الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

بين سورتين بعد الحمد لا مجرد الزيادة على سورة. ولو ادعى أيضا شمول القران لذلك بمجرد هذه الرواية كما ذهب اليه البعض فيمكن توجيه الكراهة حينئذ باستفاضة الروايات واتفاق الأصحاب على جواز العدول عن سورة إلى أخرى في الجملة وان اختلفوا في تحديده فإنه يدل على جواز قراءة ما زاد على سورة فيجب حمل النهي هنا عما زاد على الكراهة البتة وبذلك يضعف الاعتماد في الوجوب عليها.

ومنها ـ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «من غلط في سورة فليقرأ قل هو الله أحد. ثم ليركع». حتى انه يفهم من بعضهم وجوب قراءة «قل هو الله أحد» في هذه الصورة.

وفيه ان هذه الرواية معارضة بصحيحة زرارة (٢) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) رجل قرأ سورة في ركعة فغلط أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته أو يدع تلك السورة ويتحول منها إلى غيرها؟ فقال كل ذلك لا بأس به وان قرأ آية واحدة فشاء ان يركع بها ركع». والاحتمال المخرج عن الاستدلال قائم من الطرفين وجار في الروايتين.

ومنها ـ صحيحة محمد بن إسماعيل (٣) قال : «سألته قلت أكون في طريق مكة فننزل للصلاة في مواضع فيها الاعراب أنصلي المكتوبة على الأرض فنقرأ أم الكتاب وحدها أم نصلي على الراحلة فنقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟ فقال إذا خفت فصل على الراحلة المكتوبة وغيرها وإذا قرأت الحمد وسورة أحب الي ولا أرى بالذي فعلت بأسا».

وهذه الرواية مما استدل به المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الوسائل على الوجوب حيث انه اختار فيه ذلك وهي بالدلالة على العدم أشبه ، قال (قدس‌سره) بعد نقلها : أقول لو لا وجوب السورة لما جاز لأجله ترك الواجب من القيام وغيره. انتهى.

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٣ من القراءة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٤ من القراءة.

١٢١

وفيه ان معنى الرواية انما هو ان السائل لما سأل انه إذا تعارضت الصلاة على الأرض مع ترك السورة للخوف مع الصلاة في المحمل وقراءة السورة فأيهما يختار؟ أجاب (عليه‌السلام) بأنك إذا خفت فالصلاة في المحمل اولى. وليس في ذلك دلالة على انه من حيث المحافظة على السورة وإن كان ذلك هو مراد السائل ومفهوم السؤال إلا انهم (عليهم‌السلام) قد يجيبون بما هو أعم من السؤال بل قد يجيبون بقواعد كلية للمسؤول عنه وغيره ومن الظاهر بل الأظهر ان أولوية الصلاة في المحمل انما هو من حيث الإقبال على العبادة وفراغ البال الذي هو روحها. ويؤيد الاستحباب هنا قوله : «وإذا قرأت الحمد وسورة ـ يعني في صلاتك في المحمل ـ فهو أحب الي» فان مرمى هذه العبارة انما هو الاستحباب.

ومنها ـ جملة من الأخبار قد تضمنت نفى البأس عن الاقتصار على الفاتحة لمن أعجلت به حاجة ، وهو يدل بمفهومه على ثبوت البأس لمن ليس كذلك.

وفيه (أولا) ان ثبوت البأس أعم من التحريم. و (ثانيا) ان ما دل على الاستحباب ـ كما تقدم ـ صريح الدلالة على ذلك بمنطوقه والمفهوم لا يعارض المنطوق.

وربما يستدل على الوجوب بالأخبار الدالة على النهي عن القران في الفريضة بأن يقال النهي حقيقة في التحريم ولا وجه لتحريم ذلك إلا من حيث انه يلزم زيادة واجب في الصلاة عمدا وهو مبطل لها.

وفيه (أولا) ـ ان ذلك مبني على تحريم القران فلا يقوم هذا الدليل حجة على من يحكم بالكراهة.

و (ثانيا) ـ ان العبادة واجبة كانت أو مستحبة توقيفية من الشارع فمن الجائز كون السورة مستحبة والنهي عن الإتيان بها ثانية لكونه خلاف الموظف شرعا ، وكما ان التشريع يحصل بزيادة الواجب باعتقاد انه واجب ومشروع كذلك يحصل باعتقاد زيادة المستحب باعتقاد توظيفه واستحبابه في ذلك المكان أو زمان من الأزمان ، واما

١٢٢

من حيث كونه قرانا فلا تبطل به سواء قلنا بوجوب السورة أو استحبابها.

نعم ربما يمكن الاستدلال على ذلك بالأخبار الدالة على تحريم العدول من سورة التوحيد والجحد إلى ما عدا سورتي الجمعة والمنافقين واتفاق جمهور الأصحاب على ذلك.

ومن تلك الأخبار صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا افتتحت صلاتك بقل هو الله أحد وأنت تريد أن تقرأ غيرها فامض فيها ولا ترجع إلا ان تكون في يوم الجمعة. الحديث».

وصحيحة ابن أبي نصر (٢) قال : «يرجع من كل سورة إلا من قل هو الله أحد وقل يا ايها الكافرون». إلى غير ذلك من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى في موضعها

وجه الاستدلال بها انه لو لا وجوب السورة هنا لما حرم العدول عنها وليس وجوبها ناشئا عن مجرد الشروع فيها ، إذ لا شي‌ء من المستحب يجب بالشروع فيه إلا ما خرج بدليل خاص كالحج ، ومتى حرم العدول عنها وجب إتمامها ، ومتى ثبت الوجوب في هاتين السورتين ثبت في غيرهما إذ لا قائل بالفصل ، وجواز العدول في غيرهما مع الإتيان بسورة كاملة بعد ذلك لا ينافي أصل الوجوب بل يؤكده. وهذا أقوى ما يمكن ان يستدل به على الوجوب وان كان بعض مقدماته لا يخلو من المناقشة.

