الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

وهذه الرواية لم أقف عليها في الوافي ولا في الوسائل في جملة أخبار العزائم (١) مع انها في التهذيب في باب كيفية الصلاة وصفتها والمفروض من ذلك والمسنون من الزيادات (٢) والله العالم.

البحث الثاني في مستحباتها

والمسنون في هذا المقام أمور : منها ـ الاستعاذة قبل القراءة في الركعة الاولى من كل صلاة ، ويدل على ذلك ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) وذكر دعاء التوجه بعد تكبيرة الإحرام ثم قال : «ثم تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم اقرأ فاتحة الكتاب».

والكلام هنا يقع في مواضع (الأول) المشهور انها مستحبة ونقل فيه الشيخ في الخلاف الإجماع منا ، وقال أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان : والاستعاذة عند التلاوة مستحبة غير واجبة بلا خلاف في الصلاة وخارج الصلاة. ونقل في الذكرى عن الشيخ أبي علي القول بالوجوب فيها ، قال وللشيخ أبي علي بن الشيخ الأعظم أبي جعفر الطوسي قول بوجوب التعوذ للأمر به وهو غريب ، لأن الأمر هنا للندب اتفاقا وقد نقل فيه والده في الخلاف الإجماع ، وقد روى الكليني عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي ان لا تستعيذ». انتهى. أقول ويؤيده ما ذكره الصدوق (٥) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتم الناس صلاة وأوجزهم ، كان إذا دخل في صلاته قال الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم». انتهى. إلا انه يمكن ان يقال انه لما كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليس للشيطان عليه سبيل فلا يثبت

__________________

(١) رواها في الوافي في باب «سجدات القرآن وذكرها» وفي الوسائل في الباب ٤٢ من قراءة القرآن.

(٢) ج ١ ص ٢١٩.

(٣) الوسائل الباب ٥٧ من القراءة.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٥٨ من القراءة.

١٦١

الحكم المذكور بتركه الاستعاذة. وفيه ان الأئمة (عليهم‌السلام) كذلك مع ان الأخبار دلت على وقوع الاستعاذة منهم في الصلاة ، والغرض منها بالنسبة إليهم (عليهم‌السلام) انما هو تعليم الشيعة واقامة السنة. وبالجملة فالقول المشهور هو الظاهر كما لا يخفى.

وقال شيخنا المجلسي في البحار ـ بعد نقل كلام شيخنا الشهيد في الذكرى بطوله المشتمل على بعض الأخبار ـ ما لفظه : ولو لا الأخبار الكثيرة لتأتي القول بوجوب الاستعاذة في كل ركعة يقرأ فيها بل في غير الصلاة عند كل قراءة ولكن الأخبار الكثيرة تدل على الاستحباب وتدل بظواهرها على اختصاصه بالركعة الاولى والإجماع المنقول والعمل المستمر مؤيد ، ومن مخالفة ولد الشيخ يعلم معنى الإجماع الذي ينقله والده (قدس الله روحيهما) وهو اعرف بمسلك أبيه ومصطلحاته. انتهى.

أقول : الظاهر ان منشأ تقوية القول بالوجوب هو ورود ذلك في الآية مطلقا في الصلاة وغيرها وأوامر القران للوجوب بلا خلاف إلا ما يخرج بدليل. واما ما ذكره من ان الأخبار الكثيرة تدل على خلاف ظاهر الآية فظني بعده بل ظاهرها انما هو التأييد لما دلت عليه الآية حيث تضمنت الأمر بالاستعاذة كما ستقف عليه ان شاء الله تعالى نعم الخبر الذي رواه عن الكافي وهو خبر فرات بن أحنف عن ابي جعفر (عليه‌السلام) المذكور المؤيد بما نقلناه عن الصدوق الذي هو في قوة خبر مرسل والإجماع المدعى في المسألة مما يدافع ذلك. واما كون محله في الصلاة الركعة الأولى فتدل عليه صحيحة الحلبي أو حسنته المتقدمة لكن لا دلالة فيها على الاختصاص كما ذكره (قدس‌سره)

(الثاني) المشهور في كيفيتها انها «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية بعد ذكر المصنف لها : وهذه الصيغة محل وفاق رواها أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) أقول : وهذه الرواية نقلها في

__________________

(١) في نيل الأوطار ج ٢ ص ٢١٣ «عن ابى سعيد الخدري عن النبي «ص» انه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

١٦٢

الذكرى ، قال في الاستدلال على استحباب الاستعاذة : ولما رواه أبو سعيد الخدري «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقول قبل القراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (١). ثم قال بعد كلام في البين : وصورته ما روى الخدري. أقول الظاهر ان الرواية المذكورة عامية كما لا يخفى ، ونقل عن الشيخ المفيد (قدس‌سره) «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» نقله عنه في الذكرى ، وعن ابن البراج «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ان الله هو السميع العليم».

والذي وصل الي من الأخبار في هذا المقام ما رواه الشهيد في الذكرى عن البزنطي عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «في الاستعاذة؟ قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».

وروى الشيخ عن سماعة في الموثق (٣) قال : «سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب؟ قال فليقل أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ان الله هو السميع العليم ، ثم ليقرأها ما دام لم يركع».

وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن حنان بن سدير في الموثق (٤) قال : «صليت خلف أبي عبد الله (عليه‌السلام) المغرب فتعوذ بإجهار : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله ان يحضرون. الحديث». وهذه الرواية نقلها في الذكرى أيضا عن حنان بن سدير مثله إلا انه لم يذكر لفظ «المغرب» والرواية الأولى موافقة لما نقل عن الشيخ المفيد. وقال شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية (٥)

وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله

__________________

من همزه ونفخه ونفثه. رواه احمد والترمذي. وقال ابن المنذر جاء عن النبي «ص» انه كان يقول قبل القراءة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». ثم قال في الشرح : حديث أبي سعيد أخرجه أيضا أبو داود والنسائي.

