الحدائق الناضرة - ج ٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

قال الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن محمد الجزري الشافعي المقرئ في كتاب النشر للقراءات العشر (١) على ما نقله بعض مشايخنا المعاصرين : كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين ، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عن من هو أكبر منهم ، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف صرح بذلك الامام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب وكذلك الإمام أبو العباس احمد بن عمار المهدوي وحققه الامام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بابي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه ، قال أبو شامة في كتابه (المرشد الوجيز) : فلا ينبغي ان يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وانها هكذا أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف دون غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم بل ان نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير ان هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم. انتهى

وهو ـ كما ترى ـ صريح في ان المعيار في الصحة انما هو على ما ذكروه من الضابط لا على مجرد وروده عن السبعة فضلا عن العشرة وان العمل على هذا الضابط المذكور

__________________

(١) ج ١ ص ٩. واسم الكتاب في النسخة المطبوعة وفي كشف الظنون ج ٢ ص ١٩٥٢ «النشر في القراءات العشر».

١٠١

مذهب السلف والخلف فكيف يتم ما ادعاه أصحابنا (رضوان الله عليهم) من تواتر هذه السبع؟

ويؤيد ذلك ما نقله شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قال سمعت شيخي علامة الزمان وأعجوبة الدوران يقول ان جار الله الزمخشري ينكر تواتر السبع ويقول ان القراءة الصحيحة التي قرأ بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما هي في صفتها وانما هي واحدة والمصلي لا تبرأ ذمته من الصلاة إلا إذا قرأ بما وقع فيه الاختلاف على كل الوجوه كمالك وملك وصراط وسراط وغير ذلك. انتهى. وهو جيد وجيه بناء على ما ذكرنا من البيان والتوجيه ولو لا ما رخص لنا به الأئمة (عليهم‌السلام) من القراءة بما يقرأ الناس لتعين عندي العمل بما ذكره.

ثم أقول : ومما يدفع ما ادعوه أيضا استفاضة الأخبار بالتغيير والتبديل في جملة من الآيات من كلمة بأخرى زيادة على الأخبار المتكاثرة بوقوع النقص في القرآن والحذف منه كما هو مذهب جملة من مشايخنا المتقدمين والمتأخرين (١).

ومن الأول ما ورد في قوله عزوجل «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» (٢) ففي تفسير العياشي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «انه قرأ أبو بصير عنده هذه الآية فقال (عليه‌السلام) ليس هكذا أنزلها الله تعالى وانما نزلت وأنتم قليل» وفي آخر «وما كانوا اذلة وفيهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانما نزل ولقد نصركم

__________________

(١) ذكر آية الله الأستاذ الخوئي دام ظله في البيان ج ١ ص ١٣٩ ان المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف وانه ذهب إليه جماعة من المحدثين من الشيعة وجمع من علماء أهل السنة كما نسبه إليهم الرافعي في إعجاز القرآن ص ٤١. وقد أجاب عن الروايات التي تمسك بها القائلون به بنحو لا يبقى مجال للتشكيك ومن أراد فليرجع إلى البيان ج ١ ص ١٧٥.

(٢) سورة آل عمران الآية ١١٩.

(٣) تفسير الصافي في تفسير الآية.

١٠٢

الله ببدر وأنتم ضعفاء».

وما ورد في قوله عزوجل «لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» (١) ففي الاحتجاج عن الصادق (عليه‌السلام) والمجمع عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) «لقد تاب الله بالنبي عن المهاجرين» والقمي عن الصادق (عليه‌السلام) «هكذا أنزلت». وفي الاحتجاج عنه (عليه‌السلام) (٣) «واي ذنب كان لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتى تاب منه؟ انما تاب الله به على أمته».

وما ورد في قوله تعالى «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ ... الآية» (٤) ففي المجمع عن السجاد والباقر والصادق (عليهم‌السلام) (٥) «انهم قرأوا خالفوا». والقمي عن العالم (عليه‌السلام) (٦) والكافي والعياشي عن الصادق (عليه‌السلام) مثله (٧) قال : «ولو كانوا خلفوا لكانوا في حال طاعة».

وما ورد في قوله عزوجل «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ» (٨) ففي تفسير القمي عن الصادق (عليه‌السلام) (٩) «ان هذه الآية قرئت عنده فقال لقارئها ألستم عربا فكيف تكون المعقبات من بين يديه؟ وانما المعقب من خلفه فقال الرجل جعلت فداك كيف هذا؟ فقال إنما أنزلت (له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله) ومن ذا الذي يقدر ان يحفظ الشي‌ء من أمر الله؟ وهم الملائكة المقربون الموكلون بالناس». ومثله في تفسير العياشي (١٠).

وأنت خبير بان ظواهر هذه الآيات لا تنطبق على ما نطقت به هذه الروايات إلا بارتكاب التكلفات والتعسفات.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١١٨.

(٢ و ٣ و ٥ و ٦ و ٧ و ٩ و ١٠) تفسير الصافي في تفسير الآية.

(٤) سورة التوبة ، الآية ١١٩.

