الحدائق الناضرة - ج ٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

القول الثالث ونقل عن السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) انه يصلي جالسا مومئا وان أمن المطلع ، وعن ابن إدريس انه يصلي قائما مومئا في الحالين.

والأصل في هذا الاختلاف اختلاف ظواهر الاخبار ، ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة (١) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه ولم يجد شيئا يصلي فيه؟ فقال يصلى إيماء فإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها وان كان رجلا وضع يده على سوأته ثم يجلسان فيومئان إيماء ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما تكون صلاتهما برءوسهما. قال وان كانا في ماء أو بحر لجي لم يسجدا عليه وموضوع عنهما التوجه فيه يوميان في ذلك إيماء ورفعهما توجه ووضعهما». ورواه في الفقيه (٢) الى قوله : «برءوسهما» وزاد «ويكون سجودهما اخفض من ركوعهما».

وروى الشيخ عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن قوم صلوا جماعة وهم عراة؟ قال يتقدمهم الامام بركبتيه ويصلي بهم جلوسا وهو جالس». ونحوه موثقة إسحاق بن عمار الآتية في المقام (٤) والحكم بالجلوس في الجماعة يقتضي وجوبه مطلقا إذ لا يعقل ترك الركن لتحصيل فضيلة الجماعة.

وروى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن علي بن جعفر. الحديث ، وقد تقدم في صدر سابق هذه المسألة وفيه «أومأ وهو قائم».

وروى في الفقيه مرسلا (٥) قال : «وروي في الرجل يخرج عريانا فتدركه الصلاة انه يصلي عريانا قائما ان لم يره أحد فإن رآه أحد صلى جالسا».

وروى الشيخ في الصحيح عن ابن مسكان عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) «في الرجل يخرج عريانا فتدركه الصلاة؟ قال يصلي عريانا قائما ان

__________________

(١ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٥٠ من لباس المصلى.

(٢) ج ١ ص ٢٩٦.

(٣) الوسائل الباب ٥١ من لباس المصلى.

(٤) ص ٤٨.

٤١

لم يره أحد فإن رآه أحد صلى جالسا».

وروى احمد بن ابي عبد الله البرقي في المحاسن في الصحيح عن عبد الله بن مسكان عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) «في رجل عريان ليس معه ثوب؟ قال إذا كان حيث لا يراه أحد فليصل قائما».

ونقل شيخنا المجلسي روح الله روحه (٢) عن نوادر الراوندي انه روى بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : «قال علي (عليه‌السلام) في العريان ان رآه الناس صلى قاعدا وان لم يره الناس صلى قائما».

وروى في قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن الصادق عن أبيه (عليهما‌السلام) (٣) قال : «من غرقت ثيابه فلا ينبغي له ان يصلي حتى يخاف ذهاب الوقت يبتغي ثيابا فان لم يجد صلى عريانا جالسا يومئ إيماء ويجعل سجوده اخفض من ركوعه ، فان كانوا جماعة تباعدوا في المجالس ثم صلوا كذلك فرادى».

وفي رواية سماعة (٤) «عن من ليس معه إلا ثوب واحد وأجنب فيه انه يصلي عريانا قاعدا ويومئ». كذا في رواية الكافي وفي التهذيبين عوض «قاعدا» «قائما» وفي رواية محمد بن علي الحلبي (٥) في من كان كذلك «يجلس مجتمعا ويصلي ويومئ إيماء». وقد تقدمتا في مسألة جواز الصلاة في النجاسة مع تعذر الساتر وعدمه من كتاب الطهارة (٦).

هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة وهي ـ كما ترى ـ ما بين مطلق في القيام ومطلق في الجلوس ومفصل بين أمن المطلع فيقوم وعدمه فيجلس وهي أكثر أخبار المسألة فيجب تخصيص الإطلاقين المذكورين بها وبه يظهر قوة القول المشهور.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٠ من لباس المصلى.

(٢) البحار ج ١٨ الصلاة ص ٩٥.

(٣) الوسائل الباب ٥٢ من لباس المصلي.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٤٦ من النجاسات.

(٦) ج ٥ ص ٣٥٠.

٤٢

قال في المدارك : واحتمل المصنف في المعتبر التخيير بين الأمرين استضعافا للرواية المفصلة وهو حسن وان كان المشهور أحوط.

أقول : العجب منه (قدس‌سره) انه قدم في صدر المسألة ما يدل على اختياره القول بالتفصيل حيث انه ـ بعد نقل الأقوال الثلاثة وهي القول بالتفصيل أولا ثم قول المرتضى بالصلاة جالسا مطلقا ثم قول ابن إدريس بالصلاة قائما مطلقا ـ قال : والمعتمد الأول فإن فيه جمعا بين القولين الآخرين وهو صريح في فتواه بالقول المذكور فكيف عدل عنه هنا الى التخيير وجعل القول بالتفصيل طريق الاحتياط؟ والكلام في مقام واحد بلا فاصلة يعتد بها. وكيف كان فإن صحيحة ابن مسكان وان كانت كما ذكره وأمكن الجواب بان ابن مسكان ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه فلا يضر حديثه ما اعتراه من الضعف بعده كما صرحوا به في أمثاله الا ان رواية المحاسن كما دريت صحيحة السند بلا ريب فإنه روى الخبر فيه عن أبيه عن ابن ابي عمير عن محمد بن أبي حمزة عن عبد الله بن مسكان ، واستبعاد رواية ابن مسكان عن ابي جعفر (عليه‌السلام) بعيد فإن الطبقة لا تأباه وان كان انما عد في أصحاب الصادق (عليه‌السلام) وبالجملة فالقول بالتفصيل هو المعتمد للروايات المذكورة.

