مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٤
واضحة لتميم ، وتعظيم كثير من عمر له)!! (١).
ومن هنا يستدلون على وثاقة تميم وعلو منزلته (٢) .. من شهادة صهر مسيلمة الكذاب الذي كان معه في الردة!!
وأما قصته هو عن (الجساسة) ومسيح الدجال ، فلولا ما حظي به صحيح مسلم من قداسة لما ارتاب فيها عاقل!
وهذه القداسة هي التي حالت دون السؤال : كيف صحح مسلم هذه الرواية؟!
إن مسلما رجل نشأ في وسط يوثق رجالا ويأخذ عنهم الحديث ، فوثقهم مسلم .. لقد وثقهم ذلك التاريخ الذي عرفناه ، وعرفنا كيف وثقهم!
وحين تغفل هذه الحقيقة فقط تنفذ مثل هذه الأساطير ...
وأغرب ما في الدفاع عن هذه القصة ، دفاع الناقد الدكتور الذهبي الذي عاد إلى فقرات من القصة نفسها ، وأكثر فقراتها محلا للتهمة والريبة ، ليجعلها دليلا على صحتها ، إذ يقول .. (وهل يتصور من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو المؤيد بوحي السماء أن يتقبل من رجل يلوث الإسلام بمسيحياته حديثا كحديث الجساسة ، ثم هو لا يكتفي بذلك بل يجمع أصحابه ويحدثهم به ويقرر من فوق منبره صدق حديثه؟!)!! (٣).
__________________
(١) أنظر : الإصابة / ترجمة تميم الداري ١ / ١٨٤ ، وترجمة معاوية بن حرمل ٣ / ٤٩٧.
(٢) أنظر : د. محمد سيد حسين الذهبي / الإسرائيليات في التفسير والحديث : ٩١ ـ ٩٤ وهو يكافح لأجل توثيق تميم! وانظره في ص ٩٥ ـ ٩٦ وهو يوثق كعب الأحبار ، ويجعل واحدا من أهم أدلته : أن معاوية بن أبي سفيان كان يعظمه!!
(٣) الإسرائيليات في التفسير والحديث : ٩٣.
فانظر كيف أخذ أهم علامات كذب الرواية ليجعله الشاهد على صدقها!!
فمن قال لك أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد قام مصدقا لهذه الرواية؟! هل سمعته من أحد غير هذه الرواية نفسها؟!
إن مثل هذه القصة ليست مما يرتاب العقل في تكذيبها بعد المسح العلمي الدقيق ، إنها تماما من قبيل روايات تقول : إن الأرض تقف على قرن ثور ، والثور على ظهر حوت ، وهو النون التي في قوله تعالى : (ن والقلم)!!
فإذا كان يصدقها بالأمس ناس عمدتهم وثاقة الرواة ، فليس لهذه الوثاقة اليوم محل أمام الكشف العلمي الدقيق والمباشر .. ولا يعاب في ذلك المتقدمون! ولكن يعاب الذين قرضوا القرن التاسع عشر والقرن العشرين وما زالوا يلتمسون ذلك وراء وثاقة الراوي وأهمية المصدر ، بدلا من أن يضع ذلك كله موضع الاختبار بناء على هذه الحقائق الملموسة.
وتميم هذا هو الذي ابتدأ فاستأذن عمر أن يقص ، فأذن له بعد أن رده أولا ، فهو أول قاص مأذون في الإسلام (١) ، فكان يقوم في المسجد كل جمعة يعظ أصحاب رسول الله! قبل أن يخرج عمر إلى الجمعة .. فلما جاء عثمان طلب منه تميم أن يزيده ، لأن موقفا واحدا في الأسبوع لا يكفيه ، فزاده عثمان يوما آخر يتحف فيه أصحاب رسول الله بمزيد من مواعظه!
لكن في تلك السنين كان التحدث بأحاديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(١) أنظر ترجمة تميم بن أوس الداري في : الإستيعاب ، أسد الغابة ، الإصابة ، سير أعلام النبلاء.
