الحدائق الناضرة - ج ٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

الأصوليين مستحبا ، فما ذهب اليه الشيخان المذكوران هو الحق في المسألة وكلام هذا الفاضل عليهما لا معنى له ، وتمسكه بإطلاق الأمر بالصلاة مجازفة إذ قد علم من الشرع ضرورة ان هذا الإطلاق قد قيدته النصوص بالشروط الواجبة على جميع المكلفين بلا خلاف من وجوب الستر وطهارته وطهارة المصلى من الحدث والقبلة والوقت ونحوها فلا بد في صحة الصلاة من اي مكلف كان من الإتيان بهذه الشروط ، والخنثى المشكل من جملة المكلفين البتة فيجب عليها ستر العورة لكن حصل الشك في إلحاقها في ذلك بالرجل أو المرأة حيث لا نص عليها بالخصوص وعدم دخولها تحت شي‌ء من العنوانين المذكورين فالواجب الأخذ بالاحتياط.

(الخامسة) ـ إذا أعتقت الأمة في أثناء الصلاة وهي مكشوفة الرأس وعلمت بذلك قال الشيخ (قدس‌سره). ان قدرت على ثوب تغطي رأسها وجب عليها أخذه وتغطية الرأس ، وان لم يتم لها ذلك إلا بان تمشي خطى قليلة من غير ان تستدبر القبلة كان مثل ذلك ، وان كان بالعبد منها وخافت فوات الصلاة أو احتاجت الى استدبار القبلة صلت كما هي وليس عليها شي‌ء ولا تبطل صلاتها. انتهى. ومرجعه الى ان الواجب عليها الستر إلا ان يستلزم تحصيله فعلا كثيرا أو يستلزم استدبارا فتقطع الصلاة مع سعة الوقت وتمضي مع عدمها. والى هذا القول مال العلامة في المنتهى فقال : وما ذكره في المبسوط هو الأقرب عندي. وقال الشهيد في الذكرى : ولو أعتقت الأمة في الأثناء وجب عليها الستر فان افتقرت الى فعل كثير استأنفت مع سعة الوقت وأتمت لا معه لتعذر الشرط حينئذ فتصلي بحسب المكنة. وهو راجع الى ما اختاره في المبسوط.

وقال الشيخ في الخلاف تستمر المعتقة على صلاتها وأطلق لأن دخولها كان مشروعا والصلاة على ما افتتحت عليه. قال في الذخيرة بعد نقل هذا القول تبعا لصاحب المدارك : وهو ظاهر المحقق في المعتبر ولا يخلو من قوة لأن القدر الثابت وجوب الستر إذا توجه التكليف بذلك قبل الدخول في الصلاة والمسألة محل تردد. انتهى.

٢١

أقول : اما ما ذكره من انه ظاهر المعتبر فليس كذلك بل ظاهره انما هو ما ذكره الشيخ في المبسوط حيث قال : لو أعتقت في الصلاة وأمكنها الستر من غير إبطال وجب وان خشيت فوت الصلاة واحتاجت الى فعل كثير استمرت. واما ما عللا به قوة القول المذكور عندهما فهو مردود بان اشتراط الصلاة بهذه الشروط من طهارة الساتر والقبلة ونحوهما دائر مدار الإمكان كائنا ما كان قبل الصلاة أو في أثنائها ، ألا ترى انه لو ظهرت له القبلة بعد الاشتباه في أثناء الصلاة وجب الاستدارة إليها في بعض الصور المتقدمة وما ذاك إلا من حيث الإمكان وعدمه. وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره في المبسوط وهو القول المشهور الذي صرح به في المعتبر والذكرى كما عرفت.

ونقل في الذخيرة أيضا قولا بأنه يجب عليها ستر رأسها وان افتقرت الى فعل كثير استأنفت. واعترضه بان الصحيح ان الاستيناف انما يثبت إذا أدركت بعد القطع ركعة في الوقت وإلا وجب الاستمرار لان وجوب الستر مشروط بالقدرة عليه. ولم أقف على هذا القول في كلامهم سوى عبارة الشرائع حيث ذكر ذلك واعترضه في المدارك بما ذكره هنا ، بل ظاهر كلامهم ان الاستيناف انما هو مع سعة الوقت بان تدرك منه ولو ركعة وإلا استمرت كما عرفت مما قدمنا من عباراتهم في ما عدا الخلاف ، وقال في الدروس : ولو أعتقت في الأثناء وعلمت استترت فان استلزم المنافي بطلت مع سعة الوقت. ونحوه عبارته في البيان ايضا. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ قد عرفت مما تقدم ان الواجب على الرجل ستر العورتين : القبل والدبر ، وعلى المرأة ستر جميع بدنها ، وقد ذكر الأصحاب انه يستحب للرجل ستر جميع بدنه ويجزئه ان يصلي في ثوب واحد ، ويستحب للمرأة ان تصلي في ثلاثة أثواب : درع وخمار وملحفة.

أقول : اما ما يتعلق بالمرأة من الاخبار الدالة على الثياب التي ينبغي ان تصلي فيها فقد تقدم نقله ويأتي هنا جملة منها ايضا ان شاء الله تعالى.

٢٢

واما بالنسبة الى الرجل فمن الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل يصلي في قميص واحد أو في قباء طاق أو في قباء محشو وليس عليه إزار؟ فقال إذا كان عليه قميص صفيق أو قباء ليس بطويل الفرج فلا بأس ، والثوب الواحد يتوشح به وسراويل كل ذلك لا بأس به. وقال إذا لبس السراويل فليجعل على عاتقه شيئا ولو حبلا».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن زياد بن سوقة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا بأس ان يصلي أحدكم في الثوب الواحد وأزراره محلولة ان دين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حنيف».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسن بن علي بن فضال عن رجل (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ان الناس يقولون ان الرجل إذا صلى وأزراره محلولة ويداه داخلة في القميص انما يصلي عريانا؟ قال لا بأس».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «ان آخر صلاة صلاها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالناس في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه ألا أريك الثوب قلت بلى. قال فاخرج ملحفة فذرعتها فكانت سبعة أذرع في ثمانية أشبار».

