الحدائق الناضرة - ج ٦

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١

طرقه ، والطريق الأول بنقل الشيخين المتقدمين مع صحة الخبر قد اشتمل على النهي الذي هو حقيقة في التحريم مثل الخبر الأول فلا وجه لما ذكره.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه وهو ان ظاهر كلمة الأصحاب هنا الاتفاق على ان الصلاة في جوف الكعبة انما هو باستقبال اي جدرانها شاء مع انه قد روى الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن عبد الله بن مروان (١) قال : «رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة فلم يمكنه الخروج من الكعبة استلقى على قفاه وصلى إيماء وذكر قول الله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (٢). وأنت خبير بأن موثقة يونس الدالة على الجواز مطلقة وتقييدها بهذه الرواية ممكن إلا اني لم أقف على قائل بذلك هنا وان قيل به في الصلاة مستلقيا على ظهر الكعبة كما تقدم. والصدوق (قدس‌سره) في الفقيه مع تصريحه بالصلاة مستلقيا على ظهر الكعبة صرح في الصلاة في جوفها بما ذكره الأصحاب من استقبال اي جدرانها شاء واستحباب استقبال الركن الذي فيه الحجر. ولعله لنص وصل اليه ولم يصل إلينا. والله العالم.

(الخامس) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا في الذكرى بأنه لو استطال صف المأمومين مع المشاهدة حتى خرج عن الكعبة بطلت صلاة الخارج لعدم اجزاء الجهة هنا ، ولو استداروا صح للإجماع عليه عملا في كل الأعصار السالفة ، نعم يشترط ان لا يكون المأموم أقرب الى الكعبة من الامام. انتهى. ولا بأس به.

(السادس) ـ قال في الذكرى : ظاهر كلام الأصحاب ان الحجر من الكعبة بأسره وقد دل عليه النقل انه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) الى ان بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه وكان كذلك في عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونقل عنه الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة وبذلك احتج ابن

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من القبلة.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٠٩.

٣٨١

الزبير حيث ادخله فيها ثم أخرجه الحجاج بعده ورده الى ما كان ، ولان الطواف يجب خارجه. وللعامة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها وفي الطواف خارجه (١) وبعض الأصحاب له فيه كلام ايضا مع إجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف وانما تظهر الفائدة في جواز استقباله في الصلاة بمجرده فعلى القطع بأنه من الكعبة يصح وإلا امتنع لانه عدول من اليقين الى الظن. انتهى. وقال في الدروس : ان المشهور كونه من البيت ولا يخلو من غرابة.

ونقل في المدارك عن العلامة في النهاية انه جزم بجواز استقباله. وهو أغرب لما ورد في النصوص من انه ليس من البيت حتى ان في بعضها «ولا قلامة ظفر» فمنها ما رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي‌ء من البيت؟ فقال لا ولا قلامة ظفر ولكن إسماعيل دفن فيه امه فكره أن يوطأ فحجر عليه حجرا وفيه قبور أنبياء». وعن زرارة في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الحجر هل فيه شي‌ء من البيت؟ قال لا ولا قلامة ظفر». وروى في كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) (٤) قال : «صار الناس يطوفون حول الحجر ولا يطوفون به لأن أم إسماعيل دفنت في الحجر ففيه قبرها فطيف كذلك لئلا يوطأ قبرها». قال : وروى ان فيه قبور الأنبياء (عليهم‌السلام) وما في الحجر شي‌ء من البيت ولا قلامة ظفر.

واما ما ذكره في الذكرى من النقل الذي دل على ان الحجر كان من البيت في زمن إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام). الى آخره فلم نقف عليه في أخبارنا وبه اعترف جملة من علمائنا ، إلا أن العلامة في التذكرة نقل ان البيت كان

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٦٣٤ الى ٦٣٩ وبدائع الصنائع ج ٢ ص ١٣٢.

(٢ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من الطواف.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٥٤ من أحكام المساجد.

٣٨٢

لاصقا بالأرض وله بابان شرقي وغربي فهدمه السيل قبل مبعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعشر سنين وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم وقصرت الأموال الطيبة والهدايا والنذور عن عمارته فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وقطعوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم (عليه‌السلام) وضيقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعا وهو الذي يسمى الشاذروان. انتهى. وهو مع مخالفته للنصوص المتقدمة انما يدل على جزء من الحجر لا مجموعه كما يستفاد من كلامه. والظاهر ان هذه الرواية انما هي من طرق المخالفين فإنهم رووا عن عائشة انها قالت : «نذرت أن أصلي ركعتين في البيت فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى في الحجر فان فيه ستة أذرع من البيت» (١). وسيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الحج ما فيه زيادة تحقيق للمقام بنقل الأخبار الواردة في بناء البيت والطواف. والله العالم.

(السابع) ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) استحباب تياسر العراقي الى يسار القبلة قليلا وربما ظهر من عبارات الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف الوجوب.

والأصل في ذلك الأخبار الواردة عنهم (عليهم‌السلام) بذلك : منها ـ ما رواه في الكافي عن علي بن محمد رفعه (٢) قال : «قيل لأبي عبد الله (عليه‌السلام) لم صار الرجل ينحرف في الصلاة الى اليسار؟ فقال لأن للكعبة ستة حدود أربعة منها على يسارك واثنان منها على يمينك فمن أجل ذلك وقع التحريف الى اليسار».

وروى الصدوق بإسناده عن المفضل بن عمر (٣) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) تذكرة العلامة ج ١ المسألة ٦ من كيفية الطواف وفي المغني ج ٣ ص ٣٨٢ «قالت عائشة لرسول الله (ص) انى نذرت أن أصلي في البيت فقال صلى في الحجر فان الحجر من البيت».