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٥٧ من القراءة.

(٥) ص ٨١.

١٦٣

(عليه‌السلام) «أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم أعوذ بالله ان يحضرون ان الله هو السميع العليم».

وفي كتاب تفسير الإمام العسكري (١) قال (عليه‌السلام): «اما قولك الذي ندبك الله اليه وأمرك به عند قراءة القرآن أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. الحديث». وهو مثل رواية معاوية بن عمار المتقدمة في الدلالة على ما ذهب اليه الشيخ المفيد (قدس‌سره).

وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (٢) في سياق ذكر تكبيرات الافتتاح وأدعيتها : «ثم افتتح الصلاة وارفع يديك ، ثم ذكر تكبيرات الافتتاح إلى ان قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم». وهذه الرواية أيضا مطابقة لمذهب الشيخ المذكور كالروايتين المذكورتين.

ويزيده تأييدا ما في رواية كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٣) قال : «تعوذ بعد التوجه من الشيطان الرجيم تقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. الحديث».

وبه يتبين قوة القول المذكور وان كان خلاف ما هو المشهور الذي قد عرفت انه لا مستند له إلا تلك الرواية العامية واما باقي روايات المسألة فلا بأس بالعمل بها إلا ان ما اخترناه أرجح.

(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب ـ بل نقل عن الشيخ في الخلاف دعوى الإجماع عليه ـ هو استحباب الإخفات بالاستعاذة ، قال شيخنا في الذكرى : يستحب الأسرار بها ولو في الجهرية ، قاله الأكثر ونقل الشيخ فيه الإجماع منا ، ثم قال وروى حنان بن سدير ثم ساق الرواية كما قدمنا ذكرها ثم قال ويحمل على الجواز.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من قراءة القرآن.

(٢) ص ٧.

(٣) مستدرك الوسائل الباب ٤٣ من القراءة.

١٦٤

وقال شيخنا المجلسي في البحار بعد نقل رواية حنان بن سدير المذكورة من كتاب قرب الاسناد ثم نقل كلام الذكرى المتعلق بهذا المقام : أقول لم أر مستندا للإسرار والإجماع لم يثبت والرواية تدل على استحباب الجهر خصوصا للإمام لا سيما في المغرب إذ الظاهر اتحاد الواقعة في الروايتين ، ويؤيده عموم ما ورد في إجهار الإمام في سائر الأذكار إلا ما أخرجه الدليل. نعم ورد في صحيحة صفوان (١) قال : «صليت خلف أبي عبد الله (عليه‌السلام) أياما فكان يقرأ في فاتحة الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا كانت صلاة لا يجهر فيها بالقراءة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم وأخفى ما سوى ذلك». وانه يدل على استحباب الإخفات في الاستعاذة لأن قوله «ما سوى ذلك» يشملها. ويمكن ان يقال لعله لم يتعوذ في تلك الصلوات والاستدلال موقوف على الإتيان. بها وهو بعيد إذ تركه (عليه‌السلام) الاستعاذة في صلوات متوالية بعيد. لكن دخولها في «ما سوى ذلك» غير معلوم إذ يحتمل ان يكون المراد ما سوى ذلك من القراءة أو الفاتحة بل هو الظاهر من السياق وإلا فمعلوم انه (عليه‌السلام) كان يجهر بالتسبيحات والتشهدات والقنوتات وسائر الأذكار ، والاستعاذة ليست بداخلة في القراءة ولا في الفاتحة بل هي من مقدماتها. والله العالم. انتهى. وهو جيد.

(الرابع) ـ قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية بعد نقل الصورة المشهورة والصورة المذكورة في رواية هشام وهي «أستعيذ بالله» ما صورته : والمعنى في «أعوذ وأستعيذ» واحد قال الجوهري عذت بفلان واستعذت به أي لجأت اليه. وفي «أستعيذ» موافقة لفظ القرآن إلا ان «أعوذ» في هذا المقام أدخل في المعنى وأوفق لامتثال الأمر الوارد بقوله «فَاسْتَعِذْ» (٢) لنكتة دقيقة هي ان السين والتاء شأنهما الدلالة على الطلب فوردتا في الأمر إيذانا بطلب التعوذ ، فمعنى «استعذ» اي اطلب منه ان يعيذك وامتثال الأمر ان يقول «أعوذ بالله» اي ألتجئ إليه لأن قائله متعوذ قد عاذ والتجأ والقائل «أستعيذ»

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٧ من القراءة.

(٢) سورة النحل ، الآية ٩٨.

١٦٥

ليس بعائذ انما هو طالب العياذ به كما يقول «أستخير الله» اي اطلب خيرته «واستقيل» اي اطلب إقالته «واستغفر» اي اطلب مغفرته ، لكنها هنا قد دخلت في فعل الأمر وفي امتثاله بخلاف الاستعاذة ، وبذلك يظهر الفرق بين الامتثال بقوله «استغفر الله» دون «أستعيذ بالله» لأن المغفرة انما تكون من الله فيحسن طلبها والالتجاء انما يكون من العبد فلا يحسن طلبه. فتدبر ذلك فإنه لطيف ، ويظهر منه ان كلام الجوهري ليس بذلك الحسن وقد رده جماعة من المحققين.

