تراثنا ـ العددان [ 45 و 46 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 45 و 46 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٤

انقطاع الاستثناء فلا إشكال أصلا.

وأما الثاني : فإن الإمامية أجمعت على وجوب محبة العلوية ، بل كل مؤمن من المؤمنين ، ولكن الآية المباركة دالة على وجوب المحبة المطلقة لعلي والزهراء والحسنين ، فلا نقض ، ولذا لم يقل أحد منهم بوجوب محبة غير الأربعة والمعصومين محبة مطلقة ... والكلام في المحبة المطلقة لا مطلق المحبة ، فما ذكراه جهل أو تجاهل!

وأما الثالث فيظهر جوابه مما ذكرناه ، فإنا نريد المحبة المطلقة المستلزمة للعصمة ، فأينما كانت ، كانت الإمامة الكبرى ، وأينما لم تكن ، لم تكن!

وأما الرابع فيظهر جوابه مما ذكرنا أيضا.

١٢١

خلاصة البحث

فالحق مع السيد رحمه‌الله ، إذ قال :

(هل حكم بافتراض المودة لغيرهم محكم التنزيل؟!).

بقي أن نذكر الوجه في تفسيره (الحسنة) في قوله تعالى : (ومن يقترف حسنة) ب (المودة) ... فنقول :

هذا التفسير ورد عن الأئمة الأطهار من أهل البيت ، كالحسن السبط الزكي عليه‌السلام في خطبته التي رواها الحاكم وغيره ، وورد أيضا في غير واحد من تفاسير أهل السنة ، عن ابن عباس والسدي وغيرهما ، قال القرطبي : (قوله تعالى (ومن يقترف حسنة) أي : يكتسب ، وأصل القرف الكسب ، يقال ... قال ابن عباس : (ومن يقترف حسنة) : المودة لآل محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم ، (نزد له فيها حسنا) أي : نضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا ، (إن الله غفور شكور) قال قتادة : غفور للذنوب شكور للحسنات. وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه‌السلام شكور لحسناتهم) (١).

وقال أبو حيان : (وعن ابن عباس والسدي : أنها المودة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه‌السلام شكور لحسناتهم) (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٦ / ٢٤.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٥١٦.

١٢٢

وقال الآلوسي : (روي ذلك عن ابن عباس والسدي) (١).

وهذا القدر كاف ، وهو للقلب السليم شاف ، وللمطلب واف.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين الأشراف.

للبحث صلة ...

__________________

(١) روح المعاني ٢٥ / ٣٣.

١٢٣

تاريخ السنة النبوية

ثلاثون عاما بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

صائب عبد الحميد

مدخل في حجية السنة :

السنة النبوية الشريفة ـ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفعله ، وتقريره ـ ثاني مصادر التشريع في الإسلام ، بعد القرآن الكريم.

والسنة النبوية بعد ثبوت صدورها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حجة ، وحجيتها ضرورية ، من ضروريات الدين ، من جحدها فقد كذب بالدين ، وأنكر القرآن الكريم ، إذ إنا لم نعرف أن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى ، إلا من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا لم يكن قوله حجة ، فلا أثر للقرآن إذن!!

وإن لم تكن السنة النبوية حجة ، فلا معنى لجميع العبادات والأحكام التي جاء تفصيلها من طريق السنة فقط ، كصورة الصلاة ، وأحكام الزكاة والصوم وحدودهما ، ومناسك الحج ، وغيرها من الأحكام التي أمر بها القرآن الكريم ، ثم جاءت السنة بتفصيلها ووضع حدودها وشرائطها!!

فحجية السنة النبوية إذن من أكبر ضروريات الدين ، بلا أدنى نزاع

١٢٤

في ذلك بين المسلمين (١) ، بل هي بديهة لا تخفى على غير المسلمين أيضا.

القرآن الكريم يثبت حجية السنة ، ويلزم حفظها واتباعها :

* قال تعالى : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (٢).

* وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (٣).

* وقال تعالى : (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (٤).

