الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «الجبهة كلها من قصاص شعر الرأس إلى الحاجبين موضع السجود فأيما سقط من ذلك إلى الأرض أجزأك مقدار الدرهم ومقدار طرف الأنملة».

وما رواه في التهذيب عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن حد السجود؟ قال ما بين قصاص الشعر إلى موضع الحاجب ما وضعت منه أجزأك».

وعن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «الجبهة إلى الأنف أي ذلك أصبت به الأرض في السجود أجزأك والسجود عليه كله أفضل».

وما رواه ابن بابويه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن المريض كيف يسجد؟ فقال على خمرة أو على مروحة أو على سواك يرفعه اليه وهو أفضل من الإيماء ، إنما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تعبد من دون الله وانا لم نعبد غير الله قط فاسجدوا على المروحة وعلى السواك وعلى عود».

ولم نقف للقول الآخر على دليل معتمد ، قيل لعل مستند ابن بابويه وابن إدريس ما رواه الكليني في الحسن عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام). ثم ذكر رواية زرارة الثانية ثم قال : وغالب استعمال الاجزاء في أقل الواجب ، ثم أجاب بأن طرف الأنملة أقل من مقدار الدرهم فلا دلالة فيها على المدعى بل هي بالدلالة على نقيضه أشبه ، سلمنا لكنها محمولة على الفضيلة جمعا بين الأدلة. انتهى. وهو جيد.

وبذلك قطع الشهيد في الذكرى في باب المكان ثم رجع عنه في هذا المقام ، فقال والأقرب ان لا ينقص في الجبهة عن درهم لتصريح الخبر وكثير من الأصحاب به فيحمل المطلق من الأخبار وكلام الأصحاب على المقيد.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٩ من السجود.

(٤) الوسائل الباب ١٥ من ما يسجد عليه.

٢٨١

وفيه أولا ان الكثير من الأصحاب انما قالوا بالمسمى ولم ينقل القول بمقدار الدرهم إلا عن ابن بابويه وابن إدريس و (ثانيا) ان ما ذكره من الحمل جيد لو وجد ما يدل على القول بالدرهم ولم نقف في الباب إلا على رواية زرارة الثانية وقد عرفت اشتمالها على ما ينافي ذلك من قوله «ومقدار طرف الأنملة» وحينئذ فلا بد من حمل قوله فيها «أجزأك مقدار الدرهم» على الفضل والاستحباب وإلا فلو حمل على وجوبه وتعينه لم يكن لقوله بعده «ومقدار طرف الأنملة» معنى بل يلزم اشتمال الخبر على حكمين متناقضين كما لا يخفى. وبه يظهر انه لا دليل للقول المذكور وان المعتمد هو القول المشهور.

وربما يتوهم الاستناد في ذلك إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن المرأة تطول قصتها فإذا سجدت وقع بعض جبهتها على الأرض وبعض يغطيه الشعر هل يجوز ذلك؟ قال لا حتى تضع جبهتها على الأرض». وهذه الرواية في الحقيقة غير دالة على ذلك إذ لا تعرض فيها لذكر الدرهم بوجه وانما غاية ما تدل عليه هو وضع الجبهة كملا وهو مما وقع الاتفاق على عدم وجوبه والأخبار المتقدمة صريحة في خلافه فلا بد من حملها على وجه الفضل والاستحباب كما صرح به جملة من الأصحاب.

والتحقيق عندي في هذا المقام ان الصدوق (رضي‌الله‌عنه) لم يستند في ما ذهب اليه من هذا القول المنقول عنه هنا إلى شي‌ء من هذه الأخبار التي تكلفوها مستندا له ، وانما مستنده في ذلك كتاب الفقه الرضوي على النهج الذي عرفته في غير مقام إلا انه مع ذلك لا يخلو من الاشكال ، وتفصيل هذا الإجمال هو ان يقال لا ريب ان الصدوق في كتاب الفقيه قد ذكر هذه المسألة في موضعين (أحدهما) في باب (ما يسجد عليه وما لا يسجد عليه) فإنه نقل في هذا الباب عن أبيه في رسالته اليه قال : وقال أبي في رسالته الي : اسجد على الأرض أو على ما أنبتت ، وساق كلامه إلى ان قال : ويجزئك في

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من ما يسجد عليه.

٢٨٢

موضع الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين مقدار درهم. الى آخره ، ثم نقل في الباب أيضا صحيحة زرارة المشتملة على اجزاء قدر الدرهم ومقدار طرف الأنملة (١) ، ثم نقل أيضا رواية عمار المتقدمة (٢) الدالة على ان ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد فما أصاب الأرض منه فقد أجزأك. و (ثانيهما) في باب (وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها) فإنه قال فيه أيضا : ويجزئك في موضع الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين مقدار درهم. وهذه عين العبارة المتقدمة التي نقلها عن أبيه في رسالته اليه. ولا يخفى ان هذه العبارة وما بعدها من الكلام كله مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي على النهج الذي قدمناه ذكره في غير مقام وسيأتي أمثاله ان شاء الله تعالى في جملة من الأحكام ومنه يعلم ان مستند الصدوقين انما هو الكتاب المذكور ، والأصحاب لعدم اطلاعهم على ما ذكرناه تكلفوا لهم الاستدلال بهذه الأخبار وقد عرفت انها غير صالحة للدلالة.

