الحدائق الناضرة - ج ٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

هو مواضعة بين اثنين أو جماعة والعرب تخص بها غالبا كلام العجم. أقول : لا يخفى ان ما ذكره من المعنى للرطانة معنى غريب لم يذكره أحد في ما اعلم وكأنه إنما تكلفه فرارا عما نقله أخيرا عن العرب والمنقول في كلام أهل اللغة انما هو ما نقله عن العرب ، قال في القاموس الرطانة ويكسر الكلام بالأعجمية ، ورطن له وراطنه كلمه بها ، وتراطنوا تكلموا بها. انتهى. وحينئذ ففي الخبر المذكور ما يشير إلى كراهة الدعاء بالأعجمية لأن المساجد مواضع الدعوات وطلب الحاجات فإذا كان الكلام فيها بالأعجمية مكروها تعين الكلام في ما يأتي به من الدعوات بالعربية. والله العالم.

(المقام الرابع) ـ في بقية الأحكام المتعلقة بالمساجد وفيه مسائل :

(الأولى) ـ المفهوم من كلام جملة من متأخري الأصحاب أنه لا بد في ثبوت المسجدية وترتب أحكامها من صيغة الوقف الشرعية ليحصل بها الانتقال عن ملك المالك ونحوه ويختص بالجهة الموقوف عليها.

ولم أر من تعرض لبسط الكلام في هذا المقام إلا شيخنا الشهيد في الذكرى حيث قال : الخامس عشر ـ انما تصير البقعة مسجدا بالوقف اما بصيغة «وقفت» وشبهها واما بقوله : «جعلته مسجدا» ويأذن بالصلاة فيه فإذا صلى فيه واحد تم الوقف ، ولو قبضه الحاكم أو اذن في قبضه فالأقرب انه كذلك لان له الولاية العامة ، ولو صلى فيه الواقف فالأقرب الاكتفاء بعد العقد ، ولو بناه بنية المسجد لم يصر مسجدا نعم لو اذن للناس بالصلاة فيه بنية المسجدية ثم صلوا أمكن صيرورته مسجدا لان معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة وقال الشيخ في المبسوط إذا بنى مسجدا خارج داره في ملكه فان نوى به ان يكون مسجدا يصلى فيه كل من أراد زال ملكه عنه وان لم ينو ذلك فملكه باق عليه سواء صلى فيه أو لم يصل. وظاهره الاكتفاء بالنية ، واولى منه إذا صلى فيه وليس في كلامه دلالة على التلفظ ولعله الأقرب. وقال ابن إدريس ان وقفه ونوى القربة وصلى فيه الناس ودخلوه زال ملكه عنه. انتهى كلام شيخنا المذكور.

أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في هذا المقام عن الأئمة الأطهار

٣٠١

(صلوات الله عليهم آناء الليل والنهار) ان ما ذكره الشيخ في المبسوط هو الأقرب الى ما دلت عليه والأنسب بما ندبت اليه ، وما ذكره غيره من اشتراط صيغة الوقف فلم أقف على خبر يشير اليه فضلا عن الدلالة عليه بل هي بالدلالة على خلافه أشبه.

فمن ذلك ما تقدم في صدر البحث من حسنتي ابي عبيدة الدالتين على جمعه الأحجار في الطريق بين المدينة ومكة ليبنى مسجدا ، ومنهما يظهر ان ما ذكره شيخنا المشار اليه من قوله : «ولو بناه بنية المسجد لم يصر مسجدا. إلخ» (١) فإن الإمامين (عليهما‌السلام) في هذين الخبرين قد اقرأ أبا عبيدة على حصول الثواب المذكور له بمجرد وضع هذه الأحجار لذلك وجعلها على هيئة المسجد والتحجير بها وقصده المسجدية

ومنها ـ ما رواه البرقي في كتاب المحاسن عن هاشم الحلال قال : «دخلت انا وأبو الصباح الكناني. الحديث». وقد تقدم أيضا في صدر البحث.

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ثمة أيضا في بناء مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث لم يتعرض لحكاية الوقف في أصل المسجد ولا في هذه الزيادات في كل مرة ، ولو كان ذلك شرطا في المسجدية لكان أولى بالحكاية والنقل من تلك الأمور المنقولة لما يترتب عليها من الأحكام بزعم أولئك الاعلام.

وقد ورد في بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها (٢) انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد وروده المدينة اشترى تلك الأرض أو أعطاه إياها بعض المسلمين فخط فيها بيوته وموضع مسجده.

وتقييد إطلاق هذه الاخبار بصيغة الوقف بمعنى انه لا يكون مسجدا إلا بقول «وقفت» ونحوه يحتاج الى دليل وليس فليس ، بل هو أبعد بعيد من ظواهر تلك الاخبار ويشير الى ما ذكرنا قوله (عليه‌السلام) في غير خبر من الاخبار المتقدمة «فإنها لغير

__________________

(١) هكذا العبارة في النسخ ولا يخفى نقصها.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٧٠ كانت ارض المسجد ليتيمين فابتاعها رسول الله «ص» بعشرة دنانير.

٣٠٢

هذا بنيت» ولم يقل «وقفت».

وكأنهم تمسكوا بأن الأصل بقاء الملك ما لم يحصل ناقل شرعي كالبيع والصدقة والوقف ونحوها ولم يثبت ان مجرد النية مع تصرف المسلمين موجب للخروج عن الملك. وهو اجتهاد في مقابلة النصوص واي مانع يمنع منه بعد دلالة الأخبار عليه كما عرفت؟ سيما مع تصريحهم بانتقال الملك في الهدايا والعطايا بالتصرف في العين وكذا في بيع المعاطاة مع عدم إدخالهم له في البيوع الناقلة.

