الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

وان لم ينقله لا يطابق ما ذكره كما لا يخفى.

وظاهر العلامة في المنتهى حمل اختلاف الأخبار على الفضيلة والكمال حيث ان المقام مقام الاستحباب ، قال : وهذه الأخبار وان اختلفت في الوجه الأول فلا يضر اختلافها إذ هو في فعل مستحب وذلك يحتمل اخلافه لا خلاف الأوقات والأحوال فتارة يبالغ الأئمة (عليهم‌السلام) في الأمر بالكمال وتارة يقتصر على ما يحصل معه بعض المندوب ولا استبعاد في ذلك. وأيده بالأخبار الدالة على عدم القنوت فيها بالكلية وهي ما رواه الشيخ عن عبد الملك بن عمرو (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) قنوت الجمعة في الركعة الأولى قبل الركوع وفي الثانية بعد الركوع؟ فقال لي لا قبل ولا بعد». وموثقة داود بن الحصين (٢) قال : «سمعت معمر بن أبي رئاب يسأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر عن القنوت في الجمعة فقال ليس فيها قنوت». قال بعد ذكر هذين الخبرين : فههنا قد اقتصر على فعل الصلاة من غير قنوت اشعارا باستحبابه وانه ليس فيها قنوت واجب. انتهى.

ومرجع كلامه (قدس‌سره) الى التخيير بين القنوت في الأولى خاصة كما هو مذهب الشيخ المفيد (قدس‌سره) واتباعه وان كان أقل فضلا وبين القنوتين كما هو المشهور وهو الأفضل وبين عدم القنوت بالكلية وهو المرتبة الخالية من الفضيلة بالمرة. وهو محتمل إلا ان ظاهر رواية أبي بصير وما اشتملت عليه من الجواب ينافيه فإنه لو كان المقام مقام تخيير لما اضرب (عليه‌السلام) عما افتى به أولا من القنوت في الركعة الأولى الذي افتى به سابقا وأمر بالقنوتين كما لا يخفى. واما خبر عبد الملك ابن عمرو وكذا خبر داود بن الحصين فما حملهما عليه من نفى الوجوب كما هو أحد احتمالي الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب محتمل إلا ان الظاهر هو حملهما على التقية (٣) كما

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥ من القنوت.

(٣) ارجع إلى التعليقة ١ ص ٣٥٧ و ٢ ص ٣٧٩.

٣٨١

هو أحد الحملين في التهذيب أيضا واقتصر عليه في الاستبصار ، على ان نفى الوجوب لا يدل على الترك بالكلية وانما يدل على الرخصة في ذلك. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ قد تقدم تصريح الأصحاب بأن أفضل ما يقال في القنوت كلمات الفرج ، بقي الكلام في جملة من المستحبات فيه أيضا :

منها ـ الجهرية في الجهرية والإخفاتية إماما كان أو منفردا واما المأموم فالأفضل له الإخفات به على المشهور ، وقال المرتضى والجعفي (رضي‌الله‌عنهما) انه تابع للصلاة في الجهر والإخفات. وقال ابن الجنيد : يستحب ان يجهر به الإمام ليؤمن من خلفه على دعائه. والقولان الأخيران بمحل من الضعف.

فاما ما يدل على القول المشهور فما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة (١) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) القنوت كله جهار». ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب حريز عن زرارة مثله (٢).

وبإسناده عن أبي بكر بن أبي سمال (٣) قال : «صليت خلف أبي عبد الله (عليه‌السلام) الفجر فلما فرغ من قراءته في الثانية جهر بصوته نحوا مما كان يقرأ وقال : اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا في الدنيا والآخرة انك على كل شي‌ء قدير».

واما ما يدل على استحباب الإخفات به للمأموم فما ورد في رواية أبي بصير (٤) من انه ينبغي للإمام ان يسمع من خلفه كل ما يقول ولا ينبغي لمن خلفه ان يسمعه شيئا مما يقول. ومثله رواية حفص بن البختري عن علي (عليه‌السلام) (٥). ونقل عن المرتضى والجعفي الاستدلال على ما نقل عنهما بعموم

قوله (عليه‌السلام) (٦) «صلاة النهار عجماء وصلاة الليل جهر». وفيه ان دليلنا خاص فيجب ان

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢١ من القنوت.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٦ من التشهد و ٥٢ من الجماعة.

(٦) مستدرك الوسائل الباب ٢١ من القراءة عن العوالي قال النبي (ص) «صلاة النهار عجماء» وللتعليقة تتمة في الاستدراكات.

٣٨٢

يخصص به العموم المذكور.

واما ما ذكره ابن الجنيد فإن أراد بقوله : «ليؤمن من خلفه على دعائه» لفظ «آمين» فقد تقدم القول فيه وانه مبطل للصلاة ، وان أراد الدعاء بالاستجابة فلا بأس به إلا انه لا ينافي استحباب ذلك للمنفرد أيضا.

واما ما رواه الشيخ في الموثق أو الضعيف عن علي بن يقطين (١) ـ قال : «سألت أبا الحسن الماضي (عليه‌السلام) عن الرجل هل يصلح له ان يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت؟ فقال ان شاء جهر وان شاء لم يجهر».

وما رواه في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل له ان يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت؟ فقال ان شاء جهر وان شاء لم يجهر».

وروى الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر مثله (٣) ـ فهو محمول على الجواز فلا ينافي ما دل على الاستحباب.