(٨) سورة الرعد ، الآية ١٢.

١٠٣

ونحو ذلك ما ورد في قوله عزوجل «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (١) ففي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) إنما أنزلت «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) إلى أجل مسمى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ». والعياشي عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) انه كان يقرأها كذلك. وروته العامة أيضا عن جمع من الصحابة (٤).

وما رواه الشيخ في التهذيب عن غالب بن الهذيل (٥) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» (٦) على الخفض هي أم على النصب؟ قال بل هي على الخفض». مع ان قراءة النصب احدى القراءات السبع (٧).

ومثله ما ورد في قوله تعالى «سلام على آل ياسين» (٨) فإنها قراءة أهل البيت (عليهم‌السلام) وبها وردت اخبارهم (٩) مع ان قراءة «آل ياسين» احدى القراءات السبع (١٠) الى غير ذلك من المواضع التي لا يسع المقام الإتيان عليها.

واما اخبار القسم الثاني فهي أكثر وأعظم من ان يأتي عليها قلم البيان في هذا المكان ، واللازم اما العمل بما قالوه من ان كل ما قرأت به القراء السبعة وورد عنهم في أعراب أو كلام أو نظام فهو الحق الذي نزل به جبرئيل (عليه‌السلام) من رب العالمين على سيد المرسلين ، وفيه رد لهذه الأخبار على ما هي عليه من الصحة والصراحة والاشتهار وهذا مما لا يكاد يتجرأ عليه المؤمن بالله سبحانه ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٢٤.

(٢) الوسائل الباب ١ من المتعة.

(٣) تفسير الصافي في تفسير الآية.

(٤) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٣٩.

(٥) الوسائل الباب ٢٥ من الوضوء.

(٦) سورة المائدة ، الآية ٦.

(٧) وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم كما في مجمع البيان ج ٢ ص ١٦٣.

(٨) سورة الصافات ، الآية ١٣٠.

(٩) تفسير الصافي في تفسير الآية.

(١٠) وهي قراءة ابن عامر ونافع كما في مجمع البيان ج ٤ ص ٤٥٦.

١٠٤

الاطهار (عليهم‌السلام) واما العمل بهذه الأخبار وبطلان ما قالوه وهو الحق الحقيق بالاتباع لذوي البصائر والأفكار. والله العالم.

(الثالث) ـ لا خلاف بين الأصحاب في أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة تجب قراءتها معها ما عدا سورة براءة ، وعليه تدل الأخبار المتكاثرة :

فروى ثقة الإسلام في الكافي عن معاوية بن عمار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إذا قمت للصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال نعم. قلت فإذا قرأت فاتحة الكتاب اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال نعم».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم هي الفاتحة؟ قال نعم. قلت بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال نعم هي أفضلهن».

وعن معاوية بن عمار في الصحيح (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إذا قمت إلى الصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال نعم. قلت فإذا قرأت فاتحة الكتاب اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال نعم».

وما رواه في الكافي عن يحيى بن أبي عمران الهمداني (٤) قال : «كتبت إلى ابي جعفر (عليه‌السلام) جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها فقال العياشي ليس بذلك بأس؟ فكتب بخطه يعيدها مرتين على رغم أنفه يعني العياشي».

قوله «يعيدها» يعني الصلاة وحمله على البسملة بعيد وقوله «مرتين» يتعلق بقوله «كتب» لا بقوله «يعيدها» إذ لا معنى لإعادة الصلاة مرتين. والعياشي ان حمل على الرجل المشهور صاحب التفسير المشهور وهو محمد بن مسعود العياشي فينبغي تخصيصه بكون ذلك في أول أمره فإنه كان من فضلاء العامة ثم استبصر ورجع إلى مذهب الشيعة فالحمل عليه بالتقريب

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١١ من القراءة. والرواية (٣) يرويها الشيخ عن الكليني.

١٠٥

المذكور غير بعيد (١) ويحتمل غيره من المشهورين في ذلك الوقت.

وروى العياشي في تفسيره عن يونس بن عبد الرحمن عن من رفعه (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (٣) قال هي سورة الحمد وهي سبع آيات منها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وانما سميت المثاني لأنها تثنى في الركعتين».

ومنه عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «سرقوا أكرم آية في كتاب الله : بسم الله الرحمن الرحيم».

ومنه عن صفوان الجمال (٥) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ما انزل الله من السماء كتابا إلا وفاتحته بسم الله الرحمن الرحيم وانما كان يعرف انقضاء السورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للأخرى».

ومنه عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه‌السلام) (٦) قال : «بلغه ان أناسا ينزعون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقال هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان».