بقي هنا شي‌ء وهو ان الأصحاب ينسبون إلى الصدوق في الفقيه المذاهب في المسائل الشرعية بنقله الروايات ، وقد عرفت انه بعد ذكر ما نقله عن والده المؤذن بإفتائه به كما نسبوه اليه نقل أيضا صحيحة زرارة وموثقة عمار الظاهرتين ـ ولا سيما الثانية ـ في الاكتفاء بالمسمى ولم يتعرض للقدح فيهما ولا الجواب عنهما مع انهما في مخالفة ما ذكره أولا ظاهرتان كما عرفت آنفا ، وبالجملة فإن نقل القول عنه بذلك مع نقله الخبرين المذكورين لا يخلو من اشكال. والله العالم.

(الثالث) ـ ان ينحني حتى يساوي موضع جبهته موقفه إلا ان يكون العلو يسيرا بقدر لبنة بفتح اللام وكسر الباء وبكسر اللام وسكون الباء ، والمراد بها ما كانت معتادة في زمن الأئمة (عليهم‌السلام) وقدرها الأصحاب بأربع أصابع تقريبا ، ويؤيده اللبن الموجود الآن في ابنية بني العباس في سر من رأى فان الآجر الذي في أبنيتها بهذا المقدار تقريبا.

__________________

(١) تقدمت ص ٢٨١.

(٢) ص ٢٨٠.

٢٨٣

وأسند هذا التحديد اعني تحديد العلو الجائز باللبنة في المعتبر والمنتهى إلى الشيخ (قدس‌سره) ثم قال في المنتهى «وهو مذهب علمائنا» مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وكذا أسنده في الذكرى إلى الأصحاب ، قال في المعتبر : لا يجوز ان يكون موضع السجود أعلى من موقف المصلى بما يعتد به مع الاختيار وعليه علماؤنا لأنه يخرج بذلك عن الهيئة المنقولة عن صاحب الشرع.

أقول : ويدل على ما ذكروه من التحديد باللبنة ما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن السجود على الأرض المرتفعة فقال إذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن موضع بدنك قدر لبنة فلا بأس». ومفهومه ثبوت البأس مع الزيادة على قدر اللبنة ، ومفهوم الشرط حجة شرعية كما تقدم تحقيقه في مقدمات كتاب الطهارة.

واعترض هذه الرواية في المدارك فقال انه يمكن المناقشة في سند الرواية بان من جملة رجالها النهدي وهو مشترك بين جماعة منهم من لم يثبت توثيقه ، مع ان عبد الله بن سنان روى في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن موضع جبهة الساجد أيكون ارفع من مقامه؟ قال لا وليكن مستويا». ومقتضاها المنع من الارتفاع مطلقا ، وتقييدها بالرواية الأولى مشكل. انتهى.

أقول : فيه ان الظاهر ان النهدي الذي في سند هذه الرواية هو الهيثم بن أبي مسروق بقرينة رواية محمد بن علي بن محبوب عنه والرجل المذكور ممدوح في كتب الرجال فحديثه معدود في الحسن وله كتاب يرويه عنه جملة من الأجلاء : منهم ـ محمد بن علي بن محبوب وسعد بن عبد الله ومحمد بن الحسن الصفار.

ويؤيد الخبر المذكور أيضا شهرة العمل به بين الطائفة وعدم الراد له سواه ، وكذا يؤيده ما يأتي من موثقة عمار.

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من السجود.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من السجود.

٢٨٤

وحينئذ فيجب الجمع بينه وبين الصحيحة المذكورة بحمل الصحيحة المشار إليها على الفضل والاستحباب ، ويشير إلى ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عاصم بن حميد عن أبي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يرفع موضع جبهته في المسجد؟ فقال اني أحب ان أضع وجهي في موضع قدمي وكرهه». وروى هذه الرواية شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في كتاب البحار (٢) من كتاب عاصم بن حميد عن أبي بصير مثله إلا انه قال : «في مثل قدمي وكره ان يضعه الرجل». وسياق هذه العبارة يعطي الأفضلية كما لا يخفى.

فوائد

(الأولى) ـ ظاهر كلام المتقدمين في هذه المسألة جواز المساواة وانخفاض موضع السجود مطلقا وارتفاعه بقدر اللبنة ، والحق الشهيدان بالارتفاع الانخفاض فقيداه بقدر اللبنة أيضا ومنعا من الزيادة على ذلك.

ويدل عليه موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «في المريض يقوم على فراشه ويسجد على الأرض؟ فقال إذا كان الفراش غليظا قدر آجرة أو أقل استقام له ان يقوم عليه ويسجد على الأرض وان كان أكثر من ذلك فلا».

ومما يدل على جواز الانخفاض بقول مطلق ما رواه الشيخ عن صفوان عن محمد بن عبد الله عن الرضا (عليه‌السلام) (٤) في حديث «انه سأله عن من يصلي وحده فيكون موضع سجوده أسفل من مقامه؟ فقال إذا كان وحده فلا بأس».

وهي مطلقة في قدر اللبنة وأزيد كما هو ظاهر كلام المتقدمين إلا انه يجب تقييدها بالموثقة المذكورة جمعا ، وبه يظهر قوة ما ذكره الشهيدان. ويمكن تقييد كلام المتقدمين بذلك أيضا.

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ١٠ من السجود.