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٤ من القبلة.

٣٨٣

عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه؟ فقال ان الحجر الأسود لما انزل به من الجنة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال كله اثنا عشر ميلا فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حد القبلة لقلة أنصاب الحرم وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا من حد القبلة». ورواه الشيخ بإسناده عن المفضل والصدوق في العلل بإسناده عن المفضل (١).

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٢) «إذا أردت توجه القبلة فتياسر مثل ما تيامن فان الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال».

وقال الشيخ في النهاية من توجه إلى القبلة من أهل العراق والمشرق قاطبة فعليه ان يتياسر قليلا ليكون متوجها الى الحرم ، وبذلك جاء الأثر عنهم (عليهم‌السلام). انتهى

وظاهر هذه العبارة الوجوب كما قدمنا ذكره وانه المستفاد عنده من الاخبار وهذه الروايات انما خرجت بناء على كون القبلة في حق البعيد هو الحرم فهي مؤيدة للأخبار المتقدمة الدالة على قول الشيخين وأتباعهما في تلك المسألة ، واحتمل في المختلف اطراد الحكم على القولين. ورده في المدارك بان العلامات المنصوبة للجهة لا تقتضي وقوع الصلاة على نفس الحرم. وهو كذلك.

وقال في المدارك بعد نقل المرفوعة المتقدمة وخبر المفضل : والروايتان ضعيفتا السند جدا والعمل بهما لا يؤمن معه الانحراف الفاحش عن حد القبلة ، وان كان في ابتدائه يسيرا. انتهى.

أقول : لا ريب انه وان كانت الروايتان كما ذكره إلا أنهما مجبورتان بعمل الأصحاب إذ لا مخالف في الحكم المذكور بل قيل في المسألة بالوجوب كما عرفت من عبارة الشيخ (قدس‌سره) وهو ايضا ظاهر كلام الشيخ الجليل شاذان بن جبرئيل القمي

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من القبلة.

(٢) ص ٦.

٣٨٤

في رسالته التي في القبلة حيث قال : وعلى أهل العراق ومن يصلي الى قبلته من أهل المشرق التياسر قليلا ، ثم نقل عن الصادق (عليه‌السلام) مضمون حديث المفضل. وقد صرح في غير موضع بقبول الخبر الضعيف المجبور بعمل الأصحاب ومنه ما تقدم قريبا في مسألة من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس حيث قال : وهذه الروايات وان ضعف سندها إلا ان عمل الطائفة عليها ولا معارض لها فينبغي العمل عليها. انتهى. والحال في المقامين واحد ، ولكنه (قدس‌سره) كما صرحنا به في غير مقام لضيق الخناق في هذا الاصطلاح ليس له قاعدة يعتمد عليها ولا ضابطة يرجع إليها. واما ما ذكره ـ من انه لا يؤمن من العمل بهما الانحراف الفاحش ـ فهو اجتهاد في مقابلة النصوص وقد ردته الاخبار بالعموم والخصوص.

نعم قد احتمل شيخنا العلامة المجلسي (قدس‌سره) هنا وجها وجيها في الجواب عن هذه الأخبار وما يلزم فيها من الإشكال الذي عرضه المحقق الخواجة نصير الملة والدين على المحقق جعفر بن سعيد وقت الدرس فأجاب بجواب اقناعي ثم كتب في المسألة رسالة في تحقيق الجواب واستحسنه المحقق المذكور ، والرسالة المذكورة ذكرها ابن فهد في كتابه المهذب فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع الى الكتاب المذكور.

واما ما ذكره شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في المقام فحاصله انه لا يبعد ان يكون الأمر بالتياسر لأهل العراق لكون المحاريب المشهورة المبنية فيها في زمان خلفاء الجور ولا سيما المسجد الأعظم كانت مبنية على التيامن عن القبلة ولم يمكنهم (عليهم‌السلام) إظهار خطأ هؤلاء الفساق فأمروا شيعتهم بالتياسر عن تلك المحاريب وعللوا ذلك بما عللوه لئلا يشتهر بينهم الحكم بخطإ من مضى من خلفاء الجور ، قال ويؤيده ما ورد في وصف مسجد غنى وان قبلته لقاسطة فهو يومئ الى ان سائر المساجد في قبلتها شي‌ء ، ومسجد غنى اليوم غير موجود. ويؤيده أيضا ما رواه محمد بن إبراهيم النعماني في كتاب الغيبة عن ابن عقدة عن علي بن الحسن عن الحسن ومحمد بني يوسف عن سعدان بن مسلم عن

٣٨٥

صباح المزني عن الحارث بن حصيرة عن حبة العرني (١) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كأني انظر الى شيعتنا بمسجد الكوفة وقد ضربوا الفساطيط يعلمون الناس القرآن كما أنزل اما إن قائمنا إذا قام كسره وسوى قبلته». على انه لا يعلم بقاء البناء الذي كان على عهد أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بل يدل بعض الاخبار على هدمه وتغييره كما رواه الشيخ (قدس‌سره) في كتاب الغيبة عن الفضل بن شاذان عن علي ابن الحكم عن الربيع بن محمد المسلي عن ابن طريف عن ابن نباتة (٢) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في حديث له حتى انتهى الى مسجد الكوفة وكان مبنيا بخزف ودنان وطين فقال ويل لمن هدمك وويل لمن سهل هدمك وويل لبانيك بالمطبوخ المغير قبلة نوح طوبى لمن شهد هدمك مع قائم أهل بيتي أولئك خيار الأمة مع أبرار العترة». هذا كلامه (قدس‌سره) في مجلد المزار من كتاب بحار الأنوار.