ومنه عن خالد بن المختار (٧) قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام)

__________________

(١) قال في ريحانة الأدب ج ٣ ص ١٤٢ في ترجمة العياشي : لم نظفر بتاريخ وفاته إلا انه يظهر من طبقته انه من اعلام أواخر القرن الثالث بل يحتمل انه تجاوزه إلى القرن الرابع أيضا. وفي الذريعة ج ٤ ص ٢٩٥ عده من طبقة ثقة الإسلام الكليني ، وقد عنونه الشيخ الطوسي في كتاب الرجال في باب من لم يرو عنهم «ع» وبهذا يبعد الحمل عليه لبعد كونه في أول أمره معاصرا للجواد «ع» بحيث يكون مفتيا. وفي الطبعة الحديثة من فروع الكافي ج ١ ص ٣١٣ «العباسي» بالباء الموحدة والسين المهملة ، وفي التعليقة «٢» منه قال : هو هشام بن إبراهيم العباسي وكان يعارض الرضا والجواد «ع».

(٢) مستدرك الوسائل الباب ١ من القراءة.

(٣) سورة الحجر ، الآية ٨٧.

(٤ و ٥ و ٦ و ٧) مستدرك الوسائل الباب ٨ من القراءة.

١٠٦

يقول ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها؟ وهي بسم الله الرحمن الرحيم».

ومنه عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (٢) فقال فاتحة الكتاب يثنى فيها القول. قال : وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الله تعالى من علي بفاتحة الكتاب من كنز الجنة ، فيها «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الآية التي يقول الله تعالى فيها «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» (٣) و «الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» دعوى أهل الجنة حين شكروا لله حسن الثواب «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قال جبرئيل ما قالها مسلم قط إلا صدقة الله وأهل سماواته «إِيّاكَ نَعْبُدُ» إخلاص للعبادة «وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ» أفضل ما طلب به العباد حوائجهم «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» اليهود «وَلَا الضّالِّينَ» النصارى». الى غير ذلك من الأخبار الآتي ذكر جملة منها ان شاء الله تعالى.

وهذه الأخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في ان البسملة جزء من الفاتحة بل من كل سورة تجب قراءتها مع كل منها. والمشهور بين الأصحاب انها آية من كل سورة صرح به الشيخ في الخلاف والمبسوط وبه قطع عامة المتأخرين. ونقل عن ابن الجنيد انها في الفاتحة بعضها وفي غيرها افتتاح لها. وهو متروك وإثباتها في المصاحف مع كل سورة مع محافظتهم على تجرده مما ليس منه دليل على ضعف ما ذهب اليه.

ثم لا يخفى انه قد ورد جملة من الأخبار أيضا مما هو ظاهر المنافاة للأخبار المتقدمة ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه

__________________

(١) البحار ج ١٨ الصلاة ص ٢٣٦.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٨٧.

(٣) سورة بني إسرائيل ، الآية ٤٦.

(٤) الوسائل الباب ١٢ من القراءة.

١٠٧

السلام) عن الرجل يكون اماما فيستفتح بالحمد ولا يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فقال لا يضره ولا بأس». وهو محمول على التقية.

ومنها ـ ما رواه عن زكريا بن إدريس القمي (١) قال : «سألت أبا الحسن الأول (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي بقوم يكرهون ان يجهر ب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فقال لا يجهر». وهو صريح في التقية وعليه يحمل الخبر الأول كما ذكرنا.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن علي الحلبي ومحمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «انهما سألاه عن من يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» حين يريد يقرأ فاتحة الكتاب قال نعم ان شاء سرا وان شاء جهرا. فقالا أفيقرأها مع السورة الأخرى؟ فقال لا».

ومنها ـ ما رواه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل يفتتح القراءة في الصلاة أيقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»؟ قال نعم إذا افتتح الصلاة فليقلها في أول ما يفتتح ثم يكفيه ما بعد ذلك».

وعن مسمع في الحسن أو الموثق (٤) قال : «صليت مع أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ثم قرأ السورة التي بعد الحمد ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم قام في الثانية فقرأ الحمد ولم يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ثم قرأ بسورة أخرى».

ولعل الصحيحين الأولين هما مستند ابن الجنيد في ما تقدم نقله عنه ، والشيخ قد أجاب عنهما في التهذيب بالحمل على ما إذا كان في صلاة النافلة وقد قرأ من السورة الأخرى بعضها ويريد ان يقرأها فحينئذ لا يقرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» والظاهر بعده.

وقال في المدارك : والحق ان هذه الروايات انما تدل على عدم وجوب قراءة البسملة عند قراءة السورة ، وربما كان الوجه فيه عدم وجوب قراءة السورة كما هو

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٢ من القراءة.

١٠٨

أحد قولي الأصحاب.

أقول : والظاهر عندي ان هذه الأخبار انما خرجت مخرج التقية كما صرح به في الاستبصار ، وإلى ذلك تشير روايات العياشي المتقدمة وهي رواية أبي حمزة ورواية عيسى بن عبد الله ورواية خالد بن المختار. والله العالم.

(الرابع) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان من لا يحسن الفاتحة يجب عليه التعلم فان ضاق الوقت وأمكن الصلاة مأموما أو القراءة من مصحف ان أحسن ذلك وجب. وقيل بجواز القراءة من المصحف مطلقا وهو ظاهر الخلاف والمبسوط وبه صرح الفاضلان معللين بان الواجب مطلق القراءة. ومنع ذلك الشهيد ومن تبعه للمتمكن من الحفظ.