(٢) ج ١٨ الصلاة ص ٣٦٢.

(٣) الوسائل الباب ١١ من السجود.

٢٨٥

واما ما ذكره في الذخيرة هنا ـ حيث قال : والحق الشهيد الانخفاض بالارتفاع وتبعه على ذلك الشهيد الثاني ولم أجده في كلام غيرهما من المتقدمين عليهما بل المستفاد من كلامهم استحباب المساواة وعدم جواز الارتفاع بالمقدار المذكور حسب ، وصرح المصنف في النهاية بجواز الانخفاض ، ونقل في التذكرة الإجماع عليه ، ويدل عليه صدق السجود معه فيحصل الامتثال ، واستدل الشهيد بما رواه الشيخ في الموثق عن عمار ، ثم ساق الرواية كما قدمنا ، ثم قال وهي غير ناهضة بإثبات التحريم. انتهى ـ فهو من جملة تشكيكاته الواهية المبنية على أصوله المخترعة التي هي لبيت العنكبوت ـ وانه لأوهن البيوت ـ مضاهية ، فاني لا اعرف لعدم ثبوت التحريم وجها إلا ما صرح به في غير موضع من كتابه ونقلناه عنه في غير موضع مما تقدم من دعواه عدم دلالة الأمر في أخبارنا على الوجوب وكذا النهي غير دال على التحريم ، وقد عرفت بطلان ذلك في غير مقام مما تقدم وانه موجب لخروج قائله من الدين من حيث لا يشعر.

والعجب هنا ان السيد السند في المدارك ـ بعد ان اعترض رواية عبد الله بن سنان المتقدمة الدالة على جواز ارتفاع موضع الجبهة بقدر اللبنة ورجح العمل بالصحيحة الدالة على المساواة ـ قال هنا بعد ان نقل عن الشهيد إلحاق الانخفاض بالارتفاع قدر لبنة : وهو حسن ويشهد له موثقة عمار ثم ساق الرواية كما ذكرناه.

وأنت خبير بما فيه من المناقضة الظاهرة حيث انه استشكل في تقييد الصحيحة المذكورة بالرواية الاولى وهو مؤذن بجموده على ظاهر الصحيحة من مساواة الموقف للمسجد وهذه الموثقة دالة على انخفاض موضع الجبهة ، وبموجب استحسانه المذكور يلزم تقييد الصحيحة المذكورة بهذه الموثقة ، مع انك قد عرفت ان الرواية الأولى حسنة.

وبالجملة فإن الظاهر من الأخبار المذكورة في المقام بضم بعضها إلى بعض وحمل بعضها على بعض هو أفضلية المساواة وجواز الارتفاع والانخفاض بقدر اللبنة وضعف هذه المناقشات الواهية.

(الثانية) ـ صرح الشهيد بإجراء الحكم المذكور في جميع المساجد ، قال في

٢٨٦

الذكرى في تعداد مستحبات السجود : ومنها مساواة مساجده في العلو والهبوط ، وجعله في الروض وفي المدارك أحوط. ولم أقف فيه على نص والذي وقفت عليه من نصوص المسألة هو ما ذكرته ، قال في الذخيرة : واعتبر الشهيد ذلك في بقية المساجد ولم أجده في كلام من تقدم عليه إلا ان المصنف في النهاية قال : يجب تساوي الأعالي والأسافل أو انخفاض الأعالي وهو ظاهر في ما ذكره والاحتياط فيه وان كان إثبات وجوبه محل اشكال. انتهى.

وصرح جملة منهم بأنه لا فرق في جواز الارتفاع والانخفاض بقدر اللبنة والمنع مما زاد بين الأرض المنحدرة وغيرها لإطلاق النص. وهو جيد.

(الثالثة) ـ المفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف إلا من صاحب المدارك ومن تبعه كالفاضل الخراساني انه لو وقعت جبهته حال السجود على ما لا يصح السجود عليه مما هو أزيد من لبنة ارتفاعا أو انخفاضا أو غيره مما لا يصح السجود عليه فإنه يرفع رأسه ويضعه على ما يصح السجود عليه ، وان كان مما يصح السجود عليه ولكنه لا على الوجه الأكمل وأراد تحصيل الفضيلة وما هو الأفضل في السجود فإنه يجر جبهته ولا يرفعها لئلا يلزم زيادة سجود ثان.

وقال في المدارك : لو وقعت جبهته على موضع مرتفع بأزيد من اللبنة فقد قطع المصنف وغيره بأنه يرفع رأسه ويسجد على المساوي لعدم تحقق السجود معه ، ولرواية الحسين بن حماد (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اسجد فتقع جبهتي على الموضع المرتفع؟ فقال ارفع رأسك ثم ضعه». وفي السند ضعف ، والاولى جرها مع الإمكان لصحيحة معاوية بن عمار (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا وضعت جبهتك على نبكة فلا ترفعها ولكن جرها على الأرض». والنبكة بالنون والباء الموحدة مفتوحتين واحدة النبك وهي اكمة محدودة الرأس ، وقيل النباك التلال الصغار.

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من السجود.

(٢) الوسائل الباب ٨ من السجود.

٢٨٧

وجمع المصنف في المعتبر بين الروايتين بحمل هذه الرواية على مرتفع يصح معه السجود فيجب السحب لئلا يزيد في السجود. وهو بعيد. ولو وقعت الجبهة على ما لا يصح السجود عليه جرها إلى ما يسجد عليه ولا يرفعها مع الإمكان ومع التعذر يرفعها ولا شي‌ء عليه. انتهى.

