الحدائق الناضرة - ج ٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

ابن مروان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان جبرئيل أتاني فقال انا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تمثال جسد ولا إناء يبال فيه». وعن عمرو بن خالد عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال جبرئيل يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان ولا بيتا يبال فيه ولا بيتا فيه كلب». وأنت خبير بما في هذا الاستدلال من البعد عن المدعى إذ المدعى بيوت الغائط والبول لا يستلزم الغائط.

والذي وقفت عليه هنا مما يناسب ذلك ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط أو مقبرة». وفي رواية «أو حمام» وما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أقوم في الصلاة فأرى قدامي في القبلة العذرة؟ فقال تنح عنها ما استطعت». والظاهر ان ما اشتملت عليه هذه الرواية مكروه آخر غير ما نحن فيه وهو ان يصلي الى عذرة في قبلته كما ذكره بعض الأصحاب. وبالجملة فالمقام وان كان مقام كراهة يتسامح بينهم في دليله لكن الكلام في ان كون الحكم شرعيا يتوقف على الدليل الشرعي الواضح.

ومنها ـ مبارك الإبل وفي مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدمة وغيرها معاطن الإبل وبه عبر بعضهم ايضا وهو مبارك الإبل حول الماء ، قال في الصحاح العطن والمعطن واحد الأعطان والمعاطن وهي مبارك الإبل عند الماء لتشرب علا بعد نهل. وقال في القاموس العطن محركة وطن الإبل ومنزلها حول الحوض. وكلامهما وكذا كلام غيرهما من أهل اللغة صريح في تخصيص اسم المعاطن بمبارك الإبل عند الشرب ، والمفهوم من كلام الأصحاب انه أعم من ذلك وبه صرح ابن إدريس في السرائر فقال بعد تفسير المعطن

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣٣ من مكان المصلي.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٣١ من مكان المصلي.

٢٠١

بما نقلناه عن أهل اللغة : هذا حقيقة المعطن عند أهل اللغة إلا ان أهل الشرع لم يخصصوا ذلك بمبرك دون مبرك. انتهى. ولعلهم بنوه على عدم تعقل الفرق بين موضع الشرب وغيره ، وهو محتمل إلا انه لا يخلو من نوع اشكال لان من قواعدهم الرجوع في معاني الألفاظ بعد تعذر الحقيقة الشرعية والعرف الخاص الى كلام أهل اللغة.

ثم ان القول بالكراهة هو المشهور ونقل عن ابي الصلاح القول بالتحريم وهو ظاهر الشيخ المفيد في المقنعة أيضا أخذا بظاهر النهي.

ومن اخبار المسألة زيادة على ما تقدم في مرسلة عبد الله بن الفضل صحيحة محمد ابن مسلم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في أعطان الإبل فقال إذا تخوفت الضيعة على متاعك فاكنسه وانضحه وصل ولا بأس بالصلاة في مرابض الغنم».

وصحيحة على بن جعفر المروية في كتابه عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الصلاة في معاطن الإبل أتصلح؟ قال لا تصلح إلا ان تخاف على متاعك ضيعة فاكنس ثم انضح بالماء ثم صل. وسألته عن معاطن الغنم أتصلح الصلاة فيها؟ قال نعم لا بأس به». وموثقة سماعة (٣) قال : «سألته عن الصلاة في أعطان الإبل وفي مرابض البقر والغنم؟ فقال ان نضحته بالماء وقد كان يابسا فلا بأس بالصلاة فيها فاما مرابض الخيل والبغال فلا».

وحمل الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب هذه الرواية على الضرورة والخوف على المتاع كما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الحلبي (٤) «أنه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال صل فيها ولا تصل في أعطان الإبل إلا ان تخاف على متاعك الضيعة فاكنسه ورشه بالماء وصل فيه».

أقول : ظاهر هذه الاخبار من حيث دلالتها على انه ان كان يخاف على متاعه

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٧ من مكان المصلي.

٢٠٢

الضيعة جاز له الصلاة فيه من غير كراهة بعد ان يكنسه ويرشه هو الدلالة على القول المشهور في تفسير أعطان الإبل بمباركها حيث كان من غير تقييد بما ذكره أهل اللغة ، بل الظاهر التخصيص بموضع النزول وذلك فان الظاهر من هذا الكلام هو ان القافلة متى نزلوا في مكان فجمالهم ورحالهم وأثقالهم في ذلك المكان وانه تكره الصلاة في ذلك المكان فينبغي ان يخرج الى مكان آخر خارج عن محل النزول إلا إذا كان يخاف من خروجه الضيعة على متاعه فإنه يصلي فيه ، وإلا فإنه لا مناسبة بين هذا التعليل وبين تخصيص المعاطن بمواضع السقي كما هو ظاهر فان موضع السقي ليس مقام متخذ للنزول ووضع الأثقال والأحمال فيه.

ثم ان ظاهر كلامهم انه لا فرق في الكراهة أو التحريم بين وجود الإبل في ذلك المكان وعدمه ، وبذلك صرح في المنتهى ايضا معللا بأنها بانتقالها عنه لا يخرج عن اسم المعطن إذا كانت تأوي اليه ، وظاهر هذا التعليل انه لو كان ذلك الموضع انما اتفق بروكها فيه مرة واحدة ثم لم تعد اليه لم يتعلق به الحكم.

