الحدائق الناضرة - ج ٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ثم قم فصل ركعتين عند الرأس». وفي رواية أخرى لصفوان عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «ثم صل عند الرأس ركعتين». الى غير ذلك من الاخبار.

وبذلك صرح أيضا جملة من علمائنا الأعلام أعلى الله درجاتهم في دار السلام : منهم ـ الصدوق في الفقيه (٣) حيث قال في زيارة الإمامين الكاظمين (عليهما‌السلام): ثم صل في القبة التي فيها محمد بن علي (عليهما‌السلام) اربع ركعات بتسليمتين عند رأسه : ركعتين لزيارة موسى (عليه‌السلام) وركعتين لزيارة محمد بن علي (عليه‌السلام). وقال في زيارة الرضا (عليه‌السلام) نحوه (٤) وقال شيخنا الشهيد في الدروس في تعداد آداب الزيارة : وسادسها صلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ وان كان زائرا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ففي الروضة وان كان لأحد الأئمة (عليهم‌السلام) فعند رأسه. ونحوه في الذكرى. وبه صرح ايضا الشيخ المفيد (قدس‌سره) حيث حرم الصلاة خلف القبر كما تقدم في عبارته ، ثم قال : ويصلي الزائر مما يلي رأس الإمام (عليه‌السلام) فهو أفضل من ان يصلي الى القبر من غير حائل بينه وبينه على حال. وقال أيضا في زيارة الحسين (عليه‌السلام) : وصل عند الرأس ركعتين للزيارة وصل بعدهما ما بدا لك. وقال في زيارة الرضا (عليه‌السلام) مثله.

وأنت خبير بان المتبادر من كونها عند الرأس هو القيام بحذاء الرأس كما وقع نظيره في الاخبار من استحباب الجلوس عند الرأس والدعاء عنده أو يقف عند الرأس ويقول كذا وكذا ، فان المتبادر من هذه العندية في جميع هذه المواضع هو المحاذاة للرأس من غير تقدم ولا تأخر. ولو زعم زاعم ـ ان العندية أعم من المساواة أو التقدم قليلا والتأخر قليلا ـ قلنا مع تسليمه يكفينا في الدلالة على ما ندعيه العموم مع ظهور كونه

__________________

(١) البحار ج ٢٢ ص ١٥٩.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ١٧٩.

(٣) ج ٢ ص ٣٦٣.

(٤) ج ٣ ص ٣٦٧.

٢٢١

أظهر أفراد العام.

وبالجملة فإن جل الاخبار وجملة كلام الأصحاب متفق على جواز ذلك الى ان نشأ في أيامنا هذه بعض من لم يعض على العلم بضرس قاطع ولم يعط التأمل حقه في أمثال هذه المواضع ويرتاع بأدنى شبهة تعرض لباله ويضعف عن ردها بفكره وخياله ، فحكم بتحريم الصلاة مع محاذاة قبر المعصوم (عليه‌السلام) حيث رأى حديث الاحتجاج المتقدم والجواب عنه (أولا) المعارضة بما هو أوضح سندا وأكثر عددا من الاخبار الدالة على استحباب الصلاة عند الرأس دون الخلف الذي اشتملت عليه هذه الرواية إذ المتبادر من الخلفية هو جعل القبر قبلة للمصلي فتكون هذه الرواية منافية للروايات المتقدمة مع تسليم ما ادعاه الخصم ايضا من الشمول للتقدم والتأخر قليلا ، وكذلك الروايات المتقدمة المانعة من الصلاة خلف القبر ، والترجيح لجملة هذه الروايات لما هي عليه من الكثرة والاستفاضة والاعتضاد بعمل الطائفة قديما وحديثا كما عرفت وستعرف.

و (ثانيا) انها معارضة بخصوص صحيحة الحميري المذكورة المنقولة في التهذيب وموثقة الحسن بن علي بن فضال المنقولة من عيون الأخبار المشتملة على ان الرضا (عليه‌السلام) قام الى جانب قبر جده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولزق منكبه الأيسر بالقبر يعني عند رأسه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهي ظاهرة في المساواة ، وصحيحة الحميري كما عرفت صريحة في ذلك.

وبذلك صرح شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين حيث قال بعد نقل خبر الحميري المذكور بتمامه : هذا الخبر يدل على عدم جواز وضع الجبهة على قبر الإمام ، الى ان قال وعلى عدم جواز التقدم على الضريح المقدس حال الصلاة لأن قوله (عليه‌السلام) «يجعله الامام» صريح في جعل القبر بمنزلة الإمام في الصلاة فكما انه لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام بأن يكون موقفه أقرب الى القبلة من موقف الامام بل يجب ان يتأخر عنه أو يساويه في الموقف يمينا أو شمالا فكذا هنا ، وهذا هو المراد

٢٢٢

هنا بقوله (عليه‌السلام) «ولا يجوز ان يصلي بين يديه لأن الإمام لا يتقدم ويصلي عن يمينه وشماله». والحاصل ان المستفاد من هذا الحديث ان كل ما ثبت للمأموم من وجوب التأخر عن الإمام أو المساواة أو تحريم التقدم عليه ثابت للمصلي بالنسبة إلى الضريح المقدس من غير فرق فينبغي لمن يصلى عند رأس الإمام (عليه‌السلام) أو عند رجليه ان يلاحظ ذلك. وقد نبهت على ذلك جماعة من إخواني المؤمنين في المشهد الرضوي على مشرفه السلام فإنهم كانوا يصلون في الصفة التي عند رأسه (عليه‌السلام) صفين فبينت لهم ان الصف الأول أقرب الى القبلة من الضريح المقدس على صاحبه السلام ، وهذا مما ينبغي ملاحظته للمصلي في مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكذا في سائر المشاهد المقدسة على ساكنيها أفضل التسليمات. انتهى كلامه (أعلى الله في الخلد مقامه) وهو ظاهر الجودة والرشافة لمن رغب لتحقيق الحق واشتاقه ولم تأخذه في التعصب على الباطل حمية الجاهلية والحماقة.