واستدل على الأول بما رواه الشيخ في الصحيح إلى الحسن بن زياد الصيقل (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في الرجل يصلي وهو ينظر في المصحف يقرأ فيه يضع السراج قريبا منه؟ فقال لا بأس بذلك».

إلا انه قد روى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل والمرأة يضع المصحف امامه ينظر فيه ويقرأ ويصلى؟ قال لا يعتد بتلك الصلاة».

واما ما أجاب به في الذخيرة عن هذا الخبر ـ من حمله على الكراهة حيث اختار القول الأول ـ ففيه ما عرفت في غير موضع مما تقدم.

على انه يمكن الجمع بين الخبرين بحمل الأول على النافلة والثاني على الفريضة ، وإلى هذا التفصيل ذهب شيخنا الشهيد الثاني وجمع من الأصحاب في المسألة مع انه لم ينقلوا خبر علي بن جعفر المذكور وانما ذهبوا إلى ذلك بجعله وجه جمع بين التعليلات التي ذكروها من الطرفين وهي عليلة ، وكان الاولى بكل من القائلين الاستناد إلى ما يوافقه

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤١ من القراءة.

١٠٩

من الروايتين. وبالجملة فإن ما ذكرناه وجه حسن في الجمع بين الخبرين.

ويمكن حمل خبر الصيقل أيضا على حال الضرورة كمحل المسألة وهو ظاهر الذكرى حيث انه بعد ان اختار المنع محتجا بأن المأمور به القراءة على ظهر القلب إذ هو المتبادر إلى الأفهام ثم احتج بخبر عامي قدمه وهو ما رواه عبد الله بن أبي أوفى (١) «ان رجلا سأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال اني لا أستطيع أن أحفظ شيئا من القرآن فما ذا اصنع؟ فقال له قل سبحان الله والحمد لله». فقال هنا في الاستدلال به : ولأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يأمر الأعرابي بالقراءة من المصحف ، ثم قال : وروى الحسن الصيقل وساق الحديث المذكور. وظاهره حمله على الضرورة في الصورة المذكورة وإلا فالخبر باعتبار إطلاقه ظاهر المنافاة لما ذكره فيكون حجة عليه فالواجب الجواب عنه.

ثم انه مع تعذر الائتمام والقراءة من المصحف فالمستفاد من كلامهم (رضوان الله عليهم) انه اما ان يحسن بعض الفاتحة أو لا يحسن شيئا بالكلية ، وعلى الأول فاما ان يكون ما يحسنه آية تامة أم أقل ، وعلى الثاني فاما ان يحسن غيرها من القرآن أم لا فههنا صور :

(الاولى) ـ ان يحسن بعض الفاتحة وكان آية تامة والظاهر انه لا خلاف في قراءتها كما ذكره غير واحد منهم.

وهل يقتصر على الآية التي يأتي بها أو يجب التعويض عن باقي الفاتحة بتكرار تلك الآية أو بغيرها من القرآن أو الذكر مع تعذر الأولين؟ قولان ، ظاهر الفاضلين في المعتبر والمنتهى الأول واختاره في المدارك تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض. واختار العلامة في بعض كتبه على ما نقل عنه التعويض ، ونسبه شيخنا الشهيد الثاني في

__________________

(١) في سنن ابى داود ج ١ ص ٢٢٠ عن عبد الله بن أبي أوفى قال «جاء رجل إلى النبي «ص» فقال اني لا أستطيع ان آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا حول ولا قوة إلا بالله. الحديث» ..

١١٠

الروض إلى المشهور بين المتأخرين ، واحتج بعموم «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (١) قال خرج منه ما اتفق على عدم وجوبه وأخرجه الدليل فيبقى الباقي ولا دليل على الاكتفاء ببعض الفاتحة. انتهى.

ثم انه على تقدير وجوب التعويض كما هو مقتضى هذا القول فلو علم غيرها من القرآن فهل يعوض عن الفائت بقراءة ما يعلمه من الفاتحة مكررا بحيث يساويها أم يأتي ببدله من سورة أخرى؟ قولان ، وعلل الأول بأنه أقرب إليها من غيرها ، والثاني بأن الشي‌ء الواحد لا يكون أصلا وبدلا. والتعليلان كما ترى.

(الثانية) ـ ان يحسن بعض آية وفي وجوب قراءتها عليه هنا أقوال : الأول الوجوب لما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «فان كان معك قرآن فاقرأ به». الثاني ـ عدمه استنادا إلى ان النبي أمر الأعرابي ان يحمد الله ويكبره ويهلله ، وقوله «الحمد لله» بعض آية ولم يأمره بتكرارها. واستحسن هذا القول في المعتبر. الثالث ـ وجوب قراءتها ان كانت قرآنا وهو المشهور بين المتأخرين.

(الثالثة) ـ ان لا يحسن شيئا من الفاتحة ويحسن غيرها من القرآن ، والمشهور انه يجب عليه ان يقرأ بدلها من غيرها ، وقيل انه يتخير بينه وبين الذكر وهو اختيار المحقق في الشرائع.