ثم انه قد صرح الأصحاب أيضا بكراهة الصلاة في مرابط الخيل والبغال ، وعن ابي الصلاح هنا ايضا القول بالتحريم ، ومن الاخبار الدالة على النهي هنا أيضا موثقة سماعة المتقدمة ومثلها موثقته الأخرى (١) إلا انها مقطوعة وفيها زيادة الحمير على الخيل والبغال.

ومنها ـ مساكن النمل وهو المعبر عنه في خبر عبد الله بن الفضل المتقدم بقرى النمل وهو جمع قرية وهي مجتمع ترابها حول جحرتها ، ويدل على ذلك زيادة على الخبر المتقدم ما رواه في كتاب المحاسن بسنده عن عبد الله بن عطاء (٢) قال «ركبت مع ابي جعفر (عليه‌السلام) وسار وسرت حتى إذا بلغنا موضعا قلت الصلاة جعلني الله فداك قال هذا ارض وادي النمل لا يصلى فيه حتى إذا بلغنا موضعا آخر قلت له مثل ذلك فقال

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٢٠ من مكان المصلى.

٢٠٣

هذه الأرض مالحة لا يصلى فيها». أقول : نقل شيخنا في البحار ان في بعض النسخ «نصلي» في الموضعين بالنون وفي بعضها بالياء ، ثم قال : فعلى الأول ظاهره اختصاص الحكم بهم (عليهم‌السلام) فالمراد التحريم أو شدة الكراهة فلا ينافي حصول الكراهة في الجملة لغيرهم ورواه العياشي في تفسيره (١) إلا ان فيه هكذا «فسرنا حتى زالت الشمس وبلغنا مكانا قلت هذا المكان الأحمر فقال ليس يصلى ههنا هذه أودية النمال وليس يصلى فيها قال فمضينا إلى أرض بيضاء قال هذه سبخة وليس يصلى بالسباخ. قال فمضينا إلى أرض حصباء قال ههنا فنزل. الخبر». وظاهر الخبر كراهة الصلاة في وادي النمل وان لم تكن عند قرأها وجحرتها إلا ان يحمل على كون الوادي مملوء بذلك ، وربما علله بعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) بعدم انفكاك المصلى من أذاها وقتل بعضها. ويدل على الأول ما في كتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم ، قال : والعلة في جحرة النمل ان النمل ربما آذاه فلا يتمكن من الصلاة.

ومنها ـ مجاري المياه وهو المكان المعد لجريانه وان لم يكن فيه ماء ، وقد تقدم في كلام الصدوق تعليل النهي بأنه لا يؤمن ان يجري الماء اليه وهو في صلاته ، والظاهر انه لا دليل عليه إلا خبر عبد الله بن الفضل المتقدم صدر الكلام ، وظاهر الخبر المذكور أعم من ان يكون الماء موجودا فيه أم لا فلو قصر الحكم على ما إذا كان موجودا أو يخاف هجومه في حال الصلاة لكان أظهر.

وفي شمول الحكم للصلاة في السفينة باعتبار كونها في مجرى الماء وكذا على الساباط الذي على نهر يجري فيه الماء إشكال ينشأ من صدق الصلاة في مجرى الماء ، ومن ان المتبادر من العبارة هو إيقاع الصلاة في الأرض التي يجري فيها الماء فعلا أو قوة باعتبار إعدادها لذلك ، والاشكال في الساباط أضعف. وقد صرح في المنتهى بدخول هذين الفردين في حكم المسألة المذكورة.

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ١٥ من مكان المصلى.

٢٠٤

وقيل بالكراهة في بطون الأودية التي يخاف فيها هجوم السيل ، والظاهر انه يرجع الى الأول لأن المراد بالمجاري ما يحصل فيه الجريان من واد وغيره ، وقد روى الشيخان في الكافي والتهذيب عن ابي هاشم الجعفري (١) قال : «كنت مع ابي الحسن (عليه‌السلام) في السفينة في دجلة فحضرت الصلاة فقلت جعلت فداك نصلي في جماعة؟ فقال لا يصلى في بطن واد جماعة». وهذا الخبر كما يدل على صدق الوادي على المجرى من حيث اتساعه كذا يدل على ان حكم الصلاة في السفينة إذا كانت في مجرى الماء حكم أصل المجرى. وبه يتجه دخول هذا الفرد تحت الحكم المذكور كما صرح به شيخنا المتقدم ذكره. ولعل التخصيص بالجماعة وقع من حيث سؤال السائل عن الجماعة فلا منافاة لما دل على الحكم المذكور مطلقا.

بقي هنا شي‌ء وهو انه قال في المدارك بعد تفسير مجرى المياه بأنها الأمكنة المعدة لجريانها فيها : وقيل تكره الصلاة في بطون الأودية التي يخاف فيها هجوم السيل ، قال في النهاية فإن أمن السيل احتمل بقاء الكراهة اتباعا لظاهر النهي وعدمها لزوال موجبها ولم أقف على ما ادعاه من الإطلاق. انتهى. أقول : الظاهر ان ما ذكره من عد الأودية هنا بناء على دخولها تحت مجرى المياه باعتبار جريان السيول فيها فيصدق عليها مجرى المياه وحيث ان العلامة ادعى احتمال بقاء الكراهة وان أمن السيل تمسكا بالإطلاق رده السيد (قدس‌سره) بأنه لا نص في هذه المسألة بالكلية حتى يستند إلى إطلاقه.

