الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

الأخبار الصحيحة الصريحة في أفضلية التسبيح فلم يبق إلا طرحها وإرجاعها إلى قائلها ، إذ العمل بما دلت عليه مستلزم لطرح تلك الأخبار وهو ما لا يتجشمه من له أدنى روية من ذوي الأذهان والأفكار ، مع إمكان حملها على التقية وان لم يعرف بالقول بالتساوي مطلقا قائل من العامة إذ التخير مذهب أبي حنيفة واتباعه مع أفضلية القراءة كما تقدم (١) وقد قدمنا في مقدمات الكتاب ان الحمل على التقية لا يتوقف على وجود القائل منهم ، وبالجملة فإنه لم يبق إلا طرحها أو حملها على التقية وإلا فالعمل بها وان ذهب اليه من ذهب غفلة عما قدمناه من الأخبار لا يتفوه به من وقف على ما حققناه ونقلناه من تلك الأخبار الساطعة الأنوار والعلية المنار.

واما الاستناد في هذا القول إلى صحيحة عبيد بن زرارة فهي بالدلالة على أفضلية التسبيح أشبه لما عرفته آنفا ، فإن قضية التعليل فيها فرعية القراءة وأصالة التسبيح كما دلت عليه الأخبار المستفيضة المتقدمة.

وربما استدل بعضهم لهذا القول بتعارض الأخبار وتساقطها فلا يتوجه رجحان أحد الطرفين على الآخر فيبقى التساوي مؤيدا برواية علي بن حنظلة. وهذا القول جهل من صاحبه بما قدمناه من الأخبار إذ الظاهر انها لم تقرع سمعه ولم تمر بنظره وهو كذلك كما سيظهر لك ان شاء الله في البحث مع السيد السند وشيخنا المحقق الأردبيلي فإنهما من هذا القبيل ، وهذه الأخبار التي قدمناها وجمعناها لم تجتمع في كتاب بل ولا نصفها ولا ربعها كما لا يخفى على من راجع كتبهم في هذا الباب.

واما القول بأفضلية القراءة للإمام وهو القول الرابع والخامس والسادس وان اختلفوا في ما عداه فهو باعتبار المستند أظهر من سابقيه.

ويدل عليه من الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن منصور بن حازم عن

__________________

(١) في التعليقة ٢ ص ٣٩٨.

٤٠١

أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا كنت إماما فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب وان كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل».

وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين؟ فقال الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبح.».

وما رواه الشيخ عن جميل بن دراج (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال بفاتحة الكتاب ولا يقرأ الذين خلفه ويقرأ الرجل فيهما إذا صلى وحده بفاتحة الكتاب».

أقول : لا يخفى انه مع العمل بهذه الأخبار والقول بما دلت عليه فإنه يلزم طرح ما عارضها من الأخبار الدالة على أفضلية التسبيح مطلقا أو بالنسبة إلى الامام ، وهي الرواية الاولى من الروايات المتقدمة والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعاشرة والثانية عشرة والسادسة عشرة (٤) بالتقريبات المذكورة ذيولها ، وفي رد هذه الروايات وطرحها مع صحتها وصراحتها من الشناعة ما لا يخفى ، واما مع العمل بروايات التسبيح فحمل الأخبار المذكورة على التقية ظاهر لا ستر عليه وواضح لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه ، لما عرفت آنفا (٥) من ان مذهب جمهور الجمهور وجوب القراءة ، وأبو حنيفة واتباعه وان خيروا إلا ان القراءة عندهم أفضل فحمل هذه الأخبار على التقية أقرب قريب ، وقد استفاضت الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) بعرض الأخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافه.

وقد أيد بعض مشايخنا الحمل على التقية بما في صحيحة منصور بن حازم من لفظ السعة للمأموم ، فإن مفهومه انه لا يسع الامام غير القراءة للتقية واما المأموم فيسعه تركها

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

(٤) من ص ٣٨٩ إلى ٣٩٦.

(٥) ص ٢٩٨.

٤٠٢

والعدول إلى التسبيح. أقول : ويعضده ان المستفاد من كثير من الأخبار ان أصحابنا كانوا يأمونهم في الجماعة.

وقد صرح بهذا الحمل جملة من أصحابنا المحققين من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخراساني في الذخيرة والمحقق الشيخ حسن في المنتقى وغيرهما.

فالوجه الأظهر في اخبار القراءة مطلقا هو الحمل على التقية سيما للإمام لعظم الخطب عليه واقتضاء الاستصلاح التقية بالنسبة إليه فلذا خصه بالقراءة في صحيحتي منصور ومعاوية بن عمار وحثه عليها خوفا عليه من الشناعة والضرر ، ومتى حملت هذه الأخبار على التقية سلمت اخبار التسبيح وتوجه العمل بها من غير معارض. ولم يقل أحد من العامة بتعين التسبيح أو أفضليته حتى يمكن حمل اخباره على التقية بل هو عندهم مطروح واما اخبار القراءة فهي كما عرفت موافقة لهم. وقضية القواعد المنصوصة عنهم (عليهم‌السلام) في عرض الأخبار في مقام الاختلاف هو حمل أخبار القراءة على التقية ، حتى انه قد ورد ما هو أبلغ من ذلك وهو انه إذا لم يكن في البلد من تستفيه في الحكم الشرعي فاستفت قاضي البلد وخذ بخلافه ، رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في عيون الأخبار (١) ولكن أصحابنا سامحهم الله تعالى بغفرانه وأسكنهم أعلى جنانه كما نبهناك عليه في غير موضع مما تقدم قد الغوا هذه القواعد الواردة عنهم (عليهم‌السلام) واتخذوها وراء ظهورهم واصطلحوا على قواعد لم يرد بها نص ولا اثر فاتخذوها وجه جمع بين الأخبار.