وبما قررناه وأوضحناه يظهر لك ان المسألة محل توقف واشكال وان الاحتياط فيها لازم على كل حال ، فان ما استدل به على الوجوب كما عرفت لا ينهض بالدلالة الواضحة التي يمكن بناء حكم شرعي عليها ، وما استدل به على الاستحباب وان كان واضح الدلالة إلا ان اتفاق العامة على القول بمضمونها يضعف الاعتماد عليها والرجوع إليها لما استفاض في الأخبار من الأمر بمخالفتهم ولو في غير مقام اختلاف الأخبار. والله العالم

فروع

(الأول) ـ يجب الترتيب بين الحمد والسورة بتقديم الحمد أولا ثم السورة

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٩ من القراءة.

(٢) الوسائل الباب ٣٥ من القراءة.

١٢٣

فلو أخل أعاد السورة بعدها أو غيرها.

وقد وقع الخلاف هنا في موضعين (أحدهما) انه لو قدم السورة عامدا فهل تبطل الصلاة أم يجب استئناف السورة أو غيرها وتصح صلاته؟ قولان ، صرح جماعة من الأصحاب بالأول : منهم ـ الشهيد في كتبه الثلاثة والشهيد الثاني في المسالك والعلامة في المنتهى والقواعد وهو ظاهر المحقق الشيخ علي في الشرح حيث علل ذلك بثبوت النهي في المأتي به جزء من الصلاة المقتضي للفساد ، وبالجملة فالظاهر انه المشهور. وظاهر إطلاق عبارة المحقق في الشرائع الثاني واختاره في المدارك ولم أقف على مصرح به سواه حيث قال ـ بعد قول المصنف : ولو قدم السورة على الحمد أعادها أو غيرها ـ ما لفظه : إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في ذلك بين العامد والناسي وهو كذلك ، وجزم الشارح (قدس‌سره) ببطلان الصلاة مع العمد وهو غير واضح. أقول : وتخصيصه المخالفة بالشارح فيه نوع إشعار بأن الأكثر على خلافه مع ان الأمر ليس كذلك فان ما ذكره جده هو الذي صرح به جملة من وقفت على كلامه في المسألة ولم أقف على من صرح بخلافه سواه في كتابه المذكور.

بقي الكلام في الدليل على البطلان وقد عرفت ما ذكره المحقق الشيخ على من الدليل على ذلك ، وعلله العلامة في المنتهى بان المنقول عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأفعال الأئمة (عليهم‌السلام) الترتيب وهذه الأمور انما ثبتت توقيفا. انتهى.

وكل من التعليلين لا يخلو من النظر الظاهر كما لا يخفى على الخبير الماهر (اما الأول) فلان النهي هنا غير موجود إذ لا نص في المسألة إلا ان يبنى على المسألة الأصولية وهو ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده الخاص وهو مأمور هنا بقراءة السورة بعد الحمد. والقول بمقتضى هذه القاعدة عندنا غير ثابت إذ لا دليل عليه كما تقدم تحقيقه.

و (اما الثاني) فمرجعه إلى انه لم يأت بالمأمور به على وجهه فيبقى تحت عهدة

١٢٤

التكليف ، وفيه ان ذلك لا يستلزم بطلان الصلاة لإمكان تداركه ما لم يركع فيجب عليه قراءة تلك السورة أو سورة أخرى بعد الحمد وتصح صلاته. ولو قيل ـ بأنه مع اعتقاده الترتيب على الوجه الذي اتى به يكون مشرعا فتبطل صلاته مع تعمده للنهي عن ذلك القصد ـ فالجواب انه متى تدارك ذلك قبل الركوع كما ذكرنا فقد حصل امتثال الأمر بالترتيب والنهي انما توجه إلى أمر خارج عن الصلاة وهو القصد فلا يكون موجبا لبطلانها.

وربما قيل هنا بالتفصيل بين ما إذا كان عازما على إعادتها فتصح الصلاة أو لا فتبطل ، ووجهه غير ظاهر.

الثاني ـ انه لو قدم السورة ساهيا فظاهرهم الاتفاق على عدم إعادة الصلاة وانه يجب إعادة السورة أو غيرها بعد الحمد وانما الخلاف في انه هل يجب اعادة الحمد أيضا أم لا؟ قولان ، قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف : «ونسيانا يستأنف القراءة» ما لفظه : ظاهر هذه العبارة وغيرها كعبارته في التذكرة والنهاية استئناف القراءة من أولها فيعيد الحمد والسورة معا. وهو بعيد لأن الحمد إذا وقعت بعد السورة كانت قراءتها صحيحة فلا مقتضى لوجوب إعادتها بل يبنى عليها ويعيد السورة خاصة. انتهى. وهو جيد. وظاهر عبارة المدارك في هذا المقام ان هذا الخلاف في صورة تقديم السورة عامدا ، والظاهر انه غفلة منه (قدس‌سره) فان الموجود في كلامهم كما سمعت من كلام المحقق المذكور ان هذا الخلاف انما هو في صورة التقديم ناسيا واما في صورة التقديم عامدا فهو كما قدمنا بيانه. ثم انه قد صرح غير واحد منهم بان الجاهل هنا كالعامد. هذا كله على تقدير وجوب السورة كما لا يخفى.