وينبغي التنبيه هنا على أمور بها يتم الكلام في المقام وتتضح المسألة بجميع ما هي عليه من الأقسام :

(الأول) ـ ظاهر الاخبار المفصلة انه يصلي قائما مع عدم المطلع حال دخوله في الصلاة وان جوز مجي‌ء أحد بعد ذلك ، لكن لو اتفق مجي‌ء أحد بعد الدخول فالظاهر انه ينتقل إلى الصلاة جالسا ، وإلا فلا وجه للتفصيل المذكور إذ مناط القيام هو عدم المطلع ومناط الجلوس وجوده ولا يعقل الفرق باعتبار الدخول وقبله وهو ظاهر ولم أقف على من تعرض لذلك والظاهر انه لا اشكال فيه.

(الثاني) ـ الظاهر من صحيحة زرارة ورواية أبي البختري أن الإيماء بالرأس

٤٣

وقال في المدارك ان الواجب الإيماء في الحالين للركوع والسجود بالرأس ان أمكن والا فبالعينين. والظاهر انه مستنبط من حكم صلاة المريض وإلا فالروايات المذكورة لا اشارة فيها إليه إذ الظاهر منها انما هو ما قلناه. وأوجب الشهيد في الذكرى الانحناء فيهما بحسب الممكن بحيث لا تبدو معه العورة وان يجعل السجود اخفض محافظة على الفرق بينه وبين الركوع ، واحتمل وجوب وضع اليدين والركبتين وإبهامي الرجلين في السجود على الكيفية المعتبرة ، قال في المدارك : وكل ذلك تقييد للنص من غير دليل ، نعم لا يبعد وجوب رفع شي‌ء يسجد عليه لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الرحمن الواردة في صلاة المريض (١) : ويضع وجهه في الفريضة على ما امكنه من شي‌ء. انتهى. أقول : اما ما اعترض به على كلام الشهيد (قدس‌سره) من انه تقييد للنص بغير دليل فجيد في ما عدا خفض الرأس للسجود فإنه قد صرح به في الفقيه في آخر صحيحة زرارة المتقدمة كما ذكرناه وفي رواية أبي البختري فلا يرد ما ذكره فيه. واما ما ذكره من انه لا يبعد وجوب رفع شي‌ء يسجد عليه ففيه انه بعيد إذ الاستناد في ذلك الى الصحيحة المذكورة قياس لا يوافق أصولنا فان أحكام المريض لا تنسحب هنا والروايات الواردة في المسألة عارية عما ذكره ، وحينئذ فيرد عليه ما أورده على الشهيد (قدس‌سره) من انه تقييد للنص بغير دليل.

(الثالث) ـ المستفاد من الاخبار وكذا من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الإيماء في حالتي القيام والجلوس على وجه واحد بمعنى انه من قيام مع القيام ومن جلوس مع الجلوس ، ونقل شيخنا في الذكرى عن شيخه السيد عميد الدين انه كان يقوى جلوس القائم ليومي للسجود جالسا استنادا الى كونه حينئذ أقرب الى هيئة الساجد فيدخل تحت «فاتوا منه ما استطعتم» (٢) ورده جملة من المتأخرين بأن الوجوب حينئذ انتقل إلى الإيماء فلا معنى للتكليف بالممكن من السجود.

__________________

(١) ج ٦ ص ٤٠٨.

(٢) ج ٤ ص ٣٣٧.

٤٤

أقول : ويرده صريحا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة علي بن جعفر المتقدمة «أومأ وهو قائم».

بقي الكلام في حال التشهد لو صلى قائما هل يتشهد من قيام أو يجلس في موضع التشهد ويتشهد ثم يقوم؟ لم أقف في كلام الأصحاب على ذكر لهذا الفرع ، والاخبار المتقدمة مطلقة لا دلالة فيها على شي‌ء من أحد الأمرين ، ويمكن القول بوجوب الجلوس في موضع التشهد ثم القيام لأن الإيماء في الركوع والسجود قائما أو جالسا انما صير إليه محافظة على ستر العورة والتشهد جالسا لا ينافي ذلك ان لم يؤكده فلا وجه لسقوط الجلوس البتة. إلا ان المسألة بعد غير خالية من شوب الاشكال.

(الرابع) ـ قد صرح الأصحاب بأنه يجب شراء الساتر بثمن المثل أو أزيد مع التمكن. ولو أعير وجب عليه القبول لحصول المكنة التي هي المدار في الوجوب وعدمه ، والظاهر انه لا خلاف في ذلك. ولو وهب له فنقل عن الشيخ (قدس‌سره) وجوب القبول وضعفه العلامة في التذكرة بأنه يستلزم المنة ورده جملة ممن تأخر عنه بالضعف لحصول المكنة كما تقدم «والظاهر انه لا خلاف فيه كما تقدم» (١) والظاهر ان ما استند اليه في التذكرة قد تبع فيه العامة كما يشعر به كلامه في المنتهى حيث قال : اما لو وجد من يهبه الثوب قال الشيخ يجب عليه القبول خلافا لبعض الجمهور (٢) وقول الشيخ جيد لانه متمكن فيجب كما يجب قبول العارية. احتج المخالف بأنه تلحقه المنة. وجوابه العار الذي يلحقه بسبب انكشاف عورته أعظم من المنة. انتهى. وهو جيد.