وما ذكره بعض المتحذلقين ممن حكينا عنهم الخلاف في هذه المسألة ـ من احتمال عطف «ويصلى» في الخبر المذكور على قوله «ولا يجوز ان يصلي» أو قوله «لا يتقدم» ـ فهو تعسف ظاهر عند ذوي الأفهام بل هو مما ينزه عنه كلام الإمام الذي هو امام الكلام ، إذ لا يخفى على من مضغ ثلج البلاغة والفصاحة ومن سرح بريد نظره في تلك الساحة ان المتبادر من قول القائل «ما جاء زيد وجاءني عمر» هو نفي المجي‌ء عن زيد مع إثباته لعمرو لا نفيه عنه ، ومتى أريد نفيه عنه أعيد حرف النفي فقيل «ما جاءني زيد ولا عمرو» حسبما وقع في الخبر الذي استندوا اليه.

وكيف كان فلا ريب في ترجيح خبر التهذيب بصحة السند أولا ، وثانيا انه لا خلاف بين المحققين في ترجيح اخبار الكتب الأربعة المشهورة على غيرها بل المشهور عندهم عدم العمل بغير اخبار الكتب الأربعة لشهرتها ومعلوميتها ونحو ذلك مما ذكروه وان كنا لا نعتمده ، إلا انه في مقام التعارض بين ما فيها وفي غيرها فالترجيح لما فيها

٢٢٣

البتة ولا سيما مع صحة السند وضعف المعارض ، فيتعين العمل بالرواية المذكورة وارجاء الرواية المقابلة إلى قائلها. ومع غض الطرف عن جميع ذلك فلنا ان نقول ان هذين الخبرين قد تعارضا فتساقطا فرجعنا إلى قضية الأصل. ولا ريب ان الأصل صحة الصلاة حتى يقوم دليل الابطال وليس فليس. والعجب من هؤلاء المتحذلقين انهم في جميع الأحكام متى تعارضت الاخبار جمعوا بينها بالكراهة والاستحباب كما هي القاعدة المطردة عند الأصحاب فكيف غفلوا عن ذلك في هذا المقام؟

(الموضع الثالث) ـ في حكم التأخر خلف القبر ، والمشهور بين الأصحاب الجواز على كراهة قبر امام كان أو غيره ، وقد تقدم نقل القول بالتحريم عن الصدوق والمفيد وابي الصلاح ، وهو ظاهر المحقق في المعتبر ايضا حيث انه ـ بعد ان نقل موثقة عمار ورواية معمر بن خلاد الدالتين على النهي عن الصلاة خلف القبر مطلقا ، ثم نقل كلام المفيد المتقدم وقوله فيه «وقد روى انه لا بأس. إلخ» ـ قال ولا ريب أن إطراحه هذه الرواية لضعفها وشذوذها واضطراب لفظها. انتهى. وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في موافقة الشيخ المفيد في ما ذهب اليه من التحريم خلف القبور مطلقا للروايتين المذكورتين في كلامه وتصويب الشيخ المفيد (قدس‌سره) في رد صحيحة الحميري الدالة على الأمر بالصلاة خلف الامام (عليه‌السلام).

ومنشأ هذا الاختلاف هو ما عرفت من الاخبار في المقام ، فما يدل على القول بالتحريم ما لم يحصل الفاصل أو البعد المذكور في موثقة عمار صحيحة معمر بن خلاد وموثقة عمار ورواية أبي اليسع وصحيحة زرارة ومرسلة الفقيه المتقدم جميع ذلك إلا ان بإزائها ما يدل على الجواز كصحيحة علي بن يقطين وصحيحة على بن جعفر وصحيحة الحميري ورواية الاحتجاج وغيرها مما تقدم جميعه.

والأصحاب قد جمعوا بين الجميع بحمل أخبار النهي على الكراهة حيث ان الأفضل ـ كما تقدم ذكره ـ هو الصلاة عند الرأس ، ويشير الى ذلك قوله (عليه‌السلام)

٢٢٤

في رواية الثمالي المتقدمة في الموضع الثاني : «وان شئت صليت خلفه وعند رأسه أفضل» نعم اجراء هذا الحمل في صحيحة زرارة ومرسلة الفقيه لا يخلو من بعد ، ولهذا احتمل بعض مشايخنا في معناهما ان المراد انه لا يجوز ان يجعل قبره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قبلة يعني مثل الكعبة يصلى إليها من كل جهة ولا مسجدا يعني السجود على القبر. والظاهر عندي بعده ولا سيما في الصحيحة المذكورة لأن هذا الكلام وقع تعليلا للنهي عن اتخاذ شي‌ء من القبور قبلة وانما يصلى خلالها يعني من غير ان يجعل شيئا منها قبلة ، ومن الظاهر البين ان المراد من هذا الكلام انما هو النهي عن الصلاة خلفها لا استقبالها من جميع الجهات فلو حمل الكلام الذي وقع تعليلا على ما ذكروه لم يصلح للتعليل مع انه مسوق له نعم يمكن حمل الخبرين المذكورين على التقية لأن العامة قد رووا نحوه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) كما نقله العلامة في المنتهى ، مع إمكان حمل الخبرين على التخصيص به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون سائر قبور الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) كما يؤذن به التعليل الذي في الخبر من التشبه باليهود.