ومنها ـ تطويل القنوت لما رواه الصدوق (٤) قال «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أطولكم قنوتا في دار الدنيا أطولكم راحة يوم القيامة في الموقف».

وروى في كتاب ثواب الأعمال عن أبي بصير عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم‌السلام) عن أبي ذر (رضي‌الله‌عنه) (٥) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أطولكم قنوتا. الحديث».

وقال الشهيد في الذكرى (٦) ورد عنهم (عليهم‌السلام) «أفضل الصلاة ما طال قنوتها». قال (٧) وروى علي بن إسماعيل الميثمي في كتابه بإسناده إلى الصادق (عليه‌السلام) قال : «صل يوم الجمعة الغداة بالجمعة والإخلاص واقنت في الثانية بقدر

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٠ من القنوت.

(٤ و ٥ و ٦ و ٧) الوسائل الباب ٢٢ من القنوت.

٣٨٣

ما قمت في الركعة الأولى».

أقول : وقد نقل شيخنا المجلسي في كتاب البحار جملة من قنوتات الأئمة (عليهم‌السلام) الطويلة وعقد لها بابا على حد فقال (١) : باب آخر في القنوتات الطويلة المروية عن أهل البيت (عليهم‌السلام).

وينبغي ان يستثني من ذلك صلاة الجماعة إلا مع حب المأمومين لذلك لما استفاض في الأخبار من استحباب الإسراع فيها.

ومنها ـ التكبير له لما رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «التكبير في صلاة الفرض الخمس الصلوات خمس وتسعون تكبيرة : منها ـ تكبيرة القنوت خمس». ورواه أيضا بطريق آخر (٣) وفسر فيه التكبيرات وعد منها خمس تكبيرات القنوت في خمس صلوات.

وما رواه الشيخ عن الصباح المزني (٤) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام): خمس وتسعون تكبيرة في اليوم والليلة للصلوات : منها ـ تكبير القنوت».

ونقل عن الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) نفيه ، قال الشيخ في الاستبصار بعد نقل هذه الأخبار : هذه الروايات التي ذكرناها ينبغي ان يكون العمل عليها وبها كان يفتي شيخنا المفيد (قدس‌سره) قديما ثم عن له في آخر عمره ترك العمل بها والعمل على رفع اليدين بغير تكبير ، والأول أولى لوجود الروايات بها وما عدا هذا لست اعرف به حديثا أصلا. انتهى.

أقول : ليت شعري كيف لم يسأله عن ذلك وهو شيخه وكان ذلك في حياتهما (رضوان الله عليهما)؟ هذا ومن المعلوم ان مثل الشيخ المفيد (قدس‌سره) في جلالة شأنه وعلو مكانه لا يخرج عن هذه الأخبار من غير دليل فكيف لم يسأله عن ذلك حتى انه يعترض عليه هنا؟

__________________

(١) ج ١٨ الصلاة ص ٣٨٠.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٥ من تكبيرة الإحرام.

٣٨٤

قال في الذكرى : والمفيد لا يكبر للقنوت ويكبر عنده للقيام من التشهد فالتكبير عنده اربع وتسعون والروايات تخالفه ، مع انه قد روى مشهورا بعدة طرق : منها ـ رواية محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) في القائم من التشهد يقول : «بحول الله وقوته أقوم واقعد». وفي بعضها (٢) «بحولك وقوتك أقوم واقعد». وفي بعضها (٣) «واركع واسجد». ولم يذكر في شي‌ء منها التكبير. والأقرب سقوطه للقيام وثبوته للقنوت وبه كان يفتي المفيد (قدس‌سره) وفي آخر عمره رجع عنه إلى المذكور أولا ، قال الشيخ ولست اعرف بقوله هذا حديثا أصلا. انتهى.

أقول : اما الاعتراض عليه (قدس‌سره) بقوله بالتكبير للقيام من التشهد فقد تقدم العذر عنه في آخر المقام الثاني من الفصل السادس في السجود (٤) وبينا الدليل في ما ذهب اليه من التكبير المذكور. واما نفيه تكبير القنوت فلم نقف على وجهه. والله العالم

ومنها ـ رفع يديه تلقاء وجهه مبسوطتين يستقبل بباطنهما السماء وظهورهما الأرض ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقال الشيخ المفيد يرفع يديه حيال صدره. وحكى في المعتبر قولا بجعل باطنهما إلى الأرض. وذكر ابن إدريس انه يفرق الإبهام عن الأصابع. قالوا ويستحب نظره إلى بطونهما. وعن الجعفي انه يمسح وجهه بيديه ويمرهما على لحيته وصدره.

أقول : اما ما ذكروه من رفع اليدين تلقاء وجهه مبسوطتين يستقبل بباطنهما السماء فلم أقف له في الأخبار على دليل ، والذي وقفت عليه صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في صلاة الوتر وهي ما رواه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الصحيح (٥) قال : «تدعو في الوتر على العدو وان شئت سميتهم وتستغفر وترفع يديك في الوتر حيال وجهك وان شئت تحت ثوبك». وهي مع ورودها في خصوص الوتر قاصرة

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٣ من السجود.

(٤) ص ٣١٠ و ٣١١.

(٥) الوسائل الباب ١٣ و ١٢ من القنوت.

٣٨٥

عن الدلالة على المدعى.