واعترضه شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (عطر الله مرقده) في كتاب الفوائد النجفية فقال بعد نقل ذلك عنه : أقول لا يخفى على المتأمل بعين البصيرة ان ما افاده الشيخ (قدس‌سره) من النكتة التي سماها دقيقة ظاهرة الاختلال كما لا يخفى على أرباب الكمال ، لأنه إذا كان معنى «استعذ» اطلب منه ان يعيذك فامتثال الأمر بقوله «أستعيذ» ظاهر لا سترة فيه لأن معناه اطلب من الله ان يعيذني لأن السين والتاء شأنهما الدلالة على الطلب كما لا يخفى. واما الامتثال بقوله «أعوذ بالله» فغير ظاهر إلا بجعل هذه الجملة مرادا بها الطلب والدعاء ، واما إذا بقيت على ظاهرها من الأخبار بالالتجاء إلى الله فظاهر عدم تحقق الامتثال بها لما علمت. ومن العجب قوله «لأن قائله متعوذ قد عاذ والتجأ والقائل «أستعيذ» ليس بعائذ وانما هو طالب العياذ به» فإنه كلام متهافت مختل النظام إذ ظاهر ان القائل باللفظين أراد طلب الاعاذة منه سبحانه لكن دلالة اللفظ الثاني عليه ظاهرة قضية السين والتاء واما دلالة الأول فبناء على إرادة الإنشاء لا الأخبار والامتثال في الأول أوضح قطعا ، وكأنه بنى ما ذكره على ان معنى «أستعيذ» اطلب اللجأ إلى الله تعالى فان معنى «استعذ بالله» اي اطلب منه ان يعيذك فلا يكون الأول امتثالا للثاني. ولا يخفى ما فيه من التحكم والتمحل لظهور انه إذا كان معنى الأمر ما ذكره انسحب مثله في «أستعيذ» ضرورة. وما أعجب من يتحكم فيفصل بين الفعلين في المعنى المأخوذ فيهما ليترتب عليه ما تخيله من عدم صلاحية

١٦٦

الأول للامتثال ، فتأمل في المقام وبالله سبحانه الاعتصام. انتهى كلام شيخنا المذكور.

ومنها ـ الجهر بالبسملة في مقام الإخفات وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ذلك فالمشهور استحبابه في أول الحمد والسورة في الركعتين الأولتين والأخيرتين للإمام والمنفرد ، وقال ابن إدريس باختصاص ذلك بالركعتين الأولتين دون الأخيرتين فإنه لا يجوز الجهر فيهما. ونقل عن ابن الجنيد اختصاص ذلك بالإمام ، وقال ابن البراج يجب الجهر بها في ما يخافت به وأطلق ، وقال أبو الصلاح يجب الجهر بها في أولتي الظهر والعصر في كل من الحمد والسورة.

واختار السيد السند في المدارك القول الأول واحتج عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان (١) قال : «صليت خلف أبي عبد الله (عليه‌السلام) أياما فكان يقرأ في فاتحة الكتاب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فإذا كانت صلاة لا يجهر فيها بالقراءة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم وأخفى ما سوى ذلك». وفي الحسن عن عبد الله بن يحيى الكاهلي (٢) قال : «صلى بنا أبو عبد الله (عليه‌السلام) في مسجد بني كاهل فجهر مرتين ببسم الله الرحمن الرحيم». قال وقد تقرر في الأصول استحباب التأسي في ما لا يعلم وجوبه بدليل من خارج. والظاهر عدم اختصاص الاستحباب بالإمام وان كان ذلك مورد الروايتين ، لان المشهور من شعار الشيعة الجهر بالبسملة لكونها بسملة حتى قال ابن ابي عقيل تواترت الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) ان لا تقية في الجهر بالبسملة. وروى الشيخ في المصباح عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام) (٣) انه قال : «علامات المؤمن خمس صلاة الإحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم». انتهى. وهو جيد.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١١ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٥٦ من المزار والرواية فيه عن ابى محمد العسكري «ع» وكذا في البحار ج ٨٥ الصلاة ص ٣٤٩ والمصباح ص ٥٥١.

١٦٧

إلا ان ظاهر الخبرين الأولين مع اختصاصهما بالإمام كما اعترف به ان الجهر انما هو في الأولتين خاصة ، اما الأول فبتقريب قوله : «فإذا كانت صلاة لا يجهر فيها» وقد عرفت ان انقسام الصلاة إلى جهرية وإخفاتية انما هو باعتبار القراءة في الأولتين. واما الثاني فبتقريب قوله «مرتين» يعني في الفريضة فمرة في الفاتحة ومرة في السورة. ويعضد ذلك عدم معلومية كون الامام (عليه‌السلام) يختار القراءة في الأخيرتين بل الظاهر من الأخبار ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى في محلها مكشوفة النقاب مرفوعة الحجاب ـ انهم انما كانوا يسبحون وان القراءة في هذه المسألة مرجوحة وأخبارها إنما خرجت مخرج التقية (١) وان كان ذلك خلاف المشهور عندهم كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى في ذلك المجال. وبموجب ما ذكرناه فالخبران المذكوران لا دلالة لهما على عموم المدعى ولم يبق إلا ظاهر ما نقله من حديث علامات المؤمن وحديث شعار الشيعة ، والاستدلال بهما على ذلك لا يخلو من نظر وان أوهم إطلاقهما ذلك ، فإن الإطلاق انما ينصرف إلى الفرد الشائع المتكثر وهو القراءة في الأولتين دون الأخيرتين كما سيظهر لك من الأخبار وان كان القراءة أرجح في الدوران في كلامهم والاشتهار.