وبالجملة فالظاهر عندي هو جواز الصلاة خلف قبورهم (عليهم‌السلام) وان كان على كراهية ، قال السيد السند في المدارك ـ بعد ان نقل كلام الشيخ المفيد (قدس‌سره) وبين انه أشار بالرواية إلى صحيحة الحميري المتقدمة ـ ما صورته : ولا بأس بالعمل بهذه الرواية لصحتها ومطابقتها لمقتضى الأصل والعمومات. وذكر المصنف في المعتبر انها ضعيفة شاذة. وهو غير واضح. انتهى.

(المقام الثاني) ـ في حكم سائر القبور ، والمشهور بين الأصحاب ـ كما عرفت ـ الحكم بالجواز على كراهة ، وتقدم ايضا مذهب المشايخ القائلين بالتحريم. واما الاخبار المتعلقة بذلك فقد عرفت دلالة صحيحة زرارة على جواز الصلاة خلال القبور والمنع من اتخاذها قبلة ومثلها صحيحة معمر بن خلاد ، والأصحاب قد حملوهما على الكراهة جمعا

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٢.

٢٢٥

بينهما وبين صحيحتي علي بن يقطين وعلي بن جعفر الدالتين على جواز الصلاة بين القبور.

ولقائل أن يقول من جانب القول بالتحريم ان صحيحتي علي بن يقطين وعلي بن جعفر انما دلتا على جواز الصلاة بين القبور وهو أعم من التوجه إليها وعدمه فغايتهما الدلالة على ذلك بالإطلاق ، والصحيحتان المعارضتان قد فصلتا بالفرق بين الصلاة خلالها فإنه جائز والصلاة إليها فإنه محرم ، وقضية القاعدة المقررة حمل المجمل على المفصل والمطلق على المقيد. نعم قد ورد جواز الصلاة خلف القبر صريحا بالنسبة إلى قبور الأئمة (عليهم‌السلام) كما تقدم ، فيجب تخصيص الصحيحتين المانعتين من الصلاة خلف القبور بها وان لم يقل به الشيخان المذكوران ومن تبعهما ، ويبقى ما عدا قبور الأئمة (عليهم‌السلام) تحت النهي المقتضي للتحريم من غير معارض ظاهر في المعارضة.

وبالجملة فالظاهر عندي من ضم الأخبار بعضها الى بعض في هذه المسألة هو انه تجوز الصلاة الى قبور الأئمة على كراهة واما غير الأئمة فالظاهر التحريم. واما موثقة عمار المتقدمة فقد عرفت ان الأصحاب يحملونها على الكراهة جمعا بينها وبين صحيحتي علي بن يقطين وعلي بن جعفر ، ويأتي على ما اخترناه من تخصيص الصحيحتين المذكورتين بالصلاة خلال القبور من غير استقبال شي‌ء منها ثبوت الكراهة في الصورة المذكورة دون صورة الاستقبال فهو باق على ظاهر النهي والتحريم المفهوم من قوله في الخبر «لا يجوز» وحينئذ فقوله «لا يجوز» محمول على ظاهره بالنسبة إلى صورة الاستقبال وعلى الكراهة بالنسبة الى ما عدا ذلك. وما يقال ـ من لزوم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه وهو ممنوع عند الأصوليين ـ مدفوع بما قدمنا في غير موضع من وجود ذلك في الاخبار في مواضع لا تحصى ، وقد صرح بجواز ذلك ايضا الشهيد في الذكرى في مسألة الصلاة في السنجاب والحواصل. هذا ، وجملة من الاخبار المتقدمة أيضا مجملة في النهي عن الصلاة في المقابر وفي بعضها على القبر.

وبالجملة فإنا لم نجد في الاخبار معارضا صريحا لصحيحة زرارة ومعمر بن خلاد

٢٢٦

الدالتين على النهي عن اتخاذ القبور قبلة إلا الاخبار الدالة على الصلاة خلف قبور الأئمة (عليهم‌السلام) وقد عرفت ان الشيخين المتقدمين ومن تبعهما قد أطلقا الحكم بالتحريم إلا ان مقتضى التأمل في الأخبار تخصيص التحريم بغير قبور الأئمة (عليهم‌السلام) كما شرحناه وأوضحناه. والوجه في استثناء قبورهم (عليهم‌السلام) مزيد الشرف لها على غيرها. والاحتياط لا يخفى.

فروع

(الأول) ـ الحق جمع من الأصحاب بالقبور القبر والقبرين ، قال في البحار ومستنده غير واضح. أقول : ان كان هذا الإلحاق بالنسبة إلى الصلاة خلف القبر فإنه صحيح لان الحكم معلق باستقبال القبر ولا يشترط فيه التعدد ، وان كان بالنسبة إلى الصلاة على القبر فكذلك ، وان كان بالنسبة إلى البينية فما ذكره (قدس‌سره) من عدم وضوح المستند جيد لان مورد الاخبار القبور.

(الثاني) ـ قد عرفت في ما تقدم من كلام المفيد (قدس‌سره) بعد حكمه بالتحريم انه حكم بزواله بالحائل ولو قدر لبنة أو عنزة منصوبة أو ثوب موضوع ، وكذلك حكم الأصحاب بزوال الكراهة بذلك. وهو مشكل حيث انا لم نقف على مستنده ، والذي ورد في موثقة عمار زوال ذلك ببعد عشرة أذرع من الجوانب الأربعة إذا كانت الصلاة بين القبور. واكتفى الشيخ بكون القبر خلف المصلى عن البعد ، قال في الروض : وهو متجه مع عدم صدق الصلاة بين المقابر كما لو جعل المقبرة خلفه وإلا فقد تقدم اعتبار تأخر القبر عنه من خلفه عشرة أذرع. انتهى. وهو جيد. نعم لو كان الحائل جدارا ونحوه مما يخفى به القبر فلا إشكال في جواز الصلاة من غير تحريم ولا كراهة لأن القبر يخرج عن كونه قبلة ولانه يلزم الكراهة ولو كان بينهما جدران متعددة.