تتميم في المقام وكلام على كلام بعض الاعلام

قال السيد السند في المدارك ـ وهو ممن اختار القول بأفضلية القراءة مطلقا أو للإمام كما سيظهر لك من كلامه ـ اختلف الأصحاب في أن الأفضل للمصلي القراءة أو التسبيح ، فقال الشيخ في الاستبصار ان الأفضل للإمام القراءة وانهما متساويان بالنسبة

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

٤٠٣

إلى المنفرد ، وقال في النهاية والمبسوط هما سواء للمنفرد والامام ، وأطلق ابنا بابويه وابن أبي عقيل أفضلية التسبيح ، احتج الشيخ في الاستبصار على أفضلية القراءة للإمام بما رواه في الصحيح عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا كنت إماما فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب وان كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل». ونحوه روى معاوية بن عمار في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين فقال الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبح فإذا كنت وحدك فاقرأ فيهما وان شئت فسبح». وعلى التساوي للمنفرد بما رواه عن عبد الله بن بكير عن علي بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الركعتين الأخيرتين ما اصنع فيهما؟ فقال ان شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وان شئت فاذكر الله فهما سواء. قال قلت فأي ذلك أفضل؟ فقال هما والله سواء ان شئت سبحت وان شئت قرأت». وهذا الجمع جيد لو كانت الأخبار متكافئة من حيث السند لكن الرواية الأخيرة ضعيفة جدا بجهالة الراوي وبان من جملة رجالها الحسن بن علي بن فضال وعبد الله بن بكير وهما فطحيان. ولو قيل بأفضلية القراءة مطلقا كما يدل عليه ظاهر صحيحتي منصور بن حازم ومعاوية بن عمار لم يكن بعيدا من الصواب ، ويؤيده رواية حكم بن حكيم (٤) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) أيما أفضل القراءة في الركعتين الأخيرتين أو التسبيح؟ فقال القراءة أفضل». ورواية جميل (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة فقال بفاتحة الكتاب ولا يقرأ الذين خلفه ويقرأ الرجل

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٢ و ٣ و ٥) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

(٤) الوسائل الباب ٥١ من القراءة ، والراوي هو محمد بن حكيم كما سيأتي منه «قدس‌سره».

٤٠٤

فيهما إذا صلى وحده بفاتحة الكتاب». وصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) وقال : «يجزئك التسبيح في الأخيرتين. قلت اي شي‌ء تقول أنت؟ قال اقرأ فاتحة الكتاب». ولا ينافي ذلك ما رواه عبد الله الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما فقل الحمد لله وسبحان الله والله أكبر». لأنا تجيب عنها بالحمل على ان «لا» نافية وتكون جملة «لا تقرأ» حالية والمعنى إذا قمت في الركعتين الأخيرتين وأنت غير قارئ فيهما فقل كذا وكذا أو يقال انها ناهية والنهي انما توجه إلى القراءة مع اعتقاد ان غير القراءة لا يجوز كما ذكره الشيخ في الاستبصار ، وبالجملة فهذه رواية واحدة فلا تترك لأجلها الأخبار المستفيضة السليمة السند المؤيدة بعمل الأصحاب. انتهى.

أقول فيه نظر من وجوه : (الأول) ان ما نقله عن الشيخ في الاستبصار ـ من انه احتج على أفضلية القراءة للإمام بصحيحة منصور بن حازم وعلى التساوي للمنفرد برواية علي بن حنظلة ـ ليس في محله فان الشيخ بعد ان عنون الباب بالتخيير بين القراءة والتسبيح أورد من الروايات الدالة على التخيير صحيحة عبيد بن زرارة ورواية علي بن حنظلة الدالتين على التساوي مطلقا ، ثم أورد في خبر ما يخالفهما في ذلك وهي رواية محمد بن حكيم التي نسبها هو إلى حكم بن حكيم الدالة على أفضلية القراءة مطلقا وجمع بينهما بحمل ما دل على أفضلية القراءة على ما إذا كان اماما وحمل تلك الروايتين الدالتين على التساوي على غيره ، ثم أورد صحيحة منصور بن حازم سندا لهذا الحمل بطرفيه من أفضلية القراءة للإمام والتساوي لغيره ، والرواية كما ترى دالة على ذلك هذا خلاصة كلام الشيخ في الاستبصار وبه يتضح لك ما في نقل السيد السند (قدس‌سره) من الخلل الذي لا ستر عليه ولا غبار.

(الثاني) ـ ان المفهوم من سياق كلامه ان الشيخ قد استدل على أفضلية القراءة للإمام بهذه الرواية الدالة على عموم أفضلية القراءة مطلقا بحملها على الإمام ،

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

٤٠٥

وعلى التساوي للمنفرد برواية علي بن حنظلة الدالة بعمومها على المساواة مطلقا بحملها على المنفرد ثم رد (قدس‌سره) الحمل المذكور بعدم تكافؤ الأخبار من حيث السند ثم رجح أفضلية القراءة مطلقا مستندا إلى العموم الذي ادعاه من تلك الصحيحة وأردفها بصحيحة معاوية بن عمار. وهو لعمري بعيد الصدور من مثل هذا الفحل المشهور ، فان الصحيحتين المذكورتين تناديان بالتصريح بحكم الامام على حدة من أفضلية القراءة له وحكم المنفرد على حدة من التخيير ، فأين إطلاق أفضلية القراءة الذي جنح اليه وادعى دلالة تلك الصحيحتين عليه؟ وما تكلفه بعض في الاعتذار عنه ـ من انه يمكن تطبيقهما على أفضلية القراءة مطلقا وتكون فائدة التفصيل فيهما بين الامام والمنفرد تأكد الفضل في الإمام ـ فتمحل ظاهر لا يلتفت اليه وتكلف متعسف لا يعول عليه. وحينئذ فرواية علي بن حنظلة متى حملت على المنفرد كانت مؤيدة لما دلت عليه تلك الصحيحتان من حكم المنفرد فيهما لا منافية لهما بناء على ما ادعاه من عموم أفضلية القراءة للمنفرد. نعم ذلك مدلول رواية محمد بن حكيم التي نسبها إلى حكم بن حكيم كما رأيت في نسخ منه متعددة.