وما رواه في التهذيب عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٥) قال : «لا يصلي الرجل محلول الأزرار إذا لم يكن عليه إزار».

وعن إبراهيم الأحمري (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يصلي وأزراره محللة؟ قال لا ينبغي ذلك».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم (٧) قال : «رأيت أبا جعفر

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٢٢ من لباس المصلي.

(٢ و ٣ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٢٣ من لباس المصلي.

(٧) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ و ٢٨ و ٢٩ من لباس المصلى.

٢٣

(عليه‌السلام) يصلى في إزار واحد ليس بواسع قد عقده على عنقه فقلت له ما ترى للرجل يصلي في قميص واحد؟ فقال إذا كان كثيفا فلا بأس به ، والمرأة تصلي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفا يعني إذا كان ستيرا. قلت رحمك الله الأمة تغطي رأسها إذا صلت؟ فقال ليس على الأمة قناع».

وروى في الفقيه عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «المرأة تصلي في الدرع والمقنعة إذا كان كثيفا يعني ستيرا».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن جميل بن دراج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المرأة تصلي في درع وخمار؟ فقال تكون عليها ملحفة تضمها عليها».

وروى في الفقيه (٣) قال : «سأل يونس بن يعقوب أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي في ثوب واحد؟ قال نعم. قال قلت فالمرأة؟ قال لا ولا يصلح للحرة إذا حاضت إلا الخمار إلا ان لا تجده».

وروى الكليني في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «لا يصلح للمرأة المسلمة ان تلبس من الخمر والدروع ما لا يوارى شيئا».

وعن علي بن محمد رفعه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «في رجل يصلى في سراويل ليس معه غيره؟ قال يجعل التكة على عاتقه».

وروى في الفقيه والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٦) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ليس معه إلا سراويل؟ قال يحل التكة منه فيطرحها على عاتقه ويصلي. قال وان كان معه سيف وليس معه ثوب فليتقلد بالسيف ويصلي قائما».

وروي في الفقيه (٧) قال : «سأل علي بن جعفر أخاه موسى (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٨ من لباس المصلي.

(٤) الوسائل الباب ٢١ من لباس المصلي.

(٥) الوسائل الباب ٥٣ من لباس المصلي.

(٦) الوسائل الباب ٥٣ من لباس المصلي.

(٧) الوسائل الباب ٢٢ من لباس المصلى.

٢٤

عن الرجل يصلي بالقوم وعليه سراويل ورداء؟ قال لا بأس به».

وروى في التهذيب في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يؤم في سراويل وقلنسوة؟ قال لا يصلح. وسألته عن السراويل هل يجوز مكان الإزار؟ قال نعم».

وروى في الفقيه عن زرارة في الصحيح عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «أدنى ما يجزئك ان تصلي فيه بقدر ما يكون على منكبيك مثل جناحي الخطاف».

وقال في الفقيه ايضا (٣) «وقال أبو بصير لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما يجزئ للرجل من الثياب ان يصلي فيه؟ فقال صلى الحسين بن علي (عليهما‌السلام) في ثوب قد قلص عن نصف ساقه وقارب ركبتيه ليس على منكبيه منه إلا قدر جناحي الخطاف وكان إذا ركع سقط عن منكبيه وكلما سجد يناله عنقه فيرده على منكبيه بيده فلم يزل ذلك دأبه ودأبه مشتغلا به حتى انصرف».

وروي في التهذيب عن جميل (٤) قال «سأل مرازم أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا معه حاضر عن الرجل الحاضر يصلي في إزار مؤتزرا به؟ قال يجعل على رقبته منديلا أو عمامة يتردى به».

وروى في الكافي والتهذيب عن رفاعة عن من سمع أبا عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «عن الرجل يصلي في ثوب واحد يأتزر به؟ قال لا بأس به إذا رفعه الى الثديين». كذا في التهذيب وفي الكافي «إلى الثندوتين» بدل «الثديين» والثندوة بالمثلثة لحم الثديين أو أصله وفي رواية سفيان بن السمط عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) قال : «الرجل إذا اتزر بثوب واحد الى ثندوته صلى فيه».

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ٥٣ من لباس المصلي.

(٣ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٢٢ من لباس المصلي.

٢٥

وروى في كتاب الخصال بسند معتبر عن ابي بصير ومحمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عليكم بالصفيق من الثياب فان من رق ثوبه رق دينه. وقال (عليه‌السلام) لا يقومن أحدكم بين يدي الرب جل جلاله وعليه ثوب يشف. وقال (عليه‌السلام) لا يصلي الرجل في قميص متوشحا به فإنه من أفعال قوم لوط. وقال (عليه‌السلام) تجزئ الصلاة للرجل في ثوب واحد يعقد طرفيه على عنقه وفي القميص الصفيق يزره عليه».

وروى في كتاب المكارم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) انه قال : «ركعتان بعمامة أفضل من اربع ركعات بغير عمامة».

وفي كتاب المسائل لعلي بن جعفر رضي‌الله‌عنه عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي في قميص واحد أو قباء وحده؟ قال ليطرح على ظهره شيئا. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يؤم في سراويل ورداء؟ قال لا بأس به. وسألته عن المرأة هل يصلح لها ان تصلي في ملحفة ومقنعة ولها درع؟ قال لا يصلح لها إلا ان تلبس درعها. وسألته عن المرأة هل يصلح لها ان تصلي في إزار وملحفة ومقنعة ولها درع؟ قال إذا وجدت فلا يصلح لها الصلاة إلا وعليها درع. وسألته عن المرأة هل يصلح لها ان تصلي في إزار وملحفة تقنع بها ولها درع؟ قال لا يصلح لها ان تصلي حتى تلبس درعها. وسألته عن السراويل هل يجزئ مكان الإزار؟ قال نعم. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي في إزار وقلنسوة وهو يجد رداء؟ قال لا يصلح. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يؤم في سراويل وقلنسوة؟ قال لا يصلح. وسألته عن المحرم هل يصلح له ان يعقد إزاره على عنقه في صلاته؟ قال لا يصلح ان يعقده ولكن يثنيه على عنقه ولا

__________________

(١) الوسائل الباب ٢١ و ٢٤ من لباس المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٦٤ من لباس المصلى.