(الثالث) ـ قال في المنتهى : لو بنى مسجدا في المقبرة لم تزل الكراهة

٢٢٧

لأنها لا تخرج عن الاسم. انتهى. والظاهر ان مراده ان اتخاذ المسجد في المقبرة لا يرفع كراهة الصلاة فيها من حيث المسجدية ، إلا ان ظاهر هذا الكلام يعطي جواز بناء المسجد في المقبرة ، وهو مشكل لما رواه في الفقيه عن سماعة بن مهران (١) قال : «وسأله سماعة بن مهران عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها؟ فقال اما زيارة القبور فلا بأس بها ولا يبنى عندها مساجد». ويؤيده ان الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في أن الأراضي المحبوسة على المنافع العامة كالشوارع والمشارع والطرق والمقابر والأسواق ونحوها لا يجوز التصرف فيها على وجه يمنع الانتفاع بها في ما هي معدة له.

(الرابع) ـ قال في الروض : وكما تكره الصلاة الى القبر تكره عليه من غير تحريم إلا ان يعلم نجاسة ترابه باختلاطه بصديد الموتى لتكرر النبش ويوجب التعدي اليه أو سجوده عليه ، وقال ابن بابويه يحرم. أقول : ويدل على النهي عن الصلاة على القبر عموم النهى عن الصلاة في المقابر وخصوص رواية ابن ظبيان المتقدمة.

ومنها ـ النار وقيدها بعضهم بالمضرمة وظاهر الاخبار العموم وعليه العمل ، والظاهر انه لا خلاف بينهم في النهي عن الصلاة إليها.

ويدل عليه ما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل يصلى والسراج موضوع بين يديه في القبلة؟ قال لا يصلح له ان يستقبل النار».

وفي الموثق عن عمار الساباطي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا يصلي الرجل وفي قبلته نار أو حديد. قلت إله ان يصلي وبين يديه مجمرة شبه؟ قال نعم ، فان كان فيها نار فلا يصلي حتى ينحيها عن قبلته. وعن الرجل يصلي وفي قبلته قنديل معلق وفيه نار إلا انه بحياله. قال إذا ارتفع كان شرا لا يصلى بحياله».

والمشهور ان النهي في هذين الخبرين محمول على الكراهة ، ونقل عن ابي الصلاح

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٥ من الدفن.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٠ من مكان المصلي.

٢٢٨

انه لا يجوز أخذا بظاهر النهي في الخبرين المذكورين.

ويدل على الجواز ما رواه الشيخ والصدوق عن عمرو بن إبراهيم الهمداني رفع الحديث (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا بأس ان يصلي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه ، ان الذي يصلي له أقرب إليه من الذي بين يديه». ونسبه في التهذيبين الى الشذوذ والرخصة.

وقال في الفقيه بعد نقل صحيحة علي بن جعفر المذكورة : هذا هو الأصل الذي يجب ان يعمل به فاما الحديث الذي روى عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) ـ انه قال : «لا بأس ان يصلي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه لأن الذي يصلى له أقرب إليه من الذي بين يديه». ـ فهو حديث يروى عن ثلاثة من المجهولين بإسناد منقطع يرويه الحسن بن علي الكوفي ـ وهو معروف ـ عن الحسين بن عمرو عن أبيه عن عمرو بن إبراهيم الهمداني ـ وهم مجهولون ـ يرفع الحديث قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ذلك» ولكنها رخصة اقترنت بها علة صدرت عن ثقات ثم اتصلت بالمجهولين والانقطاع فمن أخذ بها لم يكن مخطئا بعد ان يعلم ان الأصل هو النهي وان الإطلاق هو رخصة والرخصة رحمة. انتهى.

أقول : صورة سند الخبر المذكور في كتاب العلل «عن أبيه ومحمد بن الحسن عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد الأشعري عن الحسن بن علي بن الحسين بن عمرو. الى آخر ما ذكره» وما ذكره (قدس‌سره) من حمل هذا الخبر على الرخصة يحتمل ان يكون مراده الجواز وان كان مكروها فيكون النهي في الخبر الأول محمولا على الكراهة كما هو المشهور فلا منافاة ، ويحتمل ان يكون مراده بخبر النهي التحريم وخبر الرخصة من حيث الضرورة مثل ان يجاء بالنار في قبلته وهو يصلى وهو لا يتمكن من الانحراف عنها ولا قطع الصلاة فيتم صلاته. ولعل الأول أقرب وان كان الثاني بلفظ

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٠ من مكان المصلي.