فاتباع الرسول وإطاعته تشمل اتباع سنته قطعا ، مع اتباع ما جاء به من القرآن المنزل عليه من ربه ، واتباع سنته متوقف على حفظها بداهة ، والرد إلى الرسول رد إلى سنته ، وهو متوقف بالكامل على حفظها بداهة.

* وقال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (٥).

* وقال تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (٦).

__________________

(١) راجع : د. عبد الغني عبد الخالق / حجية السنة : ٢٤٥ ـ ٣٨٢.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ٣١.

(٣) سورة النساء ٤ : ٥٩.

(٤) سورة النساء ٤ : ٨٠.

(٥) سورة الحشر ٥٩ : ٧.

(٦) سورة الأحزاب : ٣٣ : ٣٦.

١٢٥

* وقال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (١).

وإنما يكون حكم الله تعالى بيننا من خلال كتابه الكريم وما أنزله فيه من أحكام ، وما يحكم به الكتاب فهو قضاء الله تعالى بيننا ، وإلى هذا الأمر الواضح يرجع قبول الإمام علي عليه‌السلام بتحكيم كتاب الله بينه وبين البغاة ..

والأمر هكذا مع السنة النبوية ، وقد أمرنا أن نرد إليها نزاعاتنا وخلافاتنا ، فما حكمت به فهو قضاء رسول الله ، وإلى هذا الفهم يرجع أمر الإمام علي عليه‌السلام لعبد الله بن عباس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج ، حيث أمره أن يحاكمهم إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. ، وكل ذلك ، صغيره وكبيره ، ماضيه وحاضره ، رهن بحفظ السنة النبوية المطهرة الشريفة.

أمر النبي بحفظ السنة :

* قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (٢).

* وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض خطبه التي شحنها بالأحكام ، من أمر ونهي وبيان ، يكرر مرارا قوله : (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) كما هو ظاهر في خطبته في حجة الوداع ، وفي خطبته بغدير خم.

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٦٥.

(٢) جامع بيان العلم : ح ١٦٠ ـ ١٧٥.

١٢٦

وغير هذا كثير في منزلة السنة ولزوم حفظها ، وهو بديهي أيضا في شأن ثاني مصادر التشريع ، المصدر الذي كانت مهمته الأولى التبيين عن المصدر الأول ـ القرآن ـ وتفصيله ، وترجمة أحكامه وتعاليمه في الواقع المعاش ، الأمر الذي لا يمكن إيكاله إلى مصدر آخر غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنته ، فحفظ السنة شرط حفظ الدين كله إذن.

ثم عزز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك بلزوم صيانتها من أي دخيل في قول أو عمل ، فقال :

* (إن كذبا علي ليس ككذب على غيري ، من يكذب علي بني له بيت في النار) (١).

* (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) (٢).

* (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد) (٣).

* (كل محدث بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) (٤).

حصيلة واحدة :

من قراءة لتلك المقدمات ، أي قراءة ، وبأي اتجاه ، سوف نتوقع حصيلة واحدة ، وهي أن تدوين السنة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمرا مألوفا ، يزاوله بعض من قدر عليه من الصحابة ، وليس أمرا محتملا وحسب.

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٣.

(٢) متفق عليه.

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ح ١٤.

(٤) متفق عليه.

١٢٧

فهل لهذه الحصيلة ما يؤيدها من الواقع في ذلك العهد ، فتكون حقيقة ثابتة ، تستوي عندها قراءتنا لتلك المقدمات الصحيحة على قوائمها؟!

أم الواقع خلاف ذلك؟! فتبقى تلك المقدمات الصحيحة نظريات عائمة ليس لها قرار!

هذا ما نقرأه في بحثنا الأساس الآتي ، حيث تداخل الأرقام ، وتعانق الأدلة ، ورجوع إلى العهد النبوي ، الأصل ، بين فقرة وأخرى.