(٣) البحار ج ٤ ص ١٥٠ وفي الوسائل بالتقطيع في الباب ٢٢ و ٢٥ و ٢٨ من لباس المصلى والباب ٥٣ من تروك الإحرام.

٢٦

يعقده. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يجمع طرفي ردائه على يساره؟ قال لا يصلح جمعهما على اليسار ولكن اجمعهما على يمينك أو دعهما متفرقين. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يؤم في ممطر وحده أوجبه وحدها؟ قال إذا كان تحتها قميص فلا بأس. وسألته عن الرجل هل يؤم في قباء وقميص؟ قال إذا كانا ثوبين فلا بأس».

أقول : وتحقيق البحث في هذه الأخبار يقع في مواضع (الأول) ما دل عليه قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم ـ من اعتبار كون الثوب صفيقا وصحيحته الثانية من كون درع المرأة كثيفا يعني ستيرا ومثله في الرواية التي بعدها ـ هو مستند الأصحاب فيما ظاهرهم الاتفاق عليه من اشتراط الستر في الثوب الذي يصلى فيه. والمراد منه ان لا يحكى لون البشرة وما هي عليه من بياض أو سواد أو حمرة.

وهل يعتبر كونه ساتر الحجم أم لا؟ صرح الفاضلان بالعدم وعليه أكثر المتأخرين وروى في الكافي عن محمد بن يحيى رفعه الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تصل فيما شف أو سف يعني الثوب الصيقل». وروى الشيخ في التهذيب عن احمد ابن حماد رفعه الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا تصل في ما شف أو صف يعنى الثوب الصيقل». قال في الذكرى : معنى «شف» لاحت منه البشرة ومعنى «وصف» حكى الحجم ، قال وفي خط الشيخ ابي جعفر في التهذيب «أوصف» بواو واحدة والمعروف بواوين من الوصف. أقول : لا يخفى ان الرواية التي وصلت إلينا في كتب المحدثين نقلا عن التهذيب وفي كتاب التهذيب الذي بأيدينا انما هي بواو واحدة واما الذي في الكافي فإنما هو بالسين كما عرفت ، وعلى كلتا الروايتين فالراوي قد فسره بالصقيل فما ذكره (قدس‌سره) لا اعرف له وجها. ومما يدل على حصول الستر بمجرد خفاء اللون دون الحجم قول الصادق (عليه‌السلام) (٣) في حديث النورة «إن

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٢١ من لباس المصلى.

(٣) ج ٥ ص ٥٣١.

٢٧

النورة قد سترته». ومن المعلوم ان النورة انما تستر اللون دون الحجم.

بقي الكلام في قوله (عليه‌السلام) في حديث الخصال «عليكم بالصفيق من الثياب فان من رق ثوبه رق دينه». وقوله (عليه‌السلام) «لا يقومن أحدكم بين يدي الرب وعليه ثوب يشف». ومعنى «يشف» يعني تلوح منه البشرة ويظهر لونها ، والظاهر انه من قبيل الاخبار المتقدمة الدالة على اشتراط الستر ، ويحتمل ان يكون كلامه الأول محمولا على الرقيق الذي لا يبلغ الى حد رؤية اللون فيكون النهي محمولا على الكراهة ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب وقال الشيخ (قدس‌سره) في المبسوط : يجوز إذا كان صفيقا وينكره إذا كان رقيقا ، وقال في الذكرى : تكره الصلاة في الرقيق الذي لا يحكى تباعدا من حكاية الحجم وتحصيلا لكمال الستر نعم لو كان تحته ثوب آخر لم يكره إذا كان الأسفل ساترا للعورة. انتهى. وربما أشعر آخر كلامه بأنه لو كان الأسفل غير ساتر فان الكراهة باقية وان حصل الستر الكامل بهما ، ويفهم منه حينئذ انه لو كان كل منهما لا يستر العورة وانما يحصل الستر بهما معا فإنه لا يجزئ ايضا والظاهر انه ليس كذلك إذ اعتبار شرطية الستر في الصلاة غير مقيدة بثوب واحد بل المراد ستر العورة كيف اتفق بثوب واحد أو ثياب متعددة أو غير الثياب مطلقا.

(الثاني) ـ أكثر هذه الاخبار المتقدمة قد دلت على الصلاة في الثوب الواحد الشامل للبدن ولو إزار أو ملحفة يعقد طرفيها على عنقه ، وجملة من الأصحاب صرحوا بأن الأفضل التعدد في الثياب :

قال في الذكرى بعد ان نقل جملة من اخبار الصلاة في ثوب واحد ما لفظه : وبعض العامة الفضل في ثوبين لما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) قال : «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما». ولا بأس به والاخبار الأولة لا تنافيه لدلالتها على الجواز ويؤيده عموم قوله تعالى «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (٢) ودلالة

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٥٨٣.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ٢٩.