(الخامس) ـ لو ظن العاري وجود الساتر في الوقت فالظاهر وجوب التأخير وفاقا للمعتبر والمنتهى واستحسنه في المدارك ، اما إذا لم يظن ذلك فالمشهور عدم وجوب التأخير وبه صرح الشيخ واتباعه مسارعة إلى فضيلة أول الوقت وحذرا من عروض المسقط. وأوجبه المرتضى وسلار بناء على أصلهما من وجوب التأخير على ذوي الأعذار

__________________

(١) ما بين القوسين غير موجود في النسخ الخطية.

(٢) المغني ج ١ ص ٥٩٤.

٤٥

أقول : ظاهر رواية أبي البختري المتقدمة يعطي التأخير إلا انها مع عدم صحتها ليست صريحة في الوجوب لما عرفت في ما تقدم من ان لفظ «ينبغي ولا ينبغي» في الاخبار من الألفاظ المتشابهة ، وكيف كان فهي دالة على رجحان التأخير.

(السادس) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو لم يجد إلا ثوب حرير أو ثوبا مغصوبا أو جلد ميتة أو جلد ما لا يؤكل لحمه لم يجز له الصلاة في شي‌ء من ذلك وصلى عاريا للنهي عن الصلاة في هذه الأشياء. وهو جيد بالنسبة الى ما عدا الثوب المغصوب لوجود الأخبار الدالة على ما أدعوها اما في المغصوب فسيأتي تحقيق الكلام فيه ان شاء الله تعالى واما في الثوب النجس فيبني على ما سبق من الخلاف في المسألة في كتاب الطهارة من جواز الصلاة في النجاسة مع تعذر ساتر غير النجس أو الانتقال إلى الصلاة عاريا.

(السابع) قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان الستر يراعى من الجوانب الأربعة ومن فوق ولا يراعى من تحت فلو صلى على طرف سطح بحيث ترى عورته من تحت فإشكال ينشأ من ان وجوب الستر انما يراعى من الأماكن التي جرت العادة بالنظر إليها ، ومن ان الستر من تحت انما يغتفر إذا كان الصلاة على وجه الأرض كما هو الغالب. والمسألة غير منصوصة إلا ان الظاهر هو وجوب الستر لان اغتفاره في المواضع التي جرت العادة بعدم الرؤية فيها لا يوجب اغتفاره في ما يحصل فيه الرؤية ، ويؤيده أنه الأوفق بالاحتياط الذي هو عندنا واجب في موضع اشتباه الحكم.

(الثامن) ـ لو كان في ثوبه خرق فان لم يحاذ العورة فلا اشكال ولو حاذاها بطلت صلاته للإخلال بشرطها ، ولو جمعه بيده بحيث يتحقق الستر بالثوب فلا إشكال في الصحة كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ايضا ، ولو وضع يده عليه أو يد غيره في موضع يجوز له الوضع بحيث ان الستر انما استند الى اليد فقد صرح جمع من الأصحاب بالبطلان لعدم فهم الستر ببعض البدن من إطلاق الساتر. وهو قريب إلا ان

٤٦

الحكم بذلك مع عدم النص في المسألة مشكل. ويمكن ان يقال بالصحة لأن عدم فهمه من إطلاق الساتر المأمور به لا ينافي حصول الستر به والمطلوب هو الستر وعدم رؤية الناظر بأي نحو اتفق ، ويؤيده ما تقدم (١) في صحيحة زرارة «فإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها وان كان رجلا وضع يده على سوأته». وكيف كان فالاحتياط في المسألة لعدم النص مطلوب.

(التاسع) ـ قد صرح بعض الأصحاب انه لو وجد ساترا لإحدى العورتين وجب ، وزاد بعض ان الاولى صرفه الى القبل لقوله (عليه‌السلام) في بعض الاخبار التي نقلناها في أحكام الخلوة (٢) :

«واما الدبر فمستور بالأليين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة».

(العاشر) ـ لو وجد الساتر في أثناء الصلاة فإن أمكن الستر به من غير مناف وجب وإلا فهل يجب قطع الصلاة مع سعة الوقت والصلاة في الساتر أو يستمر؟

وجهان ، للثاني منهما انه دخل دخولا مشروعا والابطال يحتاج الى دليل ، وللأول ان الصلاة عاريا انما جازت لضرورة فقد الساتر وبوجوده يرتفع العذر وتزول الضرورة.

والمسألة لعدم النص غير خالية من شوب الاشكال ، والاحتياط بإتمام الصلاة ثم الإعادة في الساتر لازم على كل حال. واما لو كان الوقت بعد القطع يضيق ولو عن ركعة فظاهرهم انه لا إشكال في وجوب الاستمرار ، والظاهر انه كذلك.

(الحادي عشر) ـ الظاهر انه لا خلاف في استحباب الجماعة للعراة رجالا كانوا أو نساء كما ذكره شيخنا في الذكرى حيث قال : يستحب للمرأة الصلاة جماعة رجالا كانوا أو نساء إجماعا لعموم شرعية الجماعة وأفضليتها.

وانما الخلاف في كيفيتها فالمشهور ـ وبه صرح الشيخ المفيد والسيد المرتضى ـ انهم يجلسون جميعا صفا واحدا ويتقدمهم الامام بركبتيه ويصلون جميعا بالإيماء ، واختاره

__________________

(١) ص ٤١.

(٢) ص ٦.

٤٧

ابن إدريس وادعى عليه الإجماع وعليه تدل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (١)

وذهب الشيخ في النهاية إلى أن الامام يومئ ومن خلفه يركعون ويسجدون وعليه تدل موثقة إسحاق بن عمار (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) قوم قطع عليهم الطريق وأخذت ثيابهم فبقوا عراة وحضرت الصلاة كيف يصنعون؟ قال يتقدمهم امامهم فيجلس ويجلسون خلفه فيومئ إيماء بالركوع والسجود وهم يركعون ويسجدون خلفه على وجوههم».