(الثاني) ـ قد صرح الأصحاب بأنه لا يجوز ان يقرأ من السور ما يفوت بقراءته الوقت بأن يقرأ سورة طويلة مع علمه بان الوقت لا يسع لها ، قالوا فإنه إذا كان عامدا تبطل صلاته لثبوت النهي عن فواتها المقتضى للفساد إذا خرج شي‌ء من الصلاة وان قل عن وقتها ، وان

١٢٥

كان ناسيا بان قرأ سورة طويلة بظن طول الوقت ثم تبين الضيق وجب العدول إلى غيرها وان تجاوز النصف محافظة على فعل الصلاة في وقتها.

ولا يخفى ان الحكم المذكور مبني على القول بوجوب السورة وتحريم ما زاد عليها وإلا فلا يتجه المنع ، اما على القول بالاستحباب فظاهر لجواز قطعها اختيارا واما على القول بالوجوب مع تجويز الزيادة فلأنه يعدل إلى سورة قصيرة وما اتى به من القراءة غير مضر. ولم أقف في أصل المسألة على نص مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في وجوب السورة وعدمه.

(الثالث) ـ يعتبر في السورة على تقدير القول بالوجوب ما قدمنا ذكره في الفاتحة من وجوب التعلم لو لم يحسن سورة ، فلو تعلم بعضها وضاق الوقت فقد صرحوا بأنه يأتي بما تعلمه.

واما وجوب التعويض بالتكرار وغيره انما هو في ما لو جهل الفاتحة فإنها الأصل في القراءة فلا يجوز خلو الصلاة منها أو بدلها اما لو علمها بتمامها وانما جهل السورة فإنه يقرأ ما تيسر منها من غير تعويض عن الفائت بقرآن أو ذكر لسقوط اعتبارها مع الضرورة كما عرفت ، والجهل بها مع ضيق الوقت قريب منها ان لم يكن اولى ، ولأن التعويض على خلاف الأصل فيقتصر فيه على موضع الوفاق.

ومنه يعلم انه لو جهلها رأسا سقط اعتبارها مع ضيق الوقت وأجزأت الفاتحة. وفي المنتهى ان الحكم إجماعي فلا مساغ للتوقف فيه.

وكذا الكلام في الوجوب عن ظهر القلب وجواز ذلك من المصحف اختيارا أو اضطرارا على الخلاف الذي تقدم ذكره في الفاتحة. وكذا وجوب القراءة بالعربية فلا تجزئ الترجمة على ما تقدم ذكره والاعراب أيضا حسبما تقدم.

(الرابع) ـ قال في الذكرى : قراءة الأخرس تحريك لسانه بها مهما أمكن

١٢٦

وعقد قلبه بمعناها لأن الميسور لا يسقط بالمعسور (١). وروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «تلبية الأخرس وتشهده وقراءته للقرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه». وهذا يدل على اعتبار الإشارة بالإصبع في القراءة كما مر في التكبير. ولو تعذر إفهامه جميع معانيها افهم البعض وحرك لسانه به وأمر بتحريك اللسان بقدر الباقي تقريبا وان لم يفهم معناه مفصلا. وهذه لم أر فيها نصا. والتمتام والفأفاء والألثغ والأليغ يجب عليهم السعي في إصلاح اللسان ولا يجوز لهم الصلاة مع سعة الوقت مهما أمكن التعلم فان تعذر ذلك صحت القراءة بما يقدرون عليه ، والأقرب عدم وجوب الائتمام عليهم لأن صلاتهم مشروعة. انتهى. أقول وبنحو ذلك صرح غيره.

وأنت خبير بأنه لا إشكال في ما ذكروه من وجوب تحريك اللسان للنص المذكور ويعضده ان الواجب في القراءة شيئان أحدهما تحريك اللسان والثاني القراءة على الوجه المخصوص فمع تعذر القراءة يبقى وجوب تحريك اللسان بحاله. واما وجوب عقد القلب بمعناها فهو وان كان مشهورا في كلامهم إلا انه خال من الدليل. ونقل في المنتهى عن الشيخ الاكتفاء بتحريك اللسان.

والمراد بعقد القلب بها على ما يستفاد من كلام جمع : منهم ـ العلامة وغيره هو ان يقصد كون هذه الحركة حركة قراءة لتتميز بذلك عن حركته في غيرها ، وكأنهم لحظوا أن حركة اللسان أعم من القراءة فلا تنصرف إليها إلا بالقصد والنية. والمفهوم من كلام الشهيد في الدروس والبيان ـ وهو صريحه في هذا الكلام المنقول هنا ـ ان المراد بعقد القلب قصد معاني الحمد والسورة وتصورها بقلبه حيث صرح في أثناء الكلام توضيحا لما قدمه أولا بأنه لو تعذر إفهامه جميع معانيها افهم البعض وحرك لسانه به وأمر بتحريك اللسان بقدر الباقي وان لم يفهم معناه مفصلا. والظاهر بعده لعدم الدليل عليه كما اعترف به من انه لم

__________________

(١) عوائد النراقي ص ٨٨ وعناوين مير فتاح ص ١٤٦ عن عوالي اللئالي عن على «ع».

(٢) الوسائل الباب ٥٩ من القراءة.

١٢٧

ير به نصا بل لم يقم دليل على ذلك في الصحيح فضلا عن الأخرس. وبالجملة فهذا من قبيل «اسكتوا عما سكت الله عنه». كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب (١) وقد مر مزيد بيان له أيضا

بقي هنا شي‌ء وهو ان ظاهر النص إضافة الإشارة بإصبعه إلى تحريك لسانه الذي هو بدل عن قراءته وتكبيره وتشهده فيصير داخلا في البدلية. والخبر لا معارض له في ذلك وظاهر عبارة شيخنا المشار إليه أيضا ذلك ولا بأس به.