تقسيم البحث :

في لحاظ العناصر المشتركة وعوامل التمايز التي تفصل بين الأدوار التاريخية ، فقد مرت السنة النبوية في هذه الحقبة المنتخبة في مرحلتين تختلفان كليا في منهج التعامل مع السنة ، وعلى أساس هذا الاختلاف والتمايز المنهجي وقع تقسيم البحث على مرحلتين : مثلت المرحلة الأولى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، فامتدت ربع قرن بعد الرسول مباشرة ، فيما انحصرت المرحلة الثانية في خمس سنين هي مدة تولي الإمام علي عليه‌السلام الخلافة والزعامة السياسية والاجتماعية والدينية في الأمة.

ودراسة كل مرحلة تقع في مباحث تؤلف مجتمعة الصورة الكاملة لتاريخ السنة في تلك المرحلة.

١٢٨

المرحلة الأولى

السنة في ربع قرن

نتابعها في مبحثين رئيسين ، الأول : في التدوين والرواية ، والثاني : في الموقع التشريعي.

المبحث الأول : التدوين والرواية.

هنا ثلاث علامات فارقة ، أجملها الذهبي ، ونفصلها في نقاط مع مزيد من التوثيق :

الفارقة الأولى : الاحتياط في قبول الأخبار.

قال الذهبي : كان ـ أبو بكر ـ أول من احتاط في قبول الأخبار .. إن (الجدة) جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث ، فقال : ما أجد لك في كتاب الله شيئا ، وما علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر لك شيئا! ثم سأل الناس ، فقام المغيرة فقال : حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطيها ـ أي الجدة ـ السدس.

فقال له أبو بكر : هل معك أحد؟

فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك ، فأنفذه لها أبو بكر (١).

هذا الخبر تضمن فوائد جليلة ، كان (الاحتياط في قبول الأخبار)

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢.

١٢٩

أولها ، وثم فائدتان لم يذكرهما الذهبي ، هما :

أ ـ في عدالة الصحابي :

إن هذا الاحتياط كان إزاء رواية الصحابي عن رسول الله مباشرة ، فالمغيرة ، الصحابي ، كان يروي عن مشاهدة قد يصحبها سماع أيضا ، يقول : (حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطيها السدس) ومع ذلك كان أبو بكر يحتاط في قبول روايته ، حتى وجد لها شاهدا حضر ذلك أو سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا مبدأ متين ، منسجم مع ما قرره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفظ السنة وصيانتها ، وهو مخالف تماما لمبدأ (عدالة الصحابي) وقبول روايته مطلقا ، وإعفائه من قواعد الجرح والتعديل.

وسوف نجد أن موقف أبي بكر هذا قد سلكه عمر ، وسلكه عثمان وسلكه علي عليه‌السلام ، سلكوه جميعا إزاء رواية الصحابي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، ليتضح من هذا كله بما لا شك فيه : أن مبدأ (عدالة الصحابي) قد ولد متأخرا ، ولم يكن له أثر حتى نهاية خلافة علي عليه‌السلام ، بل وبعدها أيضا بزمن غير قليل!

قال الخطيب البغدادي في الرد على من زعم أن العدالة هي إظهار الإسلام وعدم الفسق الظاهر : يدل على صحة ما ذكرناه أن عمر بن الخطاب رد خبر فاطمة بنت قيس ، وقال : (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم لا!).

قال : وهكذا اشتهر الحديث عن علي بن أبي طالب أنه قال : (ما

١٣٠

حدثني أحد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا استحلفته) ومعلوم أنه كان يحدثه المسلمون (١) ويستحلفهم مع ظهور إسلامهم ، وأنه لم يكن يستحلف فاسقا ويقبل خبره ، بل لعله ما كان يقبل خبر كثير ممن يستحلفهم مع ظهور إسلامهم وبذلهم له اليمين.

وكذلك غيره من الصحابة ، روي عنهم أنهم ردوا أخبارا رويت لهم ورواتها ظاهرهم الإسلام ، فلم يطعن عليهم في ذلك الفعل ، ولا خولفوا فيه ، فدل على أنه مذهب لجميعهم ، إذ لو كان فيهم من يذهب إلى خلافه لوجب بمستقر العادة نقل قوله إلينا (٢).