ممنوعا! وكان خيار الصحابة من أولي السابقة والجهاد يحبسون في المدينة إذا ما حدثوا خارجا عنها بشئ من سنن النبي ومواعظه!!
إن لتميم سرا هو من صنف سر كعب الأحبار ، لكن تميما تقدم على كعب حين أدرك النبي فسمي صحابيا!
ولما قتل عثمان لم يعد أمر تميم بتلك الدرجة من الخفاء ، إنه لم يأت عليا يستأذنه في المضي على شأنه ، أو يستزيده ، كلا ، بل ترك المدينة كلها ، ضاقت عليه بما رحبت أرض يحكمها علي ، فليس أمامه إلا الشام في أجواء تنتظر تميما ونظراءه ، فخرج إلى الشام دون أن يضيع مزيدا من الوقت!
لقد كان عمر يمنع من القصص ، ويكذب محترفيها ، حتى أقنعه تميم في نفسه خاصة ، لكن عليا لم يأذن بشئ من ذلك ، ولم يكن تميم بالرجل الساذج أو الغبي الذي يلتمس مثل ذلك من على! ولا هو بتارك مهنته ، فترك بلادا تدين لعلي ، قافلا إلى حيث تنفق سلعته ، وله في كنف معاوية أوسع جوار!
* والذي لا نزاع فيه أن القصص قد انتشرت في أواخر عهد عثمان ، وبرز قصاصون يقصون في المساجد ، حتى طردهم علي عليهالسلام ، كما أثبته المروزي وغيره (١).
والشيخ الغزالي يثبت ذلك أيضا ، ويقول : إن عليا عليهالسلام منع القص في المساجد ، ولم يأذن إلا للحسن البصري (١).
__________________
(١) أنظر : كنز العمال ١٠ ح ٢٩٤٤٩ ، وبعده.
(٢) كيف نتعامل مع القرآن : ٦٧
والشيخ أبو زهرة يثبت ذلك بشكل أكثر وضوحا ، فيقول : ظهر القصص في عهد عثمان رضياللهعنه ، وكرهه الإمام علي رضياللهعنه حتى أخرج القصاصين من المساجد ، لما كانوا يضعونه في أذهان الناس من خرافات وأساطير ، بعضها مأخوذ من الديانات السابقة بعد أن دخلها التحريف وعراها التغيير!
قال : وقد كثر القصاص في العصر الأموي ، وكان بعضه صالحا وكثير منه غير صالح ، وربما كان هذا القصص هو السبب في دخول كثير من الإسرائيليات في كتب التفسير وكتب التاريخ الإسلامي ..
وإن القصص في كل صوره التي ظهرت في ذلك العصر كان أفكارا غير ناضجة تلقى في المجالس المختلفة ، وإن من الطبيعي أن يكون بسببها خلاف ، وخصوصا إذا شايع القاص صاحب مذهب أو زعيم فكرة أو سلطان ، وشايع الآخر غيره ، فإن ذلك الخلاف يسري إلى العامة ، وتسوء العقبى ، وكثيرا ما كان يحدث ذلك في العصور الإسلامية المختلفة (١).
فلماذا لا يكون كلا الأمرين قد أرادهما تميم الداري : دخول الإسرائيليات والأساطير في التفسير والتاريخ ، وظهور الخلافات والنزاعات بين المسلمين؟!
لماذا إذن فر من على إلى معاوية؟!
والأمران اللذان أرادهما تميم ، ونشط فيهما كعب الأحبار أيضا في عهد عثمان ، وساهم فيهما آخرون ، كلاهما قد أراد علي عليهالسلام أن يقطع دابرهما ، ويخيب آمال هؤلاء الذين يكيدون للإسلام وأهله كل شر ،
__________________
(١) محمد أبو زهرة / المذاهب الإسلامية : ٢٠.
ويظهرون بمظاهر النسك التي ألفوها في اليهودية والنصرانية.
المبحث الثالث : إحياء السنة :
في غير الرواية والتدوين ، تحدثنا الأخبار الدقيقة عن مشكلات أخرى قد تعرضت لها السنة ، فتداركها علي :
١ ـ قال أبو موسى الأشعري : (لقد ذكرنا علي بن أبي طالب صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إما نسيناها ، أو تركناها عمدا)!! (١).