وقال في مجلد الصلاة من الكتاب المذكور ـ بعد ذكر الاشكال المتقدم ونقل حاصل كلام المحقق في رسالته والإشارة إلى انه غير حاسم لمادة الإشكال ـ ما صورته والذي يخطر في ذلك بالبال انه يمكن ان يكون الأمر بالانحراف لان محاريب الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خط نصف النهار كثيرا مع ان الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضية كمسجد الكوفة فإن انحراف قبلته الى اليمين أزيد مما تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريبا وكذا مسجد السهلة ومسجد يونس ، ولما كان أكثر تلك المساجد مبنية في زمان عمر وسائر خلفاء الجور لم يمكنهم القدح فيها تقية فأمروا بالتياسر وعللوه بتلك الوجوه الخطابية لإسكاتهم وعدم التصريح بخطإ خلفاء الجور وأمرائهم. وما ذكره أصحابنا من ان محراب المعصوم (عليه‌السلام) لا يجوز الانحراف عنه انما يثبت إذا علم ان الامام (عليه‌السلام) بناه ـ ومعلوم انه لم يبنه ـ أو صلى فيه من غير انحراف ، وهو ايضا غير ثابت بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند

__________________

(١) البحار ج ١٣ ص ١٩٤.

(٢) البحار ج ١٣ ص ١٨٦.

٣٨٦

تعمير المسجد في زماننا ما يدل على خلافه كما سيأتي ذكره ، مع ان الظاهر من بعض الاخبار ان هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) انتهى.

(الثامن) ـ قد صرح غير واحد من فضلاء متأخري المتأخرين بسهولة الأمر في القبلة واتساع الدائرة فيها وانه لا ضرورة الى ما ذكره المنجمون. وهو كذلك ، وتوضيحه انه لا يخفى ان الصلاة عمود الدين الذي لا ثبوت له ولا قيام إلا بها ولذا ورد ان قبول الأعمال يتوقف على قبولها وورد ان تاركها كافر كما تقدم ذكر ذلك في المقدمة الاولى ، ولا ريب ان صحتها منوطة بالاستقبال بالضرورة من الدين ومع هذا فلم يرد عنهم (عليهم‌السلام) في معرفتها مع البعد الا خبران مجملان بالنسبة الى أهل العراق خاصة من قوله (عليه‌السلام) (١) في أحدهما بعد سؤاله عن القبلة «ضع الجدي في قفاك وصل». وقوله (عليه‌السلام) (٢) في الآخر بعد قول السائل : إني أكون في السفر ولا اهتدى الى القبلة بالليل فقال : «أتعرف الكوكب الذي يقال له الجدي؟ قال : نعم قال اجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك». ومع غفلة أصحابهم عن السؤال عن ذلك وتحقيقه كيف رضوا لهم بذلك ولم يحققوا لهم تلك المسالك مع ضروريته وتوقف صحة الصلاة عليه لو كان ذلك على ما يقوله أهل الهيئة من التدقيقات والتحقيقات والعلامات لكل قطر وناحية؟ مع ان الذي ورد عنهم (عليهم‌السلام) انما هو عكس ذلك وهو قولهم في الحديثين المتقدمين (٣) «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ما عليه قبور الأئمة (عليهم‌السلام) في العراق من الاختلاف مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بعدم انحراف القبلة فيه مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ودفن الأموات ونحو ذلك ، وهو أظهر ظاهر في التوسعة كما لا يخفى. وكيف كان فما ذكره علماء الهيئة مما سيأتي الإشارة إلى بعضه اولى وأحوط إلا ان في وجوبه كما يفهم من كلام أكثر أصحابنا إشكالا لما عرفت

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥ من القبلة.

(٣) ص ٣٧٣.

٣٨٧

قال السيد السند في المدارك : ثم ان المستفاد من الأدلة الشرعية سهولة الخطب في أمر القبلة والاكتفاء في التوجه الى ما يصدق عليه عرفا انه جهة المسجد وناحيته كما يدل عليه قوله تعالى «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (١) وقولهم (عليهم‌السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (٢) و «ضع الجدي في قفاك وصل» (٣) وخلو الاخبار مما زاد على ذلك مع شدة الحاجة الى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة. وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدا لانه علم دقيق كثير المقدمات ، والتكليف به لعامة الناس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد اهله غير جائز لأنه لا يعلم إسلامهم فضلا عن عدالتهم ، وبالجملة التكليف بذلك مما علم انتفاؤه ضرورة. والله العالم بحقائق أحكامه.

(التاسع) ـ اعلم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا لأكثر البلدان علامات تعرف بها قبلتها ، والظاهر ان ذلك كله أو أكثره مأخوذ من كلام علماء الهيئة الآخذين ذلك من الارصاد ومعرفة البلاد طولا وعرضا ، وقد عرفت ما في ذلك من الاشكال وانه لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) في معرفة القبلة إلا ما قدمنا ذكره.

ثم انهم (رضوان الله عليهم) قد ذكروا لأهل العراق علامات ثلاثا :

(الاولى) ـ جعل المشرق على المنكب الأيسر والمغرب على الأيمن وقيد ذلك أكثر الأصحاب بالاعتداليين لعدم انضباط ما عداهما ، والظاهر ـ كما صرح به بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ انه لا حاجة الى هذا التقييد حيث قال إطلاق القوم المشرق والمغرب لا قصور فيه وتقييد بعض مشايخنا غير محتاج اليه بل هو مقلل للفائدة ، وما ظنوه من ان الإطلاق مقتض للاختلاف الفاحش في الجهة ليس كذلك لان مراد القدماء أن العراقي يجعل مغرب اي يوم شاء على يمينه ومشرق ذلك اليوم بعينه على يساره ، وهذا لا يقتضي الاختلاف الذي زعموه وهو عام في كل الأوقات لكل المكلفين ، بخلاف القيد الذي ذكروه فإنه يقتضي ان لا تكون العلامة موضوعة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٣٩.