٢٨

الاخبار على ان الله تعالى أحق ان يتزين له (١) وأورد هذا في التذكرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وافتى به فيكون مع القميص إزار وسراويل مع الاتفاق على ان الامام يكره له ترك الرداء وقد رواه سليمان بن خالد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا ينبغي إلا ان يكون عليه رداء أو عمامة يرتدي بها». والظاهر ان القائل بثوب واحد من الأصحاب انما يريد به الجواز المطلق ويريد به ايضا على البدن وإلا فالعمامة مستحبة مطلقا وكذا السراويل ، وقد روى تعدد الصلاة الواحدة بالتعمم والتسرول (٣) أما المرأة فلا بد من ثوبين درع وخمار إلا ان يكون الثوب يشمل الرأس والجسد ، وعليه حمل الشيخ (قدس‌سره) رواية عبد الله بن بكير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في جواز صلاة المسلمة بغير قناع (٤) ويستحب ثلاثة للمرأة لرواية جميل بن دراج عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «درع وخمار وملحفة». انتهى.

أقول : الظاهر ان الرواية التي نقلها ونفي البأس عن القول بها عامية لعدم وجودها في أخبارنا وبه يشعر كلامه ايضا وأكثر الاخبار كما عرفت انما دل على الثوب الواحد ، ومنها ـ زيادة على ما تقدم ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد بن زرارة عن أبيه (٦) قال : «صلى بنا أبو جعفر (عليه‌السلام) في ثوب واحد». وعن ابي مريم الأنصاري في الصحيح (٧) قال : «صلى بنا أبو جعفر (عليه‌السلام) في قميص بلا إزار ولا رداء ولا أذان ولا اقامة فلما انصرف قلنا له عافاك الله صليت بنا في قميص بلا إزار ولا رداء ولا أذان ولا اقامة؟ فقال ان قميصي كثيف وهو يجزئ ان لا يكون علي إزار ولا رداء. الحديث».

__________________

(١ و ٣) ص ٣٢.

(٢) الوسائل الباب ٥٣ من لباس المصلى.

(٤) ص ١٢.

(٥) الوسائل الباب ٢٨ من لباس المصلي.

(٦) الوسائل الباب ٢٢ من لباس المصلى.

(٧) التهذيب ج ١ ص ٢١٦ وفي الوسائل بالتقطيع في الباب ٢٢ من لباس المصلى و ٣٠ من الأذان والإقامة.

٢٩

نعم يدل على التعدد مما قدمناه قوله (عليه‌السلام) في آخر رواية علي بن جعفر الطويلة المنقولة من كتابه : «وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يؤم في ممطر وحده أوجبه وحدها. الى آخره». إلا ان مورده الإمامة لا مطلقا كما هو المدعى ، وحديث سليمان ابن خالد الذي ذكره مورده ايضا الإمامة خاصة فلا ينهض حجة في المدعى. وبالجملة فالاستحباب حكم شرعي يحتاج الى دليل واضح كالوجوب والتحريم إلا انه لما اشتهر بينهم المسامحة في أدلة السنن توسعوا في ذلك وهو خروج عن الطريق الواضح كما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة في البحث معهم في هذا التسامح. نعم ما ذكره بالنسبة إلى المرأة من الثلاثة الأثواب قد تقدم في ما أوردناه من الاخبار هنا وفي ما تقدم ، ولعله من حيث ان جميع بدنها عورة فينبغي ان تبالغ في ستره بتعدد الثياب واما الرجل فليس كذلك.

(الثالث) ـ قد دلت صحيحة زياد بن سوقة على جواز الصلاة في الثوب الواحد وأزراره محلولة ونحوها مرسلة ابن فضال ، ودلت رواية غياث بن إبراهيم على النهي عن ذلك إذا لم يكن عليه إزار ونحوها رواية إبراهيم الأحمري ، والأصحاب هنا قد صرحوا باستحباب زر الأزرار وكراهة حلها جمعا بين الاخبار المذكورة ، وظاهر إطلاق عبائر جملة منهم كإطلاق الأخبار المجوزة جواز ذلك وان استلزم ظهور العورة حال الركوع للمصلي وغيره. ولا يخلو من الاشكال لما علم من اشتراط صحة الصلاة بستر العورة ، قال الشيخ في الخلاف على ما نقله في الذكرى : يجوز في قميص وان لم يزره ولا يشد وسطه سواء كان واسع الجيب أو ضيقه ، ثم نقل صحيحة زياد بن سوقة على اثر هذا الكلام ثم قال ولا تعارضه رواية غياث ثم أورد الرواية وحملها على الكراهة وقال المحقق في المعتبر : ولو كان جيبه واسعا بحيث لو ركع بانت له عورته لم يجب ستر ذلك وكانت صلاته ماضية وقد روى ذلك رجل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) ثم نقل مرسلة الحسن بن علي بن فضال المتقدمة. ونسج على منواله العلامة فقال في المنتهى

٣٠

ولا بأس ان يصلي الرجل في قميص واحد وأزراره محلولة واسع الجيب كان أو ضيقه رقيق الرقبة كان أو غليظها كان تحته مئزر أم لم يكن ، وقد روى حل الأزرار زياد بن سوقة ثم ساق الرواية الى ان قال : ولو كان الجيب واسعا تظهر له عورته لو ركع لم يجب ستر ذلك عن نفسه وكانت صلاته ماضية لان المقصود تحريم نظر غيره الى عورته ، ويؤيده ما رواه الشيخ (قدس‌سره) ثم أورد مرسلة ابن فضال. وإطلاق كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) وكذا الصحيحة المذكورة والمرسلة تساعد على ما ذكراه إلا انه قال في الذكرى في موضع آخر غير ما قدمنا ذكره : لا يجب زر الثوب إذا كان لا تبدو العورة منه حسبما افتى به الشيخ (قدس‌سره) وهو في رواية زياد بن سوقة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) ثم ساق الرواية ، ثم قال واشترطنا عدم بدو العورة ولو في حين ما لاختلال الشرط وفي رواية محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «إذا كان القميص صفيقا والقباء ليس بطويل الفرج فلا بأس». ولو برزت العورة حين الركوع للناظرين بطلت الصلاة حينئذ. ولو برزت للمصلي لا لغيره فالأقرب البطلان إذا قدر رؤية الغير لو حاذى الموضع ، وأطلق في المعتبر الصحة إذا بانت له حال الركوع. والأقرب الاكتفاء بكثافة اللحية المانعة من الرؤية ، ووجه المنع انه غير معهود في الستر كما مر. (فان قلت) روى غياث ، ثم ساق الرواية ثم قال (قلت) حملها الشيخ (قدس‌سره) على الاستحباب مع إمكان حملها على ما تبدو معه العورة ، ويؤيد حمل الشيخ ما رواه إبراهيم الأحمري عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) ثم ساق الرواية كما قدمناه. انتهى.