إذن هذه الصلاة أيضا قد أصيبت في صورتها ، وطريقة أدائها؟!
ثمة شهادة أخرى على ذلك ، شاهدها الصحابي الجليل أبو الدرداء ، الذي توفي في خلافة عثمان! (٢).
* قالت أم الدرداء : دخل علي أبو الدرداء مغضبا ، فقلت : من أغضبك؟!
قال : (والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا)! (٣).
إذن كل شئ قد تغير عن أمر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم تعد تر تلك السنن التي ميزت المجتمع أيام الرسول ، ولم يبق فيهم إلا صورة الاجتماع في الصلاة ، الاجتماع وحده ، لا سنن الصلاة التي تحدث عنها أبو موسى
__________________
(١) مسند أحمد ٤ / ٣٩٢ من طريقين ، وهما في الطبعة المرقمة في ج ٥ ح ١٩٠٠٠ و ١٩٠٠٤.
(٢) أنظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٥٣ ، والإصابة ٣ / ٤٦.
(٣) مسند أحمد ٦ / ٤٤٣ من طريقين ، وهما في الطبعة المرقمة في ج ٧ ح ٢٦٩٤٥ و ٢٦٩٥٥.
الأشعري.
٢ ـ وقبل قرأنا صلاة عثمان وعائشة في السفر تماما ، لا يقصران ، وقد أبى علي ذلك ، وأنكره نفر من الصحابة ، وحين مرض عثمان في تلك الأثناء ودعوا عليا للصلاة بهم ، قال : (إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم). فقال أكثرهم : لا ، إلا صلاة أمير المؤمنين!!
وهكذا تتغير السنن وتختفي لتحل محلها محدثات ينصرها كثير وكثير من السلف ، ثم تصل إلى اللاحقين فيأخذون عن سلفهم برضا وتسليم لفرط حسن الظن بهم حتى أعفاهم من النقد ومن ضوابط التحقيق والنظر!
٣ ـ وقصة على مع صلاة التراويح جماعة ، أيام خلافته ، هي الأخرى من هذا القبيل ، فحين أمر عليهالسلام بتفريقهم ليعيدهم على ما كان أيام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قالوا : (وا سنة عمراه)!! (١).
فهم يعلمون أنها سنة عمر ، وأن الذي يدعوهم إليه علي عليه السلام هي سنة النبي!!
تقرأ ذلك صريحا في صحيح البخاري ، وغيره ، أنها سنة عمر (٢).
وفي صحيح البخاري أن عمر لما جمع الناس عليها قال : (نعم البدعة هذه!) (٣).
قال القسطلاني في شرحها : سماها بدعة لأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يسن لهم ، ولا كانت في زمن الصديق ، ولا أول الليل ، ولا هذا
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٨٣.
(٢) صحيح البخاري ـ كتاب صلاة التراويح.
(٣) صحيح البخاري ـ كتاب صلاة التراويح ـ ٢ ح ١٩٠٦.
العدد)! (١).
٤ ـ وتقرأ في أوليات عمر : (هو أول من حرم المتعة) وتقدم حديثها (٢) ، وأما قول علي عليهالسلام فيها فهو المشهور : (لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفى) أو : (إلا شقي).
٥ ـ وفي أوليات عمر أيضا : (وأول من جمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز) (٣).
أخرج أحمد من حديث حذيفة بن اليمان ، أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ، ثم التفت إلى الناس ، فقال : (ما نسيت ولا وهمت ، ولكن كبرت كما كبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم)! (٤) ، يريد أن يذكرهم بأمر نسوه واستبدلوه بأمر محدث مضوا عليه حتى نسوا الأمر الأول ، وكم توجع حذيفة لهذا النسيان أو التناسي!
ومثله ثبت عن زيد بن أرقم ، كبر على الجنازة خمسا ، فاستنكروا عليه ، فقال : (سنة نبيكم) .. (ولن أدعها لأحد بعده) .. (ولن أدعها أبدا) (٥).