ويظهر من المحقق في المعتبر الميل الى هذه الرواية حيث قال ـ بعد نقل الخلاف في المسألة والاستدلال للشيخ بالرواية المذكورة ـ ما صورته : فهذه حسنة ولا يلتفت الى من يدعي الإجماع على خلافها.

واعترضه جمع : منهم ـ صاحب المدارك بل الظاهر انه أو لهم واقتفاه صاحب الذخيرة بان في سندها عبد الله بن جبلة وكان واقفيا وإسحاق بن عمار وكان فطحيا فلا يحسن وصفها بالحسن.

أقول : فيه ان الظاهر ان المحقق لم يرد بما وصفها به من الحسن ما توهموه من هذا المعنى المصطلح فان هذا الاصطلاح في تقسيم الاخبار الى الأقسام الأربعة انما حدث بعد عصر المحقق من العلامة أجزل الله تعالى إكرامه كما ذكره جملة من الأصحاب أو شيخه احمد بن طاوس كما ذكره بعضهم فهو لم يرد بوصفها بذلك من حيث السند وانما أراد من حيث المتن كما قد يصف بذلك بعض الاخبار الصحيحة السند أو الضعيفة كما لا يخفى على من تتبع كتابه ، وقد نبه على ذلك السيد المذكور في كتابه المشار إليه في مسألة الصلاة في النجاسة نسيانا حيث ان المحقق وصف صحيحة العلاء الدالة على عدم الإعادة (٣) بأنها حسنة فقال السيد (قدس‌سره) ومراده بالحسن هنا خلاف المعنى المصطلح عليه بين المحدثين بل حسن المضمون فان عادته (قدس‌سره) لم تجر بالتعرض

__________________

(١) ص ٤١.

(٢) الوسائل الباب ٥١ من لباس المصلى.

(٣) ج ٥ ص ٤٢٠.

٤٨

لحال الروايات وما هي عليه من الصحة والتوثيق. ويزيده تأكيدا ما صرح به شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين فقال : ان التعرض لذلك في كتب الفروع انما حديث بعده (أعلى الله مقامه) وأول من تعرض لتفصيل ذلك من أصحابنا واهتم بشأنه في الكتب الاستدلالية العلامة أحله الله دار الكرامة. انتهى.

نعم في الرواية المذكورة إشكال آخر قد نبه عليه شيخنا في الذكرى حيث قال بعد نقل القول بمضمونها عن المحقق : ويشكل بان فيه تفرقة بين المنفرد والجامع وقد نهى المنفرد عن الركوع والسجود كما تقدم لئلا تبدو العورة ، ثم نقل رواية عبد الله بن سنان التي هي مستند القول المشهور ، ثم قال : وبالجملة يلزم من العمل برواية إسحاق أحد أمرين اما اختصاص المأمومين بهذا الحكم واما وجوب الركوع والسجود على كل عار إذا أمن المطلع ، والأمر الثاني لا سبيل اليه والأمر الأول بعيد. انتهى. وهو جيد.

وبما ذكرنا يعلم ان ما دل عليه خبر أبي البختري المتقدم ـ من انهم إذا كانوا جماعة تباعدوا في المجالس ثم صلوا كذلك فرادى ـ يجب حمله اما على عدم امام يؤمهم أو على التقية فإنه قد نقل في الذكرى عن بعض العامة انه منع من الجماعة إلا في الظلمة حذرا من بدو العورة (١) واعترضه بانا نتكلم على تقدير عدمه. إلا ان ظاهر الصدوق في الفقيه القول بهذه الرواية صرح بذلك في آخر باب صلاة الخوف والمطاردة فقال ـ بعد ان ذكران العريان يصلي قاعدا ويضع يده على عورته وكذلك المرأة ثم يومئان إيماء ـ ما لفظه : وإذا كانوا جماعة صلوا وحدانا. ولم اطلع على من نقل خلافه في المسألة مع انه كما ترى ظاهر فيما قلناه ، وهو منه (قدس‌سره) عجيب لما عرفت من الاخبار الدالة على ذلك خصوصا مضافا الى عموم أخبار الجماعة. والله العالم.

(المطلب الثاني) ـ في ما يجوز لباسه للمصلي وما لا يجوز ، قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا تجوز الصلاة في النجاسة الغير المعفو عنها ، وقد تقدم البحث

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٥٩٦.

٤٩

في ذلك مستوفى في كتاب الطهارة. ولا تجوز أيضا في جلد الميتة ولا جلد غير مأكول اللحم وصوفه وشعره ووبره عدا ما يأتي استثناؤه ان شاء الله تعالى ، ولا في الحرير المحض للرجل ولا في الذهب له ايضا ولا في المغصوب ، ويجوز في ما عدا ذلك.

وتفصيل هذه الجملة يقع في مقامات (الأول) في جلد الميتة وقد أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) على انه لا تجوز الصلاة فيه ولو كان مما يؤكل لحمه سواء دبغ أم لم يدبغ حتى من القائلين بطهارته بالدباغ.

ويدل عليه الاخبار المتكاثرة. فروى الشيخ في الصحيح عن ابن ابي عمير عن غير واحد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في الميتة؟ قال : لا تصل في شي‌ء منه ولا شسع».

أقول : الشسع بالكسر ما يشد به النعل.