أقول : لا يخفى ان ما ذكره الأصحاب هو الأوفق بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، واستبعاده هنا لا اعرف له وجها وجيها إلا مجرد صحة سند رواية معاوية بن عمار وضعف ما عداها من الرواية التي نقلها فمن أجل ذلك جمد على إطلاقها ، وهذه قاعدته (قدس‌سره) كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم انه يدور مدار الأسانيد فمتى صح السند غمض عينيه ونام عليه واضرب عن متن الخبر سواء خالف الأصول أو وافقها ، ولم أقف على هذه الطريقة إلا في كلامه وكلام من اقتفاه وإلا فأصحاب هذا الاصطلاح يراعون متون الأخبار صح السند أو ضعف كما في هذا الموضع وغيره

وبالجملة فما ذكره الأصحاب هو الأظهر ، لأنه متى كان السجود باطلا بان يكون على موضع مرتفع بأزيد من لبنة أو كان على شي‌ء لا يصح السجود عليه فإنه لا يعتبر به ولا يعد سجودا شرعيا ، فرفع الرأس منه إلى ما يصح السجود عليه غير ضائر ولا مانع منه شرعا بخلاف ما لو وقعت جبهته على ما يصح السجود عليه فإنه بالرفع عنه والسجود مرة ثانية يلزم زيادة سجدة في الصلاة ويكون موجبا لبطلانها ، وحينئذ يجب حمل صحيحة معاوية ابن عمار على ما ذكره في المعتبر.

ومن روايات المسألة أيضا رواية الحسين بن حماد الثانية (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يسجد على الحصى؟ قال يرفع رأسه حتى يستمكن». والظاهر حملها على عدم استقرار الجبهة وعدم حصول السجود الواجب فلا يضر رفع رأسه والسجود مرة ثانية.

ومنها ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٨ من السجود.

٢٨٨

عن الرجل يسجد على الحصا فلا يمكن جبهته من الأرض؟ فقال يحرك جبهته حتى يتمكن فينحي الحصا عن جبهته ولا يرفع رأسه». وهي محمولة على حصول السجود الواجب بمجرد الوضع على الحصا واستقرار الجبهة عليه فلذا منعه من الرفع ، وانما أمره بالتحريك لأجل تحصيل الفضيلة في وقوع الجبهة كملا على الأرض.

ومنها ـ رواية ثالثة للحسين بن حماد أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له أضع وجهي للسجود فيقع وجهي على حجر أو على شي‌ء مرتفع أحول وجهي إلى مكان مستو؟ قال نعم جر وجهك على الأرض من غير ان ترفعه». والتقريب فيها كما تقدم في نظيرها.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة والطبرسي في الاحتجاج (٢) فرواه في كتاب الغيبة عن محمد بن احمد بن داود القمي قال : «كتب محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى الناحية المقدسة يسأل عن المصلي يكون في صلاة الليل في ظلمة فإذا سجد يغلط بالسجادة ويضع جبهته على مسح أو نطع فإذا رفع رأسه وجد السجادة هل يعتد بهذه السجدة أم لا يعتد بها؟ فوقع (عليه‌السلام) : ما لم يستو جالسا فلا شي‌ء عليه في رفع رأسه لطلب الخمرة».

وظاهره لا يخلو من اشكال لما يعتريه من غشاوة الإجمال وفيه دلالة على جواز الرفع لتحصيل السجادة ثم السجود عليها مرة أخرى لعدم الاعتداد بالسجود الأول لكونه وقع على ما لا يصح السجود عليه. إلا ان التقييد بالاستواء جالسا وعدمه لا اعرف له وجها.

(الرابع) ـ الذكر حال السجود وقد تقدم الكلام في ذلك في الركوع ، والبحث في هذه المسألة حسبما تقدم ثمة خلافا واستدلالا واختيارا.

(الخامس) ـ الطمأنينة وقد تقدم البحث فيها ثمة أيضا ، وقال في المدارك : اما وجوب الطمأنينة بقدر الذكر الواجب فهو قول علمائنا اجمع وتدل عليه مضافا إلى التأسي

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٨ من السجود.

٢٨٩

روايتا حريز وزرارة المتقدمتان. انتهى. وفيه ان التأسي لا يصلح دليلا على الوجوب كما تقدم ذكره في غير مقام وصرح به جملة الاعلام وان اضطرب كلامه فيه كما عرفته في ما تقدم. واما ما ذكره من الروايتين المشار إليهما فلم يتقدما في كلامه والظاهر انه من سهو رؤوس اقلامه ، ونحن قد أسلفنا في فصل الركوع انهم لم يأتوا بدليل على وجوب الطمأنينة زيادة على الاتفاق على الحكم المذكور ، وقد قدمنا ثمة (١) صحيح زرارة أو حسنه الدال على انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رأى رجلا يصلي فلم يتم ركوعه ولا سجوده فقال : «نقر كنقر الغراب لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني». وهو واضح الدلالة على وجوب الطمأنينة في كل من الموضعين ، ومثله ما رواه البرقي في المحاسن قال وفي رواية عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «أبصر علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) رجلا ينقر صلاته فقال منذ كم صليت بهذه الصلاة؟ فقال له الرجل منذ كذا وكذا. فقال مثلك عند الله كمثل الغراب إذا ما نقر لو متّ متّ على غير ملة أبي القاسم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ثم قال (عليه‌السلام) ان أسرق الناس من سرق من صلاته».