والتكبيرات الخمس هي التي مضى عليها علي عليهالسلام (٦) ، ومثله صنع
__________________
(١) إرشاد الساري ٤ / ٦٥٦.
(٢) هذا كله تقدم في ص ٤٧ ـ ٥١ ، وانظر أيضا : الأوائل ـ لأبي هلال العسكري ـ : ١١٢ ، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ : ١٢٨.
(٣) العسكري / الأوائل : ١١٣ ، ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٣ / ٥٩ السيوطي / تاريخ الخلفاء : ١٢٨.
(٣) مسند أحمد ٥ / ٤٠٦.
(٤) مسند أحمد ٤ / ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، سنن الدارقطني ٢ / ٧٥.
(٥) مصنف عبد الرزاق ٣ / ٤٨١ ، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢.
الإمام الحسن عليهالسلام (١) ، وعليها فقه أهل البيت عليهمالسلام.
٦ ـ ومع عثمان ، في أمر الزكاة ، بعث إليه علي عليهالسلام بكتاب فيه حكم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الزكاة ، بعثه بيد ولده محمد ابن الحنفية ، فقال له عثمان : أغنها عنا!!
فرجع بها إلى أبيه عليهالسلام ، فقال له : ضع الصحيفة حيث وجدتها (٢).
هذه سنن طرأ عليها هذا النحو من التبديل والتغيير ، فكان تداركها لإحياء السنة النبوية الثابتة هو من أهم ما وضعه علي عليهالسلام نصب عينيه وهو يتولى الحكم : (لنرد المعالم من دينك).
وهكذا استعادت السنة روحها ودورها في أيامه ، ليكون ذلك طريقا إلى حفظها من الضياع وحفظ مكانتها في التشريع.
مقولات فيها مصادرة :
* الأستاذ الدكتور نور الدين عتر / في كتابه (منهج النقد في علوم الحديث).
* محمود أبو رية / في كتابه (أضواء على السنة المحمدية).
* الدكتور محمد سلام مدكور / في كتابه (مناهج الاجتهاد في الإسلام).
__________________
(١) الأحبار الطوال : ٢١٦ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ١٢٢.
(٢) ابن حزم / الأحكام ١ / ٢٥٣.
الأولى : قال بها الدكتور نور الدين عتر حين نسب منع تدوين السنة إلى إجماع الصحابة!
فبعد أن نقل رغبة عمر في التدوين أولا ، واستشارته الصحابة وإشارتهم عليه بالتدوين ، ثم تبدل رأي عمر ، قال : وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقروه ، مما يدل على استقرار أمر هذه العلة في نفوسهم! (١).
وهذا القول ناشئ عن رؤية مثالية أولا ، وفيه مصادرة لآراء الصحابة ثانيا :
فالرؤية التي تصور سكوت الصحابة أمام أي قرار تصدره الخلافة ، على أنه إجماع إقراري ، رؤية مثالية ، وهذا الخبر هو واحد من أهم الأدلة على ذلك ، فقبل شهر واحد فقط من صدور هذا القرار كانوا قد أعطوا رأيهم المؤيد لتدوين السنة بالإجماع ، ولم يظهر في ذلك أدنى خلاف حتى صدر قرار الخليفة بعكسه ، فبعد أن أعطوه الرأي ثم عزم على خلافه فلا محل إذن للمعارضة.
وإذا زعمنا أن سكوتهم كان إقرارا كاشفا عن الإجماع ، فما هي قيمة إجماعهم السابق على خلافه؟!
هل سيبقي هذا التصور على شئ من قيمة (إجماع الصحابة)؟ لا في هذه المسألة وحدها ، بل في كل مسألة!
وثمة دليل عملي على عدم إقرار الصحابة بقرار المنع :
لقد راحوا من وراء الخليفة يكتبون الحديث والسنن ، حتى كثرت
__________________
(١) منهج النقد في علوم الحديث : ٤٤.
عندهم الكتب ، فوصل خبرها إلى عمر ، فقام فيهم خطيبا ، فقال : (أيها الناس ، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به ، فأرى فيه رأيي).
فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بها ، فأحرقها بالنار! (١).
فما زال الصحابة إذن عند إجماعهم الأول ، وما زال عمر عند رأيه المخالف.
والثانية : ما خلص إليه محمود أبو رية في إثبات النهي عن تدوين السنة ، وانصياع الصحابة لهذا الأمر انصياعا تاما ، ليقضي على السنة كلها بالضياع ، ولم يبق منها إلا حديثين صحا عنده ، وبلغا التواتر ، وهما : حديث النهي عن التدوين ، وحديث (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) مؤكدا عدم ورود كلمة (متعمدا) في هذا الحديث ، ليجعل من الكذب عليه رواية الحديث بالمعنى! متمسكا بأدلة حاكمة عليه ، لا له (٢).
فكل ما ورد عن أبي بكر وعمر والصحابة في عهديهما كان صريحا جدا بعدم ورود النهى عن تدوين السنة من قبل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ..
أضف إلى ذلك ما هو ثابت من تدوينها بأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بإذنه ، ومن ذلك :
* الصحيفة التي كانت في قائم سيفه صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها بعض السنن ، ثم
__________________
(١) الطبقات الكبرى ٥ / ١٨٨ ، تقييد العلم : ٥٢.
(٢) راجع كتابه (أضواء على السنة المحمدية) والذي ارتضى أن يسميه في طبعته الثانية باسم (دفاع عن السنة)!!
صارت عند علي عليهالسلام (١).
* وما ثبت من كتابة عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : فنهتني قريش وقالوا : أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يتكلم في الرضا والغضب؟! فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأومأ بإصبعه إلى فمه وقال : (أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) (٢).
* وقول أبي هريرة : إن عبد الله بن عمرو كان يكتب ، وكنت لا أكتب (٣).
* وحين طلب أبو شاة اليماني من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكتبوا له خطبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم فتح مكة ، وكان أبو شاة قد شهدها ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : (اكتبوا لأبي شاة) (٤).
* وحديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (قيدوا العلم بالكتاب) (٥).
* وكان أنس قد كتب حديثا كثيرا بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وحفظه حتى وقت متأخر من عهد الصحابة ، فكان يملي الحديث ، حتى كثر عليه الناس يوما يطلبون الحديث ، فجاء بمجال (٦) من كتب ، فألقاها ،
__________________
(١) ذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
(٢) مسند أحمد ٢ / ٢٠٧ ، سنن أبي داود ٣ / ٣١٨ ح ٣٦٤٦ ، المستدرك ١ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ووافقه الذهبي.
(٣) صحيح البخاري ـ كتاب العلم ١ / ٤٠ ح ١١٣.
(٤) صحيح البخاري ـ كتاب العلم ـ باب ٣٩ ح ١١٢ ، سنن الترمذي ٥ ح ٢٦٦٧ ، سنن أبي داود ـ كتاب العلم ٣ / ٣١٩ ح ٣٦٤٩.
(٥) جامع بيان العلم ١ / ٨٦ ـ ٨٧.
(٦) المجال : جمع مجلة ، وهي الصحيفة التي يكتب فيها.
ثم قال : (هذه أحاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله ٦٥ وعرضتها عليه) (١).
* وكتب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر من كتاب في الصدقات ، والديات ، والفرائض ، والسنن ، لعماله (٢).
* وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه الأخير : (هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده) (٣).
وغير هذا كثير ، وقد تناولت الكتابة في عهده صلىاللهعليهوآلهوسلم قسما كبيرا من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنفا كبيرا من المصنفات الحديثة (٤).
أما موقف الصحابة من الكتابة فقد عرفناه ، وقد ذكر ابن عبد البر وغيره عددا كبيرا من كتب الصحابة ، ومنهم عبد الله بن مسعود الذي عدوه في المانعين من الكتابة ، فقد أخرج ابنه عبد الرحمن كتابا وحلف أنه خط أبيه بيده (٥).