ومن الأخبار في المقام أيضا ما رواه ثقة الإسلام في روضة الكافي (٢) في الحسن أو الصحيح عن سليم بن قيس في خطبة طويلة يذكر فيها احداث الولاة الذين كانوا قبله فقال : «قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

__________________

(١) قال في بدائع الصنائع ج ١ ص ١١١ في بيان محل القراءة المفروضة : محلها الركعتان الأوليان عينا في الصلاة الرباعية وهو الصحيح من مذهب أصحابنا ، وعند الشافعي يقرأ في كل ركعة وعند مالك في ثلاث ركعات وعند الحسن البصري في ركعة واحدة. واما الأخيرتان فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة انه مخير بين القراءة بفاتحة الكتاب والتسبيح والسكوت لما روى عن علي «ع» وابن مسعود قالا «المصلى بالخيار في الأخيرتين ان شاء قرأ وان شاء سبح وان شاء سكت» ..

(٢) ص ٥٩ الطبع الحديث.

١٦٨

متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيرين لسنته. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (عليه‌السلام) فرددته إلى الموضع ، ثم ساق جملة من بدع الثاني إلى ان قال : وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. الحديث».

وما رواه في التهذيب عن أبي حمزة (١) قال : «قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام) يا ثمالي ان الصلاة إذا أقيمت جاء الشيطان إلى قرين الامام فيقول هل ذكر ربه؟ فان قال نعم ذهب وان قال لا ركب على كتفيه وكان امام القوم حتى ينصرفوا. قال فقلت جعلت فداك أليس يقرأون القرآن؟ قال بلى ليس حيث تذهب يا ثمالي انما هو الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم». والظاهر أيضا من هذه الرواية انما هو القراءة في الأولتين. قال في الوافي : المراد بقرين الامام الملك الموكل به. أقول بل الظاهر ان المراد انما هو الشيطان الموكل به فان لكل مكلف ملكا وشيطانا موكلين به هذا يهديه وهذا يغويه والأنسب بسؤال الشيطان هو قرينه دون الملك.

وما رواه في الكافي عن صفوان الجمال (٢) قال : «صليت خلف أبي عبد الله (عليه‌السلام) أياما فكان إذا كانت صلاة لا يجهر فيها جهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان يجهر في السورتين جميعا».

وروى الصدوق بسنده إلى الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٣) في حديث شرائع الدين قال «والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة واجب».

وروى في كتاب عيون الأخبار بأسانيد عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه‌السلام) (٤) «انه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع صلواته بالليل والنهار».

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢١ من القراءة.

(٤) حديث الفضل بن شاذان المتضمن لكتاب الرضا «ع» الى المأمون في شرائع الدين هكذا «والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات سنة». واما اللفظ المذكور في المتن فهو حديث رجاء بن ابى الضحاك عن الرضا «ع». راجع الوسائل الباب ٢١ من

١٦٩

وبالجملة فإن بعض هذه الأخبار بإطلاقه وان تناول الأخيرتين مع اختيار القراءة فيهما إلا ان الحمل على الفرد الشائع كما أشرنا إليه ممكن.

احتج ابن الجنيد على ما نقل عنه بأن الأصل وجوب المخافتة بالبسملة في ما يخافت به لأنها بعض الفاتحة خرج الامام بالنص والإجماع فيبقى المنفرد على الأصل. وجوابه منع ان الأصل وجوب المخافتة فيها بل الأصل عدمه ، ومع الإغماض عن ذلك فالأصل المذكور يجب الخروج عنه بالدليل وهو ما ذكرناه من الأخبار الزائدة على اخبار الامام

واما قول ابن إدريس باختصاص الحكم بالأولتين فاعترض عليه بأنه تحكم لا دليل عليه. قيل : وكأنه نظر إلى ان الأصل في استحباب الجهر بالبسملة هو التأسي بهم (عليهم‌السلام) وذلك لا يتم في الأخيرتين إذ لم يثبت انهم يقرأون في الأخيرتين أم يسبحون فكيف يثبت جهرهم بالبسملة فيهما؟

أقول : لا ريب انه بالنظر إلى إطلاق جملة من هذه الأخبار فإنه يضعف قول ابن إدريس إلا انه بالنظر إلى ما ذكرنا من حمل الإطلاق على الفرد المتكثر يقوى ما ذكره ، وهو الأظهر لما سيجي‌ء ان شاء الله تعالى في فصل ذكر الأخيرتين من مرجوحية القراءة وان العمل فيهما انما هو على التسبيح.

احتج الموجبون بأنهم (عليهم‌السلام) كانوا يداومون عليه ولو كان مسنونا لا خلوا به في بعض الأوقات ، وضعفه ظاهر فإنهم كانوا يداومون أيضا على المستحبات ، مع ان صحيحة الحلبيين المتقدمة في الحكم الثالث من المسألة الأولى (١) ظاهرة في رد هذا القول لتضمنها التخيير بين السر والجهر.

ومن الأخبار الدالة على القول المشهور والظاهرة فيه تمام الظهور على الوجه الذي قدمناه ما ورد في كتاب تأويل الآيات الباهرة نقلا من تفسير محمد بن العباس بن

__________________

(١) ص ١٠٨.