وروى في الفقيه (١) عن أبي حمزة الثمالي قال : «كان علي بن الحسين (عليهما‌السلام) يقول في آخر وتره وهو قائم : رب اسأت وظلمت نفسي وبئس ما صنعت وهذه يداي جزاء بما صنعتا قال ثم يبسط يديه جميعا قدام وجهه ويقول : وهذه رقبتي خاضعة لك لما أتت. قال ثم يطأطئ رأسه ويخضع برقبته ثم يقول : وها انا ذا بين يديك. إلى آخر الدعاء».

ومفهوم هذا الخبر انه انما يبسط يديه جميعا قدام وجهه عند قوله «وهذه يداي (٢)» مع ان هذا الدعاء في قنوت الوتر الذي يستحب التطويل فيه بالدعاء ، والأدعية المروية فيه والموظفة له طويلة ، وهذا الكلام انما هو في آخره كما صرح به في الخبر ، فدلالة هذا الخبر على ان بسط يده انما هو في هذه الحال مشعر بكونهما في وقت القنوت ليستا كذلك وهو خلاف كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الباب.

وقال في الذكرى : يستحب رفع اليدين تلقاء وجهه مبسوطتين يستقبل ببطونهما السماء وبظهورهما الأرض ، قاله الأصحاب وروى عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «وترفع يديك حيال وجهك وان شئت تحت ثوبك وتتلقى بباطنهما السماء». ونحو ذلك ذكر الفاضل الخراساني في الذخيرة. ولم أقف على رواية عن عبد الله بن سنان بهذه الصورة والذي وقفت عليه انما هي الرواية الواردة في الوتر على نحو ما ذكرته.

واما ما ذكره الشيخ المفيد (قدس‌سره) ـ من جعل اليدين حيال صدره وكذا ما نقله في المعتبر وما ذكره ابن إدريس ـ فلم أقف بعد التتبع على ما يدل عليه. واما ما ذكروه من استحباب النظر إليهما فظاهر كلام المحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى يدل على وجود النص به ، وما ذكروه وان لم يرد به نص إلا انه لا بأس به

__________________

(١) ج ١ ص ٣١١.

(٢) الظاهر «وهذه رقبتي».

(٣) الوسائل الباب ١٢ من القنوت إلى قوله «تحت ثوبك» كما ذكره «قدس‌سره».

٣٨٦

لحبس النظر لكن لا ينبغي اعتقاد استحبابه وتوظيفه.

واما ما نقل عن الجعفي ـ من مسح وجهه بيديه ويمرهما على لحيته وصدره بعد القنوت ـ فلم أقف فيه على خبر بل ظاهر التوقيع المروي عن صاحب الزمان (عليه‌السلام) خلافه وهو ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ونحوه في قرب الاسناد (١) «انه كتب إلى صاحب الزمان (عليه‌السلام) يسأله عن القنوت في الفريضة إذا فرغ من دعائه ان يرد يديه على وجهه وصدره للحديث الذي روى ان الله عزوجل أجل من ان يرد يدي عبد صفرا بل يملأهما من رحمته أم لا يجوز فان بعض أصحابنا ذكر انه عمل في الصلاة؟ فأجاب (عليه‌السلام) رد اليدين من القنوت على الرأس والوجه غير جائز في الفرائض والذي عليه العمل فيه إذا رجع يديه في قنوت الفريضة وفرغ من الدعاء ان يرد بطن راحتيه مع صدره تلقاء ركبتيه على تمهل ويكبر ويركع. والخبر صحيح وهو في نوافل النهار والليل دون الفرائض والعمل به فيها أفضل».

قال في المنتهى : هل يستحب ان يمسح وجهه بيديه عند الفراغ من الدعاء؟ قيل نعم ولم يثبت. وقال في الذكرى : ويمسح وجهه بيديه ويمرهما على لحيته وصدره قاله الجعفي وهو مذهب بعض العامة (٢). انتهى.

وكيف كان فما اشتمل عليه الخبر من التفصيل وان كان غير مشهور بين الأصحاب إلا ان العمل به متيقن إذ لا معارض له في ذلك فيخص الاستحباب بالنافلة ويكره ذلك في الفريضة. والله العالم.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من القنوت عن الاحتجاج وفي البحار ج ١٨ الصلاة ص ٣٧٧ عن قرب الاسناد.

(٢) في شرح النووي على صحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٦ «ما ملخصه : يستحب الجهر بالقنوت في الصلاة الجهرية ورفع اليدين فيه ولا يمسح الوجه وقيل يمسح واتفقوا على كراهة مسح الصدر».

٣٨٧

الفصل الثامن

في ما يعمل في الركعتين الأخيرتين من الرباعية وثالثة المغرب اتفق الأصحاب (رضوان الله عليهم) على التخيير في المواضع المشار إليها بين التسبيح وقراءة الفاتحة وانما وقع الخلاف في الأفضل من الأمرين المذكورين على أقوال :

أحدها ـ القول بأفضلية التسبيح مطلقا وهو مذهب ابن ابي عقيل والصدوقين وابن إدريس ، واليه مال جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي وشيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني والشيخ محمد بن ماجد من مجتهدي علماء البحرين ، وهو المختار عندي.

وثانيها ـ القول بأفضلية القراءة مطلقا ، ذهب إليه أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي واختاره الشهيد في اللمعة واليه مال السيد السند في المدارك.