واما ما ذكره بالنسبة إلى التمتام والفأفاء والألثغ والأليغ فهو جيد ، ويدل عليه ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة (٢) قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) يقول انك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهد وما أشبه ذلك فهذا بمنزلة العجم المحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح ولو ذهب العالم المتكلم الفصيح حتى يدع ما قد علم انه يلزمه ويعمل به وينبغي له ان يقوم به حتى يكون ذلك منه بالنبطية والفارسية لحيل بينه وبين ذلك بالأدب حتى يعود إلى ما قد علمه وعقله ، قال ولو ذهب من لم يكن في مثل حال الأعجم المحرم ففعل فعال الأعجمي والأخرس على ما قد وصفنا إذا لم يكن أحد فاعلا لشي‌ء من الخير ولا يعرف الجاهل من العالم».

أقول : في النهاية فيه «فأرسل إلى ناقة محرمة» أي التي لم تركب ولم تذلل. وفي الصحاح جلد محرم اي لم تتم دباغته وسوط محرم اي لم يلن بعد وناقة محرمة اي لم تتم رياضتها بعد ، وقال كل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو أعجم ومستعجم ، والأعجم الذي لا يفصح ولا يبين كلامه. انتهى.

أقول : ومنه يعلم ان إطلاق المحرم في الخبر على من لا يمكنه الإتيان بالقراءة

__________________

(١) ج ١ ص ٥٠ وقد رواه القاضي محمد بن سلامة المغربي الشافعي في كتابه الشهاب في الحكم والآداب في باب الالف المقطوع والموصول.

(٢) الوسائل الباب ٦٧ من القراءة.

١٢٨

ونحوها على وجهها من إخراج الحروف من مخارجها أولا يفصح به لشبهه بالدابة ونحوها من الأشياء المعدودة في عدم لين لسانه وتذليله بالنطق. وحاصل معنى الخبر الفرق بين من يمكنه الإتيان بالقراءة والأذكار والأدعية في صلاة أو غيرها على وجهها ولو بالتعلم وبين من لا يمكنه ، وان القادر على الإتيان بذلك على وجهه ولو بالتعلم لا يجزئه غير ذلك وجهله مع إمكان التعلم ليس بعذر شرعي.

والمستفاد من بعض الأخبار ان من لا يقدر على إصلاح لسانه ويقرأ ويدعو على تلك الحال فان الله سبحانه بمزيد فضله وكرمه يوكل الملائكة بإصلاحه فلا يرفع اليه إلا على الهيئة والكيفية المأمور بها :

روى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجميته فترفعه الملائكة على عربيته».

وقد ورد في الحديث المشهور عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «ان سين بلال عند الله شين».

(المسألة الثالثة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) من متقدميهم ومتأخريهم وجوب الجهر في الصبح وأوليي المغرب والعشاء والإخفات في الباقي فإن عكس عامدا عالما وجبت عليه إعادة الصلاة ، ونقل عن ابن الجنيد انه يجوز العكس ولكن يستحب ان لا يفعله وهو قول السيد المرتضى في المصباح. وإلى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين : أولهم ـ على الظاهر السيد السند (قدس‌سره) في المدارك وتبعه فيه جملة ممن تأخر عنه كما هي عادتهم غالبا.

والأظهر عندي هو القول المشهور ، ولنكتف هنا في بيان ما اخترناه بنقل ما ذكره

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٠ من قراءة القرآن.

(٢) الشهاب في الحكم والآداب للقاضي محمد بن سلامة المغربي الشافعي المتوفى ٤٥٤ باب الالف المقطوع والموصول.

١٢٩

السيد المشار اليه والكلام على كلامه وبيان ضعفه في نقضه وإبرامه :

قال (قدس‌سره) بعد نقل القولين المذكورين : احتج الشيخ (قدس‌سره) بما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي ان يجهر فيه أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال اي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي‌ء عليه». وجه الدلالة قوله (عليه‌السلام) «اي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة» فإن «نقض» بالضاد المعجمة كناية عن البطلان والإعادة انما تثبت مع اشتمال الاولى على نوع من الخلل. واحتج الشهيد في الذكرى على الوجوب أيضا بفعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والتأسي به واجب. وهو ضعيف جدا فإن التأسي في ما لا يعلم وجهه مستحب لا واجب كما قرر في محله. واحتج القائلون بالاستحباب بأصالة البراءة من الوجوب ، وقوله تعالى «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً» (٢) وجه الدلالة ان النهي لا يجوز تعلقه بحقيقة الجهر والإخفات لامتناع انفكاك الصوت عنهما بل المراد ـ والله اعلم ـ ما ورد عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) في تفسير الآية وهو تعلق النهي بالجهر العالي الزائد عن المعتاد والإخفات الكثير الذي يقصر عن الأسماع والأمر بالقراءة المتوسطة بين الأمرين وهو شامل للصلوات كلها. وما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يصلي من الفرائض ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه ان لا يجهر؟ قال ان شاء جهر وان شاء لم يجهر». وأجاب عنها الشيخ بالحمل على التقية لموافقتها لمذهب العامة (٥) قال المصنف (قدس‌سره) وهو تحكم من الشيخ فان بعض

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٦ من القراءة.

(٢) سورة بني إسرائيل ، الآية ١١٠.

(٣) الوسائل الباب ٣٣ من القراءة.

(٤) الوسائل الباب ٢٥ من القراءة.

(٥) في البحر الرائق ج ١ ص ٣٠٢ «الجهر في الصلاة الجهرية واجب على الامام فقط وهو أفضل في حق المنفرد وهي صلاة الصبح والركعتان الأوليان من المغرب والعشاء.».