أقول : اما النهي عن بطون الأودية فقد ورد وان لم يكن مشهورا إلا ان كون العلة فيه ما ذكره من هجوم السيل غير معلوم بل ربما علل بأمر آخر ، فالأظهر أن يجعل هذا فردا من افراد المسألة على حدة وهو كراهة الصلاة في بطون الأودية.

والذي يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب المجالس في جملة المناهي المنقولة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) قال : «ونهى ان يصلي الرجل في المقابر والطرق

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من مكان المصلى.

٢٠٥

والأرحية والأودية ومرابط الإبل وعلى ظهر الكعبة».

وفي كتاب العلل لمحمد بن إبراهيم (١) قال : «لا يصلى في ذات الجيش ولا ذات الصلاصل ولا بطون الأودية. ، ثم ساق الكلام في باقي المناهي وذكر علل النهي الى ان قال : والعلة في بطون الأودية انها مأوى الحياة والجن والسباع. الى آخره»

وكلامه في جميع هذه العلل المذكورة في هذا الكتاب وان لم يسندها الى نص إلا ان الظاهر انه حيث كان من أصحاب الصدر الأول مثل أبيه وجده الذين لا يقولون إلا بالنصوص كما وصل إلينا في أكثر ما ذكره من هذه العلل فهو لا يقول هذا إلا بعد وصول نص اليه بذلك.

ومنها ـ الطين وقد تقدم ذكره في خبر عبد الله بن الفضل ، والمراد بالطين هنا الوحل الذي هو طين وماء ممتزجان وإلا فالطين اليابس لا مانع من الصلاة عليه ، ولهذا قال الصدوق (قدس‌سره) في ما تقدم نقله عنه : فان حصل في الطين والماء واضطر إلى الصلاة فإنه يصلي إيماء. إلخ. وعطف الماء عليه (٢) لانه فرد آخر لا يتيسر الصلاة فيه إلا كذلك كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

والظاهر ان النهي هنا محمول على التحريم ان استلزم الصلاة ثمة منع شي‌ء من واجبات الصلاة كالاستقرار في السجود ونحوه وإلا كره لما رواه عمار في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «انه سأله عن حد الطين الذي لا يسجد عليه ما هو؟ قال إذا غرقت الجبهة ولم تثبت على الأرض».

__________________

(١) البحار ج ١٨ الصلاة ص ١٢٢.

(٢) كذا في النسخ والذي نقله عن الصدوق في ما سبق ص ١٩٨ انما اشتمل على عطف الطين على الماء على عكس قوله هنا وكذا في ما يأتي منه ايضا ص ٢٠٨ من نقله كما ذكرنا من عطف الطين على الماء. والله العالم.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من مكان المصلى.

٢٠٦

فلو اضطر إلى الصلاة فيه أومأ كما ذكره الأصحاب ، ويدل عليه موثقة عمار ايضا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل يصيبه المطر وهو في موضع لا يقدر ان يسجد فيه من الطين ولا يجد موضعا جافا؟ قال يفتتح الصلاة فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلى فإذا رفع رأسه من الركوع فليومئ بالسجود إيماء وهو قائم يفعل ذلك حتى يفرغ من الصلاة ويتشهد وهو قائم ثم يسلم».

وإطلاق الخبر وكذا إطلاق جملة من عبارات الأصحاب يدل على عدم وجوب الجلوس للسجود في الحال المذكورة وان أمكن ، وأوجب شيخنا الشهيد الثاني الجلوس وتقريب الجبهة من الأرض بحسب الممكن ، وبعض آخر بعد رد الرواية بضعف السند بناء على الاصطلاح المحدث قال بان وجوب الجلوس والإتيان بالممكن من السجود هو الاولى استنادا إلى انه لا يسقط الميسور بالمعسور (٢). وفيه ان وجوب الانحناء انما هو من باب المقدمة فوجوبه تابع لوجوب السجود الذي هو ذو المقدمة فمتى سقط وجوب ذي المقدمة سقط وجوبها. واما حديث «لا يسقط الميسور بالمعسور». فمع تسليم صحته لا يشمل ما نحن فيه إلا على تقدير كون وجوب الانحناء مستقلا ليس مترتبا على السجود والحال ان الأمر ليس كذلك. واما ضعف الخبر فمجبور بالشهرة والأمران اصطلاحيان فلا معنى للعمل بأحدهما وترك الآخر.

ومنها ـ الماء ويدل على المنع من الصلاة فيه زيادة على خبر عبد الله بن الفضل المتقدم ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل يخوض الماء فتدركه الصلاة؟ فقال ان كان في حرب فإنه يجزئه الإيماء وان كان تاجرا فليقم ولا يدخله حتى يصلي».

وعن إسماعيل بن جابر في الصحيح (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٥ من مكان المصلي.

(٢) عوائد النراقي ص ٨٨ وعناوين مير فتاح ص ١٤٦ عن عوالي اللئالي عن على «ع».

٢٠٧

وقد سأله إنسان عن الرجل تدركه الصلاة وهو في ماء يخوضه لا يقدر على الأرض؟ فقال ان كان في حرب أو في سبيل من سبيل الله فليومئ إيماء وان كان في تجارة فلم يك ينبغي له ان يخوض الماء حتى يصلي قال : قلت وكيف يصنع؟ قال يقضيها إذا خرج من الماء وقد ضيع».