ويمكن الاستدلال على الثاني بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ألا ترى لو ان رجلا دخل في الإسلام ثم لا يحسن ان يقرأ القرآن أجزأه ان يكبر ويسبح ويصلي».

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية ١٩.

(٢) في المنتقى لابن تيمية على هامش نيل الأوطار ج ٢ ص ١٨٨ عن رفاعة بن رافع «علم رسول الله «ص» رجلا الصلاة فقال ان كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع» ..

(٣) الوسائل الباب ٣ من القراءة.

١١١

ثم انه هل يجب مساواة ما يأتي به من غيرها لها في المقدار أم لا؟ ظاهر الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر الثاني وظاهر المشهور بين المتأخرين الأول. وعلى هذا القول فهل تجب المساواة في الحروف أو الآيات أو فيهما؟ أقوال.

(الرابعة) ـ ان لا يحسن شيئا من القرآن والمشهور انه يسبح الله تعالى ويهلله ويكبره ، وذكر الشيخ في الخلاف الذكر والتكبير وذكر بعضهم التحميد والتسبيح والتهليل والتكبير ، والموجود في الرواية المتقدمة التي هي مستند هذا الحكم التكبير والتسبيح قال في الذكرى : ولو قيل بتعين ما يجزئ في الأخيرتين من التسبيح كان وجها لانه قد ثبت بدليته عن الحمد في الأخيرتين فلا يقصر بدل الحمد في الأوليين عنهما. انتهى. وجعله في المدارك أحوط.

وفيه منع ظاهر (أما أولا) فلان الرواية التي هي مستند هذا الحكم قد اشتملت على بيان الوظيفة القائمة مقام الحمد فالعدول عنها بمجرد هذه التخريجات لا يخرج عن الاجتهاد في مقابلة النص.

و (اما ثانيا) فان ما بنى عليه من بدلية التسبيح عن الحمد في الأخيرتين ـ بمعنى ان الأصل في الأخيرتين انما هو القراءة والتسبيح انما جعل عوضا عنها ـ وان اشتهر بينهم إلا انه ممنوع أشد المنع لما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المسألة المذكورة من ان الأمر انما هو بالعكس كما استفاضت به اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام).

ثم انه هل يجب مساواة ما يأتي به من الذكر للفاتحة أم لا؟ المشهور بين المتأخرين الأول ونفاه المحقق في المعتبر ، قال : وقولنا «بقدر القراءة» نريد به الاستحباب لأن القراءة إذا سقطت لعدم القدرة سقطت توابعها وصار ما تيسر من الذكر والتسبيح كافيا. انتهى.

ولو لم يحسن الذكر قال في النهاية يقوم بقدر القراءة ثم يركع إذ لا يلزم من سقوط الواجب سقوط غيره. انتهى.

١١٢

إذا عرفت ذلك فاعلم ان أكثر ما نقلناه من الأقوال خال من النصوص ولذا اقتصرنا في ذلك على مجرد النقل ، والاحتياط في أمثال هذه المواضع مما لا ينبغي تركه بل الظاهر انه الحكم الشرعي كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب.

فرع

متى قلنا بوجوب القراءة من المصحف فلو توقف تحصيل المصحف على شراء أو استئجار أو استعارة وجب ذلك تحصيلا للواجب بقدر الإمكان ، وكذا لو احتاج إلى مصباح للظلمة المانعة من القراءة.

(الخامس) ـ اتفق الأصحاب على انه لا يجوز القراءة بغير العربية فلا تجزئ الترجمة لأن الترجمة مغايرة للمترجم ، ولقوله عزوجل «إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» (١) ووافقنا على ذلك أكثر العامة.

وقال أبو حنيفة تجزئ الترجمة لقوله سبحانه «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» (٢) وانما ينذر كل قوم بلسانهم (٣).

وفيه (أولا) ان أخبارنا دالة على ان المراد بمن بلغ الأئمة (عليهم‌السلام) فهو عطف على الفاعل في قوله «لِأُنْذِرَكُمْ».

و (ثانيا) انه مع تسليم عطفه على المفعول فان الإنذار بالقرآن لا يستلزم نقل اللفظ بعينه إذ مع إيضاح المعنى بالترجمة يصدق انه انذرهم بخلاف موضع البحث المطلوب فيه صورة المنزل.

ولو عجز عن العربية في القراءة ولم يمكنه إلا الترجمة انتقل إلى الذكر بالعربية ، فإن عجز أيضا قالوا وجبت الترجمة ، وفي تقديم اي الترجمتين قولان ، رجح بعض ترجمة القرآن لأنها أقرب إليه من ترجمة الذكر ، ووجه القول الآخر فوات الغرض من القرآن

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ٢.

(٢) سورة الأنعام ، الآية ١٩.

(٣) المغني ج ١ ص ٤٨٦ وبدائع الصنائع ج ١ ص ١١٢.

١١٣

وهو نظمه المعجز بخلاف الذكر.

واتفقوا أيضا على وجوب الترتيب في كلماتها وآيها على الوجه المنقول. ولا ريب فيه لتعلق الأوامر بالقرآن على الكيفية التي نزلت واتى بها صاحب الشريعة ، فلو خالف عامدا أعاد الصلاة على ما قطع به الأصحاب.