(٢) ص ٣٧٣.

(٣) ص ٣٨٧.

٣٨٨

إلا لآحاد الناس القادرين على استخراج خط الاعتدال ومع ذلك فليس بأضبط مما ذكرناه كما لا يخفى ، فأي داع الى تقييد عبارات المتقدمين بما تقل معه الفائدة ويعسر ضبطه على أكثر المكلفين؟ انتهى. وهو جيد متين.

(الثانية) ـ جعل الجدي بحذاء المنكب الأيمن ، والجدي مكبر وربما يصغر ليتميز عن البرج وهو نجم مضي‌ء يدور مع الفرقدين حول قطب العالم الشمالي ، والقطب نقطة مخصوصة يقابلها مثلها من الجنوب ، قال شيخنا الشهيد الثاني : وأقرب الكواكب إليها نجم خفي لا يكاد يدركه إلا حديد البصر يدور حولها كل يوم وليلة دورة لطيفة لا تكاد تدرك ، ويطلق على هذا النجم القطب لحال المجاورة للقطب الحقيقي وهو علامة لقبلة العراقي إذا جعله المصلي خلف منكبه الأيمن ويخلفه الجدي في العلامة إذا كان في غاية الارتفاع والانخفاض ، وانما اشترط ذلك لكونه في تلك الحال على دائرة نصف النهار وهي مارة بالقطبين وبنقطة الجنوب والشمال ، فإذا كان القطب مسامتا لعضو من المصلي كان الجدي مسامتا له لكونهما على دائرة واحدة بخلاف ما لو كان منحرفا نحو المشرق أو المغرب. قال في المدارك بعد نقل ذلك عن جده (قدس‌سره) قلت ما ذكره مشهور بين الأصحاب وممن صرح به المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى ونقل شيخنا المحقق المدقق مولانا احمد المجاور بالمشهد المقدس الغروي على ساكنه السلام عن بعض محققي أهل ذلك الفن ان هذا الشرط غير جيد لأن الجدي في جميع أحواله أقرب الى القطب الحقيقي من ذلك النجم الخفي ولهذا كان أقل حركة منه كما يظهر بالامتحان ، وهذه الحركة الظاهرة انما هي للفرقدين لا للجدي فإن حركته يسيرة جدا وقد اعتبرنا ذلك فوجدناه كما أفاد. انتهى.

(الثالثة) ـ جعل الشمس على الحاجب الأيمن مما يلي الأنف عند الزوال لان الشمس قبل الزوال تكون على دائرة نصف النهار المتصلة بنقطتي الجنوب والشمال فيكون حينئذ مستقبلا نقطة الجنوب بين العينين فإذا زالت مالت الى طرف الحاجب الأيمن

٣٨٩

وأنت خبير بما بين هذه العلامات من الاختلاف فإن العلامة الاولى والثالثة تقتضيان كون قبلة العراقي في نقطة الجنوب والعلامة الثانية تقتضي انحرافا بينا عنها نحو المغرب ، ولا يخفى ما فيه من التدافع.

إلا ان بعض متأخري أصحابنا المحققين قسم العراق إلى ثلاثة أقسام فجعل العلامة الاولى والثالثة لأطراف العراق الغربية كالموصل وسنجار وما والاها ، وحمل العلامة الثانية على أوساط العراق كالكوفة وبغداد والحلة والمشاهد المقدسة ، واما أطرافها الشرقية كالبصرة وما والاها فتحتاج إلى زيادة انحراف نحو المغرب ولذا حكموا بان علامتها جعل الجدي على الخد الأيمن.

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين وهذا التقسيم هو الموافق لقواعد الهيئة فإن طول بغداد على ما ذكره المحقق نصير الملة والدين يزيد على طول مكة بثلاث درجات فقبلتها منحرفة يسيرا عن نقطة الجنوب الى المغرب والموصل يساوي طولها طول مكة فقبلتها نقطة الجنوب لاتحاد نصف نهاريهما ، واما البصرة فيزيد طولها على طول مكة بسبع درجات ففي قبلتها زيادة انحراف الى المغرب عن قبلة بغداد فجعلوا علامتها وضع الجدي على الخد الأيمن. انتهى.

أقول : قد صرح أرباب هذا الفن بان الأقاليم السبعة المسكونة وما فيها من البلدان كلها في النصف الشمالي من الأرض من بعد خط الاستواء القاسم للأفق نصفين شمالي وجنوبي ، والنصف الجنوبي غير مسكون لاستيلاء الحرارة والماء عليه ، والنصف الشمالي المعمور فيه أيضا انما هو نصفه المتصل بخط الاستواء وهو الذي فيه الأقاليم السبعة والنصف الآخر خراب لشدة البرد. وقد اثبتوا لهذه الأقاليم طولا وعرضا ، فالطول عبارة عن طرف العمارة من جانب المغرب وهو ساحل البحر الى منتهاها من الجانب الشرقي وهي كنك وجملة ذلك من الجزائر مائة وثمانون جزء نصف دائرة عظمي من دوائر الفلك لأن كل دائرة منها مقسومة ثلاثمائة وستين جزء وتسمى هذه الاجزاء درجات ، والعرض من خط الاستواء في جهة الجنوب الى منتهى الربع المعمور