وملخص ما اشتمل عليه الخبران انه ان كان الصلاة في الماء من حيث الضرورة كالحرب والخوف ونحو ذلك فليصل فيه إيماء وإلا فلا يجوز له الصلاة فيه. فلو صلى فيه والحال كذلك وجب القضاء لنقصان الصلاة فيه بالإيماء فلا تجزى اختيارا. واما الإيماء المذكور في الخبرين فينبغي تقييده بعدم إمكان ما ينوب الإيماء منابه فالإيماء عن الركوع انما يكون مع تعذره وإلا فإنه يركع وهكذا في السجود. ومن الظاهر في هذا الموضع وسابقه ان السجود متعذر فيومى له كما تقدم ، واما الركوع فهو مبني على ما ذكرناه ايضا من الإمكان وعدمه. واما ما تقدم في كلام الصدوق في صدر المسألة من قوله في الخصال : «فان حصل في الماء والطين واضطر إلى الصلاة فيه فإنه يصلى إيماء ويكون سجوده اخفض من ركوعه» فهو مبني على تعذر الركوع والسجود معا وإلا فلو تمكن من الركوع وجب كما تقدم في موثقة عمار في سابق هذا الموضع.

ومنها ـ مسان الطريق قال في القاموس : سنن الطريق مثلثة وبضمتين نهجه وجهته ومنه مسان الطريق. وقال في المغرب سنن الطريق معظمه ووسطه. ولعل المراد بالطريق الجادة أو العظيمة ولهذا وقع التفسير بالجادة في كلام جملة من الأصحاب.

والمشهور كراهة الصلاة فيها ونقل الأصحاب عن ظاهر الصدوق والشيخ المفيد التحريم ، وكأنه نظرا الى تعبيرهما بعدم الجواز في هذا المقام ، وهو وان كان ظاهرا في ذلك إلا انه قابل للحمل على تشديد الكراهة والتعبير بذلك مبالغة كما يقع مثله في الاخبار.

٢٠٨

ومن اخبار المسألة صحيحة محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في السفر؟ فقال لا تصل على الجادة واعتزل على جانبيها».

وصحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الصلاة في ظهر الطريق؟ فقال لا بأس بأن تصلى في الظواهر التي بين الجواد واما على الجواد فلا تصل فيها».

وصحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا بأس ان يصلى بين الظواهر وهي الجواد جواد الطريق ويكره ان يصلى في الجواد».

وموثقة الحسن بن الجهم عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (٤) قال : «كل طريق يوطأ فلا تصل عليه».

ورواية محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه‌السلام) (٥) قال : «كل طريق يوطأ ويتطرق كانت فيه جادة أو لم تكن فلا ينبغي الصلاة فيه».

ومن هذين الخبرين يعلم تعميم الحكم للطريق مطلقا وان لم يكن جادة ، ومنهم من خص الحكم بالجواد وهي العظمى من الطرق التي يكثر سلوكها.

وأنت خبير بأنه لو لا اعتضاد القول بالكراهة بالشهرة بين الأصحاب لكان القول بما نسب الى الصدوق والمفيد من التحريم في غاية القوة ، فإن جل الأخبار مصرحة بالنهي الذي هو حقيقة في التحريم ، وغاية ما ربما يتمسك به للقول بالكراهة قوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار : «ويكره ان يصلى في الجواد» وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن الفضيل : «فلا ينبغي» وورود هذين اللفظين بمعنى التحريم في الأخبار أكثر كثير كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع.

ثم الظاهر انه لا فرق في الكراهة بين ان تكون الطريق مشغولة بالمارة وقت الصلاة أم لا لعموم الاخبار ، واما لو استلزمت الصلاة تعطيل المارة ومنعهم عن المرور

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١٩ من مكان المصلي.

٢٠٩

فلا ريب في التحريم في ظاهر الأصحاب بل الظاهر انه لا خلاف فيه ، وقد صرح جملة منهم بفساد الصلاة أيضا والظاهر ان وجهه عندهم من حيث ان الطريق ملك للمسلمين يتطرقون فيها فالتصرف فيها على وجه يوجب رفع حقهم محرم البتة.

بقي الكلام هنا في الحكم بفساد العبادة وهو بناء على المشهور من حمل النهي على الكراهة لا يخلو من اشكال ، نعم لو قلنا بظاهر ما دلت عليه هذه الاخبار من حمل النهي فيها على التحريم اتجه الأمران معا لزم من ذلك تعطيل المارة أم لا.

هذا كله في الطرق النافذة أما الطرق المرفوعة فلا إشكال في التحريم فيها لأنها ملك لأرباب البيوت التي تنفذ إليها.

ومنها ـ السبخة بفتح الباء وإذا كانت نعتا للأرض كقولك «الأرض السبخة» فهي بكسر الباء كذا نقل عن الخليل في كتاب العين ، وقال في الروض بعد قول المصنف «وارض السبخة» ما صورته : بفتح الباء واحدة السباخ وهو الشي‌ء الذي يعلو الأرض كالملح ويجوز كون السبخة بكسر الباء وهي الأرض ذات السباخ فتكون إضافة الأرض إليها من باب اضافة الموصوف الى صفته كمسجد الجامع والظاهر ان ما ذكره الخليل أقرب

ومن الاخبار في ذلك زيادة على الخبر المتقدم في صدر المسألة موثقة أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الصلاة في السبخة لم تكرهه؟ قال لأن الجبهة لا تقع مستوية. فقلت ان كان فيها أرض مستوية؟ فقال لا بأس».

وموثقة سماعة (٢) قال : «سألته عن الصلاة في السباخ فقال لا بأس». وصحيحة الحلبي (٣) وفيها «قال وكره الصلاة في السبخة إلا ان يكون مكانا لينا تقع عليه الجبهة مستوية».