ومما يعضد ما قدمناه من الاخبار الواضحة في ما ادعيناه الأخبار المتقدمة قريبا في حكم كراهة النوم في المساجد الدالة على تحديد إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) وخطهما للمسجد الحرام فإنها ظاهرة في انه بمجرد خطهما وتحجيرهما على هذا الموضع بقصد جعله مسجدا صار مسجدا ، ولو كان الوقف شرطا في ذلك لكان اولى بالتنبيه عليه والذكر لتوقف حصول المسجدية عليه وزوالها بدونه كما يدعونه.

وبالجملة فالأمر في هذا الباب أوسع مما ذكروه (رضوان الله عليهم) وظاهر شيخنا الشهيد الترجيح لما ذكره الشيخ من غير جزم به ولو تأمل ما ذكرناه من هذه الاخبار لم يتخالجه وصمة الشك في ذلك ولا الإنكار. والله العالم.

(المسألة الثانية) قد ورد في جملة من الأخبار استحباب اتخاذ الإنسان مسجدا في بيته ليصلي فيه ، وصرحت بأنه يجوز له تغييره وتبديله وانه ليس الحكم فيه كالمساجد العامة ، والظاهر ان الوجه فيه انه ليس إلا عبارة عن قطع جزء من البيت وأفراده للصلاة والخلوة فيه عن أهل البيت للتوجه والإقبال على العبادة وإطلاق المسجدية عليه تجوز.

والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه في الكافي عن حريز عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال «اتخذ مسجدا في بيتك. الحديث».

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٩ من أحكام المساجد.

٣٠٣

الحلبي (١) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن مسجد يكون في الدار فيبدو لأهله أن يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه عن مكانه؟ فقال لا بأس بذلك. الحديث».

وروى في الكافي عن ابي الجارود (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن المسجد يكون في البيت فيريد أهل البيت ان يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه الى غير مكانه؟ قال لا بأس بذلك. الحديث».

وعن عبد الله بن سنان في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المسجد يكون في الدار وفي البيت فيبدو لأهله أن يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه الى غير مكانه؟ قال لا بأس بهذا كله. الحديث».

وروى عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «كان علي (عليه‌السلام) قد اتخذ بيتا في داره ليس بالكبير ولا بالصغير وكان إذا أراد ان يصلي في آخر الليل أخذ معه صبيا لا يحتشم منه ثم يذهب الى ذلك البيت فيصلي».

وروى في المحاسن عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «كان علي (عليه‌السلام) قد جعل بيتا في داره ليس بالصغير ولا بالكبير لصلاته وكان إذا كان الليل ذهب معه بصبي لا يبيت معه فيصلي فيه».

قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) يدل على استحباب ان لا يكون في البيت وحده في الليل وان كان في الصلاة كما دل عليه غيره بل يكون معه أحد وان كان صبيا أو الطفل متعين إذا كان مصليا لبعده عن الرياء وعدم منافاته لكمال الخشوع والإقبال على العبادة لعدم الاحتشام منه ، ويؤيده قوله في رواية الطيالسي «أخذ صبيا لا يحتشم منه» قوله (عليه‌السلام) «لا يبيت معه» اى لم يكن في سائر الليل عنده لانه (عليه‌السلام) كان مع أزواجه وسراياه ولم يكن يناسب كونه نائما معهن. انتهى.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٠ من أحكام المساجد والحديث ٣ في التهذيب دون الكافي.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٦٩ من أحكام المساجد.

٣٠٤

وروى ابن إدريس في السرائر نقلا من جامع البزنطي عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل كان له مسجد في بعض بيوته أو داره هل يصلح له ان يجعله كنيفا؟ قال لا بأس». ورواه في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر مثله (٢).

وروى في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة (٣) قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) وسئل عن الدار والبيت يكون فيه مسجد فيبدو لأصحابه ان يتسعوا بطائفة منه ويبنوا مكانه ويهدموا البنية؟ قال لا بأس بذلك».

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : لو اتخذ في داره مسجدا له ولعياله ولم يتلفظ بالوقف ولا نواه جاز له تغييره وتوسيعه وتضييقه لما رواه أبو الجارود عن ابي جعفر (عليه‌السلام) ثم ذكر الرواية المتقدمة. قال في البحار بعد نقل ذلك : وقال الوالد (قدس‌سره) يمكن تخصيص العمومات بتلك الأخبار الصحيحة لكن الأحوط عدم التغيير مع الصيغة. انتهى. وقال العلامة في التذكرة : من كان له في داره مسجد قد جعله للصلاة جاز له تغييره وتبديله وتضييقه وتوسيعه حسبما يكون أصلح له لانه لم يجعله عاما وانما قصد اختصاصه بنفسه واهله ، ولرواية أبي الجارود وهل تلحقه أحكام المساجد من تحريم إدخال النجاسة اليه ومنع الجنب من استيطانه وغير ذلك؟ الأقرب المنع لنقص المعنى فيه. انتهى قال في البحار بعد نقله : وكلامه يشعر بالتردد مع الوقف كذلك ايضا كما احتمله الوالد (قدس‌سره) انتهى.

أقول : قد عرفت في المسألة السابقة انه لا دليل على اعتبار صيغة الوقف في المساجد العامة بل الأدلة ظاهرة في العدم وانما هذا أمر ذهبوا اليه بالتقريب المتقدم ذكره ثمة ، وهذه الاخبار الواردة في هذا المقام ليس فيها أزيد من الدلالة على اتخاذ موضع من داره للخلوة في الصلاة فيه وبذلك أطلق عليه لفظ المسجد ، والناس ظنوا من إطلاقهم (عليهم

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٠ من أحكام المساجد.

