الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

كما قدمنا الإشارة إليها من العدول عن التوحيد والجحد إلى سورتي الجمعة والمنافقين ـ موردها انما هو صلاة الجمعة وليس فيها مار بما يوهم خلاف ذلك إلا قوله في الرواية السادسة «إلا ان تكون في يوم الجمعة» ويجب حمله على صلاة الجمعة كما صرحت به بقية أخبار المسألة حمل المطلق على المقيد ، ويعضد ذلك الروايات الدالة على تحريم العدول عن هاتين السورتين اعنى التوحيد والجحد مطلقا فيجب الاقتصار في التخصيص على مورد النصوص والمتيقن بالخصوص وهو صلاة الجمعة خاصة.

واما ما قيل هنا في تأييد ما ذكرنا ـ من ان استحباب قراءة السورتين انما ثبت بالروايات الصحيحة في صلاة الجمعة خاصة دون ما سواها وهو قرينة قوية على اختصاص العدول إليهما بها. انتهى ـ ففيه انه غلط محض نشأ من الركون إلى ما ذكره في المدارك كما قدمنا نقله عنه وأوضحنا فساده بالأخبار الدالة على استحباب السورتين المذكورتين في غير صلاة الجمعة من المواضع المذكورة في الأخبار المتقدمة ثمة.

وبذلك يظهر لك ما في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام من الخروج عن جادة أخبارهم (عليهم‌السلام) فإنهم قد اختلفوا في مواضع العدول زيادة على صلاة الجمعة التي هي مورد الأخبار المذكورة كما عرفت ، فبعض اثبت هذا الحكم في الظهر وعليه المحقق وابن إدريس والعلامة في المنتهى وقبلهم الصدوق في الفقيه كما تقدم نقل عبارته بذلك ، وقال الجعفي بثبوته في صلاة الجمعة والصبح والعشاء ، قال (قدس‌سره) على ما نقله عنه في الذكرى : وان أخذت في سورة وبدا لك في غيرها فاقطعها ما لم تقرأ نصفها إلا قل هو الله أحد وقل يا ايها الكافرون ، فان كنت في صلاة الجمعة والصبح يومئذ والعشاء الآخرة ليلة الجمعة فاقطعها وخذ في سورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون ، وقال الشهيد الثاني في الروض بثبوته في الجمعة وظهرها أو ظهريها.

أقول : والظاهر ان ما ذهب إليه هؤلاء الفضلاء (قدس الله أسرارهم) قد بنوه على ما ثبت عندهم من المواضع التي يستحب فيها قراءة السورتين المذكورتين ،

٢٢١

فكل موضع ثبت فيه استحباب قراءة هاتين السورتين حكموا بجواز العدول عن سورتي التوحيد والجحد إليهما تحصيلا لفضيلتهما في ذلك الموضع ، وقد تقدم نقل مذاهبهم في محل السورتين المذكورتين ونقل مذهب الجعفي باستحبابهما في هذه المواضع التي نقلت عنه ههنا ، فكأنهم بنوا الحكم على عموم الأخبار الدالة على استحباب هاتين السورتين سواء كان ابتداء أو مع العدول عن سورتي الجحد والتوحيد.

وفيه ان الأخبار الدالة على انه بالشروع في الجحد والتوحيد فإنه لا يجوز العدول عنهما مطلقا شاملة بإطلاقها لسورتي الجمعة والمنافقين وغيرهما ، وقد وردت بإزائها روايات مخصصة بالعدول منهما إلى هاتين السورتين في هذا الموضع المخصوص أعني صلاة الجمعة خاصة ، فالقول بالعدول وتخصيص تلك الأخبار في غير الجمعة يحتاج إلى دليل ، ومجرد استحباب هاتين السورتين في هذه المواضع لا يكفي في التخصيص كما لا يخفى. والله العالم.

تنبيهات

(الأول) ـ المشهور في كلام الأصحاب ولا سيما المتأخرين من العلامة ومن تأخر عنه انه مع العدول يجب ان يعيد البسملة لأن البسملة آية من كل سورة وقد قرأها أولا بنية السورة المعدول عنها فلا تحسب من المعدول إليها ، ولأن البسملة لا يتعين كونها من سورة إلا بالقصد. وصرحوا أيضا بأنه يعيدها لو قرأها بعد الحمد من غير ان يقصد بها سورة معينة بعد القصد ، حيث ان البسملة صالحة لكل سورة فلا تتعين لإحدى السور إلا بالتعيين والقصد بها إلى إحداها وبدونه يعيدها بعد القصد.

وجملة من المتأخرين فرعوا على هذا الأصل تفاصيل في كلامهم فقالوا لا يشترط في الحمد القصد ببسملة معينة لتعينها ابتداء فيحمل إطلاق النية على ما في ذمته ، وكذا لو عين له سورة معينة بنذر أو شبهه أو ضاق الوقت إلا عن أقصر سورة أو لا يعلم إلا تلك السورة فإنه يسقط القصد كالحمد ، لأن السورة لما كانت متعينة بتلك الأسباب اقتضت

٢٢٢

نية الصلاة ابتداء قراءتها في محلها كما اقتضت إيقاع كل فعل في محله وان لم يقصده عند الشروع فيه.

قالوا : ومحل القصد حيث يفتقر اليه عند الشروع في قراءة السورة ، وهل يكفى القصد المتقدم على ذلك في جملة الصلاة بل قبلها؟ نظر ، من ان السورة كاللفظ المشترك يكفي في تعيين أحد أفرادها القرينة وهي حاصلة في الجميع ، ومن عدم المخاطبة بالسورة فلا يؤثر قصدها ، والاقتصار على موضع اليقين طريق البراءة. واختار الشهيد في بعض فتاويه الاجزاء في الجميع ونفى عنه البعد في الروض. قالوا ولو كان معتادا لسورة مخصوصة فالوجهان ، والاجزاء هنا أبعد.