(الثالث) ـ ان ظاهر قوله : «ولو قيل بأفضلية القراءة مطلقا» انه لا قائل بذلك صريحا مع انا قد أسلفنا نقله عن الحلبي وتبعه الشهيد في اللمعة ولعله لندرة القائل وشذوذه خفي عليه حتى انه قال في التهذيب اني لا أعلم قائلا بهذا المذهب. وهو حق حيث انه انما حدث بعده. وممن خفي عليه القول بذلك أيضا شيخنا البهائي (قدس‌سره) حيث انه صرح في كتاب الحبل المتين انه لم يطلع على قائل بأفضلية القراءة للمنفرد.

(الرابع) ـ ان ما استدل به على ما ادعاه من صحيحة ابن سنان منظور فيه من حيث السند والمتن :

اما الأول فلما ذكره بعض أصحابنا من احتمال كون ابن سنان هو محمد أخو عبد الله بن سنان الذي هو مذكور مهملا في كتب الرجال كما ذكره الشيخ في كتاب رجاله من رجال الصادق (عليه‌السلام) وهو غير محمد بن سنان الزاهري الضعيف فإنه

٤٠٦

لا يروي عن الصادق (عليه‌السلام) كما ذكر في كتب الرجال وشهد به التتبع في هذا المجال ، وقد وردت رواية محمد بن سنان بقول مطلق عن الصادق (عليه‌السلام) في باب كراهة أكل الثوم من كتاب علل الشرائع (١) ووقع التصريح به في ثلاثة أحاديث من كتاب طب الأئمة (عليهم‌السلام) اما الحديث الأول منه فصورته عن الوشاء عن عبد الله بن سنان عن أخيه محمد عن جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) (٢) ومثله الحديث الثاني من الكتاب المذكور (٣) وفي باب مقدار الثواب في كل علة منه أيضا عن الوشاء عن عبد الله بن سنان قال : سمعت محمد بن سنان يحدث عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) وحينئذ فما أطلقوه من انه متى وردت رواية ابن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) بغير واسطة تعين الحمل على عبد الله لكون الزاهري الضعيف لا يروي عنه إلا بالواسطة غير جيد لانه مبني على الحصر في عبد الله ومحمد الزاهري والحال ان محمدا أخا عبد الله ممن يروي عنه (عليه‌السلام) أيضا بلا واسطة. والجواب ـ بان محمدا أخا عبد الله نادر الرواية فلا ينصرف إليه الإطلاق ـ مدخول بما يتناقل في كلامهم ويدور على رؤوس أقلامهم من انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.

واما الثاني فإن ما ادعاه من الدلالة غير واضح البيان ولا ساطع البرهان لانه (قدس‌سره) قد اقتطع عجز الرواية واستدل به وهو وان كان يعطي ذلك بظاهره إلا انه بملاحظة ما تقدمه في صدر الرواية للاحتمال فيه مجال واسع ، والرواية بتمامها هي ما رواه الشيخ عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «ان كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتى يفرغ وكان الرجل مأمونا على القرآن فلا تقرأ خلفه في الأولتين. وقال يجزئك التسبيح في الأخيرتين. قلت اي شي‌ء تقول

__________________

(١) ص ١٧٦ وفي الوسائل الباب ٢٢ من أحكام المساجد.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١ من الاحتضار.

(٥) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

٤٠٧

أنت؟ قال اقرأ فاتحة الكتاب». وكأنه (رحمه‌الله) بنى في اقتطاعه عجز الرواية واعتماده عليه في الاستدلال على انقطاعه عما قبله في المعنى وان له معنى مستقلا ، وربما كان وجهه عنده ان السائل لما سأله عما يفعله (عليه‌السلام) أعم من ان يكون إماما أو مأموما أو منفردا فقال : «اقرأ فاتحة الكتاب» دل ذلك على رجحان القراءة مطلقا.

قال المحقق المدقق الشيخ حسن في كتاب منتقى الجمان بعد ذكر الرواية ما لفظه : قلت يسبق إلى الفهم في بادئ الرأي من عجز هذا الخبر انه في معنى الخبرين اللذين قبله ـ وأشار بهما إلى صحيحتي عبيد بن زرارة ومنصور بن حازم ـ ثم قال وقد اعتمد ذلك بعض المتأخرين فاقتطعه عن الصدر وأورده في حجة ترجيح قراءة الحمد للإمام حديثا مستقلا ، وبعد التأمل يرى ان ذلك أحد الاحتمالات فيه وانه لا وجه لترجيح المصير اليه على غيره ، ثم الحق ان اقتطاع بعض الحديث وافراده عن سائره بمجرد ظن استقلاله أو تخيله كما اتفق لجماعة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أمر بعيد عن الصواب فكم من خطأ قد وقع بسببه في الاستدلال لمن لم تنكشف له بالتدبر حقيقة الحال. انتهى

هذا. والأظهر بناء على اتصال عجز الرواية بصدرها كما هو المتبادر إلى الفهم ان معنى قوله (عليه‌السلام) : «يجزئك التسبيح في الأخيرتين» يعني عن القراءة في الأوليين خلف الإمام إذا كنت مأموما ، وحينئذ فقول السائل «أي شي‌ء تقول أنت؟» يحتمل ان يكون معناه اي شي‌ء تفتي به أنت وتحكم به من الاجتزاء بالتسبيح في الأخيرتين أو القراءة فيهما وعلى هذا يكون قوله (عليه‌السلام) : «اقرأ فاتحة الكتاب» فعل أمر ، وان يكون معناه اي شي‌ء تفعل أنت في صلاتك مأموما خلف هؤلاء من القراءة في الأوليين أو الترك والاجتزاء بالتسبيح لأنهم (عليهم‌السلام) كانوا يحضرون جمعات هؤلاء وجماعاتهم فأجاب (عليه‌السلام) بأنه يقرأ في الأوليين حيث ان ائتمامه بمن لا يصح الاقتداء به. وهذا هو الأظهر في معنى الرواية وهو الذي استظهره المحدث الكاشاني في الوافي بعد ان ذكر الاحتمال الأول أيضا. ويحتمل أيضا ان يكون معنى