وروى في العلل عن داود بن الحصين بن السري (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) لم حرم الله تعالى الصلاة في السبخة؟ قال لأن الجبهة لا تتمكن عليها».

وحملها الأصحاب على الكراهة جمعا ، وقد تقدم في الموضع الرابع نقل روايتي

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٠ من مكان المصلي.

٢١٠

المحاسن والعياشي المتضمنتين لانه لا يصلى في أرض السبخة.

وروى في كتاب المحاسن عن المعلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن السبخة أيصلي الرجل فيها؟ فقال انما تكره الصلاة فيها من أجل أنها فتك ولا يتمكن الرجل يضع وجهه كما يريد. قلت أرأيت ان هو وضع وجهه متمكنا؟ فقال حسن». والظاهر ان قوله «فتك» من التفتيك وهو كناية عن كونها رخوة نشاشة لا تستقر الجبهة عليها. قال في القاموس : تفتيك القطن تفتيته. انتهى.

والمشهور بين الأصحاب هو الكراهة وظاهر الصدوق في كتاب العلل التحريم حيث قال : «باب العلة التي من أجلها لا تجوز الصلاة في السبخة» وظاهر كلامه المتقدم نقله عن الخصال تخصيص التحريم بالنبي والامام ، وظاهر هذه الاخبار ان العلة في الكراهة هو عدم حصول كمال التمكن للجبهة في الوقوع على الأرض من حيث رخاوتها ومع حصول كمال التمكن بكسر الموضع وتسويته أو بان توجد ارض كذلك فلا كراهة وعلى ذلك يحمل إطلاق موثقة سماعة.

ومنها ـ الثلج وقد تقدم عده في خبر عبد الله بن الفضل ، والظاهر ان النهي عن الصلاة عليه هنا محمول على التحريم لان الثلج ليس بأرض حتى يجوز السجود عليه مع وجود الأرض ومع عدم التمكن من الأرض فلا إشكال في جواز السجود عليه مع الضرورة إلا ان يحمل على الصلاة عليه مع السجود على شي‌ء آخر فلا ينافي الكراهة.

ومن الأخبار الواردة في المقام رواية داود الصرمي (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) قلت اني اخرج في هذا الوجه وربما لم يكن موضع أصلي فيه من الثلج؟ فقال ان أمكنك ان لا تسجد على الثلج فلا تسجد وان لم يمكنك فسوه واسجد عليه».

ورواية منصور عن غير واحد من أصحابنا (٣) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٢٨ من مكان المصلي.

(٣) الوسائل الباب ٤ من ما يسجد عليه.

٢١١

السلام) انا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أفنسجد عليه؟ فقال لا ولكن اجعل بينك وبينه شيئا قطنا أو كتانا».

وصحيحة معمر بن خلاد (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن السجود على الثلج؟ فقال لا تسجد على السبخة ولا على الثلج».

وموثقة عمار (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي على الثلج؟ قال لا فان لم يقدر على الأرض بسط ثوبه وصلى عليه».

أقول : الظاهر من موثقة عمار هو كراهة الصلاة على الثلج بمعنى القيام عليه في الصلاة أعم من ان يكون السجود عليه أو على غيره ، وباقي الأخبار قد اشتركت في النهي عن السجود عليه وانه مع عدم وجود الأرض يسجد على القطن أو الكتان أو ثوب من غيرهما وانه لا يسجد على الثلج إلا مع تعذر الثوب ونحوه. ويمكن حمل السجود في هذه الأخبار سؤالا وجوابا على الصلاة ، ويؤيده السؤال عن الصلاة في رواية الصرمي ووقوع الجواب بلفظ السجود ، وحينئذ فالأمر بجعل شي‌ء بينه وبينه في مرسلة منصور وقع على نحو الأمر ببسط الثوب عليه مع تعذر الأرض في رواية عمار ، وعلى هذا فلا تعرض فيها للسجود بمعنى وضع الجبهة بالكلية. وعندي ان هذا الوجه أقرب إذ لا بعد فيه إلا من حيث التجوز بإطلاق السجود على الصلاة ، ونظائره في الاخبار أكثر كثير ولا سيما اخبار «جعلت لي الأرض مسجدا.» (٣). اي مصلى ، وغيرها.

ومنها ـ مواضع بين الحرمين : (أحدها) البيداء وهي على ميل من ذي الحليفة مما يلي مكة وانما سميت بذلك لأنها تبيد جيش السفياني ومن ذلك ايضا سميت ذات الجيش

ويدل على ذلك من الأخبار صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «الصلاة تكره في ثلاثة مواطن من الطريق : البيداء وهي ذات

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٨ من مكان المصلي.

(٣) الوسائل الباب ٧ من التيمم.

(٤) الوسائل الباب ٢٣ من مكان المصلى.

٢١٢

الجيش وذات الصلاصل وضجنان. وقال لا بأس ان يصلى بين الظواهر وهي الجواد جواد الطريق ويكره ان يصلى في الجواد».

وصحيحة ابن ابي نصر (١) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) انا كنا في البيداء في آخر الليل فتوضأت واستكت وانا أهم بالصلاة ثم كأنه دخل قلبي شي‌ء فهل نصلي في البيداء في المحمل؟ فقال لا تصل في البيداء. قلت فأين حد البيداء؟ فقال كان أبو جعفر (عليه‌السلام) إذا بلغ ذات الجيش جد في السير ولا يصلى حتى يأتي معرس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). قلت واين ذات الجيش؟ قال دون الحفيرة بثلاثة أميال».