ولو جرى لسانه على بسملة وسورة فهل يجزئ المضي عليها أم تجب الإعادة؟ نظر واستقرب الشهيد الاجزاء ، واحتج عليه في الذكرى برواية أبي بصير وهي الثامنة من الروايات المتقدمة المنسوبة إلى ثلاثة أحدهم أبو بصير ، إلى غير ذلك من كلامهم في هذا المقام وما أوسعوا فيه من تفريع الأحكام وما وقع لهم فيه من النقض والإبرام.

وقد رده جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ـ أولهم في ما أظن المحقق الأردبيلي ـ بان ما ذكروه من انه يحتاج إلى النية لاشتراك البسملة بين السور فلا تتعين للسورة إلا بالنية غير واضح ، لأن نية الصلاة تكفي لأجزائها بالاتفاق ولو فعلت مع الغفلة والذهول ويكفيه قصد فعلها في الجملة ، واتباع البسملة بالسورة يعين كونها جزء لها وذلك كاف ، وبالجملة فإنا لا نسلم أن للنية مدخلا في صيرورة البسملة جزء من السورة بل متى اتى بمجرد البسملة فقد اتى بشي‌ء يصلح لأن يكون جزء لكل سورة فإذا أتى ببقية الأجزاء فقد اتى بجميع اجزاء هذه السورة المخصوصة ولا فساد في ذلك. ودعوى تميز بسملة كل سورة عن بسملة الأخرى يحتاج إلى دليل وليس فليس. ولو تم ما ذكروه للزم ان يكون كل كلمة مشتركة بين سورتين تحتاج إلى القصد مثل «الحمد لله» والظاهر انهم لا يقولون به.

والتحقيق عندي في أمثال هذا المقام هو ان يقال لا ريب انهم لا يختلفون في أصالة العدم

٢٢٣

وان الأصل عدم الوجوب في شي‌ء إلا مع قيام الدليل عليه إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان ، وعدم الدليل دليل العدم. وما ادعوه هنا ـ من وجوب القصد بالبسملة إلى سورة معينة فلو بسمل لا بقصد فإنه يجب إعادتها بعد القصد ـ لم يأتوا عليه بدليل واضح سوى ما عرفت من التعليل العليل الذي لا يشفي العليل ولا يبرد الغليل مع استفاضة الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) بالسكوت عما سكت الله عنه (١) والنهي عن تكلف الدليل في ما لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) فيه دليل واضح :

ومن ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده فيه عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٢) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يقول : الربائب عليكم حرام مع الأمهات التي قد دخل بهن في الحجور كنّ وغير الحجور سواء ، والأمهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل بهن فحرموا ما حرم الله وأبهموا ما أبهم الله».

وما رواه الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) في كتاب المجالس (٣) بسنده عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الله حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء رحمة منه لكم من غير نسيان فلا تتكلفوها».

وما رواه في الفقيه (٤) من خطبة أمير المؤمنين وقوله (عليه‌السلام) فيها «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها».

__________________

(١) روى القاضي محمد بن سلامة القضاعي المغربي في كتابه الشهاب في الحكم والآداب في باب الالف المقطوع والموصول عن النبي «ص» انه قال «اسكتوا عما سكت الله عنه».

(٢) الوسائل الباب ١٨ و ٢٠ من ما يحرم بالمصاهرة.

(٣) ص ٩٤ من المطبوع بالمطبعة الحيدرية في النجف.

(٤) باب «نوادر الحدود» وفي الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي وما يقضى به.

٢٢٤

مضافا إلى ما ورد في الآيات القرآنية والسنة النبوية من النهي عن القول بغير علم ولا اثر وارد من الكتاب أو السنة «أتقولون على الله ما لا تعلمون» (١) «ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا» (٢) ونحوهما من الآيات والأخبار الكثيرة الدالة على الوقوف والتثبت والرد إليهم (عليهم‌السلام) في ما لم يرد فيه أمر منهم ، وفي حديث أبي البريد المروي في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «اما انه شر عليكم ان تقولوا بشي‌ء ما لم تسمعوه منا». ونحوه من الأخبار الواردة في هذا المضمار كما لا يخفى على ذوي البصائر والأفكار ، ولا ريب ان بناء الأحكام الشرعية على هذه التخريجات الفكرية خروج عن منهاج السنة النبوية لانحصار أدلة الأحكام في القرآن العزيز واخبارهم (عليهم‌السلام).

(الثاني) ـ قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ بعد البحث في المسألة بنحو ما قدمناه في صدر المقام المتقدم اعتراضا على عبارة المصنف وهي قوله : ومع العدول يعيد البسملة وكذا يعيدها لو قرأها بعد الحمد من غير قصد سورة بعد القصد ـ ما صورته : بقي في المسألة إشكال وهو ان حكمه بإعادة البسملة لو قرأها من غير قصد بعد القصد ان كان مع قراءتها أو لا عمدا لم يتجه القول بالإعادة بل ينبغي القول ببطلان الصلاة للنهي عن قراءتها من غير قصد وهو يقتضي الفساد ، وان كان قرأها ناسيا فقد تقدم القول بأن القراءة خلالها نسيانا موجب لإعادة القراءة من رأس ، فالقول بإعادة البسملة وما بعدها لا غير لا يتم على تقديري العمد والنسيان ، والذي ينبغي القطع بفساد القراءة على تقدير العمد للنهي ، وهو الذي اختاره الشهيد في البيان وحمل الإعادة هنا على قراءتها ناسيا. انتهى.