٤٠٨

«أي شي‌ء تقول أنت؟» أي شي‌ء تفعله أنت في الركعتين الأخيرتين إذا كنت مأموما من الاجتزاء بالتسبيح أو القراءة فيهما ، وحينئذ ففيه دلالة على تخيير المأموم في الركعتين الأخيرتين بين القراءة والتسبيح مع أفضلية القراءة. ويحتمل أيضا ان يراد منه بيان حال المسبوق وانه يجزئه تسبيح الإمام في الأخيرتين وان كان المأموم مصليا للأوليين أو الثانية في تلك الحال غير ان الاولى للإمام قراءة الحمد. وهذان الاحتمالان ذكرهما في المنتقى زيادة على الاحتمال الذي حكاه عن ذلك البعض في ما أسلفنا من نقل عبارته. وكيف كان فهذه الرواية لما فيها من سعة دائرة الاحتمال لا تصلح للاستدلال فإنها بتعدد هذه الاحتمالات تكون من قبيل المتشابهات.

(الخامس) ـ قوله «ولا ينافي ذلك ما رواه عبد الله الحلبي في الصحيح. إلى آخر الكلام» فان فيه من العجب العجاب بما اشتمل عليه من الخلل والاضطراب ما لا يخفى على من تأمل بعين الصواب :

(أما أولا) ـ فلحصره المنافاة في هذه الرواية وانه بالجواب عنها يتم له ما ذكره وهذا مصداق ما أشرنا إليه آنفا من عدم الوقوف على تلك الروايات الصحيحة الصريحة المستفيضة المتقدمة ، فليت شعري كأنها لم تمر به مدة اشتغاله بالعلوم في تلك الأيام حتى يغمض العين عنها ولا يتعرض لشي‌ء منها في المقام.

(واما ثانيا) ـ فان الظاهر من سياق كلامه ـ كما عرفت ـ هو الميل إلى أفضلية القراءة مطلقا لقوله «ولو قيل بأفضلية القراءة مطلقا» وقد عرفت مما أسلفناه انه ليس في الأخبار ما يدل على هذا القول إلا رواية محمد بن حكيم الضعيفة السند التي لا تصلح للاستدلال بناء على اصطلاحه ولا تعتمد. واما ما ادعاه من دلالة صحيحتي منصور بن حازم ومعاوية بن عمار فقد عرفت ما فيه.

و (اما ثالثا) ـ فان ما ادعاه ـ من التأييد بعمل الأصحاب مع قوله أولا «ولو قيل» المشعر بعدم القائل كما عرفت ـ لا يخلو من التشويش والاضطراب. وبالجملة

٤٠٩

فإنا لم نقف على قائل بهذا القول الذي اختاره هنا سوى الحلبي والشهيد في اللمعة ولا من الأدلة سوى رواية محمد بن حكيم المذكورة. والله العالم.

وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد بعد الكلام في كمية التسبيح : واما التفضيل فلا شك في تفضيل القراءة عليه للإمام لصحيحة معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القراءة. ثم ساق الحديث ، ثم قال : ولرواية جميل. ثم ذكرها ، ثم قال : ولما ثبت جواز التسبيح للإمام أيضا بالإجماع حمل القراءة له على الأفضل فلا ينبغي تركها ، ويحمل ما في هذه للمنفرد على الجواز فقط لرواية علي بن حنظلة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته. ثم ساق الرواية ثم قال حمله الشيخ وغيره على المنفرد لما مر من ترجيح القراءة للإمام ، ولرواية منصور بن حازم الثقة ، ثم أوردها إلى آخرها ، ثم قال : ولو لا الإجماع على التخيير للإمام أيضا لكان الحمل على ظاهرها من وجوب القراءة للإمام متعينا فتحمل على الاستحباب لذلك ، ويفهم منها التسوية للمنفرد حيث قال بعد الترجيح للإمام «وان كنت.» ومع ذلك لا يبعد أولوية اختيارها للمنفرد أيضا لفضيلة الفاتحة ووجود «فاقرأوا» ووجود الخلاف في التسبيح بأنه مرة أو ثلاثا أو غيرهما ولبعض ما مر مثل الأمر بالقراءة في صحيحة معاوية بن عمار بقوله «فاقرأ فيهما» ثم الإتيان ب «ان شئت» فإن سوق الكلام يدل على ان التسبيح رخصة ، وما في رواية جميل ، ولرواية محمد بن حكيم قال : سألت أبا الحسن (عليه‌السلام). وساق الرواية كما قدمناه ثم قال ولا يحتاج إلى الحمل على الامام فقط لاحتمال كونها أفضل للإمام وكان للمنفرد أيضا أفضل لكن دونه في الفضل ويكون الأمر للإمام والتخيير للمنفرد للمبالغة له دونه مع عدم صحة ما يدل على التسوية في رواية علي بن حنظلة مع عمومها المتروك بالدليل واحتمال التأويل. انتهى.