وأما حديث أبي سعيد الخدري الذي يرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : (لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ، فمن كتب غير القرآن فليمحه) والذي عدوه أصح ما ورد في النهي عن كتابة الحديث (٦) ، وهو أصح حديث عند
__________________
(١) تقييد العلم : ٩٥ ـ ٩٦.
(٢) نور الدين عتر / منهج النقد : ٤٧ ـ ٤٨.
(٣) متفق عليه.
(٤) نور الدين عتر / منهج النقد : ٤٥ ، وانظر : د. محمد عجاج الخطيب / أصول الحديث : ١٨٧ ـ ١٩٠.
(٥) جامع بيان العلم : ٨٧ ، أصول الحديث : ١٦٠ ـ ١٦٥ ، و ١٩١ ـ ٢٠٥.
(٦) محمود أبو رية / أضواء على السنة المحمدية : ٤٨.
أبي رية ، فقد رآه كثير من المحققين موقوفا على أبي سعيد ، وليس حديثا عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا قول البخاري وآخرين (١).
بل ثبت عن أبي سعيد نفسه خلافه ، حين شهد أنه كان يكتب التشهد ـ تشهد الصلاة ـ عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢).
والثالثة : مقولة الدكتور محمد سلام مدكور.
إذ مثل لاختلاف الصحابة في فهم النص بما وقع بالنسبة لتدوين السنة ، لما قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري : (لا تكتبوا عني غير القرآن ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ، وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار).
قال : فقد اتجه فقهاء الصحابة في ذلك إلى وجهتين متعارضتين :
* فريق منهم ، وكانت له الغلبة : فهموا أن ذلك نهي عام وليس قاصرا على كتاب الوحي! فامتنعوا عن تدوين السنة ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ... وقالوا : إن ما دونه بعض الصحابة منها إنما كان تدوينا مؤقتا حتى يحفظه ثم يمحى المكتوب بعد ذلك.
* بينما ذهب الفريق الآخر إلى أن ذلك كان خاصا بكتاب الوحي دون سواهم ، خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه ، بدليل أنه أباح الكتابة عند أمن الاختلاط ، كما ثبت في حديث عبد الله بن عمرو (٣) ..
وهذا التفصيل كله لا يقوم على حجة صحيحة ، بل الحجة الصحيحة تنقضه بكامله ، كما سنتابعه في الفقرات الآتية :
__________________
(١) أنظر : فتح الباري : ١ / ١٦٨ ، تدريب الراوي ٢ / ٦٣.
(٢) تقييد العلم : ٩٣.
(٣) مناهج الاجتهاد في الإسلام : ٨٥.
أ ـ الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ، تقدم أنه موقوف عليه وليس من حديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كما قال البخاري وغيره.
ب ـ إن الفريق الأول ، والذي كانت له الغلبة ، لم يحتج يوما ما بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد نهى عن كتابة السنة ، فهذا لم يحدث منهم البتة.
ج ـ إن هذا الفريق نفسه قد باشر تدوين السنة أحيانا ابتداء ، كما صنع أبو بكر ، أو أمر بتدوينها وشاور الصحابة على ذلك فأجمعوا على كتابتها دون تردد. وفي ذلك كله لم يظهر لهذا الحديث المروي عن أبي سعيد ذكر ولا أثر .. بل فعلهم هذا ، وهم الفريق المانع ، لهو أوضح دليل على أن النبي : ٦ لم يمنع من تدوين السنة قط ، لا منعا خاصا ولا عاما.
د ـ الحديث المذكور عن أبي سعيد الخدري يقول فيه أيضا : (وحدثوا عني ولا حرج) وهذا الفريق الغالب قد منع عن التحديث عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفس القوة التي منع فيها عن التدوين! فكيف يدعى أنهم امتنعوا عن التدوين تمسكا بنهي النبي عنه؟! فماذا عن رواية حديثه وسنته التي أمر بها على أي حال إلا أن يقعوا بالكذب؟!
ه ـ إن الاعتذار بخوف اختلاط القرآن بالسنة اعتذار واه ومتهافت ، وقد مر نقده مفصلا.