أقول فيه (أولا) ان ما ادعاه على تقدير القراءة عمدا ـ من بطلان الصلاة للنهي

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية ٢٧.

(٢) سورة الانعام ، الآية ٢١.

(٣) الوسائل الباب ٧ من صفات القاضي وما يقضى به. والراوي هاشم صاحب البريد.

٢٢٥

عن قراءتها من غير قصد ـ مردود بأنه أي نهي هنا ورد بما ذكره واي حديث دل على ما سطره؟ وغاية ما يمكن ان يقال بناء على أصولهم العديمة النوال انه مأمور بالقصد إلى البسملة كما عرفت من كلامهم المتقدم آنفا والأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده الخاص. وقد عرفت مما حققناه آنفا انه لا دليل على هذه الدعوى إلا مجرد تخريجات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، ومع تسليم صحة ذلك فان استلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص وان ذهب اليه جمع منهم إلا ان مذهبه (قدس‌سره) العدم كما صرح به في كتابه المشار اليه ، وبذلك يظهر فساد ما ذكره وبنى عليه.

و (ثانيا) ان ما ذكره بناء على تقدير القراءة ناسيا ـ من انه تقدم القول بأن القراءة خلالها نسيانا موجب لإعادة القراءة من رأس ـ غفلة عجيبة من مثله (قدس‌سره) فان محل البحث هنا انما هو الإتيان بالبسملة بعد الحمد والقراءة بتلك البسملة بغير قصد واللازم من البسملة والقراءة بغير قصد بناء على دعواه وجوب القصد هو اعادة ما قرأه بعد القصد ، والذي تقدم في مسألة وجوب الموالاة انما هو القراءة في خلال آيات الحمد والسورة واين هذا من ذاك؟ ولم يذكر في ما تقدم حكم القراءة بين سورة الحمد والسورة التي بعدها ، وغاية ما يلزم هنا هو قراءة القرآن في الصلاة وهو مما لا خلاف بينهم في جوازه ولا تعلق له بمسألة وجوب الموالاة التي هي عبارة عن ان لا يقرأ خلال الفاتحة والسورة غيرهما ، وجميع ما فرعه انما هو من فروع وجوب الموالاة ومذهب الشهيد الذي نقله انما هو في الموالاة كما قدمنا نقله ، وما نحن فيه ليس من مسألة الموالاة في شي‌ء. وجميع ما ذكرنا ظاهر بحمد الله لا سترة عليه.

(الثالث) ـ المستفاد من الأخبار المتقدمة انه لا فرق في جواز العدول حيث يصح بين ان يكون دخوله في السورة المعدول عنها بقصد أو بغيره ، وعلى الأول فقد يكون عدوله عنها مقصودا لذاته بان يبدو له العدول إلى غيرها فيعدل أو لنسيانها بان يحمله نسيانها على قصد غيرها أو غير مقصود بان يتمادى به السهو والنسيان إلى ان يدخل في الثانية من غير قصد ، وعلى الثاني لا فرق بين ان تكون السورة المعدول إليها مما سبق

٢٢٦

قصدها أم لا ، فهذه صور خمس كلها مستفادة من النصوص المتقدمة :

أما الصورة الاولى ـ وهي ان يقصد سورة فيبدو له في قصد غيرها ـ فهي مستفادة من الرواية الثانية من الروايات المتقدمة.

واما الصورة الثانية وهي ان يقصد سورة فينساها فيتعمد العدول الى غيرها ، والثالثة ـ وهي ان يقصد سورة فينساها فينجر به الذهول والنسيان إلى ان يدخل في غيرها من غير قصد ـ فهما مستفادتان من إطلاق الرواية الثامنة ، فإن قوله فيها «ثم ينسى فيأخذ في أخرى» يحتمل ان يكون المراد فينسى ما هو فيه فيعمد إلى الدخول في أخرى أو ينسى ما هو فيه فيشرع بطريق السهو والنسيان في أخرى ، والثانية من هاتين الصورتين مستفادة من الرواية الثانية عشرة ، فإن قوله فيها «ثم يعلم انه قد أخطأ» ظاهر في ان دخوله في الثانية انما كان عن سهو وخطأ لا عن تعمد ، بمعنى انه استمر به السهو بعد شروعه في الاولى إلى ان دخل في الثانية وفرغ منها ثم ذكر بعد ذلك.

والصورة الرابعة ـ وهي ان يشرع في السورة لا بطريق القصد بل بعد القصد لسورة أخرى فيغفل عنها إلى ان يدخل في الثانية سهوا فيعدل عنها إلى الأولى المقصودة أولا ـ مستفادة من أكثر الأخبار كالرواية الاولى والثالثة والرابعة والتاسعة ، لظهور شمولها لذلك بل هو أظهر من احتمالها لإرادة قراءة سورة فينساها فيعمد إلى قراءة غيرها لأجل النسيان ثم يذكر فيعدل إلى السورة المقصودة أولا. وهذا الاحتمال الثاني قد تضمن كون المعدول عنه والمعدول اليه كلاهما مقصودين ولكن كان المعدول اليه مقصودا قبل المعدول عنه لكن عرض نسيانه فلا يبعد دخولها في الصورة الأولى لشمولها من حيث إطلاقها لذلك ، وتكون هذه الأخبار من حيث احتمالها لذلك شاهدة له وان حصلت صورة سادسة لأن فيها زيادة اعتبار ليس في الاولى فلا بأس به.