٣٩٠

في جهة الشمال وذلك تسعون جزء ربع دائرة عظمي ، وحينئذ فطول البلد عبارة عن بعدها عن منتهى العمارة من الجانب الغربي وعرض البلد عبارة عن بعدها عن خط الاستواء ، فإذا ساوى طول البلد طول مكة وعرض تلك البلد أكثر فسمت قبلة تلك البلد نقطة الجنوب وان كان أقل فقبلتها نقطة الشمال وان تساوى العرضان وطول البلد أكثر فسمت القبلة نقطة المغرب وان كان أقل فهو نقطة المشرق. ومعرفة السمت في هذه الأربعة سهل يتوقف على إخراج الجهات الأربع على وجه الأرض ، وان زادت مكة على البلد طولا وعرضا فسمت القبلة بين نقطتي المشرق والشمال وان نقصت فيهما فهو بين نقطتي الجنوب والمغرب وان زادت عن البلد طولا ونقصت عرضا فسمت قبلة البلد بين نقطتي الجنوب والمشرق وان انعكس فبين نقطتي المغرب والشمال ، وأكثر البلدان على الانحراف.

ولنذكر جملة ما ذكروه من البلدان المنحرفة وبيان قدر انحرافها ، فاما البلدان المنحرفة عن نقطة الجنوب الى المغرب فبلادنا (البحرين) بسبع وخمسين درجة وثلاث وعشرين دقيقة ، و (الحساء) بتسع درجات وثلاثين دقيقة ، و (البصرة) بثمان وثلاثين درجة ، و (واسط) بعشرين درجة واربع وخمسين دقيقة ، و (الأهواز) بأربعين درجة وثلاثين دقيقة ، و (الحلة) باثنتي عشرة درجة ، و (المدائن) بثمان درجات وثلاثين دقيقة ، و (بغداد) باثنتي عشرة درجة وخمس وأربعين دقيقة ، و (الكوفة) باثنتي عشرة درجة واحدى وثلاثين دقيقة ، و (سر من رأى) بسبع درجات وست وخمسين دقيقة و (كاشان) بأربع وثلاثين درجة واحدى وثلاثين دقيقة ، و (قم) بإحدى وثلاثين درجة واربع وخمسين دقيقة ، و (ساوة) بتسع وعشرين درجة وست عشرة دقيقة ، و (أصبهان) بأربعين درجة وتسع وعشرين دقيقة ، و (قزوين) بتسع وعشرين درجة واربع وثلاثين دقيقة ، و (تبريز) بخمس عشرة درجة وأربعين دقيقة ، و (مراغة) بست عشرة درجة وسبع عشرة دقيقة ، و (أسترآباد) بثمان وثلاثين درجة وثمان وأربعين دقيقة

٣٩١

و (طوس والمشهد الرضوي) بخمس وأربعين درجة وست دقائق ، و (نيسابور) بست وأربعين درجة وخمس وعشرين دقيقة ، و (سبزوار) بأربع وأربعين درجة واثنتين وخمسين دقيقة ، و (شيراز) بثلاث وخمسين درجة وثمان وعشرين دقيقة ، و (همدان) باثنتين وعشرين درجة وست وعشرين دقيقة ، و (تون) بخمسين درجة وعشرين دقيقة و (طبس) باثنتين وخمسين درجة وخمس وخمسين دقيقة. و (أردبيل) بسبع عشرة درجة وثلاث عشرة دقيقة ، و (هرات) بأربع وخمسين درجة وثمان دقائق. و (قاين) بأربع وخمسين درجة ، و (سمنان) بست وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة ، و (دامغان) بثمان وثلاثين درجة ، و (بسطام) بتسع وثلاثين درجة وثلاث عشرة دقيقة ، و (لاهجان) بثلاث وعشرين درجة ، و (آمل) بثلاثين درجة وست وثلاثين دقيقة ، و (قندهار) بخمس وسبعين درجة ، و (الري) بسبع وثلاثين درجة وست وعشرين دقيقة ، و (كرمان) باثنتين وستين درجة واحدى وخمسين دقيقة ، و (تفليس) بأربع عشرة درجة واحدى وأربعين دقيقة ، و (شيروان) بعشرين درجة وتسع دقائق ، وكذا الشماخي ، و (سجستان) بثلاث وستين درجة وثماني عشرة دقيقة ، و (طالقان) بتسع وعشرين درجة وثلاث وثلاثين دقيقة ، و (بلخ) بستين درجة وست وثلاثين دقيقة ، و (بخارى) بتسع وأربعين درجة وثمان وثلاثين دقيقة ، و (بدخشان) بأربع وستين درجة وتسع دقائق ، و (سمرقند) باثنتين وخمسين درجة واربع وخمسين دقيقة ، و (كاشغر) بثمان وخمسين درجة وست وثلاثين دقيقة ، و (تبت) بست وثلاثين درجة وست وعشرين دقيقة ، و (هرموز) بأربع وسبعين درجة ، و (أبهر) بأربع وعشرين درجة ، و (كازران) بإحدى وخمسين درجة وست وخمسين دقيقة ، و (جرباذقان) بثمان وثلاثين درجة ، و (خوارزم) بأربعين درج

واما الانحراف من الجنوب الى المشرق (فالمدينة المشرفة) منحرفة قبلتها عن نقطة الجنوب الى المشرق بسبع وثلاثين درجة وعشرين دقيقة ، و (مصر) بثمان وخمسين درجة وتسع وعشرين دقيقة ، و (قسطنطنية) بثمان وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة.

٣٩٢

و (الموصل) بأربع درجات واثنتين وخمسين دقيقة ، و (بيت المقدس) بخمس وأربعين درجة وست وخمسين دقيقة.

واما الانحراف من الشمال الى المغرب (فأكره) بتسع وثمانين درجة ، و (سرنديب) بسبعين درجة واثنتي عشرة دقيقة ، و (چين) بخمس وسبعين درجة ، و (سومنات) بخمس وسبعين درجة واربع وثلاثين دقيقة.