٢٢٩

الرخصة أنسب. ثم ان ما ذكره من قوله : «صدرت عن ثقات» موافق لما ذكره شيخ الطائفة في العدة الأصولية من ان أحاديث أصحابنا مأخوذة من أصول جمعها الثقات من قدمائنا وقد وقع إجماع الطائفة وفيهم الأئمة (عليهم‌السلام) على صحة تلك الأصول فلا يضر كون بعض رواتها ضعيفا أو مجهولا. انتهى وبذلك اعترف في هذا الخبر في المدارك فقال بعد نقل كلام الصدوق : وربما كان في هذا الكلام شهادة منه بصحة الرواية. أقول : بل فيه إشعار بالشهادة بصحة جميع الروايات لان جميع أصحاب الأصول معروفون عنده معلومون وان حصل في الطريق إليهم من يرمى بالضعف والمجهولية ونحوهما والمراد بالثقات هنا هو الحسن بن علي الكوفي ومن تقدمه في سند العلل المتقدم ويحتمل ان يكون المصنف نقل الخبر الذي في الفقيه من كتاب الحسن بن علي الكوفي أو من كتاب محمد بن احمد بن يحيى الأشعري كما نقله في التهذيب فيكون الثقات هم الرواة لتلك الأصول والسلسلة بين المصنف وبين أصحاب الأصول. ويظهر من الصدوق توثيق الحسن بن علي الكوفي وهو الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة الكوفي فإن معنى قوله «معروف» يعنى بالوثاقة ولهذا وجه القدح الى من بعده ، وفيه رد على شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) حيث رد حديث الحسن بن علي الكوفي ورماه بالضعف في غير موضع من المسالك. واما وصف من روى عنهم الحسن بن علي بكونهم مجهولين يعني عند المصنف وعندنا حيث لم نقف على أحوالهم في ما وصل إلينا من كتب الاخبار ولا يستلزم ذلك كونهم مجهولين عند أصحاب الأصول الذين أخذوا عنهم.

أقول : والذي يختلج في بالي ويتردد في فكري وخيالي في معنى الخبر الذي حملوه على الرخصة ان المراد منه معنى آخر غير ما ذكروه ولعله الأقرب ، وهو انه لا يخفى ان الكراهة وعدمها في هذا المقام تتفاوت باعتبار أحوال المصلين وإقبالهم على الله سبحانه في صلاتهم وعدمه فمن كان وجه قلبه متوجها الى الله عزوجل لا الى غيره وفكره مستغرقا في مراقبته في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده فلا يضره ما يكون بين يديه من

٢٣٠

هذه الأشياء ولا يشغله عن ملاحظته ، ومن لم يكن كذلك فهو المراد بأخبار النهي لأن هذه الأشياء تكون موجبة لشغل قلبه وتشويش فكره. ومما يؤيد ذلك ما رواه في كتاب التوحيد عن ابن ابي عمير (١) قال : «رأى سفيان الثوري أبا الحسن (عليه‌السلام) وهو غلام يصلي والناس يمرون بين يديه فقال له ان الناس يمرون بين يديك وهم في الطواف؟ فقال (عليه‌السلام) الذي أصلي له أقرب من هؤلاء». وبمضمونه أخبار أخر ستأتي ان شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فاعلم انه قد روى الطبرسي في الاحتجاج عن محمد بن جعفر الأسدي (٢) قال : «كان في ما ورد علي من محمد بن عثمان العمري عن القائم (عليه‌السلام): واما ما سألت عنه من أمر المصلي والنار والصورة والسراج بين يديه هل تجوز صلاته فان الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك؟ فإنه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأوثان والنيران يصلي والنار والصورة والسراج بين يديه ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأوثان والنيران». ورواه الصدوق في كتاب كمال الدين مسندا عن محمد بن جعفر الأسدي. ويمكن حمل التفصيل في هذا الخبر على ان الكراهة بالنسبة إلى أولاد عبدة النيران والأوثان أشد واحتمال ارادة التحريم ليس بذلك البعيد أيضا إلا ان الظاهر ان الأول أقرب. والله العالم.

ومنها ـ صلاة الفريضة في جوف الكعبة على المشهور وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في صدر المقدمة الرابعة في القبلة.

ومنها ـ بيوت المجوس وعللوا ذلك بعدم انفكاكها عن النجاسة ، ولا يخفى ان هذه العلة جارية في غيرهم من اليهود والنصارى ونحوهم مع انهم لا يقولون بذلك بل العلة الحقيقية انما هو النص وهو ما رواه أبو بصير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في بيوت المجوس فقال رش وصل». وما رواه عبد الله بن سنان في

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٣٠ من مكان المصلي.

(٣) الوسائل الباب ١٤ من مكان المصلى.

٢٣١

الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس فقال رش وصل». وقد قطع الأصحاب بزوال الكراهة بالرش كما دل عليه الخبران.

وقد صرحوا بالكراهة أيضا في بيت فيه مجوسي وتجوز بلا كراهة إذا كان الذي فيه نصرانيا أو يهوديا ، ويدل عليه ما رواه في الكافي عن أبي أسامة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا يصلى في بيت فيه مجوسي ولا بأس ان يصلى وفيه يهودي أو نصراني». وظاهر الخبرين الأولين كراهة الصلاة في بيته وان لم يكن فيه حتى يرشه وظاهر الثالث كراهة الصلاة في البيت الذي فيه المجوسي وان لم يكن بيته بل من حيث مجرد حضوره فيه ولهذا لم يذكر الرش هنا لتغاير العلتين في الخبرين والخبر الثالث قد رواه الشيخ عن أبي جميلة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) مثل خبر أبي أسامة.

وظاهرهم الجواز من غير كراهة في البيع والكنائس ، ونقل عن ابن إدريس وسلار وابن البراج انهم كرهوا الصلاة في البيع والكنائس محتجبين بعدم انفكاكها من النجاسة ، قال في المدارك وهو ضعيف.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البيع والكنائس يصلى فيها؟ قال نعم. قال وسألته هل يصلح نقضها مسجدا؟ فقال نعم».