و ـ إن هذا التمييز بين كتاب الوحي وغيرهم في شأن كتابة السنة تمييز لم يعرف في عهد الصحابة قطعا ، ولا يستطيع أحد نسبته إليهم بصدق ، وإنما هو من تبرير المتأخرين دفعا لما يلزمهم من تخطئة المانعين من كتابة السنة ، ليس أكثر من ذلك.
وهنا ملاحظتان تجدر الإشارة إليهما :
١ ـ المقولات الثلاث هذه جامعة لغيرها متضمنة لها ، لذا اكتفينا بذكرها عن غيرها.
٢ ـ نسبة هذه المقولات إلى الأعلام المذكورين لم تأت من كونهم أول من قالوا بها ، فهي آراء قديمة تتصل بعصر التابعين ، وبعضها بعصر الصحابة ، لكن الأعلام المذكورين انتخبوها من بين الرؤى وحاولوا تدعيهما بالدليل والبرهان ، فحظيت على أيديهم بالرواج نظرا لأهمية وسعة انتشار كتبهم التي تضمنتها ، وعلى هذا الأساس الأخير كان تصنيفنا.
خلاصة في نقاط
١ ـ كان تدوين الحديث أمرا مألوفا يمارسه الصحابة في عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، برضا منه ، وبإذنه أحيانا ، وبأمره أحيانا أخرى.
أما رواية الحديث ونشره فقد أمر بها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرا صريحا ومكررا.
٢ ـ ظهر في عهد أبي بكر أول أمر بالمنع من الحديث ، لعلة أو أخرى.
٣ ـ أحرق أبو بكر كتابا يضم خمسمئة حديث كان قد كتبها بيده ، وهذا أول كتاب حديث أحرق.
٤ ـ واصل عمر المنع من الحديث ، مؤكدا ذلك بعهوده على عماله ، وبحبسه بعض الصحابة في المدينة حين لم يأمن امتثالهم أمره.
٥ ـ أحرق عمر مزيدا من كتب الحديث ، جمعها من عدد كبير من الصحابة.
٦ ـ ابتدأ عثمان سيرته مع الحديث بقوله : (لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر). لكنه لم يدقق في ذلك كما فعل أبو بكر وعمر ، فلا أحرق شيئا من كتب الحديث ، ولا تتبع كتابه ورواته ، بل على العكس ، فقد وجد أبو هريرة وكعب الأحبار خاصة في عهده ما لم يحلما ببعضه في عهد عمر.
٧ ـ وافق الخلفاء على المنع نفر قليل من الصحابة لا يتجاوزون
الأربعة : عبد الله بن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو موسى الأشعري ، وزيد بن ثابت (١).
٨ ـ كانت السيرة المذكورة سببا في ضياع حديث ليس بالقليل ، إن اقتصر حفظه على هذه المصادر التي أحرقت وأتلفت ، ليس على يد أبي بكر وعمر فقط ، بل مارس غيرهم نحو ذلك ، فقد جاء علقمة بصحيفة (٢) من اليمن أو من مكة ، فيها أحاديث في أهل البيت ، بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فدخل ومعه جماعة على عبد الله بن مسعود ، قالوا : فدفعنا إليه الصحيفة ، فدعا بطست فيه ماء! فقلنا : يا أبا عبد الرحمن ، انظر فيها ، فإن فيها أحاديث حسانا! قالوا : فجعل يميثها فيها! (٣).
وكتب أبو بردة ، عن أبيه ـ أبي موسى الأشعري ـ كتبا كثيرة ، فقال له أبوه : ائتني بكتبك ، فلما أتاه بها غسلها! (٤).
٩ ـ وعلى خلاف ذلك فإن الأكثرين من الصحابة ما زالوا على الأمر الشرعي برواية الحديث والأذن بكتابته ، فحدثوا وكتبوا ، منهم من عرضت كتبه للإحراق أو الغسل ، ومنهم من حفظها عن عيون الخليفة فبقيت بعده ، كما هو مشهور عن : صحيفة علي عليهالسلام ، وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري ، وكتاب أبي رافع مولى رسول الله ، وكتب أنس بن مالك ، وصحيفة سعد بن عبادة ، وصحيفة عبد الله بن عمرو ، وكتاب عبد الله بن
__________________
(١) أنظر : تدوين السنة الشريفة : ٢٦٩ عن مقدمة ابن الصلاح : ٢٩٦ ، وعلوم الحديث ـ لابن الصلاح / تحقيق عتر ـ : ١٨١.