والصورة الخامسة ـ وهي ان يكون شروعه في السورة لا بطريق القصد فيبدو له في أثنائها العدول إلى أخرى لم تكن مقصودة قبل ـ ربما تشملها الرواية الثانية ، فإن قوله

٢٢٧

فيها «ومن افتتح بسورة» أعم من ان يكون بطريق القصد أو جرى ذلك على لسانه من غير قصد وان كان الظاهر هو الأول. وبالجملة ففي جميع هذه الصور يصح العدول بغير اشكال. والله العالم.

(الرابع) ـ المستفاد من الأخبار المذكورة بمعونة ما تقدم تحقيقه انه لا يجب في الصلاة قصد سورة معينة قبل البسملة خلافا للمشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) وذلك لأن نية الصلاة كافية لاجزائها إجماعا وان فعلت حال الغفلة والذهول ، فلو جرى لسانه ابتداء على سورة أخرى من غير قصد أو قصد سورة فقرأ غيرها نسيانا صحت الصلاة ولم يجب عليه العدول إلى سورة أخرى وان تذكر قبل الركوع ، للأصل وحصول الامتثال المقتضي للاجزاء وهي الأخبار المتقدمة خصوصا الرواية الثامنة.

وقال الشهيد (قدس‌سره) في الذكرى ـ بعد ما صرح بوجوب ان يقصد بالبسملة سورة معينة ـ ما نصه : اما لو جرى لسانه على بسملة وسورة فالأقرب الإجزاء لرواية أبي بصير السالفة ولصدق الامتثال ، وروى البزنطي عن أبي العباس «في الرجل يريد ان يقرأ السورة فيقرأ في أخرى.». الرواية العاشرة من الروايات المتقدمة (١) ثم قال : قلت وهذا حسن ويحمل كلام الأصحاب والروايات على من لم يكن مريدا غير هذه السورة ، لأنه إذا قرأ غير ما اراده لم يعتد به ولهذا قال «يرجع» فظاهره تعين الرجوع. انتهى كلامه. وحاصله الفرق بين الصورتين المذكورتين سابقا والاجزاء في الصورة الأولى لما ذكره دون الثانية أعني ما تعلق القصد بغيرها نسيانا ، فان كلامه (قدس‌سره) يعطي وجوب العدول عنها لو ذكرها قبل الركوع لرواية البزنطي المذكورة حيث جعل ظاهرها تعين الرجوع ، وأظهر منها في الدلالة على ذلك موثقة عبيد بن زرارة الاولى لتضمنها الأمر بالرجوع. وقد جعل (قدس‌سره) محل جواز العدول وعدمه في الروايات وكلام الأصحاب ما إذا تعلق قصده بغير السورة التي قرأها كما في الصورة الاولى من

__________________

(١) ص ٢١٠.

٢٢٨

الصور الخمس المتقدمة.

وفي ما ذكره (قدس‌سره) من جميع ذلك نظر : (أما أولا) فلان ما دل على الاجزاء وعدم تعين الرجوع في الصورة الأولى قائم بعينه في الصورة الثانية لموافقة الأصل وحصول الامتثال ولرواية أبي بصير التي أوردها دالة على الاجزاء في الصورة الاولى وهي صحيحة الحلبي والكناني وأبي بصير ومن حيث الاشتراك صح نسبتها إلى كل من الثلاثة ، فإن ظاهرها بل صريحها تعلق القصد والإرادة بغير ما قرأه ناسيا. والعجب منه كيف استدل بها على الاولى مع انها صريحة الدلالة على الثانية.

و (اما ثانيا) فإنه لو كان تعلق القصد بغير هذه السورة موجبا لعدم الاعتداد بها كما ذكره حتى وجب لأجله العدول عنها إلى ما قصده أولا لم يكن فرق في ذلك بين بلوغ النصف وما قبله وما بعده بل ولو فرغ من السورة قبل الركوع ، فإنه يجب في جميع ذلك الرجوع مطلقا بمقتضى ما ذكره من عدم الاعتداد مع دلالة رواية البزنطي التي أوردها دالة على تعين الرجوع على عدم جواز الرجوع بعد تجاوز النصف ودلالة موثقة عبيد ابن زرارة الثانية على عدم جوازه بعد الثلثين كما هو ظاهر.

و (اما ثالثا) فلدلالة الروايات على ان الرجوع في هذه الصورة على سبيل الجواز والتخيير دون الوجوب والتعيين كما هو ظاهر موثقة عبيد بن زرارة المذكورة ، حيث قال فيها «له ان يرجع ما بينه وبين ثلثيها». ونحوه صحيحة علي بن جعفر الأولى فإن مفادها الجواز دون الوجوب ، وصحيحته الثانية صريحة في التخيير حيث قال : «فليرجع ان أحب» وحينئذ فيحمل ما دل على الأمر بالرجوع صريحا أو ظاهرا على الاستحباب دون الإيجاب.

و (اما رابعا) فلانه لو كان الحكم في هذه الصورة وجوب الرجوع لما ذكره من عدم الاعتداد لم يكن لاستثناء سورتي التوحيد والجحد من ذلك وجه لاشتراك الجميع في عدم الاعتداد الموجب لتعيين المعدول إليه حينئذ ، مع دلالة أكثر الروايات الدالة

٢٢٩

على هذا الحكم على استثناء هاتين السورتين منه ووجوب المضي فيهما وعدم جواز الرجوع كما عليه الأصحاب.

وبالجملة فالظاهر من الروايات استحباب العدول من كل سورة دخل فيها بغير قصد غير السورتين المذكورتين وان جاز له المضي فيها ، إذ هو الظاهر مما تضمنته من الأمر بالرجوع صريحا أو ظاهرا ، وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على جواز الرجوع هنا دون وجوبه. والله العالم.