وثالثها ـ القول بالتخيير مطلقا من غير تفصيل ، وهو مذهب الشيخ في النهاية والجمل والمبسوط ونقله شيخنا المجلسي (قدس‌سره) عنه في أكثر كتبه ، وهو ظاهر العلامة في الإرشاد والمختلف والمحقق في المعتبر.

ورابعها ـ القول بأفضلية القراءة للإمام والمساواة لغيره من منفرد أو مأموم واختاره الشيخ في الاستبصار والعلامة في القواعد وقبله المحقق في الشرائع واختاره أيضا المحقق الشيخ على في شرح القواعد ومتعلقات المختصر ، واليه ذهب الشهيد في البيان واختاره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرحه على الإرشاد.

وخامسها ـ القول بأفضلية القراءة للإمام وأفضلية التسبيح للمأموم وهو مذهب العلامة في المنتهى.

وسادسها ـ القول بأفضلية القراءة للإمام والتسبيح للمنفرد ، اختاره الشهيد في الدروس واستحسنه العلامة في التذكرة على ما نقل عنه.

٣٨٨

وسابعها ـ أفضلية التسبيح للإمام إذا تيقن ان ليس معه مسبوق وأفضلية القراءة إذا تيقن دخول مسبوق أو جوزه والقراءة للمأموم والتخيير للمنفرد ، ذهب اليه ابن الجنيد على ما نقل عنه.

واما الأخبار الواردة في المقام فهي لا تخلو من التناقض وعدم الالتئام ومن ثم اختلفت فيها كلمات علمائنا الأعلام باختلاف الأذهان والأفهام.

والذي يدل على القول الأول وهو الذي عليه من بينها المعول جملة من الأخبار :

الأول ـ ما رواه الصدوق (عطر الله مرقده) في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال قال : «لا تقرأن في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير امام. قال قلت فما أقول فيهما؟ قال ان كنت إماما أو وحدك فقل «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله» ثلاث مرات تكمله تسع تسبيحات ثم تكبر وتركع».

الثاني ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «عشر ركعات : ركعتان من الظهر وركعتان من العصر وركعتا الصبح وركعتا المغرب وركعتا العشاء الآخرة لا يجوز الوهم فيهن ومن وهم في شي‌ء منهن استقبل الصلاة استقبالا. وفوض إلى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فزاد النبي في الصلاة سبع ركعات هي سنة ليس فيهن قراءة انما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء فالوهم انما يكون فيهن».

الثالث ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال «كان الذي فرض الله على العباد من الصلاة عشر ركعات وفيهن القراءة وليس فيهن وهم يعني سهو فزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سبعا وفيهن الوهم وليس فيهن قراءة».

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٢) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ١ من الخلل في الصلاة.

٣٨٩

الرابع ـ ما رواه الشيخ عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «ان أدرك من الظهر أو من العصر أو من العشاء ركعتين وفاتته ركعتان قرأ في كل ركعة مما أدرك خلف الإمام في نفسه بأم الكتاب وسورة. الى ان قال : فإذا سلم الامام قام فصلى ركعتين لا يقرأ فيهما لأن الصلاة انما يقرأ فيها في الأولتين في كل ركعة بأم الكتاب وسورة ، وفي الأخيرتين لا يقرأ فيهما انما هو تسبيح وتكبير وتهليل ودعاء ليس فيهما قراءة. وان أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام فإذا سلم الامام قام فقرأ بأم الكتاب وسورة ثم قعد فتشهد ثم قام فصلى ركعتين ليس فيهما قراءة». وروى هذه الرواية في الفقيه عن زرارة مثله (٢) بأدنى تفاوت لا يخل بالمقصود.

أقول : لا يخفى ما في دلالة هذه الأخبار الصحاح من الصراحة في أفضلية التسبيح بل تعينه مطلقا اماما كان أو غيره سيما الصحيحة الاولى ، وظاهر هذه الأخبار بل صريحها انما هو تعين التسبيح دون الأفضلية للنهي عن القراءة والنفي لها إلا انها لما اتفقت كلمة الأصحاب على التخيير بينه وبين القراءة وعضدها بعض الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى فلا مندوحة عن تأويلها بما يرجع إلى ذلك بحمل النهي على الكراهة والنفي على نفي الأفضلية الراجع إلى أقلية الثواب في القراءة. وكيف كان فهي صريحة في الرد على ما اشتهر بين أصحابنا من أصالة القراءة في هذا الموضع وان التسبيح انما هو بدل منها وقائم مقامها ، ويشير إلى ذلك ما يأتي (٣) في صحيحة عبيد بن زرارة ان شاء الله تعالى مما سنشير إليه ثمة.

فإن قيل : من الجائز حمل النهي والنفي هنا على النهي عن تحتم القراءة ووجوبها فمعنى «لا تقرأن» يعني على جهة الحتم والتعيين كما في الأوليين ، وكذلك «ليس فيهن قراءة» يعني متحتمة متعينة.

قلت : فيه (أولا) ان قوله (عليه‌السلام) في الصحيحة الثانية والرابعة «إنما

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤٧ من الجماعة.

(٣) ص ٣٩٣.

٣٩٠

هو تسبيح وتكبير. إلى آخره» الدال على حصر الموظف في ذلك يمنع مما ذكرت.

و (ثانيا) ـ انه لو كان النهي عن القراءة في الصحيحة بقوله «لا تقرأن» مؤكدا بالنون انما توجه إلى اعتقاد وجوب القراءة وتحتمها دون أصل القراءة لكان الأظهر في جواب السائل حين قال «فما أقول؟» ان يقال له انك مخير بين القراءة والتسبيح لا ان يخص الجواب بالتسبيح المؤذن بتعيينه.