قول : انظر إلى هذا الكلام المختل النظام والمنحل الزمام فإنه ـ كما ترى ـ ظاهر في انه لم يقف على شي‌ء من اخبار التسبيح التي قدمناها بالكلية ولهذا انما استند في

٤١٠

معارضة أخبار القراءة إلى الإجماع على التسبيح وجمع بينهما بالتخيير ، والظاهر ان السبب في ذلك ان الدائر في كتبهم في مقام البحث عن الأخيرتين انما هو هذه الأخبار التي نقلها هنا وزاد عليها صاحب المدارك رواية الحلبي التي أجاب عنها واما الأخبار التي قدمناها فهي متفرقة في مواضع لم تجتمع إلا في كلامنا في هذا المجال. وأصحاب التصانيف لمزيد الاستعجال في التصنيف يقنعون بما حضر بين أيديهم من كتب من قبلهم ولا يعطون التأمل حقه في استقصاء الأدلة من مظانها وطلبها من أماكنها ومن ثم وقعوا في ما وقعوا فيه ، والواجب في مقام البحث والتحقيق التعرض لنقل جملة أدلة المسألة والكلام فيها وترجيح ما يرجحه والجواب عما عارضه.

وأنت خبير بان قوله : «ولما ثبت جواز التسبيح للإمام أيضا بالإجماع. إلى آخره» الدال على انه انما صار إلى التسبيح تخييرا بالإجماع فللقائل ان يعكس عليه هذه الدعوى ويقول انه قد دلت صحاح زرارة على النهي عن القراءة مطلقا والنفي لها والأمر بالتسبيح خاصة ودل غيرها من الأخبار المتقدمة على التسبيح أيضا ، وما عارضها من روايات القراءة قد حمل على التقية بمقتضى القاعدة المنصوصة عن أصحاب العصمة (عليهم‌السلام) في مقام تعارض الأخبار ، فلو لا الإجماع على القول بالقراءة في المقام لتعين الاقتصار على التسبيح بمقتضى ذلك إلا ان الإجماع على القراءة أوجب لنا القول بالتخيير وحمل ما دل على تعين التسبيح والنهي عن القراءة على الأفضلية ، وما ادعيناه في المقام هو الأوفق بأخبارهم وقواعدهم (عليهم‌السلام).

وبالجملة فإن كلامهم (رضوان الله عليهم) في المقام لما كان مبنيا على غير أساس تطرق اليه القدح والالتباس ، وضعف كلامه (قدس‌سره) أظهر من ان يحتاج إلى مزيد بيان لمن انكشف له ما ذكرناه من نقل أخبار المسألة كملا وما وشحناها به من التحقيقات الفائقة والتدقيقات الرائقة. والله العالم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن تنقيح البحث في المسألة وتحقيق القول فيها كما هو حقه

٤١١

يتوقف على ذكر مقامات :

(الأول) ـ في كيفية التسبيح المذكور هنا وقد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال : أحدها ـ الاجتزاء بأربع تسبيحات : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» مرة واحدة ، ذهب اليه الشيخ المفيد والشيخ في الاستبصار وجمع من المتأخرين : منهم ـ العلامة في المنتهى وشيخنا الشهيد الثاني في الروض حيث قال انه أصح الأقوال ، ويدل عليه من الأخبار المتقدمة الخبر الخامس والسادس والخامس عشر والسادس عشر.

وثانيها ـ انها تسع تسبيحات : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله» يكررها ثلاث مرات ، ذهب اليه الصدوق ابن بابويه وأسنده في المعتبر والتذكرة والذكرى إلى حريز بن عبد الله السجستاني من قدماء الأصحاب ، ونقل في المختلف عن علي بن بابويه انه قال : وتسبح في الأخراوين إماما كنت أو غير امام تقول «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله» ثلاثا. قال فيكون الواجب عنده تسع تسبيحات ورواه ابنه في من لا يحضره الفقيه وهو اختيار أبي الصلاح. انتهى وظاهر كلامه في المختلف ان مذهب أبي الصلاح القول بالتسع مع انه في المنتهى نسب اليه القول بثلاث تسبيحات كما نقله عنه في الذخيرة ومثله شيخنا في البحار إلا اني لم أقف عليه في المنتهى كما ذكراه ولم يذكر لأبي الصلاح هنا مذهبا بالكلية وهما اعلم بما نقلاه.

ويدل على هذا القول ما تقدم في الخبر الأول من الأخبار المتقدمة إلا ان هذا الخبر قد نقله ابن إدريس في السرائر عن حريز عن زرارة في موضعين بزيادة في أحدهما على ما قدمنا نقله عن الصدوق (أحدهما) في باب كيفية الصلاة (١) وزاد فيه بعد «لا إله إلا الله» «والله أكبر» وثانيهما في آخر الكتاب في ما استطرفه من كتاب حريز (٢) ولم يذكر فيه التكبير ، قال شيخنا المجلسي (قدس

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

٤١٢

سره) في البحار بعد نقل ذلك : والنسخ المتعددة التي رأيناها متفقة على ما ذكرناه ويحتمل ان يكون زرارة رواه على الوجهين ورواهما حريز عنه في كتابه لكنه بعيد جدا ، والظاهر زيادة التكبير من قلمه أو من النساخ لأن سائر المحدثين رووا هذه الرواية بدون التكبير وزاد في الفقيه وغيره بعد التسبيح «تكمله تسع تسبيحات» ويؤيده انه نسب في المعتبر وفي التذكرة القول بتسع تسبيحات إلى حريز وذكرا هذه الرواية. انتهى. وهو جيد وجيه. أقول : ويدل عليه أيضا خبر ابن أبي الضحاك عن الرضا (عليه‌السلام) على ما سيأتي بيانه (١) ان شاء الله تعالى.

ثم العجب هنا من شيخنا الشهيد الثاني (رفع الله درجته) في المسالك والروض حيث انه في الروض بعد ان اختار القول الأول قال : والثاني أحوط والثالث جائز واما الرابع فلا لعدم التكبير. وأراد بالثاني القول بالاثني عشر وبالثالث القول بالعشر وبالرابع القول بالتسع ، ونحوه في المسالك فمنع العمل به مع ان روايته أصح روايات المسألة ، وما ذكره من القول الثاني والثالث لا دليل عليه كما سيظهر لك.