واما ما كان من الشمال الى المشرق (فصنعاء) بدرجة وخمس عشرة دقيقة ، و (عدن) بخمس درجات وخمس وخمسين دقيقة ، و (جرمي) دار ملك الحبشة بسبع وأربعين درجة وخمس وعشرين دقيقة. وسائر البلاد القريبة من تلك البلاد والمتوسطة بينها يعرف انحرافها بالمقايسة.

أقول : لا يخفى على من عرف ما عليه هذه البلدان من القبلة في جميع الأزمان فإنه لا يوافق شيئا مما ذكر في هذا المكان مع استمرار السلف والخلف عليها من العلماء والأعيان ، ومن ذلك قبلة البحرين والقطيف والأحساء فإنها نقطة المغرب وهكذا جميع ما ذكر من البلدان. ولقد اتفق في هذه السنين التي مضت لنا مجي‌ء رجل من الفضلاء يسمى الشيخ حسين ممن يصلي الجمعة والجماعة الى بلدة بهبهان فانحرف عن قبلة مساجدها بناء على الضابطة التي ذكرها علماء الهيئة وصلى الى تلك الجهة التي هي موافقة لكلام علماء الهيئة وحمل الناس على الصلاة إليها فتناولته الألسن من كل مكان وكثر الطعن عليه في جميع البلدان حتى كأنه ممن أبدع في الدين وافترى على الملك الديان.

(البحث الثاني) ـ في المستقبل ، الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب العلم بالقبلة مع إمكانه فلا يجوز التعويل على الظن ، قالوا ويتحقق العلم بالمعاينة والشياع والخبر المحفوف بالقرائن ومحراب المعصوم (عليه‌السلام).

أقول : ان أريد بالعلم هنا العلم بالعين مع إمكان المشاهدة فهذا مخصوص بالقريب كما تقدم ولا ريب ان هذا لا يسوغ له الاجتهاد ولكن المدعى أعم من ذلك ، وان

٣٩٣

أريد العلم بالعين بالنسبة إلى البعيد فظاهر ان هذا مما يتعذر ، وان أريد العلم بالجهة بالنسبة إلى البعيد ـ والظاهر انه هو المراد من كلامهم ـ فمن الظاهر انه انما يحصل بالاجتهاد الذي غايته الظن فلا معنى لتقديمه وجعل الظن في المرتبة الثانية بعد تعذره. واما ما مثلوا به لصور تحصيل العلم من المعاينة فقد عرفت انه مخصوص بالقريب المتمكن من المشاهدة لا على وجه يستلزم المشقة والعسر. واما الخبر المحفوف بالقرائن والشياع فهو وان مثلوا بهما لإفادة العلم لكن ذلك بالنسبة الى الخبر وهو قبول قول الغير الذي غاية ما يفيده هو الظن فإنه قد يفيد العلم إذا انضمت اليه أمارات من خارج أو كان شائعا بحيث يفيد العلم ، وهذا لا معنى له بالنسبة إلى القبلة والعلم بجهتها للبعيد ، فإنه اما ان يرجع الى الأمارات المتقدمة التي ذكرها أهل الهيئة للبلدان وغاية ما تفيده الظن بالجهة ، أو قبلة البلد أو المحاريب والقبور ونحو ذلك وغاية الجميع الظن ، إلا ان يقال بحصول العلم بالجهة بالأمارات التي ذكرها علماء الهيئة وليس ببعيد فيخص العلم به ويجعل الظن في ما عداه مما ذكرناه ونحوه ، نعم ربما يتم ما ذكر في محراب المعصوم (عليه‌السلام) ان ثبت صلاته فيه على الهيئة التي هو عليها الآن ودون ثبوته شوك القتاد وان ادعى بعض الأصحاب ذلك.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : لا اجتهاد في محراب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في جهة القبلة ولا في التيامن والتياسر فإنه منزل منزلة الكعبة ، وروى انه لما أراد نصبه زويت له الأرض فجعله بإزاء الميزاب (١) ولأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) معصوم لا يتصور منه الخطأ وعند من جوزه من العامة لا يقر عليه فهو صواب قطعا فيستقبله معاينة وتنصب المحاريب هناك عليه وفي معنى المدينة كل موضع تواتر ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى فيه الى جهة معينة مضبوطة الآن ، وكذا لا اجتهاد في المسجد الأعظم بالكوفة في التيامن ولا التياسر مثل ما قلناه في مسجد النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) تاريخ المدينة للسمهودي ج ١ ص ٢٦١ والدرة الثمينة ص ٣٥٧.

٣٩٤

وآله) لوجوب عصمة الإمام كالنبي وقد نصبه أمير المؤمنين وصلى اليه هو والحسن والحسين (عليهم‌السلام) واما محراب مسجد البصرة فنصبه عقبة بن غزوان فهو كسائر محاريب الإسلام ، وربما قيل بمساواته مسجد الكوفة لأن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) صلى فيه وجمع من الصحابة فكما لا اجتهاد في مسجد الكوفة فكذا في مسجد البصرة. واما مسجد المدائن فصلى فيه الحسن (عليه‌السلام) فان كان المحراب مضبوطا فكذلك وبمشهد سر من رأى (صلوات الله على مشرفيه) مسجد منسوب إلى الهادي (عليه‌السلام) فلا اجتهاد في قبلته ايضا ان كانت مضبوطة. ولو تخيل الماهر في أدلة القبلة تيامنا وتياسرا في محراب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومحراب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فخياله باطل لا يجوز له ولا لغيره العمل به. انتهى كلامه زيد مقامه.