إذن فمبدأ (عدالة الصحابة) ليس له عين ولا أثر في عهد الصحابة ، وسوف يأتي في الفقرات اللاحقة مزيد من الشواهد الحية على ذلك.

ب ـ في علم الصحابي :

تحدث المغيرة هنا عن قضاء النبي في سهم الجدة ، وكان قد شهده بنفسه ، وتحدث محمد بن مسلمة عن شهوده ذلك القضاء أيضا ، في حين ما زال ذلك غائبا عن أبي بكر ، ونحو هذا قد حصل مع عمر أيضا ، فربما غابت عنه سنة مشهورة ، كما في قصته مع أبي موسى الأشعري حين حدثه بحديث : (إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع) فقال له عمر : لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك!!

فانطلق إلى مجلس من الأنصار ، فقالوا : لا يشهد إلا أصاغرنا! فقام

__________________

(١) أي من الصحابة ، فالذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن تكون له صحبة.

(٢) الكفاية في علم الرواية : ٨١ ، ٨٣ مختصرا.

١٣١

أبو سعيد الخدري فشهد له عند عمر ، فقال عمر : خفي علي هذا من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألهاني الصفق بالأسواق! (١).

فهذه سنة مشهورة كان يتعلمها أصاغر القوم ، وقد خفيت عليه ..

وكذا غاب عنه حكم السقط ، حتى أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وغير ذلك أيضا.

فهذه نافذة مطلة على حقيقة واقعة ، وهي أن الصحابي ليس بوسعه أن يحيط بجميع السنة ، أقوال النبي وأفعاله وتقريراته ، فمنها ما يغيب عنه ، فلا يشهده ، ولا يسمع به بعد ذلك إلا في نازلة كهذه.

وأيضا فهم في ما يشهدونه على تفاوت كبير في الحفظ والوعي :

قال البراء بن عازب : ما كل الحديث سمعنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يحدثنا أصحابنا ، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل (٣).

وقال مسروق ـ التابعي ـ : جالست أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا كالإخاذ (٤) ، الإخاذة تروي الراكب ، والإخاذة تروي الراكبين ، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم ، وإن عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ من تلك الإخاذ (٥).

ومسروق أيضا قال : شاممت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدت

__________________

(١) صحيح البخاري ـ الاعتصام بالكتاب والسنة ـ باب ٢٢ ح ٦٩٢٠ ، تذكرة الحفاظ ١ / ٦.

(٢) صحيح البخاري ـ الاعتصام بالكتاب والسنة ـ باب ١٣ ح ٦٨٨٧ ، تذكرة الحفاظ ١ / ٧ ـ ٨.

(٣) المستدرك ، وتلخيصه ١ / ٣٢٦.

(٤) الإخاذ : واحدها إخاذة ، وهي الغدير.

(٥) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٤٣.

١٣٢

علمهم انتهى إلى ستة : علي ، وعمر ، وعبد الله ، وزيد ، وأبي الدرداء ، وأبي .. ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله! (١).

وأنهى غيره علم الصحابة إلى ستة أيضا ، هم المتقدمون بأعيانهم إلا أبا الدرداء فقد أبدله بأبي موسى الأشعري ، ثم أنهى علم الستة إلى علي وعمر (٢).

وخلاصة القول عند ابن خلدون : إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم ، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن ، العارفين بناسخه ومنسوخه ، ومتشابهه ومحكمه ، وسائر دلالاته ، بما تلقوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم ، وكانوا يسمون لذلك : (القراء) لأن العرب كانوا أمة أمية (٣).

الفارقة الثانية : المنع من التحديث :

قال الذهبي : إن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال إنكم تحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه! (٤).

فهنا أكثر من مشكلة ظاهرة ، منها :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٥١ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، تدريب الراوي ٢ / ١٩٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٥١.