قال شيخنا المجلسي في البحار بعد ان اختار القول بمطلق الذكر : ثم الأفضل اختيار التسع لأنه أكثر وأصح اخبارا وهو مختار قدماء المحدثين الآنسين بالاخبار المطلعين على الأسرار كحريز بن عبد الله والصدوق (قدس الله روحيهما) أقول : وهو مذهب أبيه أيضا كما قدمنا نقله هنا عن المختلف.

وثالثها ـ انها عشر بزيادة التكبير على التسع المذكورة في القول الثاني وهو مذهب السيد المرتضى والشيخ في الجمل والمبسوط وابن إدريس وسلار وابن البراج ، ولم نقف على رواية تدل عليه وبذلك اعترف جملة من الأصحاب.

ورابعها ـ انها اثنا عشر بتكرير التسبيح المذكور في الصورة الأولى ثلاثا وهو مذهب الشيخ في النهاية والاقتصاد وهو المنقول عن ظاهر ابن أبي عقيل إلا انه

__________________

(١) ص ٤١٤.

٤١٣

قال ـ على ما نقله عنه في المختلف ـ : السنة في الأواخر التسبيح وهو ان يقول : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» سبعا أو خمسا وأدناه ثلاثا في كل ركعة.

وقد اعترضه جمع من الأصحاب بعدم الدليل عليه. وربما استدل عليه بما رواه ابن إدريس في السرائر في باب كيفية الصلاة (١) إلا انك قد عرفت ما فيه.

وربما أمكن الاستدلال بما رواه في كتاب العيون عن ابن أبي الضحاك الذي صحب الرضا (عليه‌السلام) (٢) الى خراسان فقال : «كان يسبح في الأخراوين يقول : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» ثلاث مرات ثم يركع». إلا ان شيخنا المجلسي (قدس‌سره) نقل الخبر المذكور في كتاب البحار (٣) عاريا من لفظ التكبير ثم قال : بيان ـ في بعض النسخ زيد في آخرها «والله أكبر» والموجود في النسخ القديمة المصححة كما نقلناه بدون التكبير ، والظاهر ان الزيادة من النساخ تبعا للمشهور ، انتهى. وعلى هذا فيكون الخبر المذكور دليلا واضحا على القول الثاني.

نعم يدل على ذلك ما في كتاب الفقه الرضوي (٤) حيث قال (عليه‌السلام): وفي الركعتين الأخراوين الحمد وحده وإلا فسبح فيهما ثلاثا ثلاثا تقول «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» تقولها في كل ركعة منهما ثلاث مرات.

وخامسها ـ وهو منقول عن ابن الجنيد انها ثلاث تسبيحات غير مرتبة ، قال ـ على ما نقله عنه في المختلف ـ : والذي يقال في مكان القراءة تحميد وتسبيح وتكبير يقدم ما يشاء.

واستدل له بالخبر الثامن (٥) من الأخبار المتقدمة وصحيحة عبيد بن زرارة (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الركعتين الأخيرتين من الظهر قال تسبح وتحمد الله وتستغفر لذنبك وان شئت فاتحة الكتاب فإنها تحميد ودعاء». وهذه الرواية

__________________

(١) ارجع إلى التعليقة ١ ص ٤١٢.

(٢ و ٦) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

(٣) ج ١٨ الصلاة ص ٣٥٢.

(٤) ص ٧.

(٥) ص ٢٩٢.

٤١٤

أسندها المحقق في المعتبر إلى زرارة ولم يذكر فيها «وان شئت.» والظاهر كونها رواية أخرى غير رواية عبيد بن زرارة (١).

وسادسها ـ القول بالتخيير بين الصور الواردة في الأخبار ، واليه ذهب السيد الجليل جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن طاوس صاحب البشرى والمحقق في المعتبر وان جعل القول الأول أولى.

قال في المعتبر بعد نقل القول الأول والاستدلال عليه بصحيحة زرارة وهو الخبر الخامس عشر (٢) ثم القول بالتسع ونقل عليه صحيحة زرارة المتقدمة في الخبر الأول (٣) ثم القول بالاثني عشر ولم ينقل له دليلا ثم ذكر صحيحة عبيد بن زرارة إلا انه أسندها إلى زرارة على الوجه الذي قدمناه ثم صحيحة الحلبي التي قدمناها دليلا لابن الجنيد وهي الخبر الثامن (٤) ثم قال : اختلفت الرواية أيهما أفضل؟ ففي رواية (٥) «هما سواء» وفي أخرى (٦) التسبيح وفي رواية (٧) «انه ان كنت إماما فالقراءة أفضل وان كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل». والوجه عندي القول بالجواز في الكل إذ لا ترجيح وان كانت الرواية الأولى أولى وما ذكره في النهاية أحوط لكن ليس بلازم. انتهى.

وظاهر هذا الكلام انه جمع بالتخيير بين روايات القراءة وروايات التسبيح من غير تفصيل وكذلك بين اخبار صور التسبيح والمنقول عنه في المدارك ذلك بالنسبة إلى صور التسبيح ، ورواياته وكلامه كما ترى عام له وللاختلاف في ترجيح القراءة على التسبيح وبالعكس والتفصيل فإنه اختار التخيير مطلقا وكلامه به ألصق واليه أقرب.

وإلى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المنتقى والفاضل الخراساني في الذخيرة والمحدث الكاشاني في

__________________

(١) ارجع إلى التعليقة ١ ص ٣٩٥.

(٢) ص ٣٩٥.

(٣) ص ٣٨٩.

(٤) ص ٣٩٢.

(٥) على بن حنظلة ص ٤٠٠.

(٦) من ص ٣٨٩ إلى ٣٩٥.

(٧) منصور بن حازم ٤٠١.

٤١٥

المفاتيح وهو قوى وان كان الأول أولى.