وروى الصدوق والشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ فقالا ولو دبغ سبعين مرة».

وروى في كتاب الخصال بسنده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٣) قال : «لا يصلى في جلود الميتة وان دبغت سبعين مرة ولا في جلود السباع».

وروى في كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٤) قال : «لا يصلى بجلد الميتة ولو دبغ سبعين مرة إنا أهل بيت لا نصلي بجلود الميتة وان دبغت». الى غير ذلك من الاخبار الآتية ونحوها.

واما ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا وفي كتاب العلل مسندا في الصحيح عن يعقوب بن شعيب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) ـ قال : «قال الله عزوجل لموسى

__________________

(١ و ٢ و ٥) الوسائل الباب ١ من لباس المصلي.

(٣) الوسائل الباب ٦ من لباس المصلى.

(٤) البحار ج ١٨ الصلاة ص ١٠٠.

٥٠

فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ (١) لأنها كانت من جلد حمار ميت» ـ.

فقد أجيب عنه بالحمل على عدم علمه (عليه‌السلام) بذلك أو انه لم يكن يصلي فيها ان جوزنا الاستعمال في غير الصلاة أو انه لم يكن في شرعه تحريم الصلاة في جلد الميتة.

والحق في الجواب انما هو ما رواه في كتاب إكمال الدين (٢) في حديث سعد ابن عبد الله ودخوله على الإمام أبي محمد العسكري (عليه‌السلام) مع احمد بن إسحاق وعلى فخذه ابنه القائم عجل الله فرجه قال في حديثه : وهو غلام يناسب المشتري في الخلقة والمنظر ، فسأله عن مسائل فقال سل قرة عيني وأومأ إلى الغلام ، فكان في ما سأله قال أخبرني يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن أمر الله تبارك وتعالى لنبيه موسى (عليه‌السلام) «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» (٣) فان فقهاء الفريقين يزعمون انهما من إهاب الميتة؟ فقال (عليه‌السلام) من قال ذلك فقد افترى على موسى (عليه‌السلام) واستجهله في نبوته لانه ما خلا الأمر فيهما من خطيئتين اما ان تكون صلاة موسى فيهما جائزة أو غير جائزة؟ فإن كانت صلاته جائزة جاز له لبسهما في تلك البقعة وان كانت مقدسة مطهرة فليست بأقدس واطهر من الصلاة ، وان كانت صلاته غير جائزة فيهما فقد أوجب على موسى انه لم يعرف الحلال والحرام ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه مما لم تجز وهذا كفر. قلت فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيهما قال ان موسى ناجى ربه بالواد المقدس فقال يا رب اني أخلصت لك المحبة مني وغسلت قلبي عن من سواك وكان شديد الحب لأهله فقال الله تبارك وتعالى «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» اي انزع حب أهلك من قلبك ان كانت محبتك لي خالصة. الحديث ،. وهو طويل أخذنا منه موضع الحاجة. وبه يظهر حمل الخبر الأول على التقية.

قال شيخنا في الذكرى : والمبطل للصلاة فيه علم كونه ميتة أو الشك إذا وجد

__________________

(١ و ٣) سورة طه ، الآية ١٢.

(٢) البحار ج ١٨ الصلاة ص ١٠١.

٥١

مطروحا لأصالة عدم التذكية أو في يد كافر عملا بالظاهر من حاله أو في سوق الكفر ، ولو وجد في يد مستحل الميتة بالدبغ ففيه صور ثلاث (الاولى) ان يخبر بأنه ميتة فيجتنب لاعتضاده بالأصل من عدم الذكاة (الثانية) ان يخبر بأنه مذكى فالأقرب القبول لأنه الأغلب ولكونه ذا يد عليه ، فيقبل قوله فيه كما يقبل في تطهير الثوب النجس. ويمكن المنع لعموم «فَتَبَيَّنُوا» (١) ولأن الصلاة في الذمة بيقين فلا تزول بدونه (الثالثة) ان يسكت ففي الحمل على الأغلب من التذكية أو على الأصل من عدمها الوجهان ، وقد روى في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني ادخل سوق المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكية؟ فيقول بلى فيصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته ثم لم يرضوا ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)». وفي هذا الخبر إشارة إلى انه لو أخبر المستحل بالذكاة لا يقبل منه لان المسؤول في الخبر ان كان مستحلا فذاك وإلا فبطريق الاولى. وعن ابي بصير عنه (عليه‌السلام) (٣) «كان علي بن الحسين (عليهما‌السلام) رجلا صردا لا تدفئه فراء الحجاز لان دباغها بالقرظ فكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون ان دباغه ذكاته». وفي هذا دلالة على جواز لبسه في غير الصلاة. انتهى. أقول : اما ما ذكره (قدس‌سره) مع علم كونه ميتة فمحل وفاق منا نصا وفتوى كما عرفت.

واما ما ذكره من الشك بجميع وجوهه التي ذكرها من كونه مطروحا أو في يد

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ٦.

(٢) الوسائل الباب ٦١ من النجاسات.

(٣) الوسائل الباب ٦١ من لباس المصلى.

٥٢

كافر أو في سوق فهو المشهور بينهم ، والأصح ـ كما قدمنا تحقيقه في آخر كتاب الطهارة في بحث الجلود ـ هو الطهارة وهو اختيار جملة من أفاضل متأخري المتأخرين.

واما ما ذكره في ما إذا وجد في يد مستحل الميتة بالدبغ فما اختاره في الصورتين الأولتين جيد لدلالة الاخبار ـ كما سلف وسيأتي ان شاء الله تعالى ـ على وجوب قبول قول ذي اليد في ما يخبر به من طهارة أو نجاسة أو حل أو حرمة.