وعن عبد الله بن سنان (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في البيع والكنائس فقال رش وصل. قال وسألته عن بيوت المجوس فقال رشها وصل». وصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة أيضا.

__________________

(١ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١٣ من مكان المصلى. والأولى رواية الشيخ والثالثة للكليني.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٦ من مكان المصلي.

٢٣٢

وما رواه في الكافي عن الحكم بن الحكم (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول وسئل عن الصلاة في البيع والكنائس فقال : صل فيها قد رأيتها ما أنظفها. قلت أيصلى فيها وان كانوا يصلون فيها؟ قال نعم أما تقرأ القرآن قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٢) صل إلى القبلة وغربهم».

وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) في حديث قال : «سألته عن الصلاة في البيعة فقال إذا استقبلت القبلة فلا بأس به».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٤) قال : «لا بأس بالصلاة في البيعة والكنيسة الفريضة والتطوع والمسجد أفضل».

أقول : لا يخفى ان هذه الروايات الواردة في المقام ما بين مطلق للجواز وما بين مقيد بالرش وقضية حمل المطلق على المقيد الكراهة حتى يحصل الرش الذي به تزول الكراهة. وبذلك يظهر قوة ما ذهب اليه ابن إدريس وسلار وابن البراج فلا معنى لفرقهم في هذا المقام بين بيوت المجوس التي اتفقوا فيها على الكراهة وبين البيع والكنائس التي حكموا فيها بعدم الكراهة ، فإن الرش ان كان لدفع الكراهة ففي الموضعين وان كان لا لذلك ولا يستلزم الكراهة ففي الموضعين ايضا ، فإثباتها في أحدهما دون الآخر مع اشتراك الدليل لا اعرف له وجها.

أقول : ومن الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن بواري اليهود والنصارى التي يقعدون عليها في بيوتهم أيصلى عليها؟ قال لا». أقول : حيث كان مقتضى

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من مكان المصلى والرواية في التهذيب دون الكافي.

(٢) سورة بني إسرائيل ، الآية ٨٦.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ١٣ من مكان المصلي.

(٥) ص ٨٦ ورواه الشيخ في التهذيب ج ١ ص ٢٤٢ راجع الوسائل الباب ٧٣ من النجاسات.

٢٣٣

الأصل الطهارة فالخبر اما محمول على علم النجاسة فيكون النهي للتحريم أولا فيكون النهي محمولا على الكراهة.

وما رواه في الكافي عن عامر بن نعيم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن هذه المنازل التي ينزلها الناس فيها أبوال الدواب والسرجين ويدخلها اليهود والنصارى كيف نصلي فيها؟ قال صل على ثوبك».

أقول : يستفاد من هذين الخبرين كراهة الصلاة في بيوت اليهود والنصارى ومقاعدهم وان لم يذكره الأصحاب.

ثم انه هل يشترط إذن أهل الذمة في ذلك أم لا؟ مقتضى إطلاق النص وكلام الأصحاب هو الثاني ، واحتمل الشهيد في الذكرى الأول تبعا لغرض الواقف وعملا بالقرينة. والظاهر ضعفه لإطلاق الأخبار المذكورة وما دل عليه بعضها من جواز نقضها مسجدا ، قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) بل لو علم اشتراطهم عند الوقف عدم صلاة المسلمين فيها كان شرطهم فاسدا باطلا وكذا الكلام في مساجد المخالفين وصلاة الشيعة فيها. انتهى.

ومنها ـ بيوت الخمور وبيوت النيران ، أقول : اما بيوت الخمور فيدل عليه قول ابي عبد الله (عليه‌السلام) في موثقة عمار (٢) «لا تصل في بيت فيه خمر أو مسكر». وقال في المقنع : لا يجوز الصلاة في بيت فيه خمر محصور في آنية ، قال وروى انه يجوز. أقول : هذه العبارة مأخوذة من عبارة كتاب الفقه الرضوي (٣) حيث قال (عليه‌السلام) فيه «لا تصل في بيت فيه خمر محصور في آنية». وبنحو هذه العبارة عبر في من لا يحضره الفقيه ايضا. قال في المدارك : ومنع الصدوق في من لا يحضره الفقيه من الصلاة في بيت فيه خمر محروز في آنية مع انه حكم بطهارة الخمر واستبعده المتأخرون لذلك ولا بعد فيه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٢ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٢١ من مكان المصلى.

(٣) البحار ج ١٨ الصلاة ص ١١٣.

٢٣٤

بعد ورود النص به. انتهى. أقول : فيه ان استبعاد المتأخرين ذلك يرجع الى الجمع بين هذين الحكمين وهو قوله بالكراهة هنا مع قوله بطهارة الخمر ، وهو في محله وذلك فإنه متى كانت الخمر طاهرة فسبيلها سبيل الأشياء الطاهرة في البيت فلا مناسبة للمنع من الصلاة والحال هذه وهذا المنع انما يلائم القول بالنجاسة ، فكلامهم في الحقيقة يرجع الى الاعتراض عليه في ذهابه إلى طهارة الخمر إذ لو كان طاهرا كما يدعيه لما حكم عليه بالكراهة هنا إذ لا يعقل للحكم بالكراهة هنا مناسبة على هذا التقدير.

واما بيوت النيران ـ والمراد بها ما أعدت لإضرام النار فيها كالفرن والأتون وان لم تكن موضع عبادتها ـ فقد ذكرها الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولم أقف بعد الفحص على خبر يدل على كراهة الصلاة فيها كما اشتهر في كلامهم ، والعلامة في جملة من كتبه انما علل كراهة الصلاة فيها بكون الصلاة فيها تشبها بعبادتها. قال في المدارك : وهو ضعيف جدا والأصح اختصاص الكراهة بمواضع عبادة النيران لأنها ليست موضع رحمة فلا تصلح لعبادة الله تعالى.