٣٠٥

السلام) لفظ المسجد عليه يومئذ انسحاب أحكام المساجد العامة إليه فكثر السؤال عن تغييره وتبديله وجعله حشا ونحو ذلك ، فأجابوا (عليهم‌السلام) بنفي البأس إيذانا بأنه ليس بمسجد حقيقة ولا يترتب عليه شي‌ء من أحكام المسجدية بالكلية وانما هو موضع اتخذ لذلك لقصد الفراغ والخلوة والتوجه للإقبال على العبادة ومتى أراد صاحبه تغييره غيره الى ما يريده ولا وجه لذكر الوقف هنا بالكلية ولو سلمنا اشتراطه في المساجد العامة لما عرفت من الغرض والسبب فيه ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) بتدقيق أنظارهم يتكلفون أشياء لا ضرورة لها ولا دليل عليها كما عرفت من تكلفهم اشتراط الوقفية في المساجد العامة. وبالجملة فإنه ليس الفرق بين هذا المكان المسمى مسجدا وبين المساجد العامة إلا باعتبار قصد بنائها لعامة الناس لأجل العبادة وتسبيلها لهم وقصد القربة في ذلك بخلاف هذه فإنه لا يعتبر فيها أزيد مما ذكرناه. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان من سبق الى مكان من المسجد أو المشهد فهو اولى به ما دام باقيا فيه ، فلو فارقه ولو لحاجة كتجديد طهارة وازالة نجاسة بطل حقه وان كان ناويا للعود إلا ان يكون رحله مثل شي‌ء من أمتعته ولو سبحة ونحوها باقيا فيه ، وقيده الشهيد (قدس‌سره) مع ذلك بنية العود وهو جيد فلو فارق لا بنيته سقط حقه وان كان رحله باقيا ، واحتمل الشهيد الثاني بقاء الحق حينئذ لإطلاق النص والفتوى ، ثم تردد على تقدير سقوط حقه في جواز رفع الرحل وعدمه وعلى تقدير الجواز في الضمان وعدمه ، ثم قال وعلى تقدير بقاء الحق لبقائه أو بقاء رحله فان أزعجه مزعج فلا شبهة في إثمه وهل يصير اولى بعد ذلك؟ يحتمله لسقوط حق الأول بالمفارقة وعدمه للنهي فلا يترتب عليه حق ، ويتفرع على ذلك صحة صلاة الثاني وعدمها. واشترط الشهيد في الذكرى في بقاء حقه مع بقاء الرحل ان لا يطول المكث ، وفي التذكرة استقرب بقاء الحق مع المفارقة لعذر كإجابة داع وتجديد وضوء وقضاء حاجة وان لم يكن له رحل قالوا ولو استبق اثنان دفعة الى مكان واحد ولم يمكن الجمع بينهما أقرع ،

٣٠٦

ومنهم من توقف في ذلك. وقال الشهيد الثاني لا فرق في ذلك بين المعتاد لبقعة معينة وغيره وان كان اعتياد درس وامامة ، ولا بين المفارق في أثناء الصلاة وغيره للعموم ، واستقرب في الدروس بقاء أولوية المفارق في أثنائها اضطرارا إلا ان يجد مكانا مساويا للأول أو أولى منه محتجا بأنها صلاة واحدة فلا يمنع من إتمامها. هذا ملخص ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الباب.

واما الأخبار المتعلقة بذلك فالذي وقفت عليه منها ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : قلت له نكون بمكة أو بالمدينة أو الحير أو المواضع التي يرجى فيها الفضل فربما خرج الرجل يتوضأ فيجي‌ء آخر فيصير مكانه؟ فقال من سبق الى موضع فهو أحق به يومه وليلته».

وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق الى مكان فهو أحق به الى الليل ، وكان لا يأخذ على بيوت السوق كراء».

وروى بعض أصحابنا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٣) «إذا قام أحدكم من محله في المسجد فهو أحق به الى الليل».

وظاهر الخبر الأول بقاء حقه في ذلك المكان مدة يوم وليلة. واحتمل بعض الأصحاب كون الواو هنا بمعنى «أو» كما هو شائع الاستعمال ايضا فيصير المعنى انه أحق بقية يومه ان كانت المفارقة في اليوم وبقية ليلته ان كانت المفارقة في الليل ويؤيده الخبر الثاني والثالث ، وكيف كان فظاهر الأخبار الثلاثة بقاء حقه في المدة المذكورة مطلقا سواء كان له رحل أم لا نوى المفارقة أم لا؟ وفيه رد على القول المشهور من حكمهم بزوال حقه بالمفارقة وان كان ناويا للعود إلا ان يكون له رحل. والظاهر تقييد الأخبار

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥٦ من أحكام المساجد.

(٣) في السراج المنير ج ١ ص ١٦٥ عن النبي «ص» «إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع اليه فهو أحق به» وفي رواية (من المسجد).

٣٠٧

المذكورة بعدم نية المفارقة وإلا فلو نوى المفارقة ولم يضع رحلا يعلم به ارادة الرجوع ففي منع الغير عنه اشكال وإلا لزم تعطيل المكان من المنتفعين بغير أمر موجب لذلك وهو بعيد ، ويشير الى ذلك السؤال في الخبر الأول وكون الخروج للوضوء ونحوه. وقطع المحقق بعدم بطلان حقه لو كان قيامه لضرورة كتجديد طهارة أو إزالة نجاسة أو ضرورة إلى التخلي وان لم يكن رحله باقيا. وهو قوى موافق لظاهر الأخبار المذكورة.