تتمة تشتمل على فوائد

(الأولى) ـ نقل في الذكرى عن ابن أبي عقيل (قدس‌سره) انه قال لا يقرأ في الفريضة ببعض السورة ولا بسورة فيها سجدة مع قوله بأن السورة غير واجبة. وقال أيضا من قرأ في صلاة السنن في الركعة الأولى ببعض السورة وقام في الركعة الأخرى ابتدأ من حيث بلغ ولم يقرأ بالفاتحة. قال في الذكرى : وهو غريب والمشهور قراءة الحمد وقد روى سعد بن سعد عن الرضا (عليه‌السلام) (١) «في من قرأ الحمد ونصف سورة هل يجزئه في الثانية ان لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟ فقال يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة». والظاهر انه في النافلة.

(الثانية) ـ أجمع علماؤنا وأكثر العامة على ان المعوذتين من القرآن العزيز وانه يجوز القراءة بهما في الصلاة المفروضة ، روى منصور بن حازم (٢) قال «أمرني أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان اقرأ المعوذتين في المكتوبة». وعن صفوان الجمال في الصحيح (٣) قال : «صلى بنا أبو عبد الله (عليه‌السلام) المغرب فقرأ بالمعوذتين ، ثم قال هما من القرآن». وعن صابر مولى بسام (٤) قال «أمنا أبو عبد الله (عليه‌السلام) في صلاة

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من القراءة.

(٢ و ٤) الوسائل الباب ٤٧ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٤٧ من القراءة. ولم تجد في شي‌ء من كتب الأخبار قوله : «ثم قال هما من القرآن» وآخر الرواية هكذا «فقرأ بالمعوذتين في الركعتين».

٢٣٠

المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال : هما من القرآن».

قال في الذكرى : ونقل عن ابن مسعود انهما ليستا من القرآن وانما أنزلتا لتعويذ الحسن والحسين (عليهما‌السلام) وخلافه انقرض واستقر الإجماع الآن من العامة والخاصة على ذلك (١) انتهى.

أقول : روى الحسين بن بسطام في كتاب طب الأئمة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «انه سئل عن المعوذتين أهما من القرآن؟ قال (عليه‌السلام) هما من القرآن. فقال الرجل انهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ولا في مصحفه؟ فقال (عليه‌السلام) أخطأ ابن مسعود أو قال كذب ابن مسعود هما من القرآن. قال الرجل أفأقرأ بهما في المكتوبة؟ قال نعم».

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره بسنده عن أبي بكر الحضرمي (٣) قال :

__________________

(١) في الدر المنثور للسيوطي ج ٦ ص ٤١٦ وروح المعاني للالوسى ج ٣ ص ٢٧٩ «أخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن مسعود انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا القرآن بما ليس منه انهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي «ص» ان يتعوذ بهما. وكان ابن مسعود لا يقرأهما. وقال البزار لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة. وصح عن النبي «ص» انه قرأ بهما في الصلاة واثبتتا في المصحف» وفي إرشاد الساري ج ٧ ص ٤٤٢ «وقع الخلاف في قرآنيتهما ثم ارتفع الخلاف ووقع الإجماع عليه فلو أنكر أحد قرآنيتهما كفر» وفي عمدة القارئ ج ٩ ص ٢٩٨ مثله. وفي فتح الباري ج ٨ ص ٥٢٥ «وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الانتصار وتبعه عياض وغيره فقال لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن وانما أنكر إثباتهما في المصحف ، فإنه كان يرى ان لا يكتب في المصحف شيئا إلا أن يأذن النبي «ص» فيه وكأنه لم يبلغه الاذن فهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا. وهذا تأويل حسن إلا ان الرواية الصحيحة جاءت عنه انهما ليستا من القرآن إلا ان يحمل القرآن على المصحف».

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٤٧ من القراءة.

٢٣١

«قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) ان ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف؟ فقال كان أبي يقول انما فعل ذلك ابن مسعود برأيه وهما من القرآن».

وهذه الأخبار كما ترى متفقة الدلالة على ما عليه الأصحاب إلا ان كلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي صريح الدلالة في ما نقل عن ابن مسعود حيث قال (عليه‌السلام) (١) : وان المعوذتين من الرقية ليستا من القرآن أدخلوهما في القرآن ، وقيل ان جبرئيل (عليه‌السلام) علمهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى ان قال أيضا : واما المعوذتين فلا تقرأهما في الفرائض ولا بأس في النوافل. انتهى. والأقرب حمله على التقية.

(الثالثة) ـ قال في الذكرى : لا قراءة عندنا في الأخيرتين زائدا على الحمد فرضا ولا نفلا وعليه الإجماع منا ، وفي الجعفريات (٢) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «انه كان يقرأ في ثالثة المغرب : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ» (٣). قال : وهو محمول على إيرادها دعاء لا انه جزء من الصلاة.

(الرابعة) ـ روى الشيخ في التهذيب عن زرارة (٤) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) أصلي بقل هو الله أحد؟ فقال نعم قد صلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في كلتا الركعتين بقل هو الله أحد لم يصل قبلها ولا بعدها بقل هو الله أحد أتم منها». قال في الذكرى بعد نقل هذا الخبر : قلت تقدم كراهة ان يقرأ بالسورة الواحدة في الركعتين فيمكن ان يستثني من ذلك «قل هو الله أحد» لهذا الحديث ولاختصاصها بمزيد الشرف ، أو فعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لبيان جوازه.