١٧٠

ماهيار بسنده فيه إلى أبي بصير (١) قال : «سأل جابر الجعفي أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن تفسير قوله عزوجل «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ» (٢) فقال ان الله لما خلق إبراهيم كشف له عن بصره فنظر فرأى نورا إلى جنب العرش فقال إلهي ما هذا النور؟ فقال له هذا نور محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صفوتي من خلقي. ورأى نورا إلى جنبه فقال إلهي وما هذا النور؟ فقيل له هذا نور علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) ناصر ديني. ورأى إلى جنبهم ثلاثة أنوار فقال إلهي وما هذه الأنوار؟ فقيل له هذا نور فاطمة (عليها‌السلام) فطمت محبيها من النار ونور ولديها الحسن والحسين (عليهما‌السلام) فقال إلهي وأرى أنوارا تسعة قد حفوا بهم؟ قيل يا إبراهيم هؤلاء الأئمة (عليهم‌السلام) من ولد علي وفاطمة. فقال إلهي أرى أنوارا قد احدقوا بهم لا يحصى عددهم إلا أنت؟ قيل يا إبراهيم هؤلاء شيعتهم شيعة علي (عليه‌السلام). فقال إبراهيم (عليه‌السلام) وبم تعرف شيعته؟ قال بصلاة الإحدى والخمسين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والقنوت قبل الركوع والتختم باليمين. فعند ذلك قال إبراهيم اللهم اجعلني من شيعة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال فأخبر الله في كتابه فقال وان من شيعته لإبراهيم».

وروى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب المحتضر نقلا من كتاب السيد حسن ابن كبش بإسناده إلى الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا كان يوم القيامة تقبل أقوام على نجائب من نور ينادون بأعلى أصواتهم «الحمد لله الذي أنجز لنا وعده الحمد لله الذي أورثنا أرضه (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ)» قال فتقول الخلائق هذه زمرة الأنبياء فإذا النداء من عند الله عزوجل هؤلاء شيعة علي بن أبي طالب وهو صفوتي من عبادي وخيرتي. فتقول الخلائق إلهنا وسيدنا بم نالوا هذه الدرجة؟ فإذا النداء من قبل الله عزوجل نالوها بتختمهم باليمين وصلاتهم احدى وخمسين وإطعامهم المسكين وتعفيرهم

__________________

(١) البحار ج ٨٥ الصلاة ص ٨٠.

(٢) سورة الصافات ، الآية ٨١.

(٣) البحار ج ٨٥ الصلاة ص ٨١.

١٧١

الجبين وجهرهم في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم». وانما أطلنا بذكر هذين الخبرين لما فيهما من البشارة الفاخرة لشيعة العترة الطاهرة جعلنا الله تعالى منهم بمنه وفضله.

ومنها ـ ترتيل القراءة وقد اجمع العلماء كافة على استحبابه في القراءة في الصلاة وغيرها لقوله عزوجل «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» (١).

وروى الشيخ بإسناده في الصحيح عن أبي عبد الله البرقي وأبي أحمد يعني محمد بن ابي عمير جميعا عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ينبغي للعبد إذا صلى ان يرتل في قراءته فإذا مر بآية فيها ذكر الجنة وذكر النار سأل الله الجنة وتعوذ بالله من النار ، وإذا مر ب «(يا أَيُّهَا النّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)» يقول لبيك ربنا».

قال في الصحاح : الترتيل في القراءة الترسل فيها والتبيين من غير بغي. وفي النهاية التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل وهو المشبه بنور الأقحوان. وفي المغرب الترتيل في الأذان وغيره ان لا يعجل في إرسال الحروف بل يتثبت فيها ويبينها تبيينا ويوفيها حقها من الإشباع من غير إسراع من قولهم ثغر مرتل ورتل مفلج مستوي الثنية حسن التنضيد. وقال في القاموس رتل الكلام ترتيلا أحسن تأليفه وترتل فيه ترسل. وقال في الكشاف ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجي‌ء المتلو منه شبيها بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، وان لا يهذه هذا ولا يسرده سردا حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص. انتهى. هذا ما قاله أهل اللغة.

واما الفقهاء فقال المحقق في المعتبر : هو تبيينها من غير مبالغة ، قال وربما كان واجبا إذا أريد به النطق بالحروف بحيث لا يدمج بعضها في بعض ، ويمكن حمل الآية عليه لأن الأمر عند الإطلاق للوجوب. ونحوه قال العلامة في المنتهى وقال الشهيد في الذكرى هو حفظ الوقوف وأداء الحروف. وقال العلامة في النهاية هو بمعنى بيان الحروف

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية ٤.

(٢) الوسائل الباب ١٨ من القراءة.

١٧٢

وإظهارها ولا يمد بحيث يشبه الغناء.

وقال أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان اي بينه بيانا واقرأه على هينتك. وقيل معناه ترسل فيه ترسلا ، وقيل تثبت فيه تثبتا ، وروى عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في معناه (١) انه قال : «بينه بيانا ولا تهذه هذا الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أقرع به القلوب القاسية ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة». وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) في هذا قال «هو ان تتمكث فيه وتحسن به صوتك». انتهى.

وعده الشهيد في النفلية من المستحبات وقال هو تبيين الحروف بصفاتها المعتبرة من الهمس والجهر والاستعلاء والإطباق والغنة وغيرها والوقف التام والحسن وعند فراغ النفس مطلقا. وفسر الشهيد الثاني في شرحها التام بالذي لا يكون لما قبله تعلق بما بعده لفظا ولا معنى ، والحسن بالذي يكون له تعلق من جهة اللفظ دون المعنى ، ثم قال ومن هنا يعلم ان مراعاة صفات الحروف المذكورة وغيرها ليس على وجه الوجوب كما يذكره علماء فنه مع إمكان أن يريدوا تأكيد الفضل كما اعترفوا به في اصطلاحهم على الوقف الواجب ، ثم قال ولو حمل الأمر بالترتيل على الوجوب كان المراد ببيان الحروف إخراجها من مخارجها على وجه يتميز بعضها عن بعض بحيث لا يدمج بعضها في بعض وبحفظ الوقوف مراعاة ما يخل بالمعنى ويفسد التركيب ويخرج عن أسلوب القرآن الذي هو معجز بغريب أسلوبه وبلاغة تركيبه. انتهى.

