كما هو أحد القولين كان من قبيل المسح ، وان قلنا ان الواجب هو التسبيح المخصوص فإنه يأتي بناء على مذهب من يختار التخيير بين الافراد المروية أو بين بعضها ما يأتي في التسبيح في الأخيرتين على مذهب التخيير أيضا. وقد تقدم نقل الخلاف في التسبيح على تقدير القول به في الركوع والسجود بما ينتهي إلى خمسة أقوال.

(المقام الخامس) ـ في فوائد مهمة يقع بها الختام والتتمة : (الأولى) المشهور بين الأصحاب وجوب الترتيب في هذا التسبيح وظاهر القائلين بالتخيير بين صوره

٤٣٥

الواردة في الأخبار العدم ، ووجه كل منهما معلوم من دليله ، اما الأول فحيث استند كل من القائلين بصورة معينة إلى خبر مخصوص قد ورد بها لزمه القول بذلك على الكيفية الواردة ، ووقوع الواو بين التسبيح والتحميد وبين التحميد والتهليل مثلا وان كانت للعطف الغير الموجب للترتيب فيها لكنها من كلام الامام (عليه‌السلام) في بيان الكيفية فهي جزء من اجزاء الكيفية المنقولة تختل باختلالها وليست من القول حتى يلزم جواز تقديم بعض المعطوفات على بعض الموجب لعدم الترتيب واما الثاني فحيث كان مستنده الجمع بين الأخبار المختلفة في الكيفية بالزيادة والنقصان والتقديم والتأخير مؤيدا بإطلاق الصحاح المشار إليها آنفا كان عدم الترتيب متجها بناء على ذلك ، وقد صرح به من القائلين بالتخيير المحقق في المعتبر.

وبذلك يظهر ما في كلام جملة من الاعلام من الإجمال في هذا المقام ، قال في الذكرى : هل يجب الترتيب فيه كما صوره في رواية زرارة؟ الظاهر نعم أخذا بالمتيقن ونفاه في المعتبر للأصل مع اختلاف الرواية.

وقال في المدارك : استقرب المصنف في المعتبر عدم ترتيب الذكر لاختلاف الرواية في تعيينه وهو غير بعيد وان كان الأحوط اتباع ما ورد به النقل بخصوصه.

وقال في الذخيرة : الأقرب عدم اشتراط الترتيب في التسبيحات وفاقا للمحقق في المعتبر لاختلاف الروايات وهو أقوى دليل على ذلك ، وخالف فيه المصنف والشهيد

أقول : لا يخفى ان محل الخلاف في كلامهم غير محرر فان الخلاف في المسألة كما تقدم قد بلغ إلى ستة أقوال ، وهذا الخلاف انما يترتب على القول بالتخيير خاصة الذي هو أحد تلك الأقوال ، وإلا فإن كل من ذهب إلى صورة خاصة مستندا فيها إلى رواية مخصوصة فان الواجب عنده هو الإتيان بما دل عليه دليله ولا معنى للخلاف فيه بعدم الترتيب ، والمحقق هنا انما ذهب إلى عدم الترتيب من حيث قوله بالتخيير خاصة وقد أوضحنا وجهه ، والظاهر حينئذ ان من خالف المحقق هنا إلى القول بالترتيب انما أراد

٤٣٦

الإتيان بالفرد المخير بإحدى الروايات الدالة على الترتيب كأن يختار مثلا صحيحة زرارة الدالة على التسبيحات الأربع أو الصحيحة الدالة على التسع أو نحو ذلك من الأقوال المتقدمة ، ولا ريب انه الأحوط على تقدير هذا القول.

(الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الإخفات في تسبيح الأخيرتين بل ربما ادعى عليه الإجماع ، واحتج عليه جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في الذكرى بالتسوية بينه وبين المبدل ، ثم قال ونفاه ابن إدريس للأصل وعدم النص قلنا عموم الإخفات في الفريضة كالنص مع اعتضاده بالاحتياط. انتهى.

وقال في المدارك : وذكر جمع من الأصحاب انه يجب الإخفات في هذا الذكر تسوية بينه وبين المبدل ونفاه ابن إدريس للأصل وفقد النص. وأجاب عنه في الذكرى بان عموم الإخفات في الفريضة كالنص. وهو غير واضح وان كان الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكره. انتهى.