ومما يؤيده اختلاف الأخبار في كيفية ذلك مع جودة أسانيد أكثرها وعدم مجال الحمل فيها على غير التخيير مضافا إلى ما دل على اتساع الأمر في ذلك من الأخبار مثل قوله في صحيحة زرارة المتقدمة (١) «انما هو تسبيح وتكبير وتهليل ودعاء». وفي صحيحته الأخرى (٢) «تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء». وفي صحيحة عبيد بن زرارة (٣) «وان شئت فاتحة الكتاب فإنها تحميد ودعاء».

ومن ذلك يظهر قوة القول الثالث فإنه لا اشكال فيه إلا من حيث زيادة التكبير في آخره وإلا فما تضمنه من التسبيحات التسع قد عرفت دليله ويكفي في ثبوت التكبير فيه إطلاق الصحيحتين المذكورتين. وينقل عن بعض المتأخرين التوقف في ذلك بناء على عدم الوقوف في ذلك على نص بالخصوص والظاهر ضعفه لما قلناه.

وربما دل إطلاق هذه الصحاح المشار إليها على عدم اعتبار ترتيب معين وبذلك صرح المحقق في المعتبر ومال اليه بعض المتأخرين ، إلا انه يمكن خدشه بأن إطلاقها يجب تقييده بالأخبار الدالة على الترتيب مضافا إلى وجوب تحصيل يقين البراءة من التكليف الثابت بيقين. وبما ذكرناه صرح في الذكرى فقال هل يجب الترتيب فيه كما صوره في صحيحة زرارة؟ الظاهر ذلك أخذا بالمتيقن ونفاه في المعتبر للأصل.

هذا ، ويفهم من كلام البعض اتحاد القولين الأخيرين حيث انه استدل لابن الجنيد بصحيحتي زرارة المشار إليهما وصحيحة عبيد بن زرارة. والظاهر تغايرهما حيث ان صريح عبارة ابن الجنيد التخصيص بالتحميد والتسبيح والتكبير فهو كسائر الأقوال المتقدمة في التخصيص بأذكار مخصوصة وانما يخالفها في عدم وجوب الترتيب ، وصريح المنقول عن صاحب البشرى وكذا كلام المحقق في المعتبر جواز العمل بكل ما روى في المسألة ، واما الاستدلال لابن الجنيد بتلك الصحاح المشار إليها فغير مطابق لصريح

__________________

(١) ص ٣٩٠.

(٢) ص ٣٨٩.

(٣) ص ٤١٤.

٤١٦

عبارته حيث ان صحيحتي زرارة عاريتان عن لفظ التحميد الموجود في عبارة ابن الجنيد مع زيادة التهليل والدعاء فيهما وصحيحة عبيد غير متضمنة للتكبير مع زيادة الاستغفار فيها. وبالجملة فالتغاير أمر ظاهر كما لا يخفى على كل ناظر فضلا عن الخبير الماهر.

بقي هنا شي‌ء يجب التنبيه عليه وهو ان ظاهر رواية علي بن حنظلة ربما دلت على اجزاء مطلق الذكر حيث قال فيها (١) «ان شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وان شئت فاذكر الله تعالى». وقد صرح باستفادته منها جمع من أفاضل المتأخرين لكنهم ردوها بضعف السند فلا تنهض حجة بإثباته فلم يقل به أحد منهم لذلك. وظاهر شيخنا المجلسي (قدس‌سره) وقبله الفاضل الخراساني في الذخيرة الميل إلى ذلك لظاهر الخبر المذكور إلا ان ظاهر الفاضل المشار اليه التوقف بعد ذلك كما سيأتي في كلامه ، واما شيخنا المشار اليه فظاهره الجزم بذلك حيث قال : والذي يظهر لي من مجموع الأخبار الاكتفاء بمطلق الذكر ثم الأفضل اختيار التسع. إلى آخر ما قدمنا نقله عنه.

أقول : لا يخفى على من لاحظ أخبار المسألة ـ وقد قدمناها جميعا ـ انه ليس فيها ما ربما يوهم ذلك إلا رواية علي بن حنظلة المذكورة وهي مع غض النظر عن المناقشة في سندها فلا تبلغ قوة في معارضة الأخبار الصحاح الصراح الدالة على خصوص التسبيح مع أنها قابلة للتأويل والحمل على تلك الأخبار بحمل الذكر فيها على التسبيح المذكور في تلك الأخبار ، ويؤيده ما في آخر الرواية المذكورة حيث قال الراوي في تمام الرواية بعد ان أجابه (عليه‌السلام) بما ذكرناه «قلت فأي ذلك أفضل (٢)؟ قال هما والله سواء ان شئت سبحت وان شئت قرأت». فإنه صريح في ان التخيير انما هو بين القراءة والتسبيح وهو مؤيد لحمل الذكر في الجواب الأول على التسبيح ، ويعضد ذلك ان يقين البراءة انما يحصل بالتسبيح الذي استفاضت به الأخبار.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة : وهل يجزئ مطلق الذكر؟ يحتمل ذلك لإطلاق

__________________

(١ و ٢) ص ٤٠٠.

٤١٧

رواية علي بن حنظلة مع كون إسنادها معتبرا إلى ابن بكير إذ ليس فيه من يتوقف في شأنه إلا الحسن بن علي بن فضال وهو بمكان من الجلالة وكذا ابن بكير ، والواسطة بينه وبين الامام (عليه‌السلام) وان كان مجهولا إلا ان ابن بكير ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه فلا يضر جهالة حال الواسطة ، وفي التعليل المذكور في خبر عبيد بن زرارة نوع اشعار بجواز الاكتفاء بمطلق التحميد والدعاء وان لم يكن دالا عليه بناء على ان عدم مدخلية خصوص المادة في العلية ليس بذلك الواضح ، والاشعار المذكور مضافا إلى رجحان دعوى عدم القائل بالفصل يؤيد جواز الاكتفاء بمطلق الذكر ويحتمل العدم لنوع تأمل في اسناد الخبر وعدم صراحته في المدعى ومخالفة ظاهره من التسوية لما سنحققه من تفضيل التسبيح وعدم قائل بهذه التوسعة صريحا ، مع ان التكليف اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. انتهى. والمعتمد هو ما ذكره أخيرا لما حققناه أولا. واما ما ذكره من الوجوه أولا فهي وجوه مدنفة عليلة ليس في التعرض لبيان ضعفها كثير فائدة بعد ما عرفت. والله العالم.