أقول : والتحقيق عندي في هذا المقام هو انه لما قام الدليل من خارج على وجوب ستر العورة في الصلاة والمتبادر في جميع واجباتها من قيام وقعود وركوع وسجود ونحو ذلك فالواجب حمل هذه الاخبار على ما تجتمع به مع تلك الأدلة ، ولا معنى لاستثناء رؤية المصلي نفسه دون غيره إذ وجوب ستر العورة ليس باعتبار وجود الناظر بالفعل

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٢ من لباس المصلى.

٣١

وانما هو باعتبار ان لو كان ثمة ناظر لكان يراها وإلا لكان المصلي في الظلام أو في بيت يغلق عليه تصح صلاته وليس كذلك إجماعا. فما ذكره الشهيد (قدس‌سره) من هذا الكلام الأخير هو المعتمد إلا ان اكتفاءه بستر اللحية ضعيف لا ينبغي ان يلتفت اليه كما أشار اليه ، وحينئذ فلا بد من تأويل صحيحة زياد بن سوقة وإخراجها عن ظاهرها وحمل النهي في رواية غياث على ظاهرها من التحريم ونحوها رواية إبراهيم. وما يدعونه من ان لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة اصطلاح عرفي بين الناس وإلا فقد عرفت في غير موضع ان استعماله في التحريم في الأخبار أكثر كثير إلا انه يجب تقييد التحريم بما إذا استلزم ظهور العورة وعلى هذا فيحمل الخبران المجوزان على عدم ظهور العورة ، وعلى ذلك تجتمع الاخبار وتتفق مع تلك الأخبار الدالة على شرطية الستر في الصلاة كما لا يخفى. ويؤيد ما قلناه من المنع من حل الأزرار حال الصلاة حديث زياد بن المنذر عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) وفيه ان حل الأزرار في الصلاة من عمل قوم لوط.

(الرابع) ـ قال في الذكرى : الأفضل للرجل ستر ما بين السرة والركبة وإدخالهما في الستر ، للخروج عن الخلاف ولانه مما يستحي منه ، وستر جميع البدن أفضل والرداء أكمل والتعمم والتسرول أتم لما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فان الله أحق ان يتزين له». وروى (٣) «ركعة بسراويل تعدل أربعا بغيره». وكذا روى في العمامة (٤). انتهى. ولعله أشار بالرواية في العمامة الى ما قدمنا نقله عن كتاب مكارم الأخلاق ، والظاهر ان هاتين الروايتين انما هما من طرق العامة لعدم وجودهما في كتب أخبارنا ، قال شيخنا المجلسي (قدس‌سره) بعد نقل رواية المكارم المذكورة : الظاهر ان هذه الرواية عامية وبها استند الشهيد (قدس‌سره) وغيره ممن ذكر استحبابها في الصلاة ولم أر في أخبارنا ما يدل على ذلك

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من لباس المصلى.

(٢) المهذب ج ١ ص ٦٤.

(٣) الوسائل الباب ٦٤ من لباس المصلي.

(٤) الوسائل الباب ٦٤ من لباس المصلى.

٣٢

نعم ورد استحباب العمامة مطلقا في اخبار كثيرة (١) وحال الصلاة من جملة تلك الأحوال ، وكذا ورد استحباب كثرة الثياب في الصلاة (٢) وهي منها ، وهي من الزينة فتدخل تحت الآية ، ولعل هذه الرواية مع تأيدها بما ذكرنا تكفي في إثبات الحكم الاستحبابي. ويمكن ان يقال انه انسب بالتواضع والتذلل ولذا ورد في بعض الاخبار الأمر به. ولعل الأحوط عدم قصد استحبابها في خصوص الصلاة بل يلبسها بقصد انها حال من الأحوال. انتهى.

وأقول : لا يخفى ما في كلام شيخنا المذكور من المجازفة جريا على وتيرة من تقدمه من الأصحاب ، فإن إثبات الأحكام الشرعية التي هي قول على الله تعالى ـ وقد استفاضت الآيات والروايات بالنهي عن القول عليه عزوجل بغير علم والزجر عن ذلك ـ والحكم بالاستحباب بمثل هذه الروايات العامية أو مع انضمام هذه التخريجات ـ مجازفة محضة في أحكامه سبحانه ، ومجرد كون ذلك للاستحباب لا يترتب على تركه العقاب لا يوجب التساهل إذا الكلام في انه قول عليه (عزوجل) بغير علم فيدخل تحت النواهي الشديدة المستفيضة في الباب ومن هنا يترتب عليه العقاب كما لا يخفى على اولى الألباب على ان ما ادعاه من استحباب كثرة الثياب في الصلاة لم نقف عليه في خبر من الاخبار كما تقدم القول في ذلك ، وغاية ما ربما يدعى حكاية الصلاة في ثوبين أو ثلاثة مثلا اما الأمر بذلك وانه الأفضل فالظاهر بل المقطوع به عدمه ، نعم ورد ذلك في المرأة كما تقدم. وبالجملة فالمستفاد من الأخبار المتقدمة استحباب الصلاة في الثوب الساتر لجميع البدن من القميص ونحوها ولو ستر اسافله خاصة واما الأفضل فوضع شي‌ء على أعاليه والأفضل ما يستره كملا من رداء وإزار ونحوهما ثم ما أمكن وكل ما كان أوسع فهو أفضل حتى ينتهي الأمر إلى تكة السروال والحبل ونحوهما.