وقال الشيخ البهائي في كتاب الحبل المتين : الترتيل التأني وتبيين الحروف بحيث يتمكن السامع من عدها مأخوذ من قولهم ثغر رتل ومرتل إذا كان مفلجا ، وبه فسر في قوله تعالى «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» (٣) وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (٤) «انه حفظ الوقوف وبيان الحروف». اي مراعاة الوقف التام والحسن والإتيان بالحروف

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢١ من قراءة القرآن.

(٣) سورة المزمل ، الآية ٤.

(٤) الوافي باب سائر أحكام القراءة وباب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.

١٧٣

على الهيئات المعتبرة من الجهر والهمس والاستعلاء والإطباق والغنة وأمثالها ، والترتيل بكل من هذين التفسيرين مستحب ، ومن حمل الأمر في الآية على الوجوب فسر الترتيل بإخراج الحروف من مخارجها على وجه تتميز ولا يندمج بعضها في بعض. انتهى.

وقد ظهر بما ذكرنا ان المراد من الترتيل عند أهل اللغة هو الترسل والتأني وعليه حمل الآية جملة من أصحابنا وغيرهم ، وهو ظاهر خبر البرقي وابن أبي عمير المتقدم ذكره وهو أيضا ظاهر الخبر المتقدم نقله عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في تفسير الطبرسي لكن لما روى الخاص والعام عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (١) وكذا عن ابن عباس تفسيره بحفظ الوقوف وأداء الحروف ـ وان كنت لم أقف على هذه الرواية مسندة في شي‌ء من كتب الأخبار إلا انها في كلامهم وعلى رؤوس أقلامهم في غاية الاشتهار ، وفي بعض الروايات «وبيان الحروف» ـ تمسك به أصحاب التجويد وفسروه بهذا الوجه الذي سمعته من كلام شيخنا الشهيد الثاني وشيخنا البهائي (عطر الله مرقديهما) وتبعهم الشيخان المذكوران وجمع ممن تأخر عن شيخنا الأول من الأصحاب في تفسيرهم الحديث بذلك حيث فسروه على قواعدهم ومصطلحهم. والأظهر عندي هو ما ذكره أهل اللغة لاعتضاده بالاخبار المتقدم ذكرها وعدم ثبوت الخبر الدال على ما ذكره أهل التجويد وان تبعهم فيه من تبعهم من أصحابنا (رضوان الله عليهم) ويحتمل ان يكون الخبر من طرق العامة وان استسلقه أصحابنا في هذا المقام.

ولشيخنا محمد تقي المجلسي كلام جيد في المقام نقله عنه ابنه (رفع الله مقامهما في دار السلام) قال الترتيل الواجب هو أداء الحروف من المخارج وحفظ أحكام الوقوف بان لا يقف على الحركة ولا يصل بالسكون فإنهما غير جائزين باتفاق القراء وأهل العربية ، والترتيل المستحب هو أداء الحروف بصفاتها المحسنة لها وحفظ الوقوف التي استحبها القراء وبينوها في تجاويدهم ، والحاصل انه ان حملنا الترتيل في الآية على

__________________

(١) الوافي باب سائر أحكام القراءة وباب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.

١٧٤

الوجوب كما هو دأبهم في أوامر القران فليحمل على ما اتفقوا على لزوم رعايته من حفظ حالتي الوصل والوقف وأداء حقهما من الحركة والسكون أو الأعم منه ومن ترك الوقف في وسط الكلمة اختيارا ، ومنع الشهيد من السكوت على كل كلمة بحيث يخل بالنظم فان ثبت تحريمه كان أيضا داخلا فيه ، ولو حمل الأمر على الندب أو الأعم كان مختصا أو شاملا لرعاية الوقف على الآيات مطلقا كما ذكره جماعة من أكابر أهل التجويد ، ويشمل أيضا على المشهور رعاية ما اصطلحوا عليه من الوقف اللازم والتام والحسن والكافي والجائز والمجوز والمرخص والقبيح ، لكن لا يثبت استحباب رعاية ذلك عندي لأن تلك الوقوف من مصطلحات المتأخرين ولم تكن في زمان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فلا يمكن حمل كلامه عليه ، إلا ان يقال غرضه (عليه‌السلام) رعاية الوقف على ما يحسن بحسب المعنى على ما يفهمه القارئ ولا ينافي هذا حدوث تلك الاصطلاحات بعده. ويرد عليه أيضا ان هذه الوقوف انما وضعوها على حسب ما فهموه من تفاسير الآيات وقد وردت أخبار كثيرة كما سيأتي في ان معاني القرآن لا يفهمها إلا أهل البيت (عليهم‌السلام) الذين نزل عليهم القرآن ، ويشهد له انا نرى كثيرا من الآيات كتبوا فيها نوعا من الوقف بناء على ما فهموه ووردت الأخبار المستفيضة بخلاف ذلك المعنى كما انهم كتبوا الوقف اللازم في قوله سبحانه «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ» (١) على آخر الجلالة لزعمهم ان الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابهات وقد وردت الأخبار المستفيضة في ان الراسخين هم الأئمة (عليهم‌السلام) وهم يعلمون تأويلها ، مع ان المتأخرين من مفسري العامة والخاصة رجحوا في كثير من الآيات تفاسير لا توافق ما اصطلحوا عليه في الوقوف. ولعل الجمع بين المعنيين ـ لورود الأخبار على الوجهين وتعميمه بحيث يشمل الواجب والمستحب من كل منهما حتى انه يراعى في الوقف ترك قلة المكث بحيث ينافي التثبت والتأني وكثرة المكث بحيث ينقطع الكلام ويتبدد النظام فيكره أو يصل إلى حد يخرج عن كونه قارئا

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٥.