وبالجملة فدلالة هذه الأخبار مع صحة أسانيدها في المدعى أظهر من ان ينكر إلا ان أصحابنا في كتبهم المبسوطة لم يلموا بها وان ذكر بعضهم منها خبرا واحدا.

الخامس ـ ما رواه في الفقيه بسند صحيح إلى محمد بن عمران العجلي (١) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) لأي علة صار التسبيح في الركعتين الأخيرتين أفضل من القراءة؟ فذكر (عليه‌السلام) حديث المعراج وصلاة الملائكة خلف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى ان قال : وصار التسبيح أفضل من القراءة في الأخيرتين لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما كان في الأخيرتين ذكر ما رأى من عظمة الله عزوجل فدهش فقال «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فلذلك صار التسبيح أفضل من القراءة».

السادس ـ ما رواه في كتاب العلل عن محمد بن أبي حمزة (٢) قال «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) لأي شي‌ء صار التسبيح في الأخيرتين أفضل من القراءة؟ قال لانه لما كان في الأخيرتين ذكر ما رأى من عظمة الله تعالى فدهش فقال «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فلتلك العلة صار التسبيح أفضل من القراءة».

أقول : والتقريب في هذين الخبرين ان قضية التعليل عموم الحكم لجميع المصلين من امام ومأموم ومنفرد ، إذ الحكم راجع إلى الصلاة من حيث هي بمعنى ان التسبيح فيها يرجح على القراءة بهذا الوجه ولا سيما الامام حيث ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٥ و ٥١ من القراءة.

٣٩١

يوم سبح كان إماما للملائكة ، وذلك فان هذا الخبر قد تضمن أيضا السؤال عن علة الجهر قبل ان يسأله عن علة أفضلية التسبيح وفي الجواب عن علة الجهر تصريح بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان اماما يصلي بالملائكة فليراجع.

السابع ـ ما رواه في الفقيه عن الرضا (عليه‌السلام) (١) ونحوه في كتاب العلل عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «انما جعل القراءة في الركعتين الأولتين والتسبيح في الأخيرتين للفرق بين ما فرضه الله تعالى من عنده وبين ما فرضه الله من عند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

والتقريب فيه ما تقدم من ان قضية التعليل العموم لكل مصل فكما ان الحكم في الأوليين عام بلا خلاف فكذا في الأخيرتين بمقتضى الخبر المذكور لرجوعه إلى الصلاة من حيث هي.

الثامن ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما فقل : الحمد لله وسبحان الله والله أكبر». هكذا نقله في الاستبصار (٤) وفي التهذيب (٥) أسقط منه لفظ «الأخيرتين» والظاهر انه سهو من قلمه.

وقد أجيب عن الاستدلال بهذا الخبر بان قوله «لا تقرأ فيهما» نفي لا نهى والجملة حالية من الضمير البارز في قوله «إذا قمت» اي حال كونك غير قارئ. وإلى هذا يشير كلام المحقق في المعتبر حيث قال : وقوله «لا تقرأ» ليس نهيا بل بمعنى «غير» كأنه قال «غير قارئ». انتهى. فجواب الشرط حينئذ قوله «فقل. إلى آخره» ولهذا قرنه بالفاء وجرد جملة النفي عنها تنبيها على ذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٢) البحار ج ١٨ الصلاة ص ٣٥٢.

(٣) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٤) ج ١ ص ٣٢٢.

(٥) ج ١ ص ١٦٢ ولفظ «الأخيرتين» موجود فيه.

٣٩٢

وأجاب بعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم) عن هذا الجواب بان قوله : «لا تقرأ فيهما» جملة خبرية وقعت صفة للركعتين لأنهما معرفتان بلام الجنس وهو قريب المسافة من النكرات لعدم التوقيت فيه والتعيين كما في قوله : «ولقد أمر على اللئيم يسبني» قال العلامة الزمخشري في تفسير الفاتحة في قوله تعالى «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» : (فان قلت) كيف يصح ان يكون «غير» صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وان أضيف إلى المعارف؟ (قلت) «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» لا توقيت فيه فهو كقوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني. انتهى قال : والوجه في حسن هذا الوصف وملاحته في هذا المقام ما أشير إليه في صحيحتي زرارة بل صحاحه من ان الأخيرتين لا قراءة فيهما بالأصالة بل الثابت فيهما بالأصالة هو التسبيح واما القراءة فهي مرجوحة وان أجزأت لاشتمالها على التحميد والدعاء لا من حيث اختصاصها بالموضع من حيث هي قراءة كما أشير إليه في صحيحة عبيد بن زرارة المروية في التهذيب (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الركعتين الأخيرتين من الظهر؟ قال تسبح وتحمد الله وتستغفر لذنبك وان شئت فاتحة الكتاب فإنها تحميد ودعاء». انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد نفيس وعليه فيكون جزاء الشرط هو جملة قوله : «فقل» وجملة «لا تقرأ» خبرية وقعت صفة للركعتين. ووصف هاتين الركعتين بعدم القراءة فيهما مؤذن بمرجوحية القراءة فيهما