قال في المدارك : وهو جيد ان لم يتداركها قبل الركوع لا مطلقا لان المقرو على خلاف الترتيب وان لم يصدق عليه اسم السورة لكن لا يخرج بذلك عن كونه قرآنا. انتهى. وهو جيد. ولو كان ناسيا قالوا يستأنف القراءة ما لم يركع وهو على إطلاقه محل بحث فإنه انما يتم إذا لم يمكن البناء على السابق لفوات الموالاة وإلا بنى عليه وأتم القراءة كما لو قرأ آخر الحمد ثم قرأ أولها.

(السادس) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان من واجبات القراءة إخراج الحروف من مخارجها المقررة ، والظاهر ان الوجه فيه هو انه لما كان القرآن عربيا نزل بلغة العرب فكل ما اقتضته اللغة العربية وبنيت عليه من إخراج الحروف من مخارجها والتشديد في موضعه المقرر والإدغام والمد على الوجوه المذكورة في محلها والاعراب ونحو ذلك مما بنيت عليه اللغة المذكورة وكان من أصولها المقررة فإنه مما يجب الإتيان به ، لأن الواجب القراءة باللغة العربية فكل ما كان من أصولها التي لا تحقق لها إلا به فإنه يجب وما ليس كذلك مثل الجهر والهمس والاستعلاء والإطباق والترتيل والوقف والتفخيم والترقيق ونحوها فإنه لا يجب بل هو من المحسنات.

قال شيخنا الشهيد الثاني في كتاب روض الجنان في شرح قول المصنف : «ويجب إخراج الحروف من مواضعها» ما صورته : ويستفاد من تخصيص الوجوب بمراعاة المخارج والاعراب في ما تقدم عدم وجوب مراعاة الصفات المقررة في العربية من الجهر والهمس والاستعلاء والإطباق ونظائرها ، وهو كذلك بل مراعاة ذلك مستحبة. انتهى.

ونقله عنه المحقق الأردبيلي واستحسنه ، ثم قال المحقق المشار إليه في موضع

١١٤

آخر ـ في تعليل عدم إجزاء قراءة القرآن في الصلاة بالترجمة ـ ما صورته : يشعر بعدم إجزاء ترجمة القرآن مطلقا ومعلوم من وجوب القراءة بالعربية المنقولة تواترا عدم الاجزاء وعدم جواز الإخلال بها حرفا وحركة بنائية وإعرابية وتشديدا ومدا واجبا وكذا تبديل الحروف وعدم إخراجها من مخارجها لعدم صدق القرآن فتبطل الصلاة. الى آخر كلامه زيد في مقامه.

وعلى هذا النهج كلام غيرهما ومرجعه إلى الفرق بين ما كان من أصول القراءة التي بنيت عليها اللغة العربية وغيره وانه مع الإخلال بشي‌ء من أصول القراءة تبطل الصلاة لعدم صدق الإتيان بالقرآن كما ذكره المحقق المذكور في آخر كلامه. ويزيد ذلك إيضاحا ان مع عدم إخراج الحروف من مخارجها المقررة ربما اختلف المعنى باختلاف المخرجين كما في «الضّالِّينَ» بالضاد والظاء فإنه على الأول من الضلال وعلى الثاني من باب «ظل يفعل كذا» إذا فعله نهارا.

(المسألة الثانية) ـ اتفق الأصحاب من غير خلاف يعرف على انه يجوز الاقتصار على الحمد بغير سورة في النوافل وفي الفرائض في حال الاضطرار كالخوف وضيق الوقت بحيث ان قرأ السورة خرج الوقت وكذا مع عدم إمكان التعلم.

وانما الخلاف في وجوب السورة مع السعة والاختيار وإمكان التعلم فالمشهور الوجوب وبه صرح الشيخ في كتابي الأخبار والخلاف والجمل وهو اختيار السيد المرتضى وابن أبي عقيل وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس وغيرهم وعليه أكثر المتأخرين. وذهب الشيخ في النهاية إلى الاستحباب وهو اختيار ابن الجنيد وسلار ومال إليه في المعتبر والمنتهى وعليه جمع من متأخري المتأخرين كالسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة وغيرهما.

والواجب أولا نقل الأخبار المتعلقة بالمقام وتذييلها بما يفهم من مضامينها من الأحكام ليتضح به الحال وما هو الاولى بالاختيار في هذا المجال :

١١٥

فأقول وبالله سبحانه التوفيق لبلوغ المأمول : من الأخبار المذكورة التي استدل بها على الاستحباب ما رواه الشيخ عن علي بن رئاب في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سمعته يقول ان فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة».

وفي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان فاتحة الكتاب وحدها تجزئ في الفريضة».