١٧٥

فيحرم على المشهور ـ اولى وأظهر تكثيرا للفائدة ورعاية لتفاسير العلماء واللغويين واخبار الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) والله يعلم حقائق كلامه المجيد. انتهى كلامه زيد مقامه. وانما نقلناه بطوله لجودة معناه ومحصوله.

وروى الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال «سألته عن الرجل يقرأ فاتحة الكتاب وسورة أخرى في النفس الواحد؟ فقال ان شاء قرأ في نفس وان شاء في غيره».

وعن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٢) «ان رجلا من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كتب إلى أبي بن كعب كم كانت لرسول الله من سكتة؟ قال كانت له سكتتان : إذا فرغ من أم القرآن وإذا فرغ من السورة».

وروى في الكافي عن محمد بن يحيى بإسناد له عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «يكره ان يقرأ قل هو الله أحد في نفس واحد».

ومنها ـ ما ذكره جمع من الأصحاب من انه يستحب ان يقرأ في الصلاة بسور المفصل وهي من سورة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخر القرآن ، فيقرأ مطولاته في الصبح وهي من سورة محمد إلى «عم» ومتوسطاته في العشاء وهي من سورة «عم» الى «والضحى» وقضاه في الظهرين والمغرب وهي من الضحى إلى آخر القرآن ، وانه يستحب في غداة الخميس والاثنين بسورة «هل اتى» وفي المغرب والعشاء ليلة الجمعة والأعلى وفي الظهرين بالجمعة والمنافقين وفي نوافل النهار بالسور القصار ويسر بها وفي نوافل الليل بالسور الطوال ويجهر بها ، وان يقرأ في أولتي صلاة الليل بقل هو الله أحد ثلاثين مرة.

وتفصيل هذه الجملة يتوقف على بسط الكلام في مقامات (الأول) لا يخفى ان ما ذكروه (رضوان الله عليهم) من استحباب القراءة بسور المفصل على التفصيل المذكور لم أجد له مستندا في أخبارنا بعد التتبع التام وبذلك اعترف جملة من محققي متأخري

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٤٦ من القراءة.

١٧٦

المتأخرين كالسيد السند في المدارك حيث قال بعد نقل ذلك : وليس في أخبارنا تصريح بهذا الاسم ولا تحديده وانما رواه الجمهور عن عمر بن الخطاب (١). انتهى. ومن هنا يعلم ان الظاهر ان أصحابنا قد تبغوا في ذلك العامة ، ولا يخفى ان كلام العامة أيضا هنا لا يخلو من اختلاف إلا ان المشهور بينهم هو ما ذكر هنا.

قال في القاموس : المفصل كمعظم من القرآن من الحجرات إلى آخره في الأصح أو من الجاثية أو القتال أو (ق) عن النووي ، أو الصافات أو الصف أو (تبارك) عن ابن أبي الصيف ، أو (انا فتحنا) عن الدزماري ، أو (سبح اسم ربك الأعلى) عن الفركاح أو الضحى عن الخطابي (٢). انتهى.

وقال في كتاب مجمع البحرين : وفي الحديث «فضلت بالمفصل» (٣) قيل سمى به لكثرة ما يقع فيه من الفصول بالتسمية بين السور ، وقيل لقصر سوره. واختلف في أوله فقيل من سورة (ق) وقيل من سورة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقيل من سورة الفتح ، وعن النووي مفصل القرآن من سورة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخر القرآن وقصاره من الضحى إلى آخره ومطولاته إلى عم ومتوسطاته إلى الضحى. وفي الخبر «المفصل ثمان وستون سورة» انتهى.

أقول : ربما أشعر كلامه بأن الأخبار المذكورة في كلامه مروية من طرفنا ولم أقف على من نقلها كذلك سواه والظاهر انها من طرق العامة وان تناقلها أصحابنا في كتب الفروع. نعم وقفت على ذلك في كتاب دعائم الإسلام إلا انه من كلامه ولم

__________________

(١) في بدائع الصنائع ج ١ ص ٢٠٥ كتب عمر بن الخطاب إلى ابى موسى الأشعري ان اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل.

(٢) فتح الباري ج ٢ ص ١٧٠.

(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣٤.

١٧٧

يسنده إلى رواية حيث قال (١) «ولا بأس بأن يقرأ في الفجر بطوال المفصل وفي الظهر والعشاء الآخرة بأوساطه وفي العصر والمغرب بقصاره».

وكيف كان فالواجب الرجوع في ذلك إلى الأخبار الواردة عنهم (عليهم‌السلام) وهي كثيرة لا بأس بذكر ما يسعه المقام منها :

فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) القراءة في الصلاة فيها شي‌ء موقت؟ قال لا إلا الجمعة يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين. قلت فأي السور يقرأ في الصلاة؟ قال اما الظهر والعشاء الآخرة يقرأ فيهما سواء والعصر والمغرب سواء واما الغداة فأطول ، فأما الظهر والعشاء الآخرة فسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما ، واما العصر والمغرب فإذا جاء نصر الله والفتح وألهاكم التكاثر ونحوهما ، واما الغداة فعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية ولا اقسم بيوم القيامة وهل اتى على الإنسان حين من الدهر».