(٣) مقدمة ابن خلدون : ٥٦٣ ـ الفصل السابع من الباب الرابع.

(٤) تذكرة الحفاظ ١ / ٢ ـ ٣.

١٣٣

أ ـ ما يعود إلى (عدالة الصحابي) فيعزز ما ذكرناه آنفا.

ب ـ ظهور الاختلاف بين الصحابة في نقل السنة ، إلى القدر الذي دعا أبا بكر إلى منعهم من ذكر شئ من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لكن هناك من الاختلاف ما لا ضير فيه ، كاختلاف اللفظ مع حفظ المعنى تاما ، كحديث (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) ويروى (من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار) فهما شئ واحد وإن اختلف اللفظ ، وليس في هذا محذور بلا خلاف ، والحديث كله قد يكون عرضة لهذا ، إذ الغالب أن الصحابي إنما يسمع الحديث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة ، فإذا نقله من حفظه بعد زمن غير يسير ، فهو عرضة لاختلاف اللفظ.

وليس هذا مطردا في كل الأحوال ، فرب لفظ إذا تبدل بآخر فقد بعض دلالاته ، أو جاء اللفظ بدلالة زائدة لم تكن من الحديث!

وهناك اختلافات أخرى خطيرة ، مصدرها وهم الصحابي أو نسيانه ، أو سماعه طرفا من الحديث فقط ، ونحو ذلك ، ولقد رد كثير من الصحابة اختلافات ظهرت من هذا النوع ، فمن ذلك :

* حديث عمر وابن عمر : (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) فردته عائشة ، فقالت : إنكم تحدثون عن النبي غير كاذبين ، ولكن السمع يخطئ ، والله ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه! حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) إنما قال : (إنه ليعذب ، بخطيئته وذنبه ، وإن أهله ليبكون عليه).

وقد استدركت عائشة كثيرا على أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأنس ابن مالك وغيرهم ، جمعها الزركشي في كتاب أسماه (الإجابة لإيراد ما

١٣٤

استدركته عائشة على الصحابة).

* ورد الزبير رجلا كان يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : أنت سمعت هذا من رسول الله؟! قال الرجل : نعم.

قال الزبير : هذا وأشباهه مما يمنعاني أن أتحدث عن النبي! قد لعمري سمعت هذا من رسول الله ، وأنا يومئذ حاضر ، ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب ، فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث ، فظننت أنه حديث رسول الله! (١).

* ومن هذا الصنف ما ذكر في اختلاط أحاديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحاديثه عن كعب الأحبار! (٢).

* ومنه قول عمران بن حصين : (والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين متتابعين ، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت ، وشهدوا كما شهدت ، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون! وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم ، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون ـ وفي رواية : يخطئون ـ لا أنهم كانوا يتعمدون) (٣).

هذه نبذة عن اختلاف الصحابة في الحديث ، الذي سيكون سببا في اختلافات أكبر حين ينتقل إلى المواضيع المستفادة من الحديث ، في العقيدة والفقه والتفسير ، وغيرها من نواحي المعرفة ، وهذه كلها سوف تكون بلا شك محاور نزاع الأجيال اللاحقة ، وهذا ما رآه أبو بكر ، فلجأ إلى

__________________

(١) محمود أبو رية / أضواء على السنة المحمدية : ١١٦ ـ ١١٧ عن ابن الجوزي.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠٦ ، البداية والنهاية ٨ / ١١٧ ، إرشاد الساري ٢ / ٦٩٠.

(٣) ابن قتيبة / تأويل مختلف الحديث : ٤٩ ـ ٥٠.

١٣٥

قراره الأخير في المنع من الحديث والاكتفاء بالقرآن.

لكن هل كان المنع من رواية الحديث النبوي والرجوع إليه في الفتيا هو الحل الأمثل لهذه المشكلة؟!