(السادس) ـ رفع الرأس بعد السجدة الاولى والجلوس مطمئنا ، وهو مذهب العلماء كافة ونقل عليه الإجماع جملة من الاعلام وتدل عليه النصوص قولا وفعلا ، ولا حد لهذه الطمأنينة بل بما يحصل مسماها.

(المقام الثاني) ـ في مستحبات السجود : منها ـ التكبير للأخذ فيه والرفع منه على المشهور ، وقد تقدم البحث في ذلك في فصل الركوع والخلاف الخلاف والدليل الدليل وقد تقدم تحقيق القول في المسألة.

ومنها ـ ان يكبر قائما قبل السجود لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة في صدر الباب (٣) «فإذا أردت أن تسجد فارفع يديك بالتكبير وخر ساجدا».

__________________

(١) ص ٢٤٢.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أعداد الفرائض.

(٣) ص ٣.

٢٩٠

وفي رواية المعلى بن خنيس (١) «يكبر هاويا». وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المقام الثاني في مستحبات الركوع.

ومنها ـ ان يبدأ بيديه فيضعهما على الأرض قبل ركبتيه ونقل عليه الإجماع.

وعليه يدل قوله (عليه‌السلام) في صحيح زرارة المذكور (٢) «وابدأ بيديك فيضعهما على الأرض قبل ركبتيك تضعهما معا».

ويدل على ذلك أيضا صحيحة محمد بن مسلم (٣) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يضع يديه قبل ركبتيه إذا سجد وإذا أراد ان يقوم رفع ركبتيه قبل يديه».

ورواية الحسين بن أبي العلاء (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يضع يديه قبل ركبتيه في الصلاة؟ قال نعم».

وصحيحة محمد بن مسلم (٥) قال : «سئل عن الرجل يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه؟ قال نعم يعني في الصلاة».

واما ما رواه الشيخ في الموثق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ـ (٦) قال : «لا بأس إذا صلى الرجل ان يضع ركبتيه على الأرض قبل يديه».

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألته عن الرجل إذا ركع ثم رفع رأسه أيبدأ فيضع يديه على الأرض أم ركبتيه؟ قال لا يضره بأي ذلك بدأ هو مقبول منه».

فحملهما الشيخ في التهذيبين على الضرورة ومن لا يتمكن. والأظهر حملهما على الجواز لأن المقام مقام استحباب فلا ينافيه جواز خلافه.

بقي الكلام في ان ظاهر هذه الأخبار ولا سيما الاولى انه يضع اليدين دفعة

__________________

(١) ص ٢٦٥.

(٢) ص ٣.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧) الوسائل الباب ١ من السجود.

٢٩١

واحدة من غير ترتيب بينهما ، وفي رواية عمار (١) انه يضع اليمنى قبل اليسرى ، ونقل عن الجعفي. والعمل بالمشهور أظهر لما عرفت من الأخبار الصحيحة المذكورة.

ومنها ـ ان يكون حال سجوده مجنحا بالجيم ثم النون المشددة والحاء المهملة أي رافعا مرفقيه عن الأرض جاعلا يديه كالجناحين ، ونقل على استحباب التجنيح الإجماع.

ويدل على ذلك قوله (عليه‌السلام)

في صحيح زرارة المشار اليه آنفا (٢) «ولا تفترش ذراعيك افتراش السبع ذراعيه ولا تضعن ذراعيك على ركبتيك وفخذيك ولكن تجنح بمرفقيك. الحديث».

وفي حديث حماد (٣) «ولم يستعن بشي‌ء من جسده على شي‌ء منه في ركوع ولا سجود وكان مجنحا ولم يضع ذراعيه على الأرض». أقول : قوله «وكان مجنحا» يعني في ركوعه وسجوده ، وقوله «ولم يضع ذراعيه على الأرض» عطف تفسيري على قوله «مجنحا».

وروى في الكافي عن حفص الأعور عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «كان علي (عليه‌السلام) إذا سجد يتخوى كما يتخوى البعير الضامر يعني بروكه». قال المحدث الكاشاني في الوافي : كذا في النسخ التي رأيناها من باب التفعل وضبطه أهل اللغة من باب التفعيل ، قال في النهاية : فيه «انه كان إذا سجد خوى» اي جافى بطنه عن الأرض ورفعه وجافى عضديه عن جنبيه حتى يخوى ما بين ذلك ، ومنه حديث علي (عليه‌السلام) «إذا سجد الرجل فليخو وإذا سجدت المرأة فلتحتفز». وفي

__________________

(١) أشار إلى هذه الرواية في البحار ج ١٨ الصلاة ص ١٨٤ بعد ان حكى عن الذكرى رواية السبق باليمنى إجمالا. وقد أشار المتأخرون عن المجلسي إلى رواية عمار في المقام إلا انى لم أعثر عليها في كتب الأخبار بعد الفحص في مظانها.

(٢) ص ٣.

(٣) الوسائل الباب ١ من أفعال الصلاة.

(٤) الوسائل الباب ٣ من السجود.