وصحيحة أيوب بن نوح عن ابي الحسن الأخير (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له تحضر الصلاة والرجل بالبيداء؟ فقال يتنحى عن الجواد يمنة ويسرة ويصلى».

وصحيحة علي بن مهزيار (٣) «انه سأل أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) عن الرجل يسير في البيداء فتدركه صلاة فريضة فلا يخرج من البيداء حتى يخرج وقتها كيف يصنع بالصلاة وقد نهى ان يصلي في البيداء؟ فقال يصلي فيها ويجتنب قارعة الطريق».

ومن هذين الخبرين يعلم حمل النهي في الخبرين الأولين على الكراهة.

قال ابن إدريس في تعداد ما يكره فيه الصلاة : والبيداء لأنها أرض خسف على ما روى في بعض الأخبار ان جيش السفياني يأتي إليها قاصدا مدينة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيخسف الله تعالى به تلك الأرض ، وبينها وبين ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة ميل واحد وهو ثلث فرسخ فحسب ، قال وكذلك يكره الصلاة في كل ارض خسف ولهذا كره أمير المؤمنين (عليه‌السلام) الصلاة في أرض بابل. انتهى.

و (ثانيها) ـ ذات الصلاصل جمع صلصال ، قال ابن إدريس هي الأرض التي لها صوت ودوي. وبذلك فسرها العلامة في المنتهى. وقيل انه الطين الحر المخلوط بالرمل فصار

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٣ من مكان المصلي.

٢١٣

يتصلصل إذا جف اي يصوت. وبه فسره الشهيد (قدس‌سره) ونقله الجوهري عن ابي عبيدة ونحوه كلام القاموس.

أقول : ان كان المراد من هذه التفسيرات في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) هو دوران الحكم بالكراهة مدارها فهو مشكل لان المفهوم من صحيحة معاوية ابن عمار المتقدمة ان هذا الاسم لموضع مخصوص كالاسمين الآخرين المذكورين معه في هذا الطريق بين الحرمين إلا اني لم أقف على تعيينه في الأخبار ولا كلام أحد من أصحابنا الأبرار.

و (ثالثها) وادي الشقرة لما رواه في الفقيه (١) مرسلا قال : «روى انه لا يصلى في البيداء ولا ذات الصلاصل ولا في وادي الشقرة ولا في وادي ضجنان».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن احمد بن محمد عن ابن فضال عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا يصلى في وادي الشقرة». ورواه الشيخ بإسناده عن احمد بن محمد مثله (٣).

قال ابن إدريس : تكره الصلاة في وادي الشقرة بفتح الشين وكسر القاف واحد الشقر موضع بعينه مخصوص سواء كان فيه شقائق النعمان أو لم يكن ، وليس كل واد يكون فيه شقائق النعمان تكره فيه الصلاة بل في الموضع المخصوص فحسب وهو بطريق مكة لأن أصحابنا قالوا تكره الصلاة في طريق مكة بأربعة مواضع من جملتها وادي الشقرة وقال العلامة في المنتهى : الشقرة بفتح الشين وكسر القاف واحد الشقر وهو شقائق النعمان وكل موضع فيه ذلك تكره الصلاة فيه ، وقيل وادي الشقرة موضع مخصوص بطريق مكة ذكره ابن إدريس. والأقرب الأول لما فيه من اشتغال القلب بالنظر إليها. وقيل هذه مواضع خسف فتكره الصلاة فيها لذلك. انتهى. أقول : بل الأقرب ما ذكره ابن

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من مكان المصلي.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٤ من مكان المصلي.

٢١٤

إدريس لما رواه البرقي في كتاب المحاسن بسنده عن عمار الساباطي (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا تصل في وادي الشقرة فإن فيه منازل الجن». وقال في كتاب مجمع البحرين : في الحديث «نهى عن الصلاة في وادي شقرة» هو بضم الشين وسكون القاف وقيل بفتح الشين وكسر القاف موضع معروف في طريق مكة ، قيل انه والبيداء وضجنان وذات الصلاصل مواضع خسف وانها من المواضع المغصوب عليها. انتهى. أقول : بل الأظهر في وجه الكراهة هو ما ذكره (عليه‌السلام) في حديث عمار المذكور.

و (رابعها) ـ وادي ضجنان وضبطه بعضهم بالضاد المعجمة المفتوحة والجيم الساكنة اسم جبل بناحية مكة.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بذلك ـ ومنها يعلم وجه الكراهة ـ ما رواه في كتاب بصائر الدرجات بسند صحيح عن علي بن المغيرة (٢) قال : «نزل أبو جعفر (عليه‌السلام) في وادي ضجنان ، وذكر حديثا يقول في آخره وانه ليقال انه واد من أودية جهنم».

وروى في كتاب الخرائج والجرائح عن علي بن المغيرة (٣) قال : «نزل أبو جعفر (عليه‌السلام) بوادي ضجنان فسمعناه يقول ثلاث مرات : «لا غفر الله لك» فقال له ابي لمن تقول جعلت فداك؟ قال مر بي الشامي «لعنه الله» يجر سلسلته التي في عنقه وقد دلع لسانه يسألني ان استغفر له فقلت له لا غفر الله لك».