بقي الإشكال في ما هو الآن معمول بين الناس من وضع ثوب أو سجدة أو تسبيح في المسجد أو الروضة الشريفة ثم يمضي الى ان يأتي وقت الحاجة اليه ، والظاهر التفصيل في ذلك بأنه ان كان قد جلس في المكان وتصرف فيه بالجلوس والصلاة ونحوها فان حقه باق إلى المدة المعلومة بالتفصيل المتقدم وان كان لم يجلس وانما وضع هذه العلامة لقصد التحجير عن تصرف الغير فوجهان أحدهما كالأول والثاني العدم ، ومنشأ ذلك من الشك في لفظ السبق في الاخبار المتقدمة وان كان الأقرب الأظهر هو السبق بمعنى الجلوس والتصرف على الوجه المتقدم وانما يقوم ويخرج عنه لأجل الاعذار والأغراض المتقدمة ، وربما احتمل حصول ذلك بمجرد التحجير بوضع ثوب ونحوه. وكيف كان فمع وضع الرحل وان كان قد جلس وتصرف لو اتفق ذلك في المسجد وأقيمت الصلاة ولم يحضر فالظاهر جواز التصرف في محله عملا بالأخبار الدالة على النهي عن الخلل والفرج في الصفوف واستحباب المسارعة إلى سدها فيقيد بها إطلاق هذه الاخبار لكونها أقوى دلالة وأصرح مقالة في الحكم المذكور. وكذا لو وضع ثوبا ونحوه في المشاهد المشرفة وغاب ينبغي التفصيل بما قلناه من التصرف بالجلوس وعدمه ولزوم تعطيل الزوار والمصلين وعدمه. والله العالم.

(المسألة الرابعة) ـ المشهور في كلام الأصحاب جواز الوقف على المساجد لأنه في الحقيقة وقف على المسلمين حيث انه يرجع الى مصالحهم كالوقف على القناطر ونحوها

روى الشيخ في التهذيب والصدوق في كتاب العلل وكذا في كتاب الوقف من

٣٠٨

كتاب من لا يحضره الفقيه عن ابي الصحاري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت رجل اشترى دارا فبقيت عرصة فبناها بيت غلة أيوقفه على المسجد؟ قال ان المجوس أوقفوا على بيت النار».

والظاهر ان المعنى ان المجوس وقفوا على بيت النار فأنتم اولى بذلك على مساجدكم. وربما احتمل على بعد المنع بمعنى ان هذا من فعل المجوس فليس لكم الاقتداء بهم والمتابعة لهم. ولعله على هذا الاحتمال بنى الصدوق في كتاب الصلاة من كتاب من لا يحضره الفقيه فنقل الخبر بهذه الكيفية «وسئل عن الوقوف على المساجد فقال لا يجوز فان المجوس وقفوا على بيوت النار» (٢). وهذا أحد المفاسد في نقل الخبر بالمعنى واحتمال كون ما نقله خبرا مستقلا بعيد جدا بقرينة ما ذكرناه من ان الذي رواه هو في كتاب الوقف وكتاب العلل وغيره كالشيخ في التهذيب انما هو الخبر الذي ذكرناه. إلا ان صاحب الوسائل ادعى ان بعض نسخ العلل تضمنت «لا» بعد قوله : «أيوقفه على المسجد» قال «لا ان المجوس. إلخ» ولعله على ذلك بنى الصدوق في ما نقله من قوله «لا يجوز» وكيف كان فيمكن حمل النهي عن الوقف مع ثبوت ما ذكر من النهي على ان يكون الوقف بقصد تملك المسجد وهو ليس أهلا للملك بل لا بد من تقييد ذلك بمصالح المسلمين ليكون الوقف عليهم بل لو أطلق فإنه ينصرف إليها.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : يستحب الوقف على المساجد وهو من أعظم المثوبات لتوقف بقاء عمارتها غالبا عليه التي هي من أعظم مراد الشارع ، ثم ذكر رواية الفقيه في كتاب الصلاة المتضمنة لقوله «لا يجوز» وقال : وأجاب بعض الأصحاب بأن الرواية مرسلة وبإمكان الحمل على ما هو محرم منها كالزخرفة والتصوير. انتهى.

نعم ذكر المحدث الكاشاني في الوافي ـ بعد نقله رواية الفقيه المذكورة وكذا الرواية الأخرى التي ذكرناها ـ ما صورته : المستفاد من الخبرين تعليل المنع بالتشبه

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٦٦ من أحكام المساجد.

٣٠٩

بالمجوس ولعل الأصل فيه خفة مؤنة المساجد وعدم افتقارها الى الوقف إذا بنيت كما ينبغي وانما افتقرت اليه للتعدي عن حدها. انتهى. وظاهره متابعة الصدوق في ما نقله من الرواية وحمل الرواية الأخرى عليه بتقريب المعنى الثاني الذي أشرنا اليه ، وحينئذ فظاهر كلاميهما تحريم الوقف على المساجد فيصير مخالفا لما عليه الأصحاب في هذه المسألة.

وكيف كان فإن المسألة عندي لا تخلو من شوب الإشكال لإجمال الخبر المذكور وقرب قبوله للاحتمال بالتقريب الذي ذكره المحدث المشار اليه ولما ذكره الأصحاب من الأدلة العامة في المقام. والله العالم.

(المسألة الخامسة) قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز نقض ما استهدم بفتح التاء والدال أي أشرف على الانهدام ، قالوا ولا ريب في جوازه بل قد يجب إذا خيف انهدامه على أحد من المترددين ويستحب إعادته وتجديده. قيل ويجوز النقض أيضا للتوسعة إذا احتيج إليها لأنه إحسان محض و «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (١).