٢٩٢

القاموس : خوى في سجوده تخوية تجافى وفرج ما بين عضديه وجنبيه. انتهى وهو التجنيح الذي دلت عليه الأخبار المذكورة.

وروى في البحار (١) عن جامع البزنطي نقلا من خط بعض الأفاضل عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إذا سجدت فلا تبسط ذراعيك كما يبسط السبع ذراعيه ولكن جنح بهما فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يجنح بهما حتى يرى بياض إبطيه».

ونقل في الذكرى عن ابن الجنيد انه قال : لو لم يجنح الرجل كان أحب الي. وهو محجوج بالأخبار المذكورة.

ومنها ـ مماسة كفيه الأرض حال سجوده لقوله (عليه‌السلام) في الصحيح المشار اليه (٢) : «وان كان تحتهما ثوب فلا يضرك وان أفضيت بهما إلى الأرض فهو أفضل».

وما رواه الشيخ عن السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (٣) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال ضعوا اليدين حيث تضعون الوجه فإنهما يسجدان كما يسجد الوجه».

وما رواه في الفقيه عن السكوني عن الصادق عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) «إذا سجد أحدكم فليباشر بكفيه الأرض لعل الله تعالى يدفع عنه الغل يوم القيامة».

وروى في التهذيب عن أبي حمزة (٥) قال «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لا بأس ان تسجد وبين كفيك وبين الأرض ثوبك». وهو محمول على الجواز كما تضمنه صحيح زرارة المتقدم.

__________________

(١) ج ١٨ الصلاة ص ٣٦٣.

(٢) ص ٣.

(٣) الوسائل الباب ١٠ من السجود.

(٤) الوسائل الباب ٤ من السجود.

(٥) الوسائل الباب ٥ من ما يسجد عليه.

٢٩٣

ومنها ـ ضم الأصابع بعضها إلى بعض مستقبلا بها القبلة حال وضعها على الأرض لقوله (عليه‌السلام) في الصحيح المذكور (١) «ولا تفرجن بين أصابعك في سجودك ولكن ضمهن جميعا». وفي صحيح حماد (٢) «وبسط كفيه مضمومتي الأصابع بين يدي ركبتيه حيال وجهه».

وظاهر الخبرين المذكورين شمول الضم للأصابع الخمس بعضها إلى بعض. ونقل في كتاب الذكرى عن ابن الجنيد تفريق الإبهام عنها ونقله في كتاب الحبل المتين عن بعض علمائنا ، قال ولم أظفر بمستنده.

واما استقبال القبلة بالأصابع فقد ذكره الشيخان وابن الجنيد وغيرهم ولم أظفر بمستنده إلا في كتاب الفقه الرضوي (٣) حيث قال : «وضم أصابعك وضعها مستقبل القبلة».

وقد روى أيضا التفريق في وضع الأصابع رواه زيد النرسي في كتابه عن سماعة ابن مهران (٤) «انه رأى أبا عبد الله (عليه‌السلام) إذا سجد بسط يديه على الأرض بحذاء وجهه وفرج بين أصابع يديه ويقول انهما يسجدان كما يسجد الوجه». ويمكن حمله على الجواز جمعا أو لعذر أو خصوص الإبهام كما ذهب اليه ابن الجنيد.

ومنها ـ السجود على الأرض لأنه أبلغ في التذلل والخضوع ولا سيما على التربة الحسينية (على مشرفها أفضل التحية) وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في آخر المسألة السادسة من كتاب المكان (٥) فليراجع.

ومنها ـ الإرغام بأنفه اى إلصاق الأنف بالرغام وهو التراب ، وادعى الإجماع على استحبابه جملة من الأصحاب ، وظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه الوجوب حيث قال : الإرغام سنة في الصلاة فمن تركه متعمدا فلا صلاة له.

قال في المدارك : ويدل على الاستحباب مضافا إلى الإجماع صحيحتا زرارة وحماد

__________________

(١) ص ٤.

(٢) ص ٣.

(٣) ص ٧.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ٢٠ من السجود.

(٥) ج ٧ ص ٢٥٩.

٢٩٤

المتقدمتان (١) وموثقة عمار عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) انه قال «لا تجزئ صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين». وهي محمولة على نفي الاجزاء الكامل. انتهى.

وفيه ان ما أورده من الأخبار لا دلالة فيه على الاستحباب بل هو بالدلالة على خلافه أشبه. أما صحيحة زرارة فإن الذي فيها «فاما الفرض فهذه السبعة واما الإرغام بالأنف فسنة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله». واما صحيحة حماد فإن الذي فيها «وسجد على ثمانية أعظم ، ثم عدها وقال سبع منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها الله عزوجل في كتابه قال (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٣) ووضع الأنف على الأرض سنة».

وروى الصدوق في كتاب الخصال في الصحيح أو الحسن بإبراهيم عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «السجود على سبعة أعظم : الجبهة والكفين والركبتين والإبهامين ، وترغم بأنفك. اما المفترض فهذه السبعة واما الإرغام فسنة».

وأنت خبير مما أسلفنا تحقيقه في غير مما تقدم ان لفظ السنة وان كان من الألفاظ المشتركة بين ما ثبت وجوبه بالسنة وبين المستحب إلا انه متى قوبل بالفرض ترجح كونه بالمعنى الأول ، فهو ان لم يكن بمعنى الواجب هنا فلا أقل من تساوى الاحتمالين الموجب لبطلان الاستدلال به في البين.