واما قوله في الصورة الثانية : ويمكن المنع. الى آخره فالظاهر ضعفه لما حققناه في كتاب الطهارة من ان قول ذي اليد باعتبار دلالة الاخبار على وجوب العمل به كالشاهدين الذين أوجب الله سبحانه العمل بقولهما موجب للخروج عن عهدة التكليف كما لو شهد الشاهدان بطهارة الثوب أو ماء الطهارة أو نحو ذلك من شروط الصلاة.

واما ما ذكره في الصورة الثالثة مما يؤذن بالتوقف ففيه ان مقتضى القاعدة المنصوصة «ان كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١). هو حل الصلاة فيه ، و «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر» (٢). هو طهارته ومتى ثبتت الطهارة جازت الصلاة فيه ، ولا معارض لهذه الاخبار بل هي مؤيدة بالأخبار المستفيضة.

واما ما نقله من روايتي عبد الرحمن وابي بصير فهما معارضتان بما هو أصح سندا وأكثر عددا وأصرح دلالة من الاخبار الدالة على طهارة ما يشترى من الجلود من الأسواق من أي بائع كان والصلاة فيها ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في كتاب الطهارة :

ومنها ـ صحيحة الحلبي (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الخفاف

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من ما يكتسب به و ٦١ من الأطعمة المباحة و ٦٤ من الأطعمة المحرمة.

(٢) الوسائل الباب ٣٧ من النجاسات واللفظ «نظيف» بدل «طاهر».

(٣) الفروع ج ١ ص ١١٢ وفي الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات.

٥٣

عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال صل فيها حتى يقال لك انها ميتة بعينها». وهو دال بإطلاقه على جواز ذلك من أي بائع كان مسلما أو كافرا مستحلا للميتة أو غير مستحل ، ونحوها صحيحته الأخرى (١) وفيها «اشتر وصل فيها حتى تعلم انه ميت بعينه».

ورواية الحسن بن الجهم (٢) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) اعترض السوق فاشتري خفا لا ادري أذكي هو أم لا؟ فقال صل فيه. قلت فالنعل؟ قال مثل ذلك. قلت اني أضيق من هذا؟ قال أترغب عما كان أبو الحسن (عليه‌السلام) يفعله؟». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المتقدمة في الموضع المذكور.

وحينئذ فيجب حمل هذين الخبرين على الاحتياط والاستحباب كما هو ظاهر لذوي الأفهام والألباب فلا دلالة لهما على ما زعمه (قدس‌سره) في هذا الباب. وبذلك يظهر ايضا ما في قوله : وفي هذا الخبر إشارة إلى انه لو أخبر المستحل بالذكاة. إلخ. فإنه كما عرفت مبني على الاستحباب من حيث التهمة والاحتياط لا من حيث عدم قبول قول ذي اليد ، على انه يمكن ان يستثني مقام التهمة من قبول قول ذي اليد مطلقا كما في هذا الموضع وله نظائر في الأحكام.

قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك : وذكر جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان المبطل للصلاة في الجلد علم كونه ميتة أو في يد كافر أو الشك في تذكيته لأصالة عدم التذكية ، وقد بينا في ما سبق ان أصالة عدم التذكية لا تفيد القطع بالعدم لان ما ثبت جاز ان يدوم وجاز ان لا يدوم فلا بد لدوامه من دليل سوى دليل الثبوت وبالجملة فالفارق بين الجلد والدم المشتبهين استصحاب عدم التذكية في الجلد دون الدم ومع انتفاء حجيته يجب القطع بالطهارة فيهما معا لأصالة عدم التكليف باجتنابهما وعدم نجاسة الملاقي لهما. انتهى.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥٠ من النجاسات.

٥٤

قوله : «وبالجملة فالفارق. إلخ» إشارة الى ما تقدم منه (قدس‌سره) في بحث النجاسات والطهارات من انه إذا اشتبه الجلد واحتمل كونه منتزعا من ميتة أو مذكى وكذا الدم المشتبه بالطاهر والنجس فالفرق بينهما على مذهب الأصحاب باعتبار استصحاب عدم التذكية في الجلد فيكون نجسا بخلاف الدم ومتى قلنا ببطلان الاستصحاب فلا فرق بينهما ، ثم استدل على ذلك بأصالة عدم التكليف باجتنابهما وعدم نجاسة الملاقي لهما وأنت خبير بان هذا الاستدلال بالنسبة إلى الجلد لا يخلو من مصادرة لان هذا أول البحث وعين الدعوى ومطرح النزاع حيث ان الخصم يحكم بوجوب الاجتناب ونجاسة الملاقي لحكمه بكونه ميتة. والحق في الجواب انما هو ما أشرنا إليه آنفا من الاخبار الدالة على القاعدة الكلية المتفق عليها وهو «ان كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١). و «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر» (٢). و «لا أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم اعلم» (٣). ونحو ذلك ، ولا ريب ان الجلد هنا داخل تحت عموم هذه الكلية فيجب الحكم بطهارته وجواز ملاقاته برطوبة ، وهكذا يقال في الدم مع الاشتباه ، ويدل على خصوص ذلك رواية السكوني المتقدمة في الموضع المتقدم من كتاب الطهارة.

فائدتان

(الأولى) ـ قال السيد السند (عطر الله مرقده) في المدارك : واعلم ان مقتضى كلام المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى وغيرهما اختصاص المنع بميتة ذي النفس ، وهو كذلك للأصل وانتفاء ما يدل على عموم المنع.