أقول : الظاهر ان ما ذكروه لا اشكال فيه اما الأول فلما ندب اليه من بناء المساجد وتعميرها. واما الثاني فلما تقدم في صحيحة عبد الله بن سنان أو حسنته الواردة في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتوسعته مرتين (٢).

وقال الشهيد في الذكرى : ولو أريد توسعة المسجد ففي جواز النقض وجهان من عموم المنع ، ومن ان فيه احداث مسجد ، ولاستقرار قول الصحابة على توسعة مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد إنكارهم ولم يبلغنا إنكار علي (عليه‌السلام) وقد أوسع السلف المسجد الحرام ولم يبلغنا إنكار علماء ذلك العصر. انتهى.

أقول : الأظهر هو الاستناد في الحكم المذكور إلى رواية عبد الله بن سنان المذكورة فإنها ظاهرة في الجواز (٣).

واما ما ذكره بالنسبة إلى مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ وتوسعته بعد

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٩٠.

(٢ و ٣) ص ٢٦٦.

٣١٠

موته واستقرار قول الصحابة على ذلك وان عليا (عليه‌السلام) لم ينكره ـ ففيه أنه غفلة منه عما ورد عنه (عليه‌السلام) في إنكار ذلك إلا انه انما أنكر من حيث غصب البيوت التي أدخلت في المسجد ، ومن ذلك ما رواه في الكافي عن سليم بن قيس في خطبة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (١) قال «خطب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ثم ساق كلامه الى ان قال فيه : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ولو حملت الناس على تركها وحولتها الى موضعها والى ما كانت في عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي ، ثم عد جملة من ذلك وقال : ورددت دار جعفر الى ورثته وهدمتها من المسجد. الى ان قال : ورددت مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى ما كان عليه. الحديث». وهو أظهر ظاهر في إنكار ذلك وان الزيادة التي أحدثوها كانت غصبا كما ذكرنا ، والظاهر انه لو كانت الزيادة من الأراضي المباحة فلا اشكال. وقد ورد في تحديد مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما رواه في الفقيه عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «انه سأله كم كان طول مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ قال كان ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مكسرا». والمعنى انه كان كل من طوله وعرضه ستين ذراعا فإنه إذا ضرب ذلك حصل منه العدد المذكور في الخبر ، وهل الزائد على هذا المقدار يثبت له حكم المسجدية في الجملة وان لم يكن في حكم مسجده (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ لا يبعد ذلك إذا لم يكن مغصوبا.

واما بالنسبة الى المسجد الحرام فقد تقدم في حسنة زرارة (٣) نوم الباقر (عليه‌السلام) في المسجد الحرام وقوله له لما سأله عن النوم ثمة : «إنما يكره ان ينام في المسجد الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». فإنه يؤذن بعدم ثبوت المسجدية في هذه الزيادة وعدم ترتب أحكام المسجدية عليها ، إلا انك قد عرفت ما في ذلك من

__________________

(١) روضة الكافي ص ٥٩ طبع سنة ١٣٧٧.

(٢) الوسائل الباب ٥٨ من أحكام المساجد.

(٣) ص ٢٩٣.

٣١١

الاشكال بالأخبار التي أوردناها دالة على انها من المسجد القديم الذي خطه إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) ويمكن ان يقال مع الإغماض عن الاشكال المذكور ان المسجد الحرام الذي يثبت له الاحترام زيادة على غيره يقتصر فيه على ما رسمه المعصوم ولا يجوز الزيادة فيه بخلاف غيره من المساجد التي وضعت لصلاة الناس فيها ويمكن اجراء هذا الكلام أيضا في مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لاختصاصه بمزيد شرف على سائر المساجد كما سيأتي ان شاء الله تعالى في فضل الصلاة فيه زيادة على غيره فيمكن الحكم بتحريم الزيادة فيه وان لم يكن غصبا كما أشرنا إليه آنفا وحينئذ فيبقى هذا الحكم مختصا بغير المسجدين المذكورين.

واما الاحتجاج بعدم إنكار علماء ذلك العصر فهو أوهن من بيت العنكبوت وانه لا وهن البيوت ، لان البدع الصادرة عن خلفاء الجور الذين هم أئمة الحق عندهم جائزة بل واجبة الاتباع فكيف ينكرها علماؤهم ، الا ترى إلى اعذار علمائهم عن بدع الثلاثة المتقدمين بنحو ما قلناه من ان الخليفة له ان يعمل بما يراه الأصلح والاولى في جميع الأمور. وبالجملة فالأمر أظهر من ان ينكر ومن أحب تحقيق ذلك فليرجع الى كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد.

ثم انه صرح في الذكرى على تقدير جواز النقض بأنه لا ينقض إلا بعد الظن الغالب بوجود العمارة ، ولو أخر النقض إلى إتمامها كان أولى إلا مع الاحتياج الى الآلات واستحسنه جملة ممن تأخر عنه ولا بأس به.