(المقام الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب بقاء التخيير لناسي القراءة في الأوليين ، وقال الشيخ في المبسوط ان نسي القراءة في الأولتين لم يبطل تخيره والأولى القراءة لئلا تخلو الصلاة منها وقال ابن أبي عقيل من نسي القراءة في الركعتين الأولتين وذكر في الأخيرتين سبح فيهما ولم يقرأ شيئا لأن القراءة في الركعتين الأولتين والتسبيح في الأخيرتين.

قال في الذكرى : وقد روى انه إذا نسي في الأولتين القراءة تعين في الأخيرتين ولم نظفر بحديث صريح في ذلك لكن روى محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) في ناسي الفاتحة لا صلاة له (١).

ونقل عن الشيخ في الخلاف تعين قراءة الحمد في الأخيرتين على ناسي القراءة في الأوليين

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من القراءة.

٤١٨

نقل ذلك عنه السيد السند في المدارك والمحدث الكاشاني في المفاتيح والمجلسي في البحار والذي نقل عنه الشهيد في الذكرى انه قال : ان نسي القراءة في الأولتين قرأ في الأخيرتين. وهو أعم من ذلك.

وكتاب الخلاف لا يحضرني الآن لكن بعض الأصحاب قد نقل عبارته بما هذا لفظه : تجب القراءة في الركعتين الأولتين وفي الأخيرتين والثالثة يتخير بين القراءة والتسبيح ولا بد من واحد منهما فإن نسي القراءة في الأولتين قرأ في الأخيرتين ، وروى (١) ان التخيير قائم. وقال الشافعي تجب قراءة الحمد في كل ركعة وقال مالك تجب القراءة في معظم الصلاة وقال داود وأهل الظاهر انما تجب في ركعة واحدة (٢) دليلنا إجماع الفرقة وأيضا قوله تعالى «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» (٣) وهذا قد قرأ وتكراره يحتاج إلى دليل. وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٤) «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب». يدل على ذلك أيضا لأنه لم يذكر التكرار. وروى علي بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الركعتين. الحديث». كما تقدم (٥) ثم قال ومن قال لا يبطل التخيير مع النسيان استدل بما رواه معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه

__________________

(١) في صحيحة معاوية بن عمار الآتية.

(٢) في المغني ج ١ ص ٤٨٥ «يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة في الصحيح من المذهب وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي ، وعن أحمد انها لا تجب إلا في ركعتين من الصلاة ونحوه عن النخعي والثوري وأبي حنيفة ، وعن الحسن انه ان قرأ في ركعة واحدة أجزأه وعن مالك ان قرأ في ثلاث أجزأه لأنها معظم الصلاة» وارجع أيضا إلى التعليقة ٢ ص ٣٩٨.

(٣) سورة المزمل ، الآية ٢٠.

(٤) في صحيح مسلم ج ١ ص ١٥٥ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة والبخاري باب وجوب القراءة للإمام والمأموم عن عبادة بن الصامت عن النبي «ص» «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».

(٥) ص ٤٠٠.

٤١٩

السلام) (١) قال : «قلت الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأولتين فيذكر في الركعتين الأخيرتين انه لم يقرأ؟ قال أتم الركوع والسجود؟ قلت نعم. قال اني اكره أن أجعل آخر صلاتي أولها». وانما قلنا الأحوط القراءة في هذه الحال لما رواه الحسين ابن حماد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له أسهو عن القراءة في الركعة الأولى؟ قال اقرأ في الثانية. قلت أسهو في الثانية؟ قال اقرأ في الثالثة. قلت أسهو في صلاتي كلها؟ قال إذا حفظت الركوع والسجود فقد تمت صلاتك». انتهى والظاهر من هذا الكلام ان حكمه أولا بالقراءة في الأخيرتين وان كان محتملا للوجوب إلا ان آخر كلامه يكشف عن كون ذلك على سبيل الأولوية والاحتياط لا على جهة التعيين كما نقله في المدارك وتبعه من تبعه عليه على عادتهم غالبا من حسن الظن به في ما ينقله ، ويؤيد ما قلناه ما ذكره في الذكرى حيث قال بعد ذكر رواية الحسين بن حماد المذكورة : وقال في الخلاف ان نسي القراءة في الأولتين قرأ في الأخيرتين واحتج بهذه الرواية وأورد رواية معاوية بن عمار الآتية دليلا على بقاء التخيير ثم جعل القراءة أحوط. انتهى وبذلك يتبين لك ما في نقل أولئك الفضلاء من القصور.

وأجاب في المختلف عن رواية الحسين بان الأمر بالقراءة لا ينافي التخيير فان الواجب المخير مأمور به. ونحوه الشهيد في الذكرى أيضا. وفيه ان ظاهر الأمر الإيجاب عينا والتخيير يحتاج إلى دليل من خارج ليخرج عن ظاهر الأمر.

والتحقيق في المقام ان ما استدلوا به على التخيير في الصورة المذكورة من صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة فالظاهر انه لا دلالة فيها على ما ادعوه لأن الظاهر من هذه الرواية وروايات أخر في معناها أيضا ان المراد بجعل آخر الصلاة أولها انما هو بقراءة الحمد والسورة في الأخيرتين كما سيأتي في مسألة المسبوق في باب صلاة الجماعة.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣٠ من القراءة.

٤٢٠