واختار المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى جعل جملة «لا تقرأ» طلبية قال : لبعد ارادة غير النهى منه كما اوله به جماعة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) : منهم ـ المحقق في المعتبر فقال ان «لا» فيه بمعنى «غير» كأنه قال «غير قارئ» مع ان التجوز في قوله «تقرأ» بإرادة الإرادة للقراءة أو الحمل على إضمار كلمة «تريد» أقل تكلفا مما ذكروه والكل خلاف الظاهر. إلى ان قال : وربما يستشهد لترجيح خلاف النهي بإدخال فاء الجواب على كلمة «قل» ولو أريد النهي لكان حقها ان تقترن به. ويدفعه بعد التنزل لتسليم تعين كونها للجواب تكثر الإشارة في ما سلف من هذا الكتاب

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

٣٩٣

إلى قلة ضبط الكتابة للأخبار في خصوص الواو والفاء ففي الغالب يصحف أحدهما بالآخر ويكتب الحديث بأحدهما في كتاب أو في موضع وبالآخر في غيره حتى من المصنف الواحد فلا وثوق بهذه الشهادة في مقام التعارض. انتهى.

ولا يخفى عليك ان ما نقلناه عن شيخنا المتقدم أقرب في الجواب لانطباقه على ما هو المتبادر من سوق الكلام سيما كون الجملة الجزائية هي قوله «فقل» فان ما ذكره (رحمه‌الله) من الجواب هنا عن ذلك وان احتمل إلا ان فتح هذا الباب يؤدي إلى رفع الوثوق بالاخبار والاعتماد عليها فالواجب ان لا يصار اليه إلا مع عدم المندوحة.

التاسع ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «وان كنت خلف امام فلا تقرأن شيئا في الأولتين وأنصت لقراءته ولا تقرأن شيئا في الأخيرتين ، فإن الله عزوجل يقول للمؤمنين «(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ـ يعني في الفريضة خلف الامام ـ (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)» (٢) والأخيرتان تبع للأولتين». وهذه الرواية نقلها ابن إدريس (قدس‌سره) في مستطرفات السرائر (٣) تتمة لصحيحة زرارة الاولى (٤).

وحاصل معنى هذه الرواية النهي عن القراءة خلف الإمام إذا دخل معه في أولتيه والأمر بالإنصات لقراءته ، والنهي عن القراءة في أخيرتيه أيضا من حيث كون الأخيرتين تبعا للأولتين. وملخصه انه إذا دخل معه في أولتيه فلا يقرأ فيهما ولا في الأخيرتين ، والعلة في النهي في الأولتين من حيث قضية الإنصات وفي الأخيرتين التبعية.

العاشر ـ ما رواه الصدوق في كتاب عيون الأخبار بسنده إلى ابن أبي الضحاك (٥) «انه صحب الرضا (عليه‌السلام) من المدينة إلى مرو فكان يسبح في الأخراوين يقول : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» ثلاث مرات ثم يركع». وربما سقط

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من الجماعة.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ٢٠٣.

(٣) ص ٤٧١.

(٤) ص ٣٨٩.

(٥) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

٣٩٤

من بعض نسخه لفظ «والله أكبر».

الحادي عشر ـ ما رواه المحقق في المعتبر عن زرارة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الأخيرتين من الظهر قال تسبح وتحمد الله وتستغفر لذنبك».

الثاني عشر ـ ما رواه الشيخ عن محمد بن قيس في الصحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) إذا صلى يقرأ في الأولتين من صلاته الظهر سرا ويسبح في الأخيرتين من صلاته الظهر على نحو من صلاته العشاء ، وكان يقرأ في الأولتين من صلاته العصر سرا ويسبح في الأخيرتين على نحو من صلاته العشاء».

الثالث عشر ـ ما رواه أيضا في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل يدرك الامام وهو يصلي اربع ركعات وقد صلى الامام ركعتين؟ قال يفتتح الصلاة ويدخل معه ويقرأ خلفه في الركعتين. إلى ان قال : فإذا سلم الامام ركع ركعتين يسبح فيهما ويتشهد ويسلم».

الرابع عشر ـ ما رواه المحقق في المعتبر عن علي (عليه‌السلام) (٤) انه قال : «اقرأ في الأولتين وسبح في الأخيرتين».

الخامس عشر ـ ما رواه في الكافي أيضا عن زرارة (٥) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) ما يجزئ من القول في الركعتين الأخيرتين؟ قال ان تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتكبر وتركع».

فهذه جملة من الأخبار واضحة الدلالة في ما ادعيناه وجملة منها ظاهرة بل صريحة

__________________

(١) في المسألة الثالثة من المسائل الأربع في القراءة وفي البحار عنه ج ١٨ الصلاة ص ٣٥٢ ومستدرك الوسائل الباب ٣١ من القراءة إلا أنه في النسخة المطبوعة منه المؤرخة ١٣١٨ «عبيد بن زرارة» فتتحد مع الرواية المتقدمة ص ٣٩٣ ولكنها فاقدة لذيلها.

(٢ و ٤) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٢٩ من صلاة الجمعة.

(٥) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

٣٩٥

في تعين التسبيح مطلقا وقد نص بعضها على الامام بخصوصه وجملة قد صرحت بالأفضلية مطلقا كما أشرنا إليه آنفا ، وجملة قد تضمنت الأمر بذلك المؤذن لا أقل بالرجحان والأفضلية ، وجملة قد تضمنت حكاية صلواتهم (عليهم‌السلام) ومن الظاهر انهم كانوا أئمة في تلك الصلوات لأنهم أشد مواظبة على سنة الجماعة والناس أشد حرصا ومواظبة على الاقتداء بهم ولا سيما صلاة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالملائكة وصلاة الرضا (عليه‌السلام) في طريق خراسان. وهذا كله بحمد الله سبحانه ظاهر لا يقبل الإنكار وبين لا يعتريه الاستتار.