١٣٠

الأصحاب لا يرى وجوب الجهر بل يستحبه مؤكدا. والتحقيق انه يمكن الجمع بين الخبرين بحمل الأول على الاستحباب أو حمل الثاني على التقية ، ولعل الأول أرجح لأن الثانية أوضح سندا وأظهر دلالة مع اعتضادها بالأصل وظاهر القرآن. انتهى.

أقول : وعندي فيه نظر من وجوه (أحدها) ـ نقله رواية زرارة عارية عن وصف الصحة حيث انه نقلها عن الشيخ وهي وان كانت في كتابيه كذلك لكنها من روايات الصدوق في الفقيه وطريقه إلى زرارة في أعلى مراتب الصحة فتكون الرواية صحيحة ، وبه يظهر ضعف ما ذكره أخيرا من دعواه كون صحيحة علي بن جعفر أوضح سندا بناء على نقله لها عن الشيخ (قدس‌سره).

و (ثانيها) ـ انه مما يدل على هذا القول أيضا صحيحة زرارة الأخرى عنه (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر فيه أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه ، وترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه أو قرأ في ما لا ينبغي القراءة فيه؟ فقال اي ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي‌ء عليه».

وما رواه في الفقيه في علل الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) «ان الصلوات التي يجهر فيها انما هي في أوقات مظلمة فوجب ان يجهر فيها ليعلم المار ان هناك جماعة. الحديث».

ومثله ما رواه الصدوق أيضا في حكاية صلاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالملائكة في ابتداء الصلاة (٣) قال : «سأل محمد بن عمران أبا عبد الله (عليه‌السلام) قال لأي علة يجهر في صلاة الجمعة وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الغداة وسائر الصلوات الظهر والعصر لا يجهر فيهما؟ قال لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما اسرى به إلى السماء كان أول صلاة فرض الله عليه الظهر يوم الجمعة فأضاف إليه الملائكة تصلي خلفه وأمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان يجهر بالقراءة ليبين لهم فضله ثم فرض عليه العصر ولم يضف إليه أحدا

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٦ من القراءة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٥ من القراءة.

١٣١

من الملائكة وامره ان يخفى القراءة لأنه لم يكن وراءه أحد ، ثم فرض عليه المغرب وأضاف إليه الملائكة فأمره بالإجهار وكذلك العشاء الآخرة ، فلما كان قرب الفجر نزل ففرض الله عليه الفجر فأمره بالإجهار ليبين للناس فضله كما بين للملائكة فلهذه العلة يجهر فيها. الحديث».

والتقريب في خبر الفضل ظاهر لتصريحه بالوجوب وفي خبر محمد بن عمران لتضمنه الأمر من الله سبحانه لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالجهر والإخفات في تلك الصلوات ، وأوامره ونواهيه عزوجل للوجوب والتحريم بلا خلاف ، وانما الخلاف في الأوامر والنواهي التي في السنة «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١) ومتى ثبت الحكم في حقه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثبت في أمته بدليل استدلال الصادق (عليه‌السلام) بذلك على أصل الحكم المذكور ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ناظر.

و (ثالثها) ـ استدلاله بالآية فإنه وان كان الأمر كما ذكره وقرره إلا ان هذا الإجمال الذي دلت عليه الآية غير معمول عليه لاتفاق الأخبار وكلمة الأصحاب على انقسام الصلاة إلى جهرية وإخفاتية وتعيين الجهرية في صلوات مخصوصة والإخفاتية في صلوات مخصوصة ، وقد دلت الأخبار المتقدمة على وجوب الجهر في الجهرية والإخفات في الإخفاتية فلا بد من تخصيص هذا الإجمال بهذه الأخبار المشار إليها ، وحينئذ فيصير معنى الآية لا تجهر في الجهرية جهرا عاليا زائدا على المعتاد ولا تخافت في الإخفاتية إخفاتا لا تسمع نفسك. واللازم من ذلك الجهر في الجهرية بدون الحد المذكور والإخفات في الإخفاتية فوق الحد المذكور ، ومنه يظهر عدم جواز الاستناد إلى الآية في المقام لما هي عليه من الإجمال المنافي لما فصلته اخبارهم (عليهم‌السلام).

ومن الأخبار الواردة بتفسير الآية المذكورة ما رواه العياشي عن سماعة بن

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٦٣.

١٣٢

مهران عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في قول الله عزوجل (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (٢)؟ قال المخافتة ما دون سمعك والجهر ان ترفع صوتك شديدا».

وما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «في قوله تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها)؟ قال الجهر بها رفع الصوت والتخافت ما لم تسمع بإذنك واقرأ ما بين ذلك».

وبهذا الاسناد عنه (عليه‌السلام) (٤) قال : «الإجهار رفع الصوت عاليا والمخافتة ما لم تسمع نفسك».

وروى العياشي في سبب النزول عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) (٥) «في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ). الآية؟ قال كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا كان بمكة جهر بصلاته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فأنزلت هذه الآية عند ذلك». ونحوه روى الطبرسي عنهما (عليهما‌السلام) (٦).

أقول : وهذه الأخبار وان كان فيها أيضا نوع إجمال بالنسبة إلى الوسط الذي بين الجهر والإخفات المنهي عنهما إلا انه قد علم من الأخبار المشار إليها آنفا ان هذا الحد الوسط له فردان : (أحدهما) الجهر في الجهرية دون الحد المنهي عنه. و (ثانيهما) الإخفات في الإخفاتية فوق الحد المنهي عنه ، لان الجهر والإخفات ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى تحقيقه ـ حقيقتان متضادتان ، وبالجملة فإنك إذا ضممت أخبار المسألة كملا بعضها إلى بعض فإنه لا مندوحة عن التخصيص في كل من الموضعين بما ذكرنا.