وفيه ما افاده شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار حيث قال في تتمة الكلام الذي قدمنا نقله عنه آنفا : وما ذكره أصحابنا من ان محراب مسجد الكوفة محراب المعصوم لا يجوز الانحراف عنه انما يثبت إذا علم ان الامام بناه ـ ومعلوم انه لم يبنه ـ أو صلى فيه من غير انحراف عنه وهو ايضا غير ثابت ، بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدل على خلافه كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، مع ان الظاهر من بعض الاخبار ان هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بل ظهر لي من بعض الأدلة والقرائن ان محراب مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالمدينة أيضا قد غير عما كان في زمانه لانه على ما شاهدنا في هذا الزمان موافق لخط نصف النهار وهو مخالف للقواعد الرياضية من انحراف قبلة المدينة إلى اليسار قريبا من ثلاثين درجة ومخالف لما رواه الخاصة والعامة من انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) زويت له الأرض ورأى الكعبة فجعله بإزاء الميزاب (١) فان من وقف بحذاء الميزاب يصير القطب الشمالي محاذيا لمنكبه الأيسر ، ومخالف لبناء

__________________

(١) تاريخ المدينة للسمهودي ج ١ ص ٢٦١ والدرة الثمينة ص ٣٥٧.

٣٩٥

بيت الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي دفن فيه ، مع ان الظاهر ان بناء البيت كان موافقا لبناء المسجد وبناء البيت أوفق بالقواعد من المحراب ، وايضا مخالف لمسجد قبا ومسجد الشجرة وغيرهما من المساجد التي بناها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو صلى فيها ولذا حمل بعض الأفاضل ممن كان في عصرنا حديث المفضل وأمثاله على مسجد المدينة وقال لما كانت الجهة وسيعة وكان الأفضل بناء المحراب على وسط الجهات إلا ان تعارضه مصلحة كمسجد المدينة حيث بنى محرابه على خط نصف النهار لسهولة استعلام الأوقات مع ان وسط الجهات فيه منحرف نحو اليسار فلذا حكموا باستحباب التياسر فيه ليحاذي المصلي وسط الجهة المتسعة ، وسيأتي مزيد توضيح لتلك المقاصد مع الاخبار والقرائن الدالة عليه في كتاب المزار. والله اعلم وحججه (عليهم‌السلام) بحقائق الاخبار والآثار. انتهى كلامه علت في الخلد اقدامه.

وما أشار إليه في كتاب المزار قد قدمنا ذكر جملة منه آنفا في مسألة استحباب التياسر ، وإذا ثبت ما ذكرنا في مسجد المدينة والكوفة ففي ما ذكره من المساجد بطريق أولى إذ ليس لهما من الشهرة وقوة الاعتماد ما لهما.

ثم ان جملة من المتأخرين ذكروا انه مع فقد العلم يعول على الأمارات المفيدة للظن وادعى عليه في المعتبر والمنتهى اتفاق أهل العلم.

ويدل عليه من الاخبار صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «يجزئ التحري أبدا إذا لم يعلم اين وجه القبلة».

وموثقة سماعة (٢) قال : «سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال اجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك».

وروى المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني بإسناده عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) (٣) «في قول الله عزوجل : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٦ من القبلة.

٣٩٦

الْحَرامِ (١) قال معنى «شَطْرَهُ» نحوه ان كان مرئيا وبالدلائل والاعلام ان كان محجوبا ، فلو علمت القبلة لوجب استقبالها والتولي والتوجه إليها ولو لم يكن الدليل عليها موجودا حتى تستوي الجهات كلها فله حينئذ ان يصلي باجتهاده حيث أحب واختار حتى يكون على يقين من الدلالات المنصوبة والعلامات المثبوتة ، فان مال عن هذا التوجه مع ما ذكرناه حتى يجعل الشرق غربا والغرب شرقا زال معنى اجتهاده وفسد حال اعتقاده».

قال : وقد جاء عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خبر منصوص مجمع عليه ان الأدلة المنصوبة على بيت الله الحرام لا يذهب بكليتها حادثة من الحوادث منا من الله تعالى على عباده في إقامة ما افترض عليهم أقول : الظاهر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ من قوله : «فان مال عن هذا التوجه» اي انه بعد توجهه بالاجتهاد إلى جهة أدى إليها اجتهاده فان ظهر له بعد ذلك الميل عن القبلة على وجه يكون مستدبر القبلة بأن جعل الشرق في موضع الغرب والغرب في موضع الشرق أو محض اليمين واليسار فإنه يصدق ايضا ذلك في الجملة فقد ظهر فساد اجتهاده وفساد اعتقاده فتجب الإعادة عليه وسيجي‌ء تحقيق الكلام في ذلك. واما ما نقله (عليه‌السلام) من الخبر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلعل المراد بتلك الأدلة هي النجوم ، وقد روى العياشي في تفسيره عن إسماعيل بن ابي زياد عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي بن ابي طالب (عليهم‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (٣) هو الجدي لأنه نجم لا يزول وعليه بناء القبلة وبه يهتدى أهل البر والبحر». ويمكن ان يستفاد من هذا الخبر حصول العلم بالجهة بالدلائل التي ذكرها علماء الهيئة كما هو الظاهر من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) وليس بذلك البعيد كما قدمنا الإشارة اليه وان قلنا بعدم وجوب التكليف به ، لما عرفت مما قدمنا نقله عن جملة من أفاضل متأخري المتأخرين وان كان أفاضل المتأخرين على خلافه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٣٩.

(٢) الوسائل الباب ٥ من القبلة.

(٣) سورة الروم ، الآية ٤٩.