السادس عشر ـ ما رواه الشيخ (قدس‌سره) بسنده عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا كنت امام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الأولتين وعلى الذين خلفك ان يقولوا «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وهم قيام فإذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك ان يقرأوا فاتحة الكتاب وعلى الامام التسبيح مثل ما يسبح القوم في الركعتين الأخيرتين».

وهذا الخبر استدل به بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ، والظاهر ان محل الاستدلال هو قوله «وعلى الامام التسبيح. إلخ» وحينئذ فهو دليل على أفضلية التسبيح بالنسبة إلى الامام لا مطلقا كما هو ظاهر المستدل ، ولذلك ان الفاضل الخراساني في الذخيرة جعله من الأخبار الدالة على أفضلية التسبيح للإمام. وأياما كان فالظاهر ان معنى قوله : «فإذا كان في الركعتين الأخيرتين» يعني إذا كان الائتمام في الأخيرتين بأن يكون المأمومون مسبوقين بركعتين ففرض من صلى خلفه القراءة لأنهما اولتان بالنسبة إليهم ، والواجب عليهم القراءة هنا على الأظهر كما يأتي بيانه في محله. وقوله أخيرا «في الركعتين الأخيرتين» اما ان يتعلق بالظرف اعنى قوله «على الامام» ويكون معنى قوله «مثل ما يسبح القوم» إشارة إلى ما تقدم في صدر الحديث من

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

٣٩٦

التسبيح وقت قراءة الامام ، وحاصله حينئذ انه على الامام ان يسبح في الأخيرتين مثل تسبيح القوم خلفه في الأولتين ، واما ان يتعلق بالفعل اعني «يسبح» ويكون المعنى حينئذ : وعلى الامام ان يسبح في تلك الركعتين الأخيرتين اللتين على المأمومين المسبوقين ان يقرأوا فيهما مثل تسبيح المأمومين فيهما لو كانوا غير مسبوقين. ولعل المستدل بالرواية على الأفضلية مطلقا ناظر إلى هذا المعنى. وكيف كان فالظاهر عدم جواز حمل الركعتين الأخيرتين في قوله : «فإذا كان في الركعتين الأخيرتين» على ان يكونا أخيرتين بالنسبة إلى الامام والمأموم لاستلزامه حينئذ أولوية القراءة فيهما للمأمومين والتسبيح للإمام كما هو ظاهر اللفظ بناء على ذلك ولا قائل به بل لا دليل عليه من خارج. والاعتماد في إثباته على مجرد هذا الاحتمال لا يخلو من الاشكال بل الاختلال ، فإنه يلزم من ذلك حصول الحشو في الكلام وهو مما يجب ان يصان عنه كلام الامام (عليه‌السلام) كما لا يخفى على ذوي الأذهان والافهام.

السابع عشر ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأولتين فيذكر في الركعتين الأخيرتين انه لم يقرأ؟ قال أتم الركوع والسجود؟ قلت نعم. قال اني اكره أن أجعل آخر صلاتي أولها». استدل به شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين على استحباب التسبيح للمنفرد.

وقال العلامة في المختلف ـ بعد الاستدلال بالخبر المذكور على عدم تعين القراءة في الأخيرتين لناسيهما في الأولتين ردا على من ذهب إلى ذلك ـ ما صورته : وهذا الحديث كما يدل على عدم وجوب القراءة فإنه دال على أولوية التسبيح أيضا كما اختاره ابن أبي عقيل.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول الأول.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

٣٩٧

واما ما يدل على القول الثاني فرواية محمد بن حكيم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) أيما أفضل القراءة في الركعتين الأخيرتين أو التسبيح؟ فقال القراءة أفضل».

وأنت خبير بان هذه الرواية لضعف سندها وانحطاط عددها تقصر عن معارضة ما قدمناه من الأخبار ولا سيما على مذاق أصحاب هذا الاصطلاح ، والظاهر بل المتعين حملها على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية رأس كل بلية ، وذلك لأن تعيين القراءة في الأخيرتين مذهب جمهور الجمهور ، فان المنقول عن الشافعي والأوزاعي واحمد في إحدى الروايتين وجوب القراءة في الأخيرتين ، وعن مالك وجوبها في معظم الصلاة ، وعن الحسن في كل ركعة ، وعن أبي حنيفة القول بالتخيير مع فضيلة القراءة (٢) فالحمل على التقية ظاهر لا ستر عليه.

واما ما ذكره شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في البحار ـ حيث نقل عن العلامة في

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من القراءة. والرواية عن أبي الحسن «ع».

(٢) في شرح النووي على صحيح مسلم ج ٤ ص ١٠٣ «قال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة : لا تجب القراءة في الركعتين الأخيرتين بل هو بالخيار ان شاء قرأ وان شاء سبح وان شاء سكت. والصحيح الذي عليه جمهور العلماء من السلف والخلف وجوب الفاتحة في كل ركعة.» وفي بداية المجتهد ج ١ ص ١١٥ «أوجب بعضهم قراءة الفاتحة في كل ركعة ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة ، وبالأول قال الشافعي وهي أشهر الروايات عن مالك وقد روى عنه انه ان قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته. واما من يرى انه تجزئ في ركعة فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة. واما أبو حنيفة فيستحب عنده التسبيح فيهما «الركعتين الأخيرتين» دون القراءة والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها» وفي نيل الأوطار ج ٣ ص ١٧٩ «عن أبي حنيفة في الأخيرتين ان شاء قرأ وان شاء سبح وان شاء سكت» وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ١١١ مثله.