قال شيخنا المجلسي (قدس الله روحه) في كتاب البحار في معنى الآية : يحتمل ان يكون الغرض بيان حد الجهر في الصلاة مطلقا أو للإمام ، وهذا وجه قريب لتفسير الآية

__________________

(١ و ٤ و ٥) مستدرك الوسائل الباب ٢٦ من القراءة.

(٢) سورة بني إسرائيل ، الآية ١١٠.

(٣) الوسائل الباب ٣٣ من القراءة.

(٦) ج ٣ ص ٤٤٦.

١٣٣

اي ينبغي أن يقرأ في ما يجهر فيه من الصلوات بحيث لا يتجاوز الحد في العلو ولا يكون بحيث لا يسمعه من قرب منه فيكون إخفاتا أو لا يسمعه المأمومون فيكون مكروها. انتهى وبذلك يظهر لك ما في قوله أخيرا «وهو شامل للصلوات كلها» فإنه ناشى‌ء عن عدم ملاحظة الأخبار الواردة في المقام وما اشتملت عليه مما يوجب تقييد هذا الإجمال كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

و (رابعها) ما ذكره من الوجهين في الجمع بين الخبرين المنقولين في كلامه واختياره الاستحباب منهما ، فان فيه ما عرفت في غير مقام مما سبق أنه (أولا) لم يقم عليه دليل وان اشتهر بينهم (رضوان الله عليهم) جيلا بعد جيل. و (ثانيا) ان الاستحباب حكم شرعي لا يصار اليه إلا بدليل واضح ومجرد اختلاف الأخبار ليس بدليل على ذلك و (ثالثا) ان الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة ومجرد اختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز ، ومن المعلوم انه لو لا وجود صحيحة علي بن جعفر في البين لما كان معدل عن الحكم بمقتضى صحيحة زرارة المذكورة والقول بالوجوب كما لا يخفى. و (رابعا) انه من الجائز بل هو المتعين ان يجعل التأويل في جانب صحيحة علي بن جعفر بان تحمل على التقية وهو مقتضى القاعدة المنصوصة عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) في مقام اختلاف الأخبار فإن العامة كلهم على الاستحباب كما هو مذهب ابن الجنيد على ما نقله في المعتبر ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) الغوا هذه القواعد الواردة عن أئمتهم (عليهم‌السلام) واتخذوا قواعد لا أصل لها في الشريعة. و (خامسا) تأيد صحيحة زرارة بالروايات التي قدمناها.

و (خامسها) ـ ما ذكره من أظهرية دلالة صحيحة علي بن جعفر فإنه في الضعف والبطلان أظهر من ان ينكر ، وكيف لا وصحيحة زرارة دلت على ان الإخفاتية لا يجوز الجهر فيها والجهرية لا يجوز الإخفات فيها ، وهذا وان كان في كلام السائل إلا ان الامام (عليه‌السلام) قرره عليه واجابه بما يطابقه ويدل عليه ، ودلت أيضا على وجوب

١٣٤

الإعادة بعد حكمه بكون ذلك نقضا للصلاة إذا كانت المخالفة والإخلال عن عمد. وكل واحد من هذه الوجوه يكفي في الدلالة لو انفرد فكيف مع الاجتماع ، وحينئذ فلا وجه لدعواه ان صحيحة علي بن جعفر أظهر دلالة ، ومن المعلوم ان ترك المستحبات لا يوجب الإعادة من رأس.

و (سادسها) ـ ما ذكره من الاعتضاد بالأصل وظاهر القران ، فان في الأول منهما ان الأصل يجب الخروج عنه مع قيام الدليل على خلافه وقد عرفت الدليل من الصحيحة المذكورة وصحيحته الثانية والأخبار التي معها. وفي الثاني انه بمقتضى ما أوضحناه ان الآية لا دلالة لها على ما ادعاه.

هذا. واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة في هذا المقام ـ حيث انه ممن تبع السيد السند كما هي عادته في أغلب الأحكام فزاد في تأييد مقالته ما زعمه من الإبرام من ظهور لفظ «لا ينبغي» في الاستحباب وان «نقص» في الرواية بالصاد المهملة أي نقص ثوابه وانه يحتمل حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب فيكون المراد المبالغة في استحبابه ـ فهو من جملة تشكيكاته الضعيفة واحتمالاته السخيفة ، ولو قامت مثل هذه التكلفات في الأخبار والتمحلات التي تبعد عن مذاق الأفكار لم يبق دليل يعتمد عليه إلا وللقائل فيه مقال وان سخف وبعد ذلك الاحتمال ، ومع هذا فانا نوضح بطلان ما اعتمده بأوضح بيان :

فنقول : اما ما ذكره من ظهور لفظ «لا ينبغي» في الاستحباب ان أراد في عرف الناس فهو كذلك ولكن لا ينفعه ، وان أراد في عرفهم (عليهم‌السلام) فهو ممنوع أشد المنع كما لا يخفى على من غاص بحار الأخبار وجاس خلال تلك الديار ، وبذلك اعترف جملة من علمائنا الأبرار ، وقد حضرني الآن من الأخبار التي استعمل فيها لفظ «ينبغي ولا ينبغي» في الوجوب والتحريم ما ينيف على ثلاثين حديثا. والتحقيق في المقام هو ما قدمنا ذكره من ان هذا اللفظ من الألفاظ المتشابهة في كلامهم (عليهم‌السلام) فلا يحمل على أحد معنييه

١٣٥

إلا بقرينة ظاهرة والقرينة في ما ندعيه من المعنى واضحة من الجواب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

واما ما ذكره من لفظ «نقص» وانه بالصاد فإنه مع تسليم صحته فهو مؤيد لما ندعيه ، وذلك فان المتبادر من النقص في الشي‌ء انما هو عدم الإتيان به تاما فمعنى نقص الصلاة عدم الإتيان بها تامة ، وهذا هو المعنى الذي ينطبق عليه الأمر بالإعادة كما لا يخفى على من اتخذ الإنصاف سجية وعادة. واما حمل النقص على نقص الثواب كما زعم فهو معنى مجازي خلاف الظاهر لا يصار اليه إلا مع المعارض الراجح كما لا يخفى على الخبير الماهر. واما حمل الإعادة على الاستحباب فقد عرفت ما فيه.