أقول : اما ما ادعوه ـ من وجوب كون التسبيح بدلا عن القراءة وهي إخفاتية فيجب الإخفات في البدل أيضا ـ فممنوع (أولا) بأن المستفاد من الأخبار كما عرفت هو العكس وهو أصالة التسبيح في الأخيرتين وان القراءة فرع عليه ورخصة لا العكس كما ذكروه وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق عليه كما تقدمت الإشارة اليه إلا ان اتفاق الأخبار الصحيحة على خلافه. و (ثانيا) انه مع تسليم البدلية فوجوب التساوي بينه وبين المبدل منه في جميع الأحكام ممنوع.

واما ما ادعاه ـ من ان عموم الإخفات في الفريضة كالنص ـ ففيه ان المتبادر الظاهر من الأخبار الدالة على الإخفات انما هو بالنسبة إلى القراءة لا ما يشمل التسبيح بل القراءة في الأوليين أيضا لا الأخيرتين. وانقسام الفريضة إلى جهرية وإخفاتية انما هو بالنظر إلى القراءة في الأوليين كما تقدم تحقيقه في اخبار القراءة.

٤٣٧

نعم ربما يشير إلى ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الامام أيقرأ فيهما بالحمد وهو امام يقتدى به؟ قال ان قرأت فلا بأس وان سكت فلا بأس». فإن الظاهر ان مراده بقوله «بصمت فيهما الإمام» أي يخافت ففيه إشارة إلى أن السنة في ما يؤتى به في الأخيرتين هو الإخفات وان كان مورد الرواية الإمام خاصة. والرواية وان كانت قاصرة عن افادة العموم إلا انها لا تخلو من نوع تأييد. ويحتمل في الرواية معنى آخر ولعله الأظهر وهو ان المراد بالصمت في الموضعين هو السكوت ، وحاصل المعنى انه سأل عن الركعتين اللتين يسكت فيهما الامام ـ والمراد بهما الأخيرتان ـ هل يقرأ فيهما بالحمد؟ فأجاب (عليه‌السلام) بالتخيير بين الحمد والسكوت ، وقد تقدم ان ذلك مذهب ابن إدريس ، فيكون الخبر محمولا على التقية لأن ذلك مذهب أبي حنيفة كما تقدم ذكره (٢).

وبالجملة فالظاهر ان هذا الذكر كسائر الأذكار التي يتخير فيها بين الجهر والإخفات كما يشير اليه بعض الروايات وان كان الإخفات أولى لشهرته بين الأصحاب بل دعوى الإجماع في الباب مع تأيده بظاهر الخبر المتقدم. والله العالم.

(الثالثة) لو شرع في القراءة أو التسبيح فهل يجوز له العدول إلى الآخر أم لا؟ قال في الذكرى : الأقرب انه ليس له العدول إلى الآخر لأنه إبطال للعمل ولو كان العدول إلى الأفضل ، مع احتمال جوازه كخصال الكفارة وخصوصا إلى الأفضل. انتهى وقال في المدارك أيضا : الظاهر جواز العدول من كل منهما إلى الآخر خصوصا مع كون المعدول إليه أفضل.

أقول : لا ريب في ضعف التعليل الذي ذكره في الذكرى والمسألة محل توقف لعدم النص في المقام وان كان القول الثاني لا يخلو من قرب.

(الرابعة) قال في الذكرى : ولو شرع في أحدهما بغير قصد اليه فالظاهر

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من الجماعة.

(٢) ص ٣٩٨.

٤٣٨

الاستمرار عليه لاقتضاء نية الصلاة فعل أيهما كان. ولو كان قاصدا إلى أحدهما فسبق لسانه إلى الآخر فالأقرب ان التخيير باق فان تخير غيره اتى به وان تخير ما سبق اليه لسانه فالأجود استئنافه لأنه عمل بغير نية. انتهى.