هذا على فرض كونه من صلاحيات الخليفة ، وأن الخليفة مخول أن يوقف السنة النبوية متى شاء ، رواية وفتيا ، وتدوينا أيضا كما سيأتي! أما إذا كان هذا كله فوق الخليفة وصلاحياته ، فثمة ما ينبغي التوقف عنده طويلا إذن!

ج ـ والمشكلة الثالثة التي يثيرها حديث أبي بكر ، هي : ما سيعقب قرار المنع من ضياع لبعض السنن ، كثيرا كان أو قليلا! خصوصا حين يمضي الأمر هكذا لعدة سنين.

* في عهد عمر :

استمر هذا المنع من الحديث زمن عمر كله ، ولم يقتصر حكمه على أبي هريرة وكعب الأحبار اللذين اتهمهما في الحديث ، وتوعدهما بالطرد إلى ديارهما الأولى إن هما لم يكفا عن الحديث ..

بل سرى إلى رجال من كبار الصحابة ، منهم : عبد الله بن مسعود ، وأبو الدرداء ، وأبو مسعود الأنصاري ، فقال لهم : قد أكثرتم الحديث عن رسول الله! فحبسهم في المدينة (١).

وسرى أيضا إلى أمرائه ، فقد كان يأخذ عليهم العهد باجتناب الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وربما بالغ في هذا فمشى مع عماله بعض الطريق

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٧.

١٣٦

يودعهم ، ثم يذكر لهم أنه إنما خرج معهم لأجل هذه الوصية : (إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم ، جردوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن رسول الله ، وأنا شريككم)!

فلما قدم بعضهم العراق ، قالوا له : حدثنا. قال : نهانا عمر (١).

حتى توفي عمر على هذه السيرة سنة ٢٤ ه.

وهذه السيرة أيضا جاءت على خلاف الحديث الذي رواه أبو موسى الغافقي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (عليكم بكتاب الله ، وسترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني ـ أو كلمة تشبهها ـ فمن حفظ شيئا فليحدث به ، ومن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وقال أبو موسى : هذا آخر ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! (٢).

* وفي عهد عثمان :

خطب الناس ، فقال : (لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر ، فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه ، إلا أني سمعته يقول : من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار) (٣).

لكن عثمان لم يتبع شدة عمر وسيرته في هذا الأمر ، فأطلق الصحابة الذين حبسهم عمر في المدينة ، وقد ذكر فيهم مع ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري ، ثلاثة آخرون ، هم : صادق اللهجة أبو ذر ،

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٧ ، المستدرك ١ ح ٣٤٧ وصححه الحاكم والذهبي.

(٢) المستدرك وتلخيصه ١ / ١٩٦ ح ٣٨٥.

(٣) منتخب كنز العمال ٤ / ١٧٢.

١٣٧

وعبد الله بن حذيفة ، وعقبة بن عامر ، فكل هؤلاء لم يلتزموا أمر عمر في ترك الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

لنعرف من ذلك أن قرار المنع لم يكن إجماعا ، وإنما كان رأيا يراه الخليفة فيحمل الصحابة عليه ، ثم لم يكن جميعهم ممن استجاب لهذا الأمر وتقيد به ، فكان تمردهم هذا سببا في حفظ الكثير من السنن التي قد يطالها النسيان حين تأتي عليها السنون وهي في طي الكتمان.

د ـ حديث المنع والنبوءة الصادقة :

* وآخر المشكلات ، وربما أخطرها دلالة ، أننا نجد في هذا النص المنقول عن أبي بكر ، أول ظهور لتلك النبوءة الصادقة التي أخبر بها النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحذيره الخطير وقوله الشهير : (يوشك الرجل متكئا على أريكته ، يحدث بحديث من حديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله عزوجل ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه! ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) (٢).

أنظر ثانية في نص حديث أبي بكر : (... فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله ، وحرموا حرامه)!

إنه ظهور مبكر جدا لتلك النبوءة ، ولقد كان حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) ابن حبان / المجروحين ١ / ٣٥ ، المستدرك ١ / ١٩٣ ح ٣٧٤ و ٣٧٥ ، وفيه : أبو ذر وأبو الدرداء وأبو مسعود.