أقول : الظاهر ان هذا الأصل هنا عبارة عن أصالة الإباحة التي هي البراءة الأصلية والخلاف فيها مشهور كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، الا ان السيد المذكور ممن يرى العمل بها كما هو المشهور بين الأصوليين ولذا تراه دائما يعتمد عليها ويطرح

__________________

(١ و ٢) ص ٥٣.

(٣) الوسائل الباب ٣٧ من النجاسات.

٥٥

الأخبار الضعيفة باصطلاحه في مقابلتها ، واما على ما اخترناه وحققناه في مقدمات الكتاب وعليه جل المحدثين وجملة من الأصوليين أيضا فإنه لا يجوز العمل عليها كما تقدم محققا مشروحا.

واما ما ذكره من انتفاء ما يدل على عموم المنع فهو وان كان كذلك لكن يمكن الاستناد في ذلك الى إطلاق الأخبار فإنه أعم من ميتة ذي النفس وغيرها.

والى ذلك جنح شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين ونقله عن والده حيث قال : لا يخفى ان المنع من الصلاة في جلد الميتة يشمل بإطلاقه ميتة ذي النفس وغيره سواء كان مأكول اللحم أو لا ، وفي كلام بعض علمائنا جواز الصلاة في ميتة غير ذي النفس من مأكول اللحم كالسمك الطافي مثلا. والمنع من الصلاة في ذلك متجه لصدق الميتة عليه وكونه طاهرا لا يستلزم جواز الصلاة فيه ، وكان والدي (قدس‌سره) يميل الى هذا القول ولا بأس به. انتهى.

وفيه ان ما ذكره من صدق الإطلاق وان كان متجها إلا ان الإطلاق انما يحمل على الافراد الشائعة المتكثرة المتكررة فإنها هي التي ينساق إليها الذهن من الإطلاق دون الفروض النادرة كما عرفت في غير موضع وبه صرح الأصحاب في غير مقام.

(فان قلت) ان مقتضى ما ذكرتم في رد الاعتماد على الأصل المذكور هو المنع من الصلاة في جلود السمك ونحوها ومقتضى ما ذكرتم في رد ما ذكره شيخنا البهائي هو الجواز فما المعمول عليه عندكم؟

(قلت) الظاهر هو الجواز لكن لا للأصل المذكور بل للعمومات الدالة على شرطية الستر بأي ساتر كان والأمر بالصلاة في أي لباس كان خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي ولا دليل هنا على المنع من الصلاة في ذلك ، فما ذكره شيخنا البهائي (قدس‌سره) من الاستناد في المنع إلى إطلاق الميتة قد عرفت ما فيه.

واما قوله أخيرا «وكونه طاهرا لا يستلزم جواز الصلاة فيه» فمردود بان مقتضى

٥٦

العمومات المذكورة ذلك حتى يقوم دليل على الاستثناء هنا كما قام الدليل على فضلات الحيوان الغير المأكول اللحم على القول بالتحريم ، إذ لا ريب ان هذه الجلود طاهرة في حال حياة حيوانها والموت لا ينجسها لعدم النفس فتجوز الصلاة فيها كسائر الملابس الطاهرة.

وممن اختاره الجواز في المسألة المذكورة شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة مستندا الى ما ذكرنا من الطهارة حال الحياة وان الموت غير منجس ، وأيده أيضا بأن المصنف وأكثر الأصحاب جوزوا الصلاة في جلد الخز وان كان غير مذكى مع كون لحمه غير مأكول فجوازها في جلد السمك أولى. إذا عرفت ذلك فاعلم ان المحقق الشيخ علي في شرحه على الألفية حكى عن المصنف في الذكرى انه نقل عن المعتبر دعوى إجماع الأصحاب على جواز الصلاة في جلد السمك وان كان ميتة وفي شرح القواعد نقل ذلك عن المعتبر بغير واسطة الذكرى ، وهو عجيب غريب حيث انه لا اثر لذلك في الكتابين قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في شرح الرسالة بعد نقل ذلك عنه ونسبته الى الوهم : ان المصنف لم ينقل ذلك عن المعتبر ولا هو موجود في المعتبر وانما الذي نقله عن المعتبر والموجود فيه الإجماع على جواز الصلاة في وبر الخز وان كانت ميتة لأنه طاهر في حال الحياة ولم ينجس بالموت ولكن عبارة الذكرى توهم كون البحث عن السمك وعند الاعتبار ومراجعة المعتبر ينجلي لك الحال واما جلد السمك فلم يذكراه في الكتابين. انتهى.

(الثانية) ـ قال في المدارك في هذا المقام : ولا فرق في الثوب بين كونه ساترا للعورة أم لا بل الظاهر تحريم استصحاب غير الملبوس ايضا لقوله (عليه‌السلام) (١) «لا تصل في شي‌ء منه ولا شسع».

أقول : في إطلاق الثوب على ما يؤخذ من الجلود تجوز وتسامح كما لا يخفى إذ

__________________

(١) ص ٥٠.

٥٧

الظاهر انه انما يطلق على ما يتخذ من القطن أو الكتان أو الإبريسم ونحوها لا الجلود وان قطعت كتقطيع الثياب. واما ما ذكره من تحريم استصحاب غير الملبوس فلا يخلو من اشكال لأن الظاهر من النهي عن الصلاة في شي‌ء انما هو باعتبار كونه لباسا تحقيقا للظرفية المستفادة من لفظة «في» لا مستصحبا ولا محمولا ، فالنهي عن الصلاة في الذهب وفي الحرير ونحوهما انما هو باعتبار اللبس لا باعتبار مجرد الاستصحاب والحمل.