ثم انه قد صرح الشهيدان (قدس‌سرهما) بأنه يجوز احداث باب زائد لمصلحة عامة كازدحام المسلمين في الخروج والدخول فيوسع عليهم : ولو كان لمصلحة خاصة كقرب المسافة على بعض المصلين احتمل جوازه ايضا لما فيه من الإعانة على القربة وفعل الخير. وكذا يجوز فتح شباك وروزنة للمصلحة العامة وفي جوازه للمصلحة الخاصة الوجهان

بقي الكلام في انه قد اشتهر في هذه الأعصار جواز حفر بئر في المسجد لأجل

٣١٢

وضوء المصلين ، وفيه عندي إشكال إلا ان تتقدم البئر على المسجدية فلا اشكال. ووجه ما ذكرناه من الاشكال سيما على قاعدة الأصحاب من اشتراط الوقفية ظاهر حيث ان ذلك مناف للوقف و «الوقوف على ما وقفت عليه» (١). ومع قطع النظر عن ذلك فظواهر الأخبار الدالة على ان المساجد انما بنيت للعبادة وتلاوة القرآن والدعاء ونحو ذلك وقولهم (عليهم‌السلام) «انها لغير هذا بنيت» (٢). وتوهم تعليل الجواز ـ بانقطاع أكثر المصلين لو لم يجز ذلك كما ذكره بعض ـ عليل لأن السنة الماضية في القرون الخالية انما هو الوضوء في البيوت وحضور المساجد سيما في الصدر الأول بمكة والمدينة لقلة المياه بهما يومئذ ولا يقاس هذا على ما تقدم من فتح باب وروزنة فإن ذلك معلوم المصلحة وخال من المفسدة بخلاف هذا فإن المفسدة فيه بتحجير المكان الذي فيه البئر عن الصلاة فيه ومنع الناس عن ذلك الموضع ظاهر. ولا يبعد بناء على ما قلنا بطلان الصلاة بالوضوء من تلك البئر أيضا لأنه متى ثبت كون ذلك على خلاف الوجه الشرعي كان من قبيل المغصوب فجميع التصرفات المترتبة على ذلك من قبيل التصرف في المغصوب إذ متى زالت الإباحة بالمعنى الأعم فليس إلا الغصب والاحتياط ظاهر. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ قد ذكر جمع من الأصحاب انه يجوز استعمال آلاته في غيره من المساجد ، وقيد ذلك بعضهم بما إذا كانت تلك الآلة فاضلة عن ذلك المسجد ومستغنى عنها فيه أو تعذر استعمالها فيه لاستيلاء الخراب عليه أو كون الآخر أحوج إليها منه لكثرة المصلين ونحو ذلك ، لان المالك واحد وهو الله سبحانه صرح بذلك الشهيدان ، وزاد شيخنا الشهيد الثاني فقال : واولى بالجواز صرف وقفه ونذره على غيره بالشروط وليس كذلك المشهد فلا يجوز صرف ماله الى مشهد آخر ولا مسجد ولا صرف مال المسجد اليه مطلقا. انتهى. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وللنظر في هذا الحكم من أصله مجال والمتجه عدم جواز صرف مال المسجد الى غيره مطلقا كالمشهد لتعلق النذر أو الوقف

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من الوقوف والصدقات.

(٢) ص ٢٨٧.

٣١٣

بذلك المحل المعين فيجب الاقتصار عليه. نعم لو تعذر صرفه فيه أو علم استغناؤه عنه في الحال والمآل أمكن القول بجواز صرفه في غيره من المساجد والمشاهد بل لا يبعد صرفه في مطلق القرب لان ذلك اولى من بقائه الى ان يعرض له التلف فيكون صرفه في هذا الوجه إحسانا و «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (١) انتهى.

أقول : لم أقف في هذا المقام على شي‌ء من الاخبار الظاهرة في تنقيح الكلام وقطع مادة النقض والإبرام سوى أخبار الإهداء والنذر والوصية إلى الكعبة الشريفة وسيجي‌ء الكلام فيها ان شاء الله تعالى في كتاب الحج :

ومنها ـ رواية ياسين الضرير (٢) «في رجل اوصى بألف درهم للكعبة فسأل أبا جعفر (عليه‌السلام) فقال ان الكعبة غنية عن هذا انظر الى من أم هذا البيت فقطع به أو ذهبت نفقته أو ضلت راحلته أو عجز ان يرجع الى أهله فادفعها إلى هؤلاء.».

وبمضمونه أخبار عديدة يأتي ذكرها ان شاء الله تعالى في الموضع المشار اليه ، والظاهر ان الحكم في المشاهد والكعبة واحد.

ومقتضى الأخبار المذكورة ان الواجب صرفه في تعمير المشهد والكعبة إذا احتيج الى ذلك وإلا فإنه يصرف في معونة الحجاج والزوار لذلك المشهد ، وبذلك صرح السيد المشار إليه في كتاب النذر من شرح النافع فقال : ولو نذر شي‌ء لأحد المشاهد المشرفة صرف فيه على حسب ما قصده الناذر ومع الإطلاق يصرف في مصالح المشهد ، ولو استغنى المشهد عنه في الحال والمآل فالظاهر صرفه في معونة الزوار لان ذلك اولى من بقائه على حاله معرضا للتلف فيكون صرفه على هذا الوجه إحسانا و «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (٣) انتهى. وبذلك ايضا صرح جده (قدس‌سره) في كتاب النذر من المسالك. ومن ذلك يظهر ما في قوله هنا «انه مع تعذر صرفه في ذلك المشهد يجوز

__________________

(١ و ٣) سورة التوبة ، الآية ٩٢.

(٢) الوسائل الباب ٢٢ من مقدمات الطواف.

٣١٤

صرفه في غيره من المساجد والمشاهد بل لا يبعد صرفه في مطلق القرب» فإنه بعيد كما عرفت والأقرب الى ما دلت عليه الاخبار المشار إليها هو ما ذكرناه وما ذكره في شرح النافع هذا بالنسبة إلى المشاهد المشرفة.

واما بالنسبة إلى المساجد لو حصل الاستغناء عمالها من الأوقاف والآلات ونحوها وما ذكروه (رضوان الله عليهم) في المقام فهو عندي محل اشكال لعدم الدليل الواضح والاستناد إلى إطلاق الآية المذكورة يتوقف على ثبوت كون ذلك إحسانا وهو محل البحث. وكان بعض مشايخنا المعاصرين في بلاد البحرين يعمدون في ما فضل من أموال المسجد عن تعميره الى التنمية وشراء العقارات بها وصرف حواصلها في مصالح المسجد من الحصر والتعمير ونحو ذلك. والله سبحانه اعلم.