أقول : وهاتان الروايتان من أقوى أدلة القول بالاستحباب وعليهما اعتمد في المدارك لصحتهما وصراحتهما بزعمه ، قال والتعريف في الفريضة ليس للعهد لعدم تقدم معهود ولا للحقيقة لاستحالة إرادته ولا للعهد الذهني لانتفاء فائدته فيكون للاستغراق. انتهى

والشيخ قد حمل هذين الخبرين في التهذيبين على حال الضرورة دون الاختيار وهو أقرب قريب في المقام لما رواه في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأوليين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوف شيئا». وبمضمونها أخبار أخر ، وقضية إطلاق الخبرين الأولين وتقييد هذه الأخبار حمل الخبرين الأولين على هذه الأخبار كما هو القاعدة.

وبما ذكرنا هنا صرح العلامة في المنتهى حيث نقل عن الشيخ الاحتجاج على الاستحباب بصحيحة الحلبي المذكورة في كلام السيد السند وأجاب عنها بالحمل على حال الضرورة والاستعجال وأورد الأخبار الدالة على جواز الاقتصار على الحمد في الحالين المذكورين.

ومع الإغماض عن ذلك فاحتمال التقية فيهما مما لا ريب فيه ولا مرية تعتريه ، ومن ذلك يظهر لك ضعف الاستدلال بالخبرين المذكورين لقيام ما ذكرنا من الاحتمالين في البين ومنها ـ صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (٤)

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢ من القراءة.

(٤) الوسائل الباب ٤ من القراءة.

١١٦

قال : «سألته عن رجل قرأ في ركعة الحمد ونصف سورة هل يجزئه في الثانية ان لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟ قال يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة».

وصحيحة زرارة (١) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) رجل قرأ سورة في ركعة فغلط أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته أو يدع تلك السورة ويتحول عنها إلى غيرها؟ قال كل ذلك لا بأس به وان قرأ آية واحدة فشاء ان يركع بها ركع».

وصحيحة إسماعيل بن الفضل (٢) قال : «صلى بنا أبو عبد الله أو أبو جعفر (عليه‌السلام) فقرأ بفاتحة الكتاب وآخر سورة المائدة فلما سلم التفت إلينا فقال اما إني أردت أن أعلمكم».

ونحو ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمر بن يزيد (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أيقرأ الرجل السورة الواحدة في الركعتين من الفريضة؟ قال لا بأس إذا كانت أكثر من ثلاث آيات».

وهي وان احتملت الحمل على تكرار السورة في الركعتين إلا ان التقييد بأكثر من ثلاث آيات لا يظهر له معنى إلا حمل الخبر على قسمة السورة في الركعتين.

وأصرح منه ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابان بن عثمان عن من أخبره عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته هل تقسم السورة في ركعتين؟ فقال نعم اقسمها كيف شئت».

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «انه سئل عن السورة أيصلي الرجل بها في ركعتين من الفريضة؟ قال نعم إذا كانت ست آيات قرأ بالنصف منها في الركعة الاولى والنصف الآخر في الركعة الثانية».

وهذه الرواية نقلها المحقق في المعتبر (٦) عن حريز بن عبد الله عن أبي بصير

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٤ من القراءة.

(٢ و ٥) الوسائل الباب ٥ من القراءة.

(٣) الوسائل الباب ٦ من القراءة.

(٦) ص ١٧٤.

١١٧

والظاهر انه نقلها من كتاب حريز.

وصحيحة علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن تبعيض السورة فقال اكره ذلك ولا بأس به في النافلة».

وقد تقدم في ما يدخل في سلك هذه الأخبار صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الحلبيين وحسنة مسمع أو موثقته السابقات في الحكم الثالث من المسألة المتقدمة.

أقول : وهذه الأخبار وان دلت بحسب ما يتراءى منها على ما ذكروه إلا ان باب الاحتمال فيها مفتوح ، فإن إطلاق جملة منها قابل للحمل على النافلة وما هو صريح في الفريضة أو ظاهر فيها فحمله على التقية أقرب قريب وكذلك باقي الأخبار. وبالجملة فإن اتفاق العامة على استحباب السورة وجواز تبعيضها (٢) مما أوهن الاستناد إليها وأضعف الاعتماد عليها إلا ان أصحابنا (سامحهم الله تعالى بغفرانه) لما اطرحوا هذه القواعد المنصوصة عن أئمتهم (عليهم‌السلام) ونبذوها وراء ظهورهم ـ كما قدمنا بيانه في غير مقام مما تقدم ـ اتسع لهم المجال في مثل هذه الأقوال ، والله العالم بحقيقة الحال.

وعلى هذا فالمراد بقوله (عليه‌السلام) في صحيحة إسماعيل بن الفضل «إنما أردت أن أعلمكم» يعني جواز التبعيض للتقية ، وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة علي بن يقطين «اكره ذلك» انما هو بمعنى التحريم لا المعنى المصطلح فإنه اصطلاح عرفي طارئ وورود الكراهة بمعنى التحريم في الأخبار أكثر كثير كما اعترف به جملة من الأصحاب وقد تقدم بيانه في غير مقام. هذا ما يتعلق بالكلام على الأخبار الدالة على الاستحباب واما الأدلة التي استدلوا بها على الوجوب فمنها الآية أعني قوله عزوجل «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (٣) فإن الأمر حقيقة في الوجوب.

ومنها ـ صحيحة منصور بن حازم (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٤ من القراءة.