(المسألة الرابعة) ـ لا خلاف في انه مع عدم إمكان الستر بالثوب فإنه يجب بما

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٠ من أحكام الملابس.

(٢) الوسائل الباب ٦٣ من لباس المصلي.

٣٣

أمكن من حشيش ونحوه وانما الخلاف مع وجوده ، ثم على الأول فهل يفرق في ما عداه أم لا بل يتخير؟ وتفصيل الكلام في المقام انه قد اختلف الأصحاب في المسألة فالمشهور ـ واليه ذهب الشيخ وابن إدريس والفاضلان والشهيد في البيان ـ انه يتخير بين الثوب والحشيش والورق والطين وليس شي‌ء من هذه الثلاثة مقيدا بحال الضرورة ، كذا نقله شيخنا في كتاب بحار الأنوار ، وفي الذخيرة ان المشهور المنسوب إلى هؤلاء المذكورين انما هو وجوب تقديم الثوب ثم التخيير بين الثلاثة المذكورة ، ويؤيده ان الذي في البيان انما يساعد ما نقله في الذخيرة ، وعبارة العلامة في الإرشاد ظاهرة في التخيير مطلقا ، وهو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض ، وكذا في القواعد على ما نقله عنه في الذخيرة وظاهر عبارتي المعتبر والمنتهى التخيير في الأربعة المذكورة كما نقله شيخنا المجلسي ، وذهب الشهيد في الدروس الى وجوب الثوب ومع تعذره فكل ما يستر العورة ولو بالحشيش وورق الشجر ومع تعذره فبالطين ، وذهب في الذكرى الى التخيير بين الثوب والحشيش والورق فان تعذر فبالطين وقد تلخص من ذلك ان في المسألة أقوالا أربعة.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا وحضرت الصلاة كيف يصلي؟ قال ان أصاب حشيشا يستر به عورته أتم صلاته بالركوع والسجود وان لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم».

احتج القائلون بالقول الأول وهو التخيير بين الأربعة بحصول المقصود من الستر ولرواية علي بن جعفر المذكورة وحديث «النورة سترة» كما تقدم في آخر كتاب الطهارة (٢) كذا ذكره شيخنا الشهيد الثاني في الروض.

واستضعف هذا القول في المدارك لميله الى ان هذه الأشياء انما تجوز بتعذر الثوب ، والظاهر ان وجهه هو دعوى ان المتبادر من الساتر في الاخبار انما هو الثوب

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٠ من لباس المصلى.

(٢) ج ٥ ص ٥٣١.

٣٤

ورواية «النورة سترة» ضعيفة ومع الإغماض عن ضعفها فالإطلاق انما يحمل على الافراد الغالبة الشائعة دون الفروض النادرة كما تقرر في غير مقام ، ورواية على بن جعفر لا دلالة لها على التخيير مع وجود الثوب إذ موردها عدمه.

ومن ذلك يعلم دليل القول بوجوب الثوب ثم التخيير بين الثلاثة الباقية مع عدمه وهو القول الثاني ، وتقريب الاستدلال ان المتبادر من الأمر بالساتر هو الثوب فلا يجوز غيره مع وجوده ، ومع فقده فوجه التخيير بين الثلاثة الصحيحة المذكورة بحمل ذكر الحشيش في أولها على التمثيل كما يشير اليه قوله في آخرها «وان لم يصب شيئا يستر به عورته» مما يدل على ما هو أعم من الحشيش ، وقد عرفت من الاخبار ان النورة سترة ، وبذلك يثبت التخيير بين الافراد الثلاثة بعد فقد الثوب.

ويمكن المناقشة في دعوى تبادر الثوب من الأمر بالساتر بان المتبادر انما هو التغطية على وجه لا يمكن النظر اليه ، والحكم بالتستر بالحشيش في الرواية وقع تابعا للسؤال وهو تعذر الثوب وذلك لا يقتضي عدم جواز الستر به عند إمكان الثوب.

ويمكن دفعه بان إنكار دعوى تبادر الثوب من الساتر مجازفة ظاهرة إذ لا ريب ان ما جرت به العادة بعد وقت التكليف بل منذ خلقت الدنيا انما هو الستر بالثياب ودعوى خلاف ذلك مباهتة لا ينبغي الإصغاء لها. واما ما ذكره بالنسبة إلى الرواية فيكفينا فيها عدم الدلالة على التخيير مع وجود الثوب فان هذا القائل إنما يستدل بها على التخيير في الثلاثة بعد فقد الثوب كما عرفت. وبذلك يظهر لك قوة القول الثاني.

واستبعد في المدارك مساواة الطين للورق والحشيش كما هو مذهب أصحاب القول الثاني ، ولم يذكر وجه البعد في ذلك مع دلالة أخبار النورة على الستر به والطين مثله ، ولا وجه لتقديم الورق والحشيش عليه كما يدعيه ، وكلامه ظاهر في اختيار ما ذهب اليه الشهيد في الدروس كما تقدم.

ويمكن توجيه الدليل لهذا القول اما بالنسبة إلى وجوب تقديم الثوب فيما عرفت

٣٥

آنفا واما بالنسبة إلى تقديم الورق والحشيش على الطين فبعدم فهم الطين من الساتر على الإطلاق كما ذكره في الذكرى وبقوله تعالى «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (١) والطين لا يعد زينة. وفي الثاني ما لا يخفى.

واستدل الشهيد في الذكرى على ما ذهب اليه ، اما على المساواة بين الثوب والورق والحشيش فبصحيحة علي بن جعفر المذكورة ، واما على عدم جواز الطين مع وجود شي‌ء من الثلاثة المذكورة فبما عرفت من عدم انصراف اللفظ اليه.