وبالجملة فإنك إذا رجعت إلى القواعد الشرعية الواردة عن الذرية المصطفوية (عليهم أفضل الصلاة والتحية) يظهر لك ان القول المشهور هو المؤيد المنصور وان القول الآخر بمحل من الضعف والقصور.

واما ما ذكره المحقق ـ ردا على الشيخ في حمله صحيحة علي بن جعفر على التقية من انه تحكم لأن بعض الأصحاب ذهب إلى القول بمضمونها ـ ففيه ان ظاهر هذا الكلام يعطي انه لا يصح حمل الخبر على التقية إلا إذا كان ذلك الخبر مطرحا عند جميع الأصحاب بحيث لا يقول به قائل في ذلك الباب ، وهذا غريب من مثل هذا المحقق التحرير وتحكم محض بل سهو في هذا التحرير ، ولعله لهذا اطرحوا قاعدة عرض الأخبار في مقام الاختلاف على التقية مع انها في اختلاف الأخبار هي أصل كل بلية كما نبهنا عليه في مقدمات الكتاب ، ولا يخفى ان الأخبار الخارجة عنهم (عليهم‌السلام) بالاختلاف في الأحكام لا وجه للاختلاف فيها سوى التقية كما حققناه في مقدمات الكتاب ، ولكن العامل بذلك الخبر الخارج مخرج التقية إنما عمل به من حيث ثبوته عنهم (عليهم‌السلام) ولا علم له بكونه خرج مخرج التقية ، ولهذا وردت الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) بالرخصة بالعمل بالأخبار الخارجة مخرج التقية حتى يعلم بأنها إنما خرجت كذلك فيكون حينئذ

١٣٦

مخاطبا بترك العمل بها إذا لم تلجئه التقية للعمل بها وما نحن فيه من هذا القبيل. وبالجملة فإن الأخبار المستفيضة بالترجيح بمخالفة العامة في مقام اختلاف الأخبار أعم مما ذكره فإنه متى ما وافق أحد الخبرين العامة وخالفهم الآخر وجب تركه عمل به أو لم يعمل به ولهذا ترى الأصحاب في مقام البحث والترجيح يستدل أحدهم بخبر ويجيب عنه الآخر بالحمل على التقية. والله العالم.

تنبيهات

(الأول) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق وابن إدريس والعلامة والشهيد وغيرهم بأن أقل الجهر ان يسمع القريب منه تحقيقا أو تقديرا وأقل الإخفات ان يسمع نفسه لو كان سامعا ، وادعى عليه الفاضلان في المعتبر والمنتهى الإجماع وقال الشهيد في الذكرى : أقل الجهر ان يسمع من قرب منه إذا كان يسمع وحد الإخفات إسماع نفسه ان كان يسمع وإلا تقديرا ، قال في المعتبر وهو إجماع العلماء ولأن ما لا يسمع لا يعد كلاما ولا قراءة.

وقال ابن إدريس في السرائر : وادنى حد الجهر ان تسمع من على يمينك أو شمالك ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته ، وحد الإخفات أعلاه ان تسمع أذناك القراءة وليس له حد ادنى بل ان لم تسمع أدناه القراءة فلا صلاة له وان سمع من على يمينه أو شماله صار جهرا فإذا فعله عامدا بطلت صلاته. انتهى.

وقال السيد السند في المدارك بعد قول المصنف «وأقل الجهر ان يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع والإخفات ان يسمع نفسه ان كان يسمع» : هذا الضابط ربما أوهم بظاهره تصادق الجهر والإخفات في بعض الافراد وهو معلوم البطلان لاختصاص الجهر ببعض الصلوات والإخفات ببعض وجوبا أو استحبابا. والحق ان الجهر والإخفات حقيقتان متضادتان يمتنع تصادقهما في شي‌ء من الافراد. ولا يحتاج في كشف مدلولهما إلى شي‌ء زائد على الحوالة على العرف انتهى.

١٣٧

والظاهر ان مبنى ما ذكره السيد (قدس‌سره) من الاعتراض على الضابط المذكور هو انه فهم من عبارة الفاضلين والشهيد عطف الإخفات في عبائرهم على المضاف إليه في قولهم «أقل الجهر ان يسمع القريب منه والإخفات» يعني أقل الإخفات واللازم من هذا تصادق الجهر والإخفات في إسماع القريب بان يكون ذلك أعلى مراتب الإخفات لأن أقله إسماع نفسه وأكثره إسماع القريب وأقل مراتب الجهر كما صرحوا به ، وحينئذ فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه وتصير هذه الصورة مادة الاجتماع والحال ان المفهوم من النصوص الدالة على انقسام الصلاة إلى جهرية وإخفاتية خلافه.