أقول : المشهور في كلام الأصحاب كراهة قراءة السورة الواحدة في الركعتين استنادا إلى رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته

__________________

(١) ص ٩.

(٢) ص ٤١.

(٣) سورة آل عمران الآية ٨.

(٤) الوسائل الباب ٧ من القراءة.

(٥) الوسائل الباب ٦ من القراءة.

٢٣٢

عن الرجل يقرأ سورة واحدة في الركعتين من الفريضة وهو يحسن غيرها فان فعل فما عليه؟ قال إذا أحسن غيرها فلا يفعل وان لم يحسن غيرها فلا بأس». وجملة من الأصحاب قد استثنوا من هذا الحكم سورة التوحيد للخبر المذكور أولا ، ونحوه صحيحة حماد بن عيسى الواردة في تعليم الصادق (عليه‌السلام) له الصلاة (١) حيث قال فيها : «ثم قرأ الحمد بترتيل وقل هو الله أحد ، وساق الكلام في حكاية صلاته (عليه‌السلام) الى ان قال : فصلى ركعتين على هذا».

(الخامسة) ـ روى السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «في الرجل يصلي في موضع ثم يريد ان يتقدم؟ قال يكف عن القراءة في مشيه حتى يتقدم إلى الموضع الذي يريد ثم يقرأ». قال في الذكرى : قلت هذا الحكم مشهور بين الأصحاب ، وهل الكف واجب؟ توقف فيه بعض المتأخرين ، والأقرب وجوبه لظاهر الرواية ، وان القرار شرط في القيام. انتهى. وقال العلامة في المنتهى إذا أراد الرجل ان يتقدم في صلاته سكت عن القراءة ثم تقدم لأنه في تلك الحال غير واقف ، ويؤيده ما رواه الشيخ (قدس‌سره) ، ثم ذكر الرواية.

(السادسة) ـ قد ورد في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (٣) «في المصلي خلف من لا يقتدى بصلاته والامام يجهر بالقراءة؟ قال اقرأ لنفسك وان لم تسمع نفسك فلا بأس».

وفي مرسلة علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) «يجزئك إذا كنت معهم من القراءة مثل حديث النفس».

قال في الذكرى : قلت هذا يدل على الاجتزاء بالإخفات عن الجهر للضرورة وعلى

__________________

(١) ص ٢.

(٢) الوسائل الباب ٣٤ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٥٢ من القراءة.

(٤) الوسائل الباب ٥٢ من القراءة ، والمرسل في كتب الحديث هو محمد بن أبي حمزة.

٢٣٣

الاجتزاء بما لا يسمعه عما يجب إسماعه نفسه للضرورة أيضا ولا يلزم فيها سقوط القراءة لأن الميسور لا يسقط بالمعسور (١) انتهى.

الفصل الخامس في الركوع

وهو لغة الانحناء ، يقال ركع الشيخ اي انحنى من الكبر ، وفي الشرع انحناء مخصوص ، قال في القاموس ركع المصلي ركعة وركعتين وثلاث ركعات محركة : صلى ، والشيخ انحنى كبرا أو كبا على وجهه وافتقر بعد غنى وانحطت حاله ، وكل شي‌ء يخفض رأسه فهو راكع ، والركوع في الصلاة ان يخفض رأسه بعد قومة القراءة حتى ينال راحتاه ركبتيه. انتهى.

ووجوبه ثابت بالنص والإجماع في كل ركعة مرة إلا في صلاة الآيات كما سيجي‌ء ان شاء الله تعالى في محله ، وقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه ركن تبطل الصلاة بتركه عمدا وسهوا وكذا زيادته إلا ما استثنى.

ومن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ألا ترى لو ان رجلا دخل في الإسلام لا يحسن ان يقرأ القرآن أجزأه ان يكبر ويسبح ويصلي؟».

وفي الصحيح عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل ينسى ان يركع حتى يسجد ويقوم؟ قال يستقبل».

وعن إسحاق بن عمار في الصحيح (٤) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الرجل ينسى ان يركع؟ قال يستقبل حتى يضع كل شي‌ء من ذلك موضعه».

__________________

(١) عوائد النراقي ص ٨٨ وعناوين مير فتاح ص ١٤٦ عن عوالي اللئالي عن على «ع».

(٢) الوسائل الباب ٣ من القراءة.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ١٠ من الركوع.

٢٣٤

وعن أبي بصير (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن رجل نسي أن يركع؟ قال عليه الإعادة».

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا أيقن الرجل انه ترك ركعة من الصلاة وقد سجد سجدتين وترك الركوع استأنف الصلاة».

وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «ان الله فرض الركوع والسجود.».

وروى الشيخ في الصحيح بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «ان الله فرض من الصلاة الركوع والسجود. الحديث».

وروى الصدوق في الصحيح عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٦) قال : «ان الله فرض الركوع والسجود والقراءة سنة. الحديث».

وعن زرارة (٧) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الفرض في الصلاة فقال الوقت والطهور والقبلة والتوجه والركوع والسجود والدعاء. قلت ما سوى ذلك؟

قال سنة في فريضة».

وروى الشيخ في الصحيح عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٨) في حديث «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كان يقول ان أول صلاة أحدكم الركوع

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٠ من الركوع.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧) الوسائل الباب ٩ من الركوع.

(٨) الوسائل الباب ٩ من الركوع ، والموجود في التهذيب ج ١ ص ١٦١ هكذا «وكان يقول ـ يعني أمير المؤمنين «ع» ـ أول صلاة أحدكم الركوع» من دون اضافة السجود ولا سؤال آخر ، وكذا في الوافي والوسائل.

٢٣٥

والسجود. قيل هل نزل في القرآن؟ قال نعم قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)» (١).