٣٩٨

المنتهى القول بأفضلية القراءة للإمام والتسبيح للمأموم ، قال وقواه في التذكرة ، ثم قال وهذا القول لا يخلو من قوة إذ به يجمع بين أكثر الأخبار وان كان بعض الأخبار يأبى عنه. وذهب جماعة من محققي المتأخرين إلى ترجيح التسبيح مطلقا وحملوا الأخبار الدالة على أفضلية القراءة للإمام أو مطلقا على التقية لأن الشافعي واحمد ، يوجبان القراءة في الأخيرتين ومالكا يوجبها في ثلاث ركعات من الرباعية وأبا حنيفة خير بين الحمد والتسبيح وجوز السكوت (١) ويرد عليه ان التخيير مع أفضلية القراءة أو التفصيل بين الامام والمنفرد مما لم يقل به أحد من العامة فلا تقبل الحمل على التقية نعم يمكن حمل أخبار التسوية المطلقة على التقية لقول أبي حنيفة بها. انتهى ـ

ففيه نظر من وجوه (أحدها) انه لا يخفى على من لاحظ الأخبار التي قدمناها وتدبر في ما ذيلناها به من التحقيق الرشيق انه لا معدل عن العمل بها والقول بما دلت عليه وهذه الرواية ظاهرة بل صريحة في المخالفة فلم يبق إلا ردها لقصورها عن المعارضة وليس بعد العمل بما دلت عليه هذه الرواية إلا رد تلك الأخبار المستفيضة المتكاثرة الصحيحة الصريحة في ما ادعينا وفيه من الشناعة ما لا يتجشمه محصل ولا يتفوه به قائل ، وحينئذ فيجب رد هذه الرواية إلى قائلها كما أمروا به (عليهم‌السلام).

و (ثانيها) ـ انه مع تسليم صحة ما ذكره في نقل مذاهب العامة من عدم تصريحهم بالأفضلية فإنه لا ينافي حمل الرواية المذكورة وأمثالها على التقية ، وذلك فإنه يمكن حمل أخبار الفاتحة على التقية باعتبار ان المتبادر من اخبار الأمر بالفاتحة للإمام هو الوجوب كما صرح به الفاضل الأردبيلي (قدس‌سره) في ما يأتي من نقل كلامه ، ولا ينافيه لفظ الأفضلية في رواية محمد بن حكيم المذكورة الدالة على ان القراءة أفضل مطلقا لأن الواجب أفضل من المندوب البتة إلا فيما استثنى ، وحينئذ فتكون التقية باعتبار مذهب الشافعي واتباعه.

__________________

(١) ارجع إلى التعليقة ٢ ص ٣٩٨.

٣٩٩

و (ثالثها) ـ ان مذهب أبي حنيفة هو التخيير مع أفضلية القراءة كما نص عليه المخذول المهان فضل الله بن روزبهان الخنجي في كتابه الذي رد فيه على كشف الحق ونهج الصدق حيث قال (١) : ومذهب أبي حنيفة أنه يقرأ في الأخيرتين بالفاتحة فقط وهذا أفضل وان سبح أو سكت جاز. انتهى. والعجب انه كيف خفي ذلك على شيخنا المشار اليه مع وفور اطلاعه.

وربما يستدل لهذا القول أيضا بما رواه الطبرسي في الاحتجاج من التوقيعات الخارجة من الناحية المقدسة في أجوبة الحميري (٢) «انه كتب إليه يسأله عن الركعتين الأخيرتين قد كثرت فيهما الروايات فبعض يرى أن قراءة الحمد فيهما أفضل وبعض يرى ان التسبيح فيهما أفضل فالفضل لأيهما لنستعمله؟ فأجاب (عليه‌السلام) قد نسخت قراءة أم الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح ، والذي نسخ التسبيح قول العالم (عليه‌السلام) : كل صلاة لا قراءة فيها خداج إلا للعليل ومن يكثر عليه السهو فيتخوف بطلان الصلاة عليه».

وأنت خبير بما في هذا الخبر من الإجمال والاشكال الذي لا يهتدى منه إلى وجه يبنى عليه في هذا المجال وما هذا شأنه فلا يعترض به ما قدمناه من الأخبار.

واما القول الثالث وهو التخيير مطلقا من غير تفصيل فلا اعرف عليه دليلا من الأخبار سوى رواية علي بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الركعتين الأخيرتين ما اصنع فيهما؟ قال ان شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وان شئت فاذكر الله فهما سواء. قال قلت فأي ذلك أفضل؟ قال هما والله سواء ان شئت سبحت وان شئت قرأت».

وأنت خبير بما هي عليه من الضعف فلا تصلح لمعارضة خبر واحد من تلك

__________________

(١) في التعليق على المسألة الحادية عشرة من الفصل الثاني في الصلاة من المسألة الثامنة في الفقه.

(٢) الوسائل الباب ٥١ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٤٢ من القراءة.

٤٠٠