(٢) المغني ج ١ ص ٤٩١ وص ٤٩٣.

(٣) سورة المزمل ، الآية ٢٠.

١١٨

لا تقرأ في المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر».

وأجاب في المدارك عن الآية بأنه لا دلالة لها على المدعى بوجه لأن موردها التهجد ليلا كما يدل عليه السياق ، ولأن الظاهر ان «ما» ليست اسما موصولا بل نكرة تامة فلا تفيد العموم بل يكون حاصل المعنى اقرأوا مقدار ما أردتم وأحببتم. واما الرواية فلا تخلو من ضعف في السند والدلالة لأن في طريقها محمد بن عبد الحميد وهو غير موثق مع ان النهي فيها وقع عن قراءة الأقل من سورة والأكثر وهو في الأكثر محمول على الكراهة كما سنبينه فيكون في الأقل كذلك حذرا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. انتهى

أقول : ما ذكره في معنى الآية وان أمكن المناقشة فيه بما يطول به الكلام إلا ان الظاهر ان الآية لا تصلح هنا للاستدلال لما هي عليه من التشابه وقيام الاحتمال.

واما ما ذكره في الجواب عن صحيحة منصور من الطعن في السند والدلالة فهو مردود ، اما الطعن من جهة السند ففيه ان منعه من توثيق محمد بن عبد الحميد ممنوع ، والظاهر انه اعتمد في ذلك على عبارة العلامة في الخلاصة وما كتبه جده (قدس الله أرواحهم) في حواشيها ، حيث قال العلامة في الخلاصة : محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه‌السلام) وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين. انتهى. فكتب شيخنا الشهيد الثاني في الحاشية : هذه عبارة النجاشي وظاهرها ان الموثق الأب لا الابن. انتهى.

وأنت خبير بان ما ذكره في المدارك وان احتمل بالنسبة إلى عبارة العلامة في الخلاصة إلا انه لا يتم في عبارة النجاشي التي أخذ منها العلامة هذه العبارة فإن هذه العبارة بعينها في كتاب النجاشي وبعدها بلا فصل : له كتاب النوادر. الى آخره. وحينئذ فمرجع ضمير «له» هو مرجع ضمير «كان» كما لا يخفى على العارف بأسلوب الكلام من الأعيان ، ولا معنى لرجوع الضمير الأول إلى الأب والثاني إلى الابن للزوم التفكيك في الضمائر وهو معيب في كلام الفصحاء بل من قبيل التعمية والألغاز. ويؤيده أيضا ان محمد صاحب

١١٩

الترجمة فجميع ما يذكر فيها يرجع اليه إلا مع قرينة خلافه ، ولهذا عد العلامة في الخلاصة طريق الصدوق إلى منصور بن حازم في الصحيح مع ان محمد المشار إليه في الطريق ، وجزم بتوثيقه جملة من علمائنا الأعلام منهم الميرزا محمد صاحب كتاب الرجال وشيخنا المجلسي في الوجيزة وشيخنا أبو الحسن في البلغة وغيرهم.

ومن مواضع الاشتباه في مثل ذلك ما ذكره النجاشي في ترجمة الحسن بن علي بن النعمان حيث قال الحسن بن علي بن النعمان مولى بني هاشم أبوه علي بن النعمان ثقة ثبت له كتاب نوادر صحيح الحديث كثير الفوائد. إلخ. والسيد السند صاحب المدارك كتب في حواشيه على الخلاصة على هذا الموضع حيث نقل العلامة فيها هذه العبارة ما صورته : استفاد منه بعض مشايخنا توثيقه وعندي في ذلك توقف والمصنف (قدس‌سره) جعل حديثه في الصحيح في المنتهى في بحث التخيير في المواضع الأربعة وكأنه ظهر له توثيقه ولا يبعد استفادته من هذه العبارة. انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) من علماء الرجال وغيرهم هو توثيق الحسن بن علي بن النعمان المذكور ولم يتوقف أحد منهم في ذلك ، وهو بناء منهم على انه إذا كانت الترجمة لرجل فجميع ما يذكر فيها انما يعود اليه كما هو في كتب الرجال المعول عليها إلا مع قرينة خلافه كما أشرنا آنفا اليه ، وحينئذ فما توهمه (قدس‌سره) في هذا المقام ظاهر السقوط عند علمائنا الاعلام.

واما الطعن في الرواية من حيث الدلالة بأن النهي عن الأكثر محمول على الكراهة ففيه ان ما وجه به الكراهة ـ وهو الذي أشار إليه بقوله «سنبينه» من قيام الدليل عنده على جواز القران في الفريضة فتحمل هذه الرواية ونحوها مما دل على النهي عن القران على الكراهة جمعا ـ مدفوع بما سيجي‌ء تحقيقه ان شاء الله تعالى في المسألة من ان المستفاد من الأخبار هو التحريم. نعم يمكن توجيه ذلك بغير ما وجهه (قدس‌سره) وهو ان ظاهر الأخبار الكثيرة الدالة ـ كما قلنا ـ على تحريم القران هو انه عبارة عن الجمع

١٢٠