واما موثقة عمار التي نقلها فهي ظاهرة الدلالة في خلاف مدعاه ولهذا احتاج إلى ارتكاب التأويل في الاستدلال بها.

ونحوها أيضا ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن

__________________

(١) تقدمتا ص ٢ و ٣.

(٢) الوسائل الباب ٤ من السجود. وفي التهذيب ج ١ ص ٢٢١ والوافي باب السجود والوسائل هكذا «عن جعفر عن أبيه «ع» قال قال على «ع».».

(٣) سورة الجن ، الآية ١٨.

(٤) الوسائل الباب ٤ من السجود.

٢٩٥

المغيرة (١) قال : «أخبرني من سمع أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لا صلاة لمن لم يصب انفه ما يصيب جبينه».

وبذلك يظهر قوة ما نقل عن الصدوق إلا انه يمكن الاستدلال للقول المشهور برواية محمد بن مصادف (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول انما السجود على الجبهة وليس على الأنف سجود». وضعف سنده بهذا الاصطلاح المحدث مجبور بشهرة العمل به حتى ادعى الإجماع عليه كما عرفت.

وقضية الجمع بين الأخبار حمل السنة في الصحيحتين الأوليين على معنى المستحب وحمل الخبرين الأخيرين على تأكيد الاستحباب كقوله (عليه‌السلام) (٣) «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد».

فوائد

(الأولى) ـ ظاهر كلام الأصحاب ان المراد بالإرغام المستحب في هذا المقام هو وضع الأنف على الرغام وهو التراب أو ما يصح السجود عليه مطلقا ، صرح بذلك الشهيدان ومن تأخر عنهما.

ويظهر من بعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الإرغام بالأنف غير السجود على الأنف وانهما سنتان ، قال شيخنا البهائي (قدس‌سره) في تفسير حديث حماد من كتاب الأربعين الحديث : ما تضمنه الحديث من سجوده (عليه‌السلام) على الأنف الظاهر انه سنة مغايرة للإرغام المستحب في السجود ، فإنه وضع الأنف على الرغام بفتح الراء وهو التراب ، والسجود على الأنف ـ كما روى عن علي (عليه‌السلام) (٤) «لا تجزئ صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين». ـ يتحقق بوضعه على ما يصح السجود عليه وان لم يكن ترابا. وربما قيل الإرغام يتحقق بملاصقة الأنف الأرض

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ٤ من السجود.

(٣) الوسائل الباب ٢ من أحكام المساجد.

٢٩٦

وان لم يكن معه اعتماد ، ولهذا فسره بعض علمائنا بمماسة الأنف التراب ، والسجود يكون معه اعتماد في الجملة ، فبينهما عموم من وجه. وفي كلام شيخنا الشهيد ما يعطى أن الإرغام والسجود على الأنف أمر واحد مع انه عد في بعض مؤلفاته كلا منهما سنة على حدة. ثم على تفسير الإرغام بوضع الأنف على التراب هل تتأدى سنة الإرغام بوضعه على مطلق ما يصح السجود عليه وان لم يكن ترابا؟ حكم بعض الأصحاب بذلك وجعل التراب أفضل. وفيه ما فيه ، فليتأمل. انتهى.

أقول : وجه التأمل على ما ذكره في الحاشية انه قياس مع الفارق. ثم أقول لا يخفى ان ما ذكره شيخنا المشار اليه ورجحه ـ من المغايرة بين الإرغام والسجود على الأنف وان بينهما عموما من وجه ـ ليس كذلك فان الظاهر ان هذه التعبيرات في الأخبار من لفظ الإرغام في بعض ولفظ السجود في بعض انما خرج مخرج المسامحة في التعبير وإلا فالمراد أمر واحد وهو وضع الأنف على ما يصح السجود عليه من إرغام وغيره ، وذكر الإرغام انما هو من حيث أفضلية السجود على الأرض بالجبهة والأنف تابع لها في ذلك ومما يشير إلى ذلك التعبير في موثقة عمار (١) بقوله (عليه‌السلام) «لا تجزئ صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين». ونحوها مرسلة عبد الله بن المغيرة (٢) ألا ترى انه عبر هنا بمجرد الإصابة التي هي أعم من السجود المأخوذ فيه الاعتماد؟ وبمقتضى كلامه ينبغي ان يكون هذا قسما ثالثا وليس كذلك بل انما هو مبني على التوسع في التعبير.

(الثانية) ـ إطلاق الأخبار المتقدمة يقتضي حصول السنة بإصابة أي جزء من الأنف ، ونقل عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) اعتبار اصابة الطرف الأعلى الذي يلي الحاجبين ، وهو صريح عبارة ابن إدريس التي قدمنا نقلها في صدر المقام الأول. وقال ابن الجنيد يماس الأرض بطرف الأنف وخديه إذا أمكن ذلك للرجل والمرأة.

أقول : وربما يشير إلى قول المرتضى ما في بعض الأخبار التي لا يحضرني الآن

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من السجود.

(٢) ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٢٩٧

موضعها عن بعض الأصحاب من انه رأى علي بن الحسين (عليهما‌السلام) وعنده من يأخذ من لحم عرنينه (١) والعرنين طرف الأنف الأعلى. والظاهر ان الأخذ منه لكونه بكثرة السجود عليه قد مات لحمه فيكون من قبيل الثفنات التي كانت في بدنه (عليه‌السلام) كالجبهة والركبتين.