وأنت خبير بان كلام الجماعة المذكورين وان أوهم في بادئ النظر ما ذكره إلا ان الظاهر ان ما ذكروه من تعريف الإخفات ليس بيانا للمرتبة الدنيا منه بل انما هو بيان لمعنى حقيقة الإخفات وانه عبارة عما ذكروه وانه ليس معطوفا على المضاف اليه بل على المضاف والواو للاستئناف. وبالجملة فالظاهر انهم انما قصدوا بذلك بيان معنى الإخفات وانه عبارة عن إسماع الإنسان نفسه حقيقة أو تقديرا واما ما زاد عليه فهو جهر تبطل الصلاة به كما هو صريح عبارة ابن إدريس واليه يشير آخر عبارة العلامة في المنتهى حيث قال بعد تحديد الإخفات بأن يسمع نفسه أو بحيث يسمع لو كان سامعا : وانما حد دناه بما قلنا لأن ما دونه لا يسمى كلاما ولا قرآنا وما زاد عليه يسمى جهرا. انتهى. وهو ظاهر في ان إسماع القريب جهر عنده لا إخفات بل الإخفات خاص بإسماع نفسه.

وقال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد : الجهر والإخفات حقيقتان متضادتان كما صرح به المصنف في النهاية عرفيتان يمتنع تصادقهما في شي‌ء من الافراد ولا يحتاج في كشف مدلولهما إلى شي‌ء زائد على الحوالة على العرف. الى ان قال ـ بعد ذكر تعريف المصنف له بأن أقل الجهر إسماع القريب تحقيقا أو تقديرا ـ ما صورته : وينبغي ان يزاد فيه قيد آخر وهو تسميته جهرا عرفا وذلك بان يتضمن إظهار الصوت على الوجه المعهود.

١٣٨

ثم قال بعد قوله : «وحد الإخفات إسماع نفسه تحقيقا أو تقديرا» ولا بد من زيادة قيد آخر وهو تسميته مع ذلك إخفاتا بأن يتضمن إخفات الصوت وهمسه وإلا لصدق هذا الحد على الجهر ، وليس المراد إسماع نفسه خاصة لأن بعض الإخفات قد يسمعه القريب ولا يخرج بذلك عن كونه إخفاتا. انتهى.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : واعلم ان الجهر والإخفات كيفيتان متضادتان لا يجتمعان في مادة كما نبه عليه في النهاية ، فأقل السر ان يسمع نفسه لا غير تحقيقا أو تقديرا وأكثره ان لا يبلغ أقل الجهر ، وأقل الجهر ان يسمع من قرب منه إذا كان صحيح السمع مع اشتمال القراءة على الصوت الموجب لتسميته جهرا عرفا ، وأكثره ان لا يبلغ العلو المفرط وربما فهم بعضهم ان بين أكثر السر وأقل الجهر تصادقا وهو فاسد لأدائه إلى عدم تعيين أحدهما لصلاة لإمكان استعمال الفرد المشترك حينئذ في جميع الصلوات وهو خلاف الواقع لان التفصيل قاطع للشركة. انتهى.

وظاهر كلام هذين الفاضلين أنه لا بد في صدق الجهر وحصوله من اشتمال الكلام على الصوت وهذا هو منشأ الفرق بين الجهر والإخفات ، فإن اشتمل الكلام على الصوت سمى جهرا اسمع قريبا أو لم يسمع وان لم يشتمل عليه سمي إخفاتا كذلك. وبنحو ما ذكره الفاضلان المذكوران صرح المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) والظاهر انه قول كافة من تأخر عنهما.

وفيه من المخالفة لكلام أولئك الفضلاء ما لا يخفى فإنهم ـ كما عرفت ـ جعلوا أقل مراتب الجهر ان يسمع من قرب منه اشتمل على صوت أو لم يشتمل وان الإخفات عبارة عن إسماع نفسه اشتمل على صوت أو لم يشتمل وادعى الفاضلان على ذلك الإجماع كما تقدم ، واللازم من ذلك ان من قرأ في الصلوات الإخفاتية بحيث يسمعه من قرب منه وان لم يشتمل على صوت فان صلاته تبطل بذلك وهو صريح كلام ابن إدريس كما تقدم ، مع ان صريح كلام هؤلاء المتأخرين هو انه متى كان كذلك فإن الصلاة صحيحة.

١٣٩

والعرف يساعد ما ذكره المتأخرون فإن مجرد سماع القريب مع عدم الاشتمال على الصوت الظاهر انه لا يطلق عليه الجهر عرفا. وبالجملة فالمتبادر عرفا من الجهر هو ما اشتمل على هذا الجرس الذي هو الصوت وان كان خفيا وما لم يشتمل عليه فإنما يسمى إخفاتا وان سمعه القريب. واما ما ذكره شيخنا المشار إليه في آخر كلامه بقوله : «وربما فهم بعضهم. إلخ» فقد عرفت وجهه مما تقدم.

وكيف كان فإنه لا يعتد في الإخفات بما دون إسماع نفسه لما عرفت من الأخبار المتقدمة من تفسير الإخفات المنهي عنه بما لا يسمع نفسه.

ويؤيده ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «لا يكتب من القرآن والدعاء إلا ما اسمع نفسه».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال لا بأس بذلك إذا أسمع أذنيه الهمهمة».

واما ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) ـ (٣) قال : «سألته عن الرجل يصلح له ان يقرأ في صلاته ويحرك لسانه بالقراءة في لهواته من غير ان يسمع نفسه؟ قال لا بأس ان لا يحرك لسانه يتوهم توهما». ـ

فقد حمله الشيخ في التهذيب على من يصلي مع قوم لا يقتدي بهم واستدل عليه بما رواه عن محمد بن أبي حمزة عن من ذكره (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) يجزئك من القراءة معهم مثل حديث النفس».

أقول : وقريب منه أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (٥) قال «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي خلف من لا يقتدي بصلاته

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٣ من القراءة.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٥٢ من القراءة.

١٤٠