وعن سماعة في الموثق (٢) قال : «سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن؟ قال نعم قول الله عزوجل : يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا (٣). الخبر».

أقول : وهذان الخبران ظاهران في وجود الحقائق الشرعية ردا على من أنكر ذلك.

والقول بركنية الركوع في الصلاة في كل ركعة هو المشهور وذهب الشيخ في المبسوط إلى انه ركن في الأوليين وفي ثالثة المغرب دون غيرها ، وسيجي‌ء ان شاء الله تعالى تحقيق البحث في المسألة في محلها.

ثم انه لا يخفى ان الركوع يشتمل على الواجب والمستحب فتحقيق الكلام فيه حينئذ يحتاج إلى بسطه في مقامين :

(الأول) في الواجب والواجب فيه أمور (الأول) الانحناء بقدر ما تصل يداه ركبتيه ويمكن وضعهما على الركبتين ، اما وجوب الانحناء فلا شك فيه لأن الركوع كما عرفت عبارة عن الانحناء لغة وشرعا فما لم يحصل الانحناء لا يصدق الإتيان بالركوع. واما التحديد بما ذكر فقد نقل الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيدان عليه إجماع العلماء كافة إلا من أبي حنيفة (٤) واستدلوا على ذلك بوجوه :

(أحدهما) ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يركع كذلك فيجب التأسي به.

و (ثانيها) ـ صحيحة حماد المتقدمة في أول الباب (٥) وقوله فيها : «ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه منفرجات ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره حتى لو صب

__________________

(١ و ٣) سورة الحج ، الآية ٧٦.

(٢) الوسائل الباب ٥ و ٩ من الركوع.

(٤) في الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٢٣١ «عند الحنفية يحصل الركوع بطأطأة الرأس بان ينحني انحناء يكون إلى حال الركوع أقرب».

(٥) ص ٢ ، وليس في كتب الحديث «ثلاث مرات» بعد ذكر الركوع.

٢٣٦

عليه قطرة من ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره ، ومد عنقه وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل فقال سبحان ربي العظيم وبحمده (ثلاث مرات). الحديث».

و (ثالثها) ـ صحيحة زرارة المتقدمة ثمة أيضا (١) حيث قال (عليه‌السلام) فيها «وتمكن راحتيك من ركبتيك وتضع يدك اليمنى على ركبتيك اليمنى قبل اليسرى وبلع بأطراف أصابعك عين الركبة وفرج أصابعك إذا وضعتها على ركبتيك ، فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحب الي ان تمكن كفيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرج بينها ، وأقم صلبك ومد عنقك وليكن نظرك إلى ما بين قدميك». قال في المدارك : وهذان الخبران أحسن ما وصل إلينا في هذا الباب.

ونقل المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى عن معاوية بن عمار وابن مسلم والحلبي (٢) قالوا : «وبلع بأطراف أصابعك عين الركبة فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحب ان تمكن كفيك من ركبتيك فإذا أردت أن تسجد فارفع يديك بالتكبير وخر ساجدا». والظاهر ان هذه الرواية قد نقلها المحقق من الأصول التي عنده ولم تصل إلينا إلا منه (قدس‌سره) وكفى به ناقلا.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لا خلاف بين الأصحاب في ما اعلم انه لا يجب وضع اليدين على الركبتين وقد نقلوا الإجماع على ذلك ، وانما المعتبر وصولهما بحيث لو أراد الوضع لوضعهما والوضع انما هو مستحب.

وانما الخلاف في القدر المعتبر في الوصول من اليد ، فالمشهور على ما ذكره شيخنا في البحار ان الانحناء إلى ان تصل الأصابع إلى الركبتين هو الواجب والزائد مستحب وقال الشهيد في البيان الأقرب وجوب انحناء تبلغ معه الكفان ركبتيه ولا يكفي بلوغ أطراف الأصابع وفي رواية «بكفي». وبذلك صرح الشهيد الثاني في الروض والروضة

__________________

(١) ص ٣ ، وكلمة (بلع) بالعين المهملة كما في الوافي باب الركوع.

(٢) المعتبر ص ١٧٩ والمنتهى ج ١ ص ٢٨١.

٢٣٧

والمحقق الشيخ علي ، وظاهر عبارة المعتبر وصول الكفين إلى الركبتين ، وفي عبارة العلامة في التذكرة وصول الراحتين وادعيا عليه الإجماع إلا من أبي حنيفة (١) وفي المنتهى تبلغ يداه إلى ركبتيه ، ونحوها عبارة الشهيد في الذكرى ، وهو ظاهر في الاكتفاء بوصول جزء من اليد. ويمكن حمل عبارة المعتبر والتذكرة على المسامحة في التعبير لأنه في المعتبر قد استدل ـ كما عرفت ـ بالرواية المنقولة عن الثلاثة المتقدمين وهي صريحة في الاكتفاء بوصول رؤوس الأصابع ، وكذلك صحيحة زرارة المتقدمة هنا لقوله : «فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك» وبذلك يظهر لك ما في كلام المشايخ الثلاثة المتقدم ذكرهم من ان وصول شي‌ء من رؤوس الأصابع إلى الركبتين غير كاف

قال في الروض بعد نقل قول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة «وتمكن راحتيك من ركبتيك». والمراد بالراحة الكف ومنها الأصابع ، ويتحقق بوصول جزء من باطن كل منهما لا برءوس الأصابع. انتهى. وفيه ان سياق عبارة الرواية ينادي بان ما استند اليه هنا انما هو على جهة الأفضلية لا انه الواجب الذي لا يجزئ ما سواه لتصريحه في الرواية بما ذكرناه أولا ثم قال بعده : «وأحب الي ان تمكن كفيك من ركبتيك» وبذلك يظهر ان ما ذكره ناشى‌ء عن الغفلة عن مراجعة الخبر.