وعن عبد الملك القمي عن أخيه (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول بينا انا وابي متوجهين إلى مكة فتقدم أبي في موضع يقال له ضجنان إذ جاءني رجل في عنقه سلسلة يجرها فاقبل علي فقال اسقني فسمعه ابي فصاح بي وقال لا تسقه لا سقاه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ من مكان المصلي.

(٢) الوسائل الباب ٢٣ من مكان المصلى.

(٣ و ٤) ص ١٣٤.

٢١٥

الله فإذا رجل يتبعه حتى جذب سلسلته وطرحه على وجهه في أسفل درك من النار فقال ابي هذا الشامي لعنه الله».

أقول : والمراد بالشامي في الخبرين المذكورين هو معاوية صاحب السلسلة التي ذكرها الله تعالى في سورة الحاقة (١).

ومنها ـ القبور والمراد الصلاة عليها أو إليها أو بينها ، والمشهور بين الأصحاب الكراهة في الجميع ، وعن الشيخ المفيد (قدس‌سره) انه قال لا يجوز الصلاة الى شي‌ء من القبور حتى يكون بين الإنسان وبينه حائل ولو قدر لبنة أو عنزة منصوبة أو ثوب موضوع ، ثم قال وقد روى انه لا بأس بالصلاة إلى قبلة فيها قبر امام والأصل ما قدمناه. ونقل في المنتهى عن الصدوق ايضا القول بما ذهب اليه المفيد ، والظاهر انه اشارة الى ما ذكره في الفقيه حيث قال : واما القبور فلا يجوز ان تتخذ قبلة ولا مسجدا ولا بأس بالصلاة بين خللها ما لم يتخذ شي‌ء منها قبلة. انتهى. ونقل عن ابي الصلاح ايضا القول بالتحريم وانما تردد في الابطال

وها أنا أولا اذكر الأخبار المتعلقة بالمسألة ثم أعطف الكلام على تحقيق المقام بما ظهر لي من اخبارهم (عليهم‌السلام) :

فمنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل يصلي بين القبور؟ قال لا يجوز ذلك إلا ان يجعل بينه وبين القبور إذا صلى عشرة أذرع من بين يديه وعشرة أذرع من خلفه وعشرة أذرع عن يمينه وعشرة أذرع عن يساره ثم يصلي ان شاء».

وعن علي بن يقطين (٣) قال : «سألت أبا الحسن الماضي (عليه‌السلام) عن الصلاة بين القبور هل تصلح؟ قال لا بأس».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) «انه سأله عن الصلاة بين القبور هل تصلح؟ قال لا بأس به».

__________________

(١) الآية ٣٢.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٥ من مكان المصلي.

٢١٦

وعن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) في حديث المناهي (١) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان تجصص المقابر ويصلى فيها ، ونهى ان يصلى الرجل في المقابر والطرق. الحديث».

وفي حديث يونس بن ظبيان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى ان يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن عبد الله الحميري (٣) قال : «كتبت الى الفقيه (عليه‌السلام) اسأله عن الرجل يزور قبور الأئمة (عليهم‌السلام) هل يجوز ان يسجد على القبر أم لا؟ وهل يجوز لمن صلى عند قبورهم (عليهم‌السلام) ان يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ويقوم عند رأسه ورجليه؟ وهل يجوز ان يتقدم القبر ويصلى ويجعله خلفه أم لا؟ فأجاب ـ وقرأت التوقيع ومنه نسخت ـ اما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة بل يضع خده الأيمن على القبر ، واما الصلاة فإنها خلفه يجعله الامام ولا يجوز ان يصلي بين يديه لأن الإمام لا يتقدم ويصلى عن يمينه وشماله».

وما رواه في الفقيه (٤) مرسلا قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا فان الله عزوجل لعن اليهود لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وما رواه في التهذيب عن معمر بن خلاد في الصحيح عن الرضا (عليه‌السلام) (٥) قال : «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة».

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٦) قال : «قلت له الصلاة بين القبور؟ قال صل في خلالها ولا تتخذ شيئا منها قبلة فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى عن ذلك وقال لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا فان الله تعالى لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

__________________

(١ و ٢ و ٥) الوسائل الباب ٢٥ من مكان المصلي.

(٣ و ٤ و ٦) الوسائل الباب ٢٦ من مكان المصلي.

٢١٧

ورواية أبي اليسع المنقولة في الأمالي (١) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا اسمع قال إذا أتيت قبر الحسين (عليه‌السلام) اجعله قبلة إذا صليت؟ قال تنح هكذا ناحية». وروى بهذا المضمون خبرا آخر معه.

وما رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الحميري (٢) «انه كتب الى الامام القائم (عليه‌السلام) يسأله انه هل يجوز لمن صلى عند بعض قبورهم (عليهم‌السلام) ان يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة أم يقوم عند رأسه أو رجليه؟ وهل يجوز ان يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟ فأجاب (عليه‌السلام) اما الصلاة فإنها خلفه ويجعل القبر امامه ولا يجوز ان يصلى بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره لأن الإمام لا يتقدم ولا يساوى».

وروى الصدوق في كتاب عيون الاخبار في الموثق عن الحسن بن علي بن فضال (٣) قال : «رأيت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) وهو يريد ان يودع للخروج إلى العمرة فأتى القبر من موضع رأس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد المغرب فسلم على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولزق بالقبر ثم انصرف حتى اتى القبر فقام الى جانبه يصلى فألزق منكبه الأيسر بالقبر قريبا من الأسطوانة التي دون الأسطوانة المخلفة التي عند رأس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فصلى ست ركعات».