أقول : لا يخفى انه متى كانت المسألة عارية من النص وانما يراد التعليل بهذه المناسبات الاعتبارية فلا معنى لهذه الا صحية التي ادعاها ولا وجه لتضعيفه كلام العلامة فإنه إذا كفى في ثبوت الكراهة الأمور الاعتبارية المناسبة لتعظيم الصلاة فما ذكره العلامة فإنه إذا كفى في ثبوت الكراهة الأمور الاعتبارية المناسبة لتعظيم الصلاة فما ذكره العلامة متجه وان كان ما ذكره أوجه. نعم ذكر محمد بن علي بن إبراهيم في كتاب العلل المتقدم ذكره (١) في جملة ما عده من الأماكن التي تكره الصلاة فيها قال : ولا بيت فيه صلبان ، الى ان قال في بيان العلة : والعلة في بيت فيه صلبان انها شركاء يعبدون من دون الله تعالى فينزه الله تبارك وتعالى ان يعبد في بيت فيه ما يعبد من دون الله تعالى. انتهى. وفيه نوع ملائمة لما ذكروه في هذه المسألة إلا ان إثبات الحكم بمجرد ذلك لا يخلو من الاشكال.

__________________

(١) البحار ج ١٨ الصلاة ص ١٢٢.

٢٣٥

ومنها ـ الغائط في قبلته أو حائط ينز من بالوعة. اما الأول فيدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن الفضيل بن يسار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أقوم في الصلاة فأرى قدامي في القبلة العذرة؟ قال تنح عنها ما استطعت. الحديث». واما الثاني فيدل عليه ما رواه في الكافي عن البزنطي (٢) «عن من سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المسجد ينز حائط قبلته من بالوعة يبال فيها؟ فقال ان كان نزه من البالوعة فلا تصل فيه وان كان نزه من غير ذلك فلا بأس». والتقريب فيها انه وان كان موردها البول إلا انه متى ثبت ذلك في البول ففي الغائط بطريق اولى. وروى في الفقيه عن محمد بن أبي حمزة عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا ظهر النز من خلف الكنيف وهو في القبلة ستره بشي‌ء». ونقل في البحار (٤) عن كتاب الحسين بن عثمان قال : «روى عن ابي الحسن (عليه‌السلام) انه قال إذا ظهر النز إليك من خلف الحائط من كنيف في القبلة سترته بشي‌ء. قال ابن ابي عمير رأيتهم قد ثنوا بارية وباريتين قد ستروا بها».

ومنها ـ ان يكون بين يديه مصحف مفتوح ، وزاد بعضهم الإنسان المواجه والباب المفتوح فتكره الصلاة إليها.

أقول : اما الأول فاستندوا فيه الى رواية عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «في الرجل يصلي وبين يديه مصحف مفتوح في قبلته؟ قال لا. قلت فان كان في غلاف؟ قال نعم».

قال في المدارك : والحق به الشارح كل مكتوب ومنقوش ، وهو جيد للمسامحة في أدلة السنن وان كان للمناقشة في أمثال هذه المباني المستنبطة مجال.

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من مكان المصلي.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٨ من مكان المصلي.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ١٣ من مكان المصلي.

(٥) الوسائل الباب ٢٧ من مكان المصلي.

٢٣٦

أقول : لعل المستند لما نقله عن جده (قدس‌سره) ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن العلوي عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان ينظر في نقش خاتمه وهو في الصلاة كأنه يريد قراءته أو في مصحف أو في كتاب في القبلة؟ قال ذلك نقص في الصلاة وليس يقطعها». والسيد السند حيث لم يقف على الرواية نسب ذلك الى الاستنباط والظاهر ان جده لم يقف عليها ايضا وانما ذكر الحكم بالتقريب الذي ذكره سبطه كما هي قاعدتهم في غير موضع لكن الخبر ـ كما ترى ـ ظاهر في الحكم المذكور فلا اشكال.

ثم العجب من السيد السند (قدس‌سره) انه مع اعترافه بكون ذلك من المباني المستنبطة كيف يذكر أولا انه جيد ويعلل ذلك بالمسامحة في أدلة السنن؟ أليس السنن من الأحكام الشرعية المتوقف تشريعها على الدليل؟ وهل تبلغ المسامحة في الأحكام الشرعية الى هذا المقدار؟ وغاية ما بلغ إليه الأصحاب بناء على هذا الاصطلاح المحدث هو الاكتفاء بالخبر الضعيف في ذلك لا مجرد القول من غير خبر قياسا على الأشباه والنظائر فإنه من القياس الممنوع منه ، على ان جمعا منهم نبهوا على انه ليس الاعتماد في ذلك على الخبر الضعيف بل على الاخبار المستفيضة الدالة على ان «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمله ابتغاء ذلك الثواب كان له وان لم يكن الأمر كما بلغه» (٢). وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو من مسامحة.

واما الثاني فيمكن ان يكون المستند فيه ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن علي ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل يكون في صلاته هل يصلح له ان تكون امرأة مقبلة بوجهها عليه في القبلة قاعدة أو قائمة؟ قال يدرأها عنه فان لم يفعل لم يقطع ذلك صلاته». ومورد الخبر وان كان أخص مما ذكروه إلا ان الظاهر

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٧ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ١٨ من مقدمة العبادات.

(٣) الوسائل الباب ٤٣ من مكان المصلي.