وعن أبان في الصحيح عن عيسى بن عبد الله القمي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي الغداة بعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية ولا اقسم بيوم القيامة وشبهها ، وكان يصلي الظهر بسبح اسم والشمس وضحاها وهل أتاك حديث الغاشية وشبهها ، وكان يصلي المغرب بقل هو الله أحد وإذا جاء نصر الله والفتح وإذا زلزلت ، وكان يصلي العشاء الآخرة بنحو ما يصلي في الظهر والعصر بنحو من المغرب».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٤) وقال العالم (عليه‌السلام) اقرأ في صلاة الغداة المرسلات وإذا الشمس كورت ومثلهما من السور ، وفي الظهر إذا السماء انفطرت وإذا

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٣٦ من القراءة.

(٢) الوسائل الباب ٧٠ و ٤٨ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٤٨ من القراءة.

(٤) ص ١١.

١٧٨

زلزلت ومثلهما ، وفي العصر العاديات والقارعة ومثلهما ، وفي المغرب والتين وقل هو الله أحد ومثلهما ، وفي يوم الجمعة وليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين.

وقال شيخنا الصدوق في الفقيه : أفضل ما يقرأ في الصلوات في اليوم والليلة في الركعة الأولى الحمد وانا أنزلناه وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد إلا في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة ، إلى ان قال وانما يستحب قراءة القدر في الاولى والتوحيد في الثانية لأن القدر سورة النبي وأهل بيته (عليهم‌السلام) فيجعلهم المصلي وسيلة إلى الله لانه بهم وصل إلى معرفته ، واما التوحيد فالدعاء على أثرها مستجاب وهو قنوت. انتهى.

ويشهد له جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الكليني عن أبي علي بن راشد (١) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) جعلت فداك انك كتبت إلى محمد بن الفرج تعلمه ان أفضل ما يقرأ في الفرائض إنا أنزلناه وقل هو الله أحد ، وان صدري ليضيق بقراءتهما في الفجر؟ فقال (عليه‌السلام) لا يضيقن صدرك بهما فان الفضل والله فيهما».

وفي حديث عمر بن أذينة وغيره عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) في كيفية الصلاة قال : «ان الله اوحى إلى نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليلة الإسراء في الركعة الأولى ان اقرأ قل هو الله أحد فإنها نسبتي ونعتي ثم اوحى الله إليه في الثانية بعد ما قرأ الحمد ان اقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر فإنها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة».

وروى الصدوق في الفقيه (٣) قال «حكى من صحب الرضا (عليه‌السلام) الى خراسان انه كان يقرأ في الصلوات في اليوم والليلة في الركعة الأولى الحمد وانا أنزلناه وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد. الحديث».

أقول : الظاهر انه اشارة إلى ما رواه (قدس‌سره) في كتاب عيون اخبار الرضا (عليه‌السلام) بسنده عن رجاء بن أبي الضحاك (٤) قال : «كان الرضا (عليه‌السلام) في طريق خراسان قراءته في جميع المفروضات في الأولى الحمد وانا أنزلناه

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٣ من القراءة.

١٧٩

وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد إلا في صلاة الغداة والظهر والعصر يوم الجمعة فإنه كان يقرأ فيها بالحمد وسورة الجمعة والمنافقين ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة في الأولى الحمد وسورة الجمعة وفي الثانية الحمد وسبح اسم ربك الأعلى ، وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الاثنين ويوم الخميس في الأولى الحمد وهل اتى على الإنسان وفي الثانية الحمد وهل أتاك حديث الغاشية. الحديث».

وروى في كتاب العيون أيضا بسنده عن أبي الحسن الصائغ عن عمه (١) قال : «خرجت مع الرضا (عليه‌السلام) الى خراسان فما زاد في الفرائض على الحمد وانا أنزلناه في الاولى والحمد وقل هو الله أحد في الثانية».

وروى السيد الزاهد العابد رضي الدين بن طاوس (قدس‌سره) في كتاب فلاح السائل بسنده فيه عن محمد بن الفرج (٢) «انه كتب إلى الرجل (عليه‌السلام) يسأله عما يقرأ في الفرائض وعن أفضل ما يقرأ فيها؟ فكتب (عليه‌السلام) اليه ان أفضل ما يقرأ في الفرائض إنا أنزلناه في ليلة القدر وقل هو الله أحد».

وروى الشيخ في كتاب الغيبة والطبرسي في الاحتجاج (٣) «انه كتب محمد ابن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان (عليه‌السلام) في ما كتبه وسأله عما روى في ثواب القرآن في الفرائض وغيرها ان العالم (عليه‌السلام) قال عجبا لمن لم يقرأ في صلاته إنا أنزلناه في ليلة القدر كيف تقبل صلاته ، وروى ما زكت صلاة لم يقرأ فيها بقل هو الله أحد. وروى من قرأ في فرائضه (الهمزة) اعطى من الثواب قدر الدنيا ، فهل يجوز أن يقرأ (الهمزة) ويدع هذه السور التي ذكرناها مع ما قد روى انه لا تقبل صلاة ولا تزكو إلا بهما؟ التوقيع : الثواب في السور على ما قد روى ، وإذا ترك سورة مما فيها الثواب وقرأ قل هو الله أحد وانا أنزلناه لفضلهما اعطى ثواب ما قرأ وثواب السورة التي ترك ، ويجوز ان يقرأ غير هاتين السورتين وتكون صلاته تامة ولكنه يكون

__________________

(١) البحار ج ٨٥ الصلاة ص ٣٣٩.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ١٩ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٢٣ من القراءة.

١٨٠