وروى جعفر بن محمد بن قولويه في كتاب كامل الزيارات عن محمد بن البصري عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) في حديث زيارة الحسين (ع) قال : «من صلى خلفه صلاة واحدة يريد بها الله لقي الله تعالى يوم يلقاه وعليه من النور ما يغشى له كل شي‌ء يراه. الحديث».

وعن هشام بن سالم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث طويل (٥) قال : «أتاه رجل فقال له يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هل يزار والدك؟ قال نعم

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٩ من المزار.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٢٦ من مكان المصلي.

٢١٨

ويصلى عنده. وقال يصلى خلفه ولا يتقدم عليه».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذه الاخبار يقع في مقامين (الأول) في حكم قبر الامام (عليه‌السلام) والصلاة عنده اما بالتقدم عليه أو المساواة له بان يكون مما يلي رأسه أو رجليه واما مع التأخر عنه ، فهذه مواضع ثلاثة لا بد فيها من تنقيح الكلام بما يدفع عنها غشاوة الإبهام وتوضيحها من اخبارهم (عليهم‌السلام) :

(الأول) ـ في حكم التقدم على القبر الشريف ، اعلم ان ظاهر المشهور في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) هو الجواز على كراهة ، وممن صرح بذلك الشهيد في الدروس فقال : ولو استدبر القبر وصلى جاز وان كان غير مستحسن إلا مع البعد. وقال العلامة في المنتهى بعد نقله صحيحة الحميري المتقدمة برواية الشيخ في التهذيب : واعلم ان المراد بقوله «لا يجوز ان يصلى بين يديه» الكراهة لا التحريم ، ويفهم من ذلك كراهة الاستدبار له في غير الصلاة. انتهى. وظاهره عدم المخالف في الحكم المذكور وإلا لذكره كما هي عادتهم في الكتب الاستدلالية. وهو الظاهر ايضا من كلام المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال ـ بعد البحث عن حكم الصلاة الى القبور ونقل صحيحة الحميري في الرد على مذهب الشيخ المفيد (قدس‌سره) ـ ما صورته : فالقول بالكراهة غير بعيد في قبر غير المعصوم إلا ان يجعل القبر خلفه فإنه يكره حينئذ لما مر. انتهى. وملخصه اختيار كراهية الصلاة الى سائر القبور غير قبر المعصوم فإنه يجوز الصلاة إليه من غير كراهة للصحيحة المذكورة إلا ان يجعل قبر المعصوم خلفه فإنه تحصل الكراهة للرواية المذكورة. وهو الظاهر ايضا من كلام المحدث الكاشاني في المفاتيح حيث قال : ويكره ان يصلي بين المقابر إلا مع بعد عشر أذرع ، الى ان قال في سياق الكراهة وان يستدبر لقبره (عليه‌السلام) بل التقدم على ضريحه المقدس مطلقا كما في الصحيح بل لا يبعد تحريمه لظاهر النهي. وهو ظاهر المحقق أيضا في المعتبر كما ستقف عليه قريبا حيث طعن في الصحيحة المذكورة وردها بأشنع رد.

٢١٩

وبالجملة فإني لم أقف على من قال بالتحريم عملا بظاهر الصحيحة المذكورة سوى شيخنا البهائي (قدس‌سره) في ما سيأتي قريبا ان شاء الله تعالى في كلامه ثم اقتفاه جمع ممن تأخر عنه : منهم ـ شيخنا المجلسي ، وهو الأقرب عندي إذ لا معارض للخبر المذكور بل في الاخبار ما يؤيده مثل حديث هشام بن سالم المتقدم نقله عن كتاب كامل الزيارات حيث قال فيه : «يصلى خلفه ولا يتقدم عليه» والاستناد الى الأصل في مقابلة الخبر المذكور خروج عن مقتضى أصولهم وقواعدهم فان الخبر صحيح صريح ، ومن قواعدهم الخروج عن ذلك الأصل بالخبر الصحيح الصريح. ولا اعرف لهم مستندا في رد الخبر وتأويله بالحمل على الكراهة إلا التمسك بالأصل وقد عرفت ما فيه ، أو عدم القول بذلك من المتقدمين كما هو أحد أصولهم. ولا يخفى وهنه كما تقدم إيضاحه في مقدمات الكتاب. ولو اقتصروا على أقوال المتقدمين لما انتشر بينهم الخلاف في المسائل الشرعية والأحكام الفرعية الى ما هو عليه الآن كما لا يخفى على الفطن البصير ولا ينبئك مثل خبير.

(الموضع الثاني) ـ في حكم المحاذاة ، قد عرفت من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الموضع الأول القول بجواز التقدم فالمحاذاة بطريق اولى ، وقد تقدمت صحيحة الحميري الصريحة في جواز المحاذاة.

ويدل على ذلك جملة من الاخبار الدالة على استحباب الصلاة عند الرأس ، ففي خبر جعفر بن ناجية عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «صل عند رأس قبر الحسين عليه‌السلام». وفي رواية أبي حمزة الثمالي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «ثم تدور من خلفه الى عند رأس الحسين (عليه‌السلام) وصل عند رأسه ركعتين تقرأ في الأولى. الى ان قال وان شئت صليت خلف القبر وعند رأسه أفضل». وفي رواية صفوان

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٩ من المزار.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ١٥٤.

٢٢٠