٢٣٧

انه لا خصوصية للمرأة بذلك توجب قصر الحكم عليها خصوصا مع جواز النظر الى وجه الأجنبية فإن أكثر الأحكام انما خرجت سؤالا وجوابا في الرجال مع حكمهم فيها بالعموم للنساء إلا مع ظهور ما يوجب التخصيص ، ويؤيده ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (١) «انه كره ان يصلي الرجل ورجل بين يديه قائم».

واما الثالث فلم أقف له على دليل. والقول بالكراهة في هذين الموضعين الأخيرين منقول عن ابي الصلاح واعترف المتأخرون بعدم الوقوف له على دليل فيهما حتى ان المحقق في المعتبر إنما التجأ إلى انه أحد الأعيان فلا بأس باتباع فتواه. ونحن قد أثبتنا لك دليل الأول منهما. واما الثاني فلم نقف له على دليل. واما كلام المحقق هنا فلا يخفى ما فيه سيما مع ما علم من مناقشته للشيخ وأمثاله في طلب الأدلة وصحتها متى لم يصل اليه الدليل بل يناقشهم مع وجود الأدلة بزعم ضعفها ولم نره يعتمد على مجرد التقليد وحسن الظن بمن تقدمه من الأعيان إلا في هذا المكان. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في استحباب السترة بضم السين للمصلي في قبلته ونقل عليه في المنتهى الإجماع عن كافة أهل العلم.

وقد دل على ذلك جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ والكليني عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «كان طول رحل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذراعان وكان إذا صلى وضعه بين يديه يستتر به ممن يمر بين يديه».

وما روياه في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يجعل العنزة بين يديه إذا صلى». أقول : والعنزة بفتح العين المهملة وتحريك النون وبعدها زاى : عصاه في أسفلها حربة

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٤ من مكان المصلي.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٢ من مكان المصلي.

٢٣٨

وفي الصحاح أنها أطول من العصا واقصر من الرمح.

وما رواه في التهذيب عن غياث عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وضع قلنسوة وصلى إليها».

وعن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا صلى أحدكم بأرض فلاة فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرجل فان لم يجد فحجرا فان لم يجد فسهما فان لم يجد فليخط في الأرض بين يديه». قال في الوافي : «مثل مؤخرة الرحل» يعني بتلك المماثلة ارتفاعه من الأرض.

وعن محمد بن إسماعيل في الصحيح عن الرضا (عليه‌السلام) (٣) «في الرجل يصلى؟ قال يكون بين يديه كومة من تراب أو يخط بين يديه بخط».

وعن عبد الله بن ابي يعفور في الموثق (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل هل يقطع صلاته شي‌ء مما يمر به؟ فقال لا يقطع صلاة المسلم شي‌ء ولكن ادرأوا ما استطعتم».

وعن ابي بصير في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «لا يقطع الصلاة شي‌ء كلب ولا حمار ولا امرأة ولكن استتروا بشي‌ء فإن كان بين يديك قدر ذراع رافع من الأرض فقد استترت».

وما رواه في الكافي عن علي رفعه عن محمد بن مسلم (٦) قال : «دخل أبو حنيفة على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فقال له رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم وفيه ما فيه فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ادعوا لي موسى فدعي فقال يا بني ان أبا حنيفة يذكر انك كنت تصلي والناس يمرون بين يديك فلم تنههم؟ فقال نعم يا أبت ان الذي كنت أصلي له كان أقرب الي منهم يقول الله تعالى : «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٢ من مكان المصلي.

(٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١١ من مكان المصلي.

٢٣٩

الْوَرِيدِ» (١) قال فضمه أبو عبد الله (عليه‌السلام) الى نفسه ثم قال بأبي أنت وأمي يا مستودع الأسرار». قال في الكافي : وهذا تأديب منه (عليه‌السلام) لا انه ترك الفضل. قال في الوافي بعد نقل ذلك عنه : أقول ليس في الحديث انه (عليه‌السلام) ترك السترة وانما فيه انه لم ينه الناس عن المرور فلعله لا يلزم نهى الناس بعد وضع السترة وانما اللازم حينئذ حضور القلب مع الله تعالى حتى يكون جامعا بين التوقير الظاهر للصلاة والتوقير الباطن لها ولهذا أدب (عليه‌السلام) أبا حنيفة بذلك وكأن هذا هو المراد من كلام صاحب الكافي.

وما رواه في التهذيب عن سفيان بن خالد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «انه كان يصلي ذات يوم إذ مر رجل قدامه وابنه موسى (عليه‌السلام) جالس فلما انصرف قال له ابنه يا أبت ما رأيت الرجل مر قدامك؟ فقال يا بني ان الذي أصلي له أقرب الي من الذي مر قدامي».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي وامامه شي‌ء عليه ثياب؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي وامامه ثوم أو بصل نابت؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي والسراج موضوع بين يديه في القبلة؟ قال لا يصلح له ان يستقبل النار. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي وامامه حمار واقف؟ قال يضع بينه وبينه عودا أو قصبة أو شيئا يقيمه بينهما ويصلى لا بأس. قلت فان لم يفعل وصلى أيعيد صلاته أو ما عليه؟ قال لا يعيد صلاته وليس عليه شي‌ء وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلى وامامه النخلة وفيها حملها؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي في الكرم وفيه حمله؟ قال لا بأس. وسألته عن الرجل

__________________

(١) سورة ق ، الآية ١٥.

(٢) الوسائل الباب ١١ من مكان المصلي.

(٣) الوسائل الباب ١١ و ٣٠ و ٣٧ و ٤٣ من مكان المصلى.

٢٤٠