(المقام الثاني) ـ في جلد ما لا يؤكل لحمه وان دبغ وصوفه وشعره ووبره وريشه ، ويحرم الصلاة فيه بالإجماع كما نقله جمع من الأصحاب عدا ما استثنى مما يأتي ذكره في المقام ان شاء الله تعالى.

والأصل في ذلك الأخبار المتكاثرة : منها ـ ما رواه في الكافي في الموثق عن ابن بكير (١) قال : «سأل زرارة أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر فاخرج كتابا زعم انه إملاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الصلاة في وبر كل شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتى تصلى في غيره مما أحل الله اكله ، ثم قال يا زرارة هذا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فاحفظ ذلك يا زرارة وان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح ، وان كان غير ذلك مما قد نهيت عن اكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شي‌ء منه فاسدة ذكاه الذبح أو لم يذكه».

وصحيحة إسماعيل بن سعد الأحوص (٢) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن الصلاة في جلود السباع فقال لا تصل فيها».

وموثقة سماعة (٣) قال : «سألته عن لحوم السباع وجلودها قال اما لحوم السباع من الطير والدواب فانا نكره واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئا تصلون فيه».

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من لباس المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٦ من لباس المصلي.

(٣) الوسائل الباب ٥ من لباس المصلى.

٥٨

وروى الصدوق في كتاب العلل عن محمد بن إسماعيل البرمكي رفعه الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه.».

وروى فيه ايضا عن الحسن بن علي الوشاء رفعه (٢) قال : «كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) يكره الصلاة في وبر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه».

ورواه الشيخ في التهذيب ايضا ورواية إبراهيم بن محمد الهمداني (٣) قال : «كتبت اليه يسقط على ثوبي الوبر والشعر مما لا يؤكل لحمه من غير تقية ولا ضرورة؟ فكتب لا تجوز الصلاة فيه».

ورواية علي بن أبي حمزة (٤) قال : «سألت أبا عبد الله وأبا الحسن (عليهما‌السلام) عن لباس الفراء والصلاة فيها فقال لا تصل فيها إلا فيما كان منه ذكيا. قال قلت أو ليس الذكي ما ذكي بالحديد؟ فقال بلى إذا كان مما يؤكل لحمه. قلت وما يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال لا بأس بالسنجاب فإنه دابة لا تأكل اللحم وليس هو مما نهى عنه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب».

وصحيحة ابي علي بن راشد (٥) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) ما تقول في الفراء أي شي‌ء يصلى فيه؟ فقال اي الفراء؟ قلت الفنك والسنجاب والسمور.

قال فصل في الفنك والسنجاب فاما السمور فلا تصل فيه. قلت فالثعالب يصلى فيها؟ قال لا ولكن تلبس بعد الصلاة. قلت أصلي في الثوب الذي يليه؟ قال لا».

ورواية مقاتل بن مقاتل (٦) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الصلاة في السمور والسنجاب والثعلب فقال لا خير في ذا كله ما خلا السنجاب فإنه دابة لا تأكل اللحم».

وفي كتاب الفقه الرضوي (٧) «لا بأس بالصلاة في شعر ووبر كل ما أكل لحمه والصوف منه ولا يجوز الصلاة في سنجاب وسمور وفنك فإذا أردت الصلاة فانزع عنك

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢ من لباس المصلي.

(٥ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ٣ من لباس المصلي.

(٧) ص ١٦.

٥٩

وقد اروى فيه رخصة ، وإياك ان تصلي في الثعالب ولا في ثوب تحته جلد ثعالب ، وصل في الخز إذا لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب. ولا تصل في جلد الميتة على كل حال». انتهى. الى غير ذلك من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى.

وتفصيل الكلام في هذا المقام يقع في مسائل

(الأولى) ـ ينبغي ان يعلم ان المستفاد من لفظة «في» الواقعة في هذه الأخبار ان المنع مختص بالملابس وما يتلطخ به اللباس من اللبن والبول والشعرات الملقاة على اللباس وسائر فضلات ما لا يؤكل لحمه ، وحينئذ فلا يدخل في ذلك المحمول فلو صلى الإنسان مستصحبا لعظم الفيل من مشط وغيره مما يحمل فلا بأس بالصلاة فيه ، وبما ذكرناه ايضا صرح المحدث المحسن الكاشاني في الوافي ، وكلمات الأصحاب في هذا المقام لا تخلو من الاختلاف والاضطراب كما تقدم في كتاب الطهارة وربما يأتي نحوه أيضا.

(المسألة الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب في جواز الصلاة في وبر الخز الخالص من مخالطة وبر الأرانب والثعالب ونحوهما مما لا تصح الصلاة فيه ، نقل الإجماع على ذلك جماعة : منهم ـ المحقق والعلامة وابن زهرة والشهيد وغيرهم ، انما الخلاف في جلده فالمشهور في كلام المتأخرين ان حكم الجلد حكم الوبر ، وذهب ابن إدريس إلى العدم ونفى عنه الخلاف وتبعه العلامة في المنتهى على ما نقله في الذخيرة.

ومما يدل على الوبر الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ ما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) رجل وانا عنده عن جلود الخز فقال ليس بها بأس. فقال الرجل جعلت فداك انها في بلادي وانما هي كلاب تخرج من الماء؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل لا فقال لا بأس». وهذا الخبر بالتأييد أنسب من الاستدلال إذ ليس فيه تصريح بالصلاة.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من لباس المصلى.

٦٠