بقي هنا شي‌ء وهو ان المحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة ادعيا الإجماع إلا من أبي حنيفة (٢) على ما ذكراه من وصول الكفين أو الراحتين إلى الركبة ، والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى ادعيا الإجماع على ما ذكراه من وصول اليد الصادق بوصول رؤوس الأصابع إلى الركبة ، والتدافع في نقل هذا الإجماع ظاهر من الكلامين فلا بد من حمل احدى العبارتين على التساهل في التعبير وإرجاعها إلى العبارة الثانية ، ونحن قد أشرنا إلى ان التجوز والتساهل قد وقع في عبارتي المعتبر والتذكرة لما ذكرناه

__________________

(١ و ٢) في الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٢٣١ «عند الحنفية يحصل الركوع بطأطأة الرأس بان ينحني انحناء يكون إلى حال الركوع أقرب».

٢٣٨

من استدلال المحقق على ما ذكره بالرواية المنقولة عن الرواة الثلاثة المتقدمين وهي صريحة في خلاف ظاهر كلامه ونحوه صحيحة زرارة كما عرفت ، فلو لم يحمل كلامه على ما ذكرناه لم يتم استدلاله بالخبر المذكور.

والفاضل الخراساني في الذخيرة مال إلى ان التجوز والمسامحة في عبارتي المنتهى والذكرى فيجب إرجاعهما إلى عبارتي المعتبر والتذكرة مستندا إلى ان الذي يقع في الخاطر من وضع اليد وصول شي‌ء من الراحة ، وتشعر بذلك الأدلة التي في الكتابين سيما الذكرى ، فإنه قال فيه بعد نقل قول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة «وتمكن راحتيك من ركبتيك» وهو دليل على الانحناء هذا القدر لأن الإجماع على عدم وجوب وضع الراحتين. فاذن لا معدل عن العمل بما ذكره المدققان لتوقف البراءة اليقينية عليه ، ولا تعويل على ظاهر الخبر إذا خالف فتاوى الفرقة. انتهى.

وفيه (أولا) انك قد عرفت صراحة الروايتين المتقدمتين في الاكتفاء ببلوغ رؤوس الأصابع ، ويؤكده تصريحه (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة بالأفضلية في وضع الكفين بقوله «وأحب الي» والواجب هو العمل بالأخبار لا بالأقوال العارية عن الأدلة وان ادعى فيها الإجماع.

و (ثانيا) ـ ما ذكره ـ من ان الذي يقع في الخاطر من وضع اليد وصول شي‌ء من الراحة ـ فإنه ممكن لو كان عبارة المنتهى والذكرى كما ذكره من وضع اليد والذي فيهما انما هو «الى ان تبلغ اليد» والفرق بين العبارتين ظاهر فان بلوغ اليد يصدق ببلوغ رؤوس الأصابع.

و (ثالثا) ـ ان استدلال الشهيد في الذكرى بما ذكره من صحيحة زرارة وقوله : «وهو دليل على الانحناء هذا القدر» انما وقع في مقام الاستدلال على أصل الانحناء ردا على أبي حنيفة وإلا فالرواية المذكورة صريحة كما عرفت في ان هذه الكيفية انما هي على جهة الفضل والاستحباب.

٢٣٩

و (رابعا) ـ ما ذكره من رد الخبر إذا خالف فتاوى الفرقة انما يتم مع الإغماض عما فيه إذا ثبت هنا إجماع على ما يدعيه ، وهو لم ينقل إلا عبارتي المعتبر والتذكرة خاصة مع مخالفة ظاهر عبارتي المنتهى والذكرى لذلك ، فأين فتاوى الفرقة التي ينوه بها والحال كما ترى؟ على انك قد عرفت مما قدمنا نقله عن شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في البحار ان المشهور انما هو ما اخترناه من الاكتفاء برءوس الأصابع ، ما هذه إلا مجازفات محضة ودعاوي صرفة.

و (خامسا) ـ ان الشهيد الثاني وان صرح بما ذكره في الروض والروضة إلا انه قد صرح بما ذكرناه في المسالك ، حيث قال : والظاهر الاكتفاء ببلوغ الأصابع ، وفي حديث زرارة المعتبر «فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك وأحب إلى ان تمكن كفيك» انتهى. وهو عدول عما ذكره في الروض والروضة ولا شك ان كلامه هنا هو المؤيد بالدليل كما عرفت. وكيف كان فالاحتياط في الانحناء إلى وصول الكف والراحة.

ثم لا يخفى ان ظاهر اخبار المسألة هو الوضع لا مجرد الانحناء بحيث لو أراد لوضع وان الوضع مستحب كما هو المشهور في كلامهم والدائر على رؤوس أقلامهم ، فإن هذه الأخبار ونحوها ظاهرة في خلافه ولا مخصص لهذه الأخبار إلا ما يدعونه من الإجماع على عدم وجوب الوضع.

فوائد

(الأولى) ـ اعتبار مقدار وصول اليد إلى الركبتين بالانحناء احتراز عن الوصول بغير انحناء ، فإنه لا يكفي في صدق الركوع ولا يسمى ركوعا كالانخناس بان يخرج ركبتيه وهو مائل منتصب فإنه لا يجزئه ، وكذا لو جمع بين الانحناء والانخناس بحيث لو لا الانخناس لم تبلغ اليدان لم يجزئ.

٢٤٠