أقول : لا يخفى انه لا خلاف نصا وفتوى في ان ما يأتي به من أفعال الصلاة ساهيا صحيح وان كان بغير نية للاكتفاء بالنية الإجمالية في أول الصلاة ، فإن نية الصلاة التي هي عبارة عن مجموع هذه الأفعال نية لكل منها ، وحينئذ فإن ما سبق اليه لسانه من جملة ذلك وان كان في نيته وقصده سابقا على وقت الشروع فيه الإتيان بالفرد الآخر فحكمه بوجوب الاستئناف لأنه بغير نية مما لا وجه له ، على ان ما يشعر به كلامه من اشتراط النية والقصد إلى أحدهما حسبما ذكروه في القراءة من وجوب القصد إلى سورة مخصوصة ممنوع إذ لم يقم عليه دليل لا في هذا الموضع ولا في ذلك كما تقدم تحقيقه. ولعله بنى هنا على ما صرحوا به في القراءة وقد عرفت انه لا دليل عليه. وكيف كان فالأحوط ما ذكره (قدس‌سره).

(الخامسة) ـ قال في الذكرى أيضا : تجب فيه الموالاة الواجبة في القراءة ومراعاة اللفظ المخصوص به باللسان العربي فلا تجزئ ترجمته. نعم لو اضطر اليه ولم يمكنه العربية فالأقرب جوازه لما سبق في التكبير والأذكار في الأوليين.

أقول : اما وجوب الموالاة فلا اعرف عليه دليلا إلا الحمل على القراءة وقضية البدلية. وفيه ما عرفت آنفا. وباقي ما ذكره وجهه واضح.

(السادسة) ـ قال في الذكرى أيضا : ليس فيه بسملة لأنها جزء من القراءة لا من التسبيح ، والأقرب انها غير مسنونة هنا ولو انى بها لم يكن به بأس. انتهى.

أقول : ربما يشعر قوله «والأقرب انها غير مسنونة» باحتمال كونها مسنونة وان كان خلاف الأقرب. وهو غير جيد لأن العبادة مبنية على التوقيف وحيث لم يرد النص بها كان اعتقاد شرعيتها هنا تشريعا محرما. ومن ذلك يظهر لك ما في قوله :

٤٣٩

«ولو اتى بها لم يكن به بأس» فإن الإتيان بها ان كان لاعتقاد شرعيتها ففيه ما ذكرنا وان كان من حيث انها ذكر فلا ثمرة في التخصيص بهذا المقام.

(السابعة) ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأنه لو شك في عدد التسبيح بنى على الأقل لأنه المتيقن ، ولو ذكر الزيادة فلا بأس.

(الثامنة) ـ قال في الذكرى : المشهور انه لا يستحب الزيادة على اثنى عشر. وقال ابن أبي عقيل يقول : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» سبعا أو خمسا وأدناه ثلاث في كل ركعة. ولا بأس باتباع هذا الشيخ العظيم الشأن في استحباب تكرار ذكر الله. انتهى.

وأنت خبير بما فيه ، فان الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل. واما ما يوهمه كلامه من كون المستند في ذلك كونه ذكرا ففيه ما أشرنا إليه مرارا من ان ذلك نوع مجازفة في البحث ، فإن قضية الذكر انما تصلح مستندا فيما إذا كان القصد لذلك واما مع اعتقاد التوظيف بمحل مخصوص أو كيفية مخصوصة من غير ورود اثر بذلك فهو تشريع محض ، وبالجملة فالاحتياط في عدم تجاوز الصورة المنصوصة. والله العالم.

الفصل التاسع في التشهد

وتحقيق الكلام فيه يقع في موارد (الأول) لا ريب ان التشهد واجب في كل ثنائية مرة بعد الركعة الثانية وفي غيرها مرتين ، أحدهما بعد الثانية وثانيهما بعد الثالثة في الثلاثية وبعد الرابعة في الرباعية ، وهو إجماعي وقد نقل الإجماع عليه عدة من مشاهير الأصحاب : منهم ـ المرتضى والشيخ وابن زهرة والعلامة والشهيد وغيرهم. إلا ان الأخبار قد اختلفت في كيفيته ووجوبه وعدمه اي اختلاف واضطربت اضطرابا لا يرجى معه الائتلاف.

وها أنا أورد جملة ما وقفت عليه من الأخبار في المقام واذيلها بما وفق الله تعالى

٤٤٠