تذنيب

في فضل المساجد وفضل الصلاة فيها وبيان اختلافها في الفضل :

ففي الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) في حديث «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال الصلاة في مسجدي كألف في غيره إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي».

وعن معاوية بن وهب في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام فهو أفضل». وبهذا المضمون أخبار عديدة.

وروى الكليني والصدوق عن خالد بن زياد القلانسي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «مكة حرم الله وحرم رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحرم علي بن

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥٧ من أحكام المساجد.

(٣) الوسائل الباب ٤٤ من أحكام المساجد. وفي الفقيه «ابن ماد» وهو نفس «ابن زياد».

٣١٥

ابي طالب (عليه‌السلام) الصلاة فيها بمائة ألف صلاة والدرهم فيها بمائة ألف درهم ، والمدينة حرم الله وحرم رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحرم علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) الصلاة فيها بعشرة آلاف صلاة والدرهم فيها بعشرة آلاف درهم ، والكوفة حرم الله وحرم رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحرم علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) الصلاة فيها بألف صلاة. وسكت عن الدرهم (١)».

وعن أبي حمزة الثمالي عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «من صلى في المسجد الحرام صلاة مكتوبة قبل الله منه كل صلاة صلاها منذ يوم وجبت عليه الصلاة وكل صلاة يصليها الى ان يموت».

وعن الحسين بن خالد عن ابي الحسن الرضا عن آبائه (عليهم‌السلام) (٣) قال «قال محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره من المساجد».

وعن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قال لي يا هارون بن خارجة كم بينك وبين مسجد الكوفة يكون ميلا؟ قلت لا. قال أفتصلي فيه الصلوات كلها؟ قلت لا. قال اما لو كنت بحضرته لرجوت ان لا تفوتني فيه صلاة ، أو تدري ما فضل ذلك الموضع؟ ما من عبد صالح ولا نبي إلا وقد صلى في مسجد كوفان حتى ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما اسرى الله به قال له جبرئيل أتدري أين أنت يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الساعة؟ أنت مقابل مسجد كوفان قال فاستأذن لي ربي عزوجل حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين فاستأذن الله عزوجل فاذن له ، وان ميمنته لروضة من رياض الجنة وان وسطه لروضة من رياض الجنة وان مؤخره لروضة من رياض الجنة ، وان الصلاة المكتوبة فيه لتعدل ألف صلاة وان النافلة فيه

__________________

(١) هذا في الفقيه دون الكافي.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٥٢ من أحكام المساجد.

(٤) الوسائل الباب ٤٤ من أحكام المساجد.

٣١٦

لتعدل خمسمائة صلاة وان الجلوس فيه بغير تلاوة ولا ذكر لعبادة ، ولو علم الناس ما فيه لأتوه ولو حبوا».

وفي الفقيه عن ابي بصير (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول نعم المسجد مسجد الكوفة صلى فيه ألف نبي وألف وصي ومنه فار التنور وفيه نجرت السفينة ميمنته رضوان الله ووسطه روضة من رياض الجنة وميسرته مكر يعني منازل الشيطان».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) حد مسجد الكوفة آخر السراجين خطه آدم (عليه‌السلام) وانا أكره ان ادخله راكبا قيل له فمن غيره عن خطته قال اما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح (عليه‌السلام) ثم غيره أصحاب كسرى والنعمان ثم غيره زياد بن ابي سفيان».

وروى في الفقيه مرسلا (٣) قال : «قال علي (عليه‌السلام) صلاة في بيت المقدس تعدل ألف صلاة وصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة وصلاة في مسجد القبيلة تعدل خمسا وعشرين صلاة وصلاة في مسجد السوق تعدل اثنتي عشرة صلاة وصلاة الرجل في بيته صلاة واحدة».

أقول : في هذه الاخبار فوائد لطيفة ونكات شريفة يحسن التنبيه عليها في المقام بما تشتاقه الطباع وتلذه الافهام :

(الاولى) ـ ما تضمنه حديث القلانسي من قوله (عليه‌السلام) «مكة حرم الله وحرم رسوله. إلخ» لعل الوجه فيه ان كون مكة حرم الله عزوجل أي محترمة ومعظمة لأجله فلأنها مقر بيته الحرام الذي أوجب السعي اليه على من استطاع اليه الوصول من الأنام وأوجب تعظيمه وشرفه على سائر بقاع الإسلام ، واما كونه حرم الرسول وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما) فاما باعتبار كونها بلدهما الأصلية ومنشأهما ووطنهما أو

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤٤ من أحكام المساجد.

(٣) الوسائل الباب ٦٤ من أحكام المساجد.

٣١٧

باعتبار ان ما كان لله عزوجل فهو ثابت لهما بطريق النيابة فكل ما نسب اليه تعالى فهو ينسب إليهما وكل شي‌ء ينسب إليهما ينسب اليه عزوجل لاتحاده بهما ومزيد قربهما منه كما قرن نفسه عزوجل بهما في جملة من الآيات القرآنية نحو قوله تعالى «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا . الآية» (١) المفسر ذلك في الاخبار بأمير المؤمنين (عليه‌السلام) وقوله عزوجل «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (٢) إشارة الى ما ذكرناه.