(٢) سنن ابن ماجة ١ ح ١٢ ـ والنص عنه ـ وح ١٣ و ٢١ ، سنن الترمذي ٥ ح ٢٦٦٣ و ٢٦٦٤ ، سنن أبي داود ٣ ح ٣٠٥٠ و ٤ ح ٤٦٠٤ و ٤٦٠٥ ، مسند أحمد ٤ / ١٣٠ و ١٣٢ و ٦ / ٨ ، المستدرك ١ / ١٠٨ و ١٠٩.

١٣٨

يشعر بقرب ظهورها ، إذ استهل الحديث بقوله : (يوشك) ولم يقل : (يأتي على الناس زمان) كما في إخباره عن الغيب البعيد (١).

الفارقة الثالثة : منع تدوين الحديث.

قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت خمسمئة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيرا ، فلما أصبح قال : أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها! فقلت : لم أحرقتها؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به ، ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك! (٢).

لكن هذه الحيطة وهذه الدقة ينبغي أن لا تتجاوز أحاديث سمعها من بعض الصحابة يحدثون بها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو صريح في قوله : (فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به ، ولم يكن كما حدثني).

أما الأحاديث التي سمعها هو مباشرة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي في منجاة من ذلك ، إلا أن يقال إنه لم يميز بين ما سمعه هو مباشرة ، وما نقل له! وهذا غير وارد ، وحتى لو حصل مع بعضها فلا يمكن حصوله مع جميعها حتى لم يعد يعرف حديثا واحدا سمعه من فم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

فلماذا أوقع الإحراق على الجميع؟!

__________________

(١) في لسان العرب ـ وشك ـ : الوشيك : السريع .. أمر وشيك : سريع .. وأوشك : أسرع ، ومنه قولهم : يوشك أن يكون كذا.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

١٣٩

لعل هذا الاضطراب هو الذي حمل الذهبي على تكذيب الخبر ، فقال : فهذا لا يصح ، والله أعلم (١).

فإذا لم يصح هذا ، فلم يثبت عن أبي بكر غيره في شأن تدوين الحديث النبوي الشريف ، إلا ما ورد في كتابته بعض كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي ضمنها جملة من السنن ، ككتاب فرائض الصدقة ـ الزكاة ـ الذي كتبه أبو بكر إلى عماله ، فجعل أوله : (إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المسلمين ، التي أمر الله عزوجل بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن سئل من المسلمين على وجهها فليعطها ...) الكتاب (٢).

فهذا يعني أن تدوين الحديث على أصل الإباحة ، وهي مستفادة حتى من الحديث الأول على فرض صحته ، فمبادرة أبي بكر بجمع الحديث وتدوينه في كتاب دليل على أنه لم يعرف فيه إلا الإباحة ، ثم لما حرقه لم يكن حرقه لورود النهي عن كتابة الحديث ، وإنما لخشية تطرق الوهم إليه!

ومضى الأمر على هذه الحال حتى جاء عمر ، فأراد أن يكتب السنن ، فاستفتى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، فأشاروا عليه بأن يكتبها ، ثم بدا له أن لا يكتبها .. ثم بعث إلى الأمصار : من كان عنده شئ فليمحه! (٣).

وحدث مالك بن أنس : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب هذه الأحاديث ، أو كتبها ، ثم قال : لا كتاب مع كتاب الله! (٤).

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

(٢) مسند أحمد ١ / ١١ ، صحيح البخاري ـ كتاب الزكاة ـ زكاة الغنم ، سنن أبي داود ـ كتاب الزكاة ـ ح ١٥٦٧ ـ ١٥٧٠ ، سنن النسائي ح ٢٢٣٥.

(٣) جامع بيان العلم ١ / ٧٨ ح ٣١٣ و ٣١٥.

(٤) جامع بيان العلم ١ / ٧٨ ح ٣١٢.

١٤٠