(٢) تكرر ذكر الصحيفة في هذه الفقرة ، والمراد بالصحيفة :
(٣) تقييد العلم : ٥٤. وقوله : (جعل يميثها فيها) : أي يفركها في طست الماء لتذوب فيه الكتابة.
(٤) جامع بيان العلم : ٧٩ ح ٣١٧ و ٨٠ ح ٣٢٥.
مسعود الذي أخرجه ابنه عبد الرحمن ، وكتاب أسماء بنت عميس ، وكتاب محمد بن مسلمة الأنصاري ، وغيرها (١).
١٠ ـ الإمام علي عليهالسلام أول حاكم يدعو إلى كتابة السنة ، ويحث الكتاب أن يكتبوا ما يحدثهم به ويمليه عليهم ، وينشر على الملأ أحاديث نبوية كانت طيلة ربع قرن ممنوعة منعا مغلظا. وهو في نفس الوقت يسد الأبواب على الكذابين والمشبوهين ، فلا يجدون تحت سلطانه متنفسا ، فإما أن يرعووا ويستقيموا ، وإما أن يسكتوا ويكفوا فرقا ، وإما أن تضيق صدورهم فيفرون إلى الشام ، حيث معاوية الذي يشتري منهم دينهم بما يطمعون به من دنيا!
__________________
(١) أنظر : أصول الحديث : ١٦٠ ـ ١٦٥ و ١٩١
الأرائج المسكية في تفضيل البضعة الزكية عليها أفضل صلاة وأزكى تحية |
|
السيد حسن الحسيني
آل المجدد الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، محمد وآله المطهرين الحنفا ، وارض اللهم عن صحبه ذوي النجابة والوفا ، الناهجين سبيله ومن تبعهم واقتفى.
وبعد ،
فلما اتفق لي الوقوف على كلام الشيخ الفاضل أبي فراس محمد بدر الدين النعساني الحلبي في المفاضلة بين النساء ، فإذا هو قد ركب متن عمياء ، وخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء ، وخالف صريح السنن وأقوال العلماء ، فاختلج بالبال ، إفراد المسألة بنبذة من المقال ، تكون وافية بالمقصود ، بعون المعبود الودود ، وهو المستعان ، وعليه التكلان.
إعلم ـ هدانا الله وإياك إلى منهجه القويم ، وصراطه المستقيم ـ أن الرجل ادعى أن نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالإيحاء ، وأن أفضل نسائه صلىاللهعليهوآلهوسلم عائشة! فهنا دعويان ينبغي التكلم عليهما ، وبيان الحق فيهما.
* أما الأولى :
فقد ذكر في تعليقه على (الدر النضيد من مجموعة الحفيد) (١) : أن الذي تشهد له الأدلة من القرآن والسنة أن نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالإيحاء ، كأم موسى وأم عيسى ، قال الله تعالى : (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) فهذا ظاهر في أنهن أفضل من غيرهن.
قال : ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام : (خير نسائها فاطمة بنت محمد) فإنه عليهالسلام لم يقل : خير النساء فاطمة ، وإنما قال : خير نسائها ، فخص ولم يعم ، والله تعالى في تفضيل نساء نبيه عم ولم يخص ، فلا يجوز أن يستثنى منه إلا من استثناه نص ظاهر ، فصح أنه عليهالسلام إنما فضل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه ، فاتفقت الآية مع الحديث.
انتهى كلامه بلفظه.
ولا يخفى على الحاذق اللبيب مواقع النظر في هذا الكلام ، فلنبينها ، وبالله تعالى الاستعانة والاعتصام.
__________________
(١) الدر النضيد من مجموعة الحفيد : ٥٦.