واما كون المدينة حرم الله عزوجل فمن حيث سكنى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيها واتخاذه لها دار هجرة فعظمها لأجله وأوجب احترامها حتى بعدم قطع الشجر منها كما سيأتي في كتاب الحج ان شاء الله تعالى. واما كونها حرم الرسول وعلي (عليهما الصلاة والسلام) فلأنها منشأهما ومقرهما بعد الهجرة ومدفن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حقيقة ومدفن علي (عليه‌السلام) تبعا حيث انه نفس الرسول ويؤيده ما نقله بعض مشايخنا من ورود بعض الاخبار بان الله عزوجل نقله إليها ، ولهذا يستحب زيارة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عند الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واما الكوفة فبالتقريب المتقدم في المدينة.

واما ان الصلاة في البلدان الثلاث بما ذكر في الخبر فالظاهر ان إطلاق البلد في المواضع الثلاثة مجاز عن المساجد الثلاثة ليوافق جملة الأخبار الواردة في الباب وان اختلفت زيادة ونقصانا إذ موردها انما هو المساجد.

ويعضد ذلك ئما رواه الشيخ عن عمار بن موسى في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الصلاة في المدينة هل هي مثل الصلاة في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ قال لا ، ان الصلاة في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦٢.

(٣) الوسائل الباب ٥٧ من أحكام المساجد.

٣١٨

ألف صلاة والصلاة في المدينة مثل الصلاة في سائر البلدان».

واما ثواب التصدق فيمكن إبقاؤه على عمومه لعدم المعارض. واما السكوت عن الدرهم في الكوفة فهو مشعر بأنها كغيرها من البلدان إلا انه روى ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات بسنده عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «نفقة درهم بالكوفة تحسب بمائة درهم في ما سواها وركعتان فيها تحسب بمائة ركعة».

(الثانية) ـ لا يخفى ان الاخبار مما نقلناه هنا وما لم ننقله قد اختلفت في ثواب الصلاة في كل من هذه المساجد زيادة ونقصانا والظاهر عندي في الجمع بينها هو ان ذلك باعتبار اختلاف أحوال المصلين في صلاتهم وإقبالهم على الصلاة وقربهم منه تعالى وعدم ذلك بمعنى ان جميع الصلوات مشتركة من حيث هذا المكان وفضله في الطرف الأقل من الثواب الوارد في هذا المكان وهذه الزيادات إنما نشأت من أمور زائدة في تلك الصلوات كما ذكرنا ، وعليه يحمل ايضا ما ورد في ثواب الحج وزيارة الأئمة (عليهم‌السلام) ولا سيما زيارة الحسين (عليه‌السلام) من تفاوت الثواب قلة وكثرة والجميع محمول على تفاوت أحوال المكلفين في ما يأتون به. وما تكلفه جملة من الأصحاب في هذا المقام فالظاهر بعده وعدم الحاجة إليه.

نعم روى الشيخ في التهذيب في الحسن عن الوشاء عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الصلاة في المسجد الحرام والصلاة في مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الفضل سواء؟ فقال نعم والصلاة في ما بينهما تعدل ألف صلاة». فإنه ظاهر في مساواة مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للمسجد الحرام في الفضل مع ان الاخبار مما قدمناه وتركناه متكاثرة بزيادة المسجد الحرام وان الصلاة فيه كألف صلاة في مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٤ من أحكام المساجد.

(٢) الوسائل الباب ٦٣ من أحكام المساجد.

٣١٩

ويمكن الجواب برجوع المساواة إلى أصل الفضيلة بمعنى ان لهما الفضل على غيرهما من المساجد وان تفاوتا بالزيادة في أحدهما والنقيصة في الآخر ويكون قوله : «والصلاة في ما بينهما. إلخ» إشارة الى ذلك بمعنى انهما متساويان في أصل الفضل وان حصل التفاوت بينهما في ان الصلاة الواحدة في أحدهما بألف في الآخر وهو وان كان مجملا بالنسبة الى صاحب الفضيلة منهما إلا انه باعتبار ما ظهر في غير هذا الخبر من الأخبار الكثيرة الدالة على ان الفضل في جانب المسجد الحرام ويحمل عليه هذا الإجمال فلا إشكال.

(الثالثة) ـ ما تضمنه حديث الثمالي ـ من ان كل من صلى في المسجد الحرام صلاة مكتوبة قبل الله منه كل صلاة. إلخ ـ يحتمل حمله على عمومه من قبول كل صلاة صلاها أو يصليها الى يوم موته وان كانت باطلة وليس ببعيد من فضله سبحانه وكرمه ، واما ما لم يصلها بالكلية فلا تدخل في عموم الخبر. ويحتمل التخصيص بما إذا كانت صحيحة مجزئة لكنها غير مقبولة من حيث عدم الإقبال عليها كلا أو بعضا أو نحو ذلك من شروط القبول. ويحتمل ايضا انه لما كان الله عزوجل قد جعل صلاة المكتوبة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة كما في خبر القلانسي وغيره فمن الظاهر ان هذا العدد يأتي على صلاة الإنسان من أول عمره الى آخره غالبا فكل صلاة وقع الخلل فيها من صلواته يقوم مقامها ويسدها بعض هذه الأفراد المضاعفة فيكون مستلزما لقبول ما وقع الخلل فيه من صلواته بل ما تركه ايضا ، ورحمته سبحانه وفضله جل شأنه أوسع من ذلك وهو وجه لطيف عرض لي حال التصنيف.

(الرابعة) ـ ما تضمنه خبر هارون بن خارجة وخبر ابي بصير وما اشتملا عليه قد ورد مثله في عدة اخبار مثل ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن الحذاء عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «مسجد كوفان روضة من رياض الجنة صلى فيه ألف نبي وسبعون نبيا وميمنته رحمة وميسرته مكر ، فيه عصا موسى وشجرة يقطين

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٤ من أحكام المساجد.

٣٢٠