واعترضه شيخنا الشهيد في الروض فقال : والتحقيق ان خبر علي بن جعفر ظاهر في فاقد الثوب فلا يتم الاحتجاج به على التخيير بينه وبين الثوب ، وما ذكره من الحجة على تقديمهما على الطين آت في تقديم الثوب على غيره والزينة كما لا تتناول الطين كذا لا تتناول الحشيش ونحوه. انتهى. وهو جيد.

أقول : والمسألة لا تخلو من شوب الإشكال إلا ان الأقرب بالنظر الى الصحيحة المذكورة هو وجوب تقديم الثوب لكونه هو المتبادر والفرد الشائع المتعارف من الساتر ومع تعذره فالتخيير بين كل ما يحصل به الستر ولو بالطين لاخبار النورة. والله العالم.

فروع

(الأول) ـ لو استتر بالطين مع وجود غيره فهل يصلي قائما بركوع وسجود أم يصلي إيماء؟ قال في الذكرى : وفي سقوط الإيماء هنا نظر من حيث إطلاق الستر عليه ومن إباء العرف. وأيد بعضهم ترجيح الإيماء بأن الظاهر من الأدلة تعين الإيماء عند تعذر الثياب وما يجري مجراها كالحشيش ، والأقرب عندي هو الصلاة قائما بركوع وسجود فان الشرط في صحة الصلاة كذلك هو ستر العورة والفرض حصوله بالطين استنادا الى اخبار النورة كما عرفت. وما ذكره في الذكرى من إباء العرف لا معنى له بعد دلالة

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٢٩.

٣٦

الاخبار على حصول الستر به وحصول الشرط بذلك. وما ذكره ذلك البعض مدخول بان المفهوم من تلك الاخبار ـ كما سيأتي قريبا ان شاء الله تعالى هو انه ينتقل إلى الإيماء ما لم يجد ساترا لعورته ـ ومنها صحيحة علي بن جعفر ـ وفيها «وان لم يجد شيئا يستر به عورته أومأ». وصحيحته المتقدمة (١) فإنها صريحة كما ترى في ان العاري ينتقل الى الحشيش ، ثم قال : «فان لم يجد شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم». وأكثر الاخبار انما تضمنت العريان وانه يصلي إيماء من غير تعرض للتعليق على عدم وجود شي‌ء ، وبالجملة فإن دعواه ظهور توقف تعين الإيماء على عدم الثياب ونحوها من الحشيش دعوى عارية عن الدليل بل هو على خلافها واضح السبيل.

ثم انه على تقدير الستر بالطين فهل يشترط فيه خفاء اللون والحجم معا أم يكفي خفاء اللون؟ ظاهر الشهيد في الذكرى الأول وقيل بالثاني وهو الأقرب إذ الظاهر من اخبار ستر النورة التي هي المستند في المقام انما هو ستر اللون خاصة.

(الثاني) ـ قد صرح جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو وجد العاري حفيرة يمكنه الركوع والسجود فيها وجب عليه ذلك ، واستدلوا عليه بما رواه الشيخ عن أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «العاري الذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها وسجد فيها وركع». قال المحقق في المعتبر : فاقد الستر لو وجد حفيرة دخلها وصلى قائما وركع وسجد ، وقال الشيخ يدخلها ويصلي قائما ولم يصرح بالركوع والسجود ، وهو مبنى على قوله بوجوب القيام مع أمن المطلع ، ومنع ذلك جمع من الجمهور ممن أوجب الصلاة جالسا (٣) لان الساتر لا يلتصق بجلد المصلي فجرى مجرى عدمه. لنا ـ ان الستر يحصل المنع عن المشاهدة ولا نسلم ان التصاق الساتر شرط ويؤيد ذلك ما رواه أيوب بن نوح ، ثم أورد الرواية المذكورة.

__________________

(١) ص ٣٤.

(٢) الوسائل الباب ٥٠ من لباس المصلي.

(٣) المغني ج ١ ص ٥٩٢ والمهذب ج ١ ص ٦٥.

٣٧

أقول : وعندي في هذا الحكم إشكال لأن المتبادر من الاخبار ان ستر العورة الواجب في الصلاة انما هو عبارة عن وضع شي‌ء عليها بحيث يحول بين الناظر إليها وبين رؤيتها ، ويؤيده الاختلاف في ستر الحجم والاتفاق على مجرد ستر اللون ، وهذا هو المتبادر من الساتر في الاخبار وفي كلامهم ، لا انه عبارة عن وضع الإنسان نفسه في مكان متسع لا يراه أحد وان كانت عورته مكشوفة ، وإلا لصحت صلاة من صلى عاريا في دار مغلقة عليه أو بيت مظلم لا يراه أحد والظاهر انه لا خلاف في عدم جواز ذلك ، ولا ريب أن الحفيرة المشتملة على الخلأ بحيث يركع ويسجد ويجلس فيها من قبيل ما ذكرناه وان تفاوت الاتساع قلة وكثرة. واما قول المحقق (قدس‌سره) في ما تقدم من كلامه ـ : لنا ان الستر بذلك يحصل المنع عن المشاهدة ولا نسلم ان التصاق الساتر شرط ـ ففيه انه لو تم لجاز الصلاة في البيت المغلق والظلام كما ذكرناه لصدق ما ذكره على ذلك. وكأنه اعتمد على هذا التعليل الواهي لضعف الرواية عنده فجعلها مؤيدة دون ان تكون دليلا وفيه ما عرفت ، على ان من الظاهر انه لو جلس أحد على رأس هذه الحفيرة في قبلة المصلي لرأي قبله البتة للخلإ الذي يركع ويسجد فيه ، نعم لو كانت الحفيرة ضيقة على وجه تلتصق بالبدن بحيث يقف فيها ويومي إيماء أمكن ستر العورة بذلك ، ولعل ذلك مراد الشيخ (قدس‌سره) ولذا لم يذكر الركوع والسجود في الحفيرة.