ويمكن تأييد القول المشهور زيادة على إطلاق الأخبار بقوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (٢) «وترغم بأنفك ومنخريك في موضع الجبهة». والتقريب فيها ان المنخرين عبارة عن ثقبي الأنف والثقبان ممتدان من رأس الأنف الأسفل إلى أعلاه فالارغام يحصل من أسفل الأنف إلى أعلاه فأي جزء باشر به الأرض ونحوها حصلت به سنة الإرغام.

(الثالثة) ـ ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب ان الإرغام المستحب والسجود على الأنف يشترط فيه ما يشترط في الجبهة مما يصح السجود فيها عليه فلا يجزئ السجود به على ما يضع عليه سائر المساجد الباقية ، واحتمل بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين الاكتفاء بما يضع عليه سائر المساجد والظاهر ضعفه.

ومنها ـ الدعاء حال السجود ولا سيما بالمأثور ، روى الكليني عن عبد الرحمن ابن سيابة (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أدعو وانا ساجد؟ قال نعم فادع للدنيا والآخرة فإنه رب الدنيا والآخرة».

وعن عبد الله بن عجلان (٤) قال : «شكوت إلى أبي عبد الله (عليه‌السلام) تفرق أموالنا وما دخل علينا فقال عليك بالدعاء وأنت ساجد فإن أقرب ما يكون العبد إلى الله

__________________

(١) سيأتي ص ٣٠٠ في حديث الفضل بن عبد الله عن أبيه حكاية ذلك عن موسى بن جعفر (ع).

(٢) ص ٩.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من السجود.

(٤) الوسائل الباب ١٧ من السجود وفي فروع الكافي ج ١ ص ٨٩ والوسائل «عبد الله بن هلال».

٢٩٨

عزوجل وهو ساجد؟ قال قلت فأدعو في الفريضة وأسمي حاجتي؟ فقال نعم قد فعل ذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعا على قوم بأسمائهم وأسماء آبائهم وفعله علي (عليه‌السلام) بعده». ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب محمد بن علي ابن محبوب (١).

وعن زيد الشحام عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «ادع في طلب الرزق في المكتوبة وأنت ساجد : يا خير المسؤولين ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك فإنك ذو الفضل العظيم».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح (٣) قال : «صلى بنا أبو بصير في طريق مكة فقال وهو ساجد وقد كانت ضلت ناقة لجمالهم : اللهم رد على فلان ناقته. قال محمد فدخلت على أبي عبد الله (عليه‌السلام) فأخبرته فقال وفعل؟ فقلت نعم قال وفعل؟ قلت نعم. قال فسكت. قلت فأعيد الصلاة؟ فقال لا».

وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا سجدت فكبر وقل : اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت وأنت ربي سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره الحمد لله رب العالمين تبارك الله أحسن الخالقين ، ثم قل سبحان ربي الأعلى (٥) «ثلاث مرات» فإذا رفعت رأسك فقل بين السجدتين : اللهم اغفر لي وارحمني وأجرني وادفع عني إني لما أنزلت الي من خير فقير تبارك الله رب العالمين».

وعن أبي عبيدة الحذاء في الصحيح (٦) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول وهو ساجد : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا بدلت سيئاتي حسنات وحاسبتني حسابا يسيرا. ثم قال في الثانية : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى الله

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٧ من السجود.

(٤ و ٦) الوسائل الباب ٢ من السجود.

(٥) في الكافي ج ١ ص ٨٨ والوسائل «وبحمده».

٢٩٩

عليه وآله) إلا كفيتني مؤنة الدنيا وكل هول دون الجنة. وقال في الثالثة : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما غفرت لي الكثير من الذنوب والقليل وقبلت مني عملي اليسير. ثم قال في الرابعة : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما أدخلتني الجنة وجعلتني من سكانها ولما نجيتني من سعفات النار برحمتك وصلى الله على محمد وآله». الى غير ذلك مما هو مذكور في مظانه.

ومنها ـ استحباب زيادة التمكن في السجود لتحصيل أثره الذي مدح الله تعالى عليه بقوله عزوجل «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» (١).

وروى السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال «قال علي (عليه‌السلام) اني لأكره للرجل أن أرى جبهته جلحاء ليس فيها اثر السجود».

وروى إسحاق بن الفضل عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يحب ان يمكن جبهته من الأرض».

وروى الصدوق في كتاب العلل عن جابر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال «ان أبي علي بن الحسين (عليهما‌السلام) كان اثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمى السجاد لذلك».

وروى في الكافي عن محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الباقر (عليهم‌السلام) (٥) قال : «كان لأبي (عليه‌السلام) في موضع سجوده آثار نابتة وكان يقطعها في السنة مرتين في كل مرة خمس ثقبات فسمى ذا الثقبات لذلك».

وروى الصدوق في كتاب عيون الأخبار بسنده عن عبد الله بن الفضل عن أبيه (٦) في حديث «انه دخل على ابي الحسن موسى بن جعفر (عليهما‌السلام) قال فإذا

__________________

(١) سورة الفتح الآية ٢٩.

(٢ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٢١ من السجود.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من ما يسجد عليه.

٣٠٠