٣٩٧

تنبيهات

(الأول) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) الذي قدمنا ذكره هو ان الاجتهاد الذي هو عبارة عن بذلك الوسع في تحصيل الأمارات المفيدة للظن بالجهة بعد تعذر العلم بالجهة بالأمارات المذكورة في كلام علماء الهيئة ، فيجتهد مع فقدها في تحصيل امارة توجب ظنه بالجهة ويبنى عليها.

وقد تقدم من الأخبار ما يدل على جواز البناء على هذا الظن الناشئ عن التحري ويزيده بيانا ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في الأعمى يؤم القوم وهو على غير القبلة؟ قال يعيد ولا يعيدون فإنهم قد تحروا».

ويؤيده أيضا صحيحة سليمان بن خالد (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) «الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلي لغير القبلة ثم يضحى فيعلم انه صلى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال ان كان في وقت فليعد صلاته وان كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده». ونحوها صحيحة يعقوب بن يقطين (٣).

وربما ظهر من كلام الشيخين في المقنعة والمبسوط هنا عدم العمل على الظن والصلاة الى أربع جهات ، قال في المقنعة : إذا أطبقت السماء بالغيم فلم يجد الإنسان دليلا عليها بالشمس والنجوم فليصل إلى أربع جهات فان لم يقدر على ذلك بسبب من الأسباب المانعة من الصلاة أربع مرات فليصل الى اي جهة شاء وذلك مجزئ مع الاضطرار. وقال في المبسوط بعد ان ذكر اربع علامات نجومية لقبلة العراق : فان فقد هذه الأمارات يصلي الى أربع جهات الصلاة الواحدة مع الاختيار.

واستدل الشيخ لذلك برواية خراش عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من القبلة.

٣٩٨

السلام) (١) قال : «قلت له جعلت فداك ان هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد؟ فقال ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصل إلى أربع وجوه».

ولا يخفى ان هذا الخبر لضعف سنده لا يبلغ قوة في معارضة الأخبار المتقدمة وبذلك رده الأصحاب مع أنهم قائلون بمضمونه في وجوب الأربع مع فقد الظن كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى. والحق في الجواب عنه ما سنذكره ثمة ان شاء الله تعالى.

والشيخ (قدس‌سره) جمع بين هذا الخبر والاخبار السابقة بحمل الأخبار المتقدمة على صورة الاضطرار وعدم التمكن من الصلاة الى أربع جهات وهذا الخبر على صورة التمكن والاختيار. وبعض الأصحاب احتمل الجمع بحمل الأخبار الأولة على التقية كما يشعر به هذا الخبر لكنه استشكل ذلك بان المصير الى الحمل فرع حصول المعارضة وهذا الخبر قاصر عن معارضة تلك الاخبار. والحق في الخبر المذكور ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى.

(الثاني) ـ لو اجتهد واداه اجتهاده إلى جهة مخصوصة ثم أخبره من يوثق به بغيرها فهل يجب عليه العمل على اجتهاده أو يرجع الى قول الثقة؟ قولان ، فالشيخ واتباعه على الأول والظاهر انه المشهور ، وقيل بالثاني إذا أفاده ظنا زائدا على ما ادى اليه اجتهاده ، ذهب اليه المحقق والشهيد واختاره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ، وهو الأظهر لأن المسألة ظنية فيتبع فيها أقوى الظنين ، ولا ينافيه أخبار الأمر بالتحري فان الاستخبار ممن يفيد قوله الظن الراجح نوع من التحري. ولو تعذر الظن لفقد ما يدل عليه وأخبره من يوثق بقوله فهل يصلي الى أربع جهات أم يعمل بقول المخبر؟ قولان ولعل أظهرهما الثاني بالتقريب المتقدم. وهل يشترط عدالة المخبر فلو كان فاسقا أو كافرا لم يقبل قوله؟ اشكال ولعل الأقرب القبول ان أفاد الظن كما ذكرنا.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٨ من القبلة.

٣٩٩

(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه مع تعذر الظن بالقبلة يصلي كل فريضة إلى أربع جهات. وقال ابن ابي عقيل لو خفيت عليه القبلة لغيم أو ريح أو ظلمة فلم يقدر على القبلة صلى حيث شاء مستقبل القبلة وغير مستقبلها ولا اعادة عليه إذا علم بعد ذهاب وقتها انه صلى لغير القبلة. وهو الظاهر من ابن بابويه ونفى عنه البعد في المختلف ومال إليه في الذكرى واختاره جملة من محققي متأخري المتأخرين ، وهو المختار لما ستعرف من الاخبار.

احتج الشيخ ومن تبعه من أصحاب القول المشهور برواية خراش المتقدمة ، وردها القائلون بالقول الآخر بضعف السند وبأنها متروكة الظاهر من حيث تضمنها سقوط الاجتهاد بالكلية مع دلالة الأخبار المتقدمة عليه.

والحق في الجواب عن الرواية المذكورة ما افاده المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية من ان قصده (عليه‌السلام) انما هو مجرد الرد على المخالفين في ما يدعونه من الالتجاء الى الاجتهاد الذي يبنون عليه الأحكام الشرعية وقد منعت منه النصوص المعصومية بان لنا مندوحة عن ذلك وهو المصير الى العمل بالاحتياط الذي يحصل بالصلاة إلى أربع جهات لا ان مراده (عليه‌السلام) نفى الاجتهاد في القبلة بالكلية مع دلالة أخبارهم (عليهم‌السلام) كما عرفت مما قدمناه وهو معنى صحيح لا غبار عليه.

وبه تبقى أدلة القول الثاني سالمة من المعارض ، ومنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) انه قال : «يجزئ المتحير أبدا أينما توجه إذا لم يعلم اين وجه القبلة».

وروى في الكافي في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قبلة المتحير فقال يصلي حيث شاء».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٨ من القبلة.

٤٠٠