وقد نقل ابن فهد في كتاب الموجز قولا بأن الصلاة في الحفيرة بالإيماء وهذا القول هو الأنسب بما ذكرنا ، ولعل قائله نظر الى ما قلناه.

إلا ان الاشكال في الخبر المذكور ، وبالجملة فإني لا اعرف للعمل بالخبر المذكور وجها مع مخالفته للقواعد المستفادة من الأخبار إلا ان يكون هذا الموضع مستثنى من وجوب ستر العورة في الصلاة. والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال. ولم أر من تنبه لما ذكرناه من أصحابنا (رضوان الله عليهم) على ان في الخبر المذكور أيضا إشكالا آخر لم أر من تنبه له ولا نبه عليه ، فان ظاهره انه مع تعذر الثوب وحصول الحفيرة فإنه يصلي في الحفيرة على

٣٨

الوجه المذكور وان وجد ساترا من حشيش ونحوه مع ان صحيحة على بن جعفر المتقدمة في صدر المسألة دلت على انه في هذه الصورة ينتقل الى الستر بالحشيش ونحوه وعلى ذلك فتوى الأصحاب (رضوان الله عليهم) كما عرفت ، وظاهر الجمع بين الخبرين يقتضي التخيير بين الأمرين وان الصلاة في الحفيرة بمنزلة الساتر من حشيش ونحوه ، وظاهر الأصحاب جعل الحفيرة مرتبة متأخرة عن الحشيش ونحوه بحمل إطلاق هذا الخبر على ما تقدم في صحيحة علي بن جعفر من الستر بالحشيش أولا. والظاهر ان ما ذكرنا من الجمع بالتخيير أقرب إلا ان يحمل صحيح علي بن جعفر على عدم وجود الحفيرة.

وظاهر المحقق في الشرائع ـ وهو ظاهر السيد السند أيضا في المدارك ـ اطراح الخبر المذكور والانتقال إلى الإيماء بعد فقد الساتر بجميع أنواعه ، وعلل ذلك في المدارك بضعف الخبر المذكور والالتفات الى عدم انصراف لفظ الساتر إلى الحفيرة. وبالجملة فالمسألة كما عرفت لا تخلو من شوب الاشكال. والله العالم.

(الثالث) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو وجد وحلا فهل يجب نزوله والاستتار به أم لا؟ قال في المعتبر : لو وجد وحلا أو ماء كدرا بحيث لو نزله ستر عورته لم يجب نزوله لان فيه ضررا ومشقة. وقال في الروض : ولو وجد وحلا أو ماء كدرا فالمشهور وجوب الاستتار بهما. وقال في الذكرى : ولو وجد وحلا ولا ضرر فيه تلطخ به ولو لم يجد إلا ماء كدرا استتر به مع إمكانه ، ثم نقل عن المعتبر انهما لا يجبان للمشقة والضرر.

والقائلون بالوجوب اختلفوا فقيل ان الوحل مقدم على الماء وان لم يستر الحجم لأنه أدخل في مسمى الساتر وأشبه بالثوب والطين المقدمين على الماء. واستظهره في الروض وقيل بتقديمهما على الحفيرة ، وقيل بتقديم الحفيرة على الماء الكدر وتأخير الطين عنه ، وقيل بتقديم الماء الكدر على الحفيرة مطلقا ، وقال ابن فهد في موجزه : ولو وجد الجميع قدم الحشيش وورق الشجر ثم الحفيرة ثم الماء الكدر ثم الطين ويومئ في الأخيرين.

٣٩

وفصل شيخنا الشهيد الثاني في الروض فقال : والتحقيق ان السجود المأمور به في الحفيرة ان كان هو المعهود اختيارا فهو دال على سعة الحفيرة وحينئذ فيبعد تقديمها عليهما مع إمكان استيفاء الأفعال بهما فإنهما حينئذ ألصق بالساتر والحفيرة أشبه بالبيت الضيق الذي لا يعد ساترا فتقديمهما عليها أوضح ، بل الظاهر ان الوحل مقدم عليها مطلقا لعدم منافاته لاستيفاء الأفعال. واما الماء الكدر والحفيرة فإن تمكن من السجود فيهما ففيه ما مر وان تمكن في الماء خاصة فهو اولى بالتقديم وكذا لو لم يتمكن فيهما. ولو تمكن في الحفيرة دون الماء ففي تقديم أيهما نظر من كون الماء ألصق به وادخل في الستر ومن صدق الستر في الجملة وإمكان الأفعال وورود النص على الحفيرة دونه والاتفاق على وجوب الاستتار بها دونه فتقديمها حينئذ أوجه ، ولو لم يعتبر في الصلاة استيفاء الركوع والسجود كصلاة الخوف والجنازة سقط اعتبار هذا الترجيح ، واولى من الحفيرة الفسطاط الضيق إذا لم يمكن لبسه. انتهى. وفيه تأييد لما ذكرناه من ان المتبادر من الساتر انما هو اللاصق على البدن.

أقول : لا يخفى ان الكلام في هذه الفروع العارية عن النصوص مشكل ، والذي ورد في هذا الباب كما عرفت رواية علي بن جعفر ومرسلة أيوب بن نوح ، والاولى وان دلت على ان مرتبة الإيماء انما هي بعد عدم وجود شي‌ء يستر به عورته إلا ان انطلاق الساتر فيها الى ما ذكروه من الوحل الذي هو عبارة عن الماء والطين وكذلك الماء الكدر محل اشكال ، والأحكام الشرعية انما ترتب على الافراد المتبادرة من الإطلاق الكثيرة الدوران في الاستعمال دون الفروض النادرة. واما الثانية فقد عرفت ما فيها. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه متى لم يجد ساترا فإنه يصلي عريانا ولا تسقط الصلاة عنه بفقد الساتر ، وانما الخلاف في انه هل يصلي قائما مطلقا أو جالسا مطلقا أو قائما مع أمن المطلع وجالسا مع عدمه؟ أقوال أشهرها

٤٠