الحدائق الناضرة - ج ٦

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١

والعشاء الآخرة فإن استيقظ قبل الفجر بمقدار ما يصليهما جميعا فليصلهما وان استيقظ بعد الفجر فليصل الفجر ثم يصل المغرب ثم العشاء». ثم قال : ومما يؤيد المطلوب الأخبار الدالة على كراهة الصلاة مطلقا في الأوقات المكروهة وقد سلفت في محلها وفي بعضها تصريح بالقضاء كقوله (عليه‌السلام) في موثقة عمار الساباطي (١) «وقد سأله عن الرجل إذا غلبته عيناه أو عاقه أمر عن صلاة الفجر : فان طلعت الشمس قبل ان يصلي ركعة فليقطع الصلاة ولا يصلي حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها». والاخبار الدالة على استحباب الأذان والإقامة لقاضي الصلاة (٢) الى ان قال : ومما يؤيد المطلوب ان القول بالمضايقة على الوجه الذي ذكر يتضمن حرجا عظيما وعسرا بالغا ومشقة شديدة لأنه يحتاج الى ضبط الأوقات ومعرفة الساعات والرصد لآخر كل صلاة وضبط انتصاف الليل ومعرفة طلوع الشمس وغروبها وضبطها بحيث يتحقق إتمام الحاضرة عنده ، ولا شك في كون هذه الأشياء من أعظم الحرج. وكذا ما ذكره جماعة منهم من الاقتصار على أقل ما يحصل به التعيش بتضمن حرجا عظيما وتعطيلا في الأمور وتفويتا للأغراض ، وقد يدعى الإجماع من فقهاء الأعصار والأمصار على بطلان ذلك. انتهى كلامه زيد إكرامه.

أقول : لا يخفى ما فيه من التطويل الذي ليس عليه مزيد تعويل ، فاما ما ذكره ـ من الاستدلال بالعمومات الدالة على الأمر بالصلاة بدخول الوقت والمسارعة لها والعمومات الدالة على جواز قضاء النوافل في كل وقت ونحوها ـ ففيه انه قد وقع الاتفاق منهم على عدم العمل بها على عمومها بل خصوصها بأدلة من خارج في مواضع كما أشار إليه بقوله : «إلا ما خرج بالدليل» فليكن ما نحن فيه من ذلك القبيل لقيام تلك الأدلة التي قدمناها آية ورواية على المنع من الصلاة والحال كذلك ، والأمر بتقديم الفائتة وتأخير الحاضرة إلى آخر وقتها والعدول عنها لو ذكر في الأثناء ، فيكون عموم الأخبار والآيات التي ذكرها

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ و ٣٠ من أبواب المواقيت.

(٢) راجع التعليقة ٦ ص ٣٤٥.

٣٦١

مخصصا بما ذكرناه ، على انهم قد صرحوا في الأصول بأنه لا يجوز العمل بالعام قبل استقصاء البحث في طلب المخصص بل قال جماعة منهم انه ممتنع إجماعا ، فعلى هذا انما يستدل بالعام بعد الطلب لكل ما يصلح للتخصيص ، وحينئذ فلا حجة في الاستدلال بالعام على الخصم لصراحة المخصص في التخصيص وقبول العام له. واما حمل ذلك المخصص على ما هو بعيد عن سياق عبارته ومفاد ألفاظه ـ بدعوى مقابلته بما هو راجح منه فيخرج عن التخصيص للعام ـ فهو مسلم بعد ثبوت تلك الدعوى وحيث لم تثبت فالتخصيص ثابت. والاستدلال بالعام هنا على المسألة التنازع فيها مع كون الاستدلال متوقفا على عدم صلوح المخصص المشار اليه للتخصيص دور كما لا يخفى.

واما الجواب عن صحيحة عبد الله بن سنان ورواية أبي بصير فقد تقدم في الجواب عن كلام صاحب المدارك وتحقيقه ما تقدم في بحث الأوقات. واما صحيحة سعيد الأعرج فقد تقدم ايضا الجواب عنها في الأوقات. واما موثقة عمار الاولى فقد تقدم الجواب عنها ايضا واما روايته الثانية فهي مخالفة للكتاب والسنة والإجماع وما هذا سبيله فلا تقوم به الحجة الا على الرعاع العادمي الأبصار والأسماع ، إذ جواز القضاء بالنهار ثابت بالثلاثة المذكورة ، وبالجملة فإنه ليس في الاستدلال بمثل هذا الخبر إلا تكثير السواد وإضاعة القرطاس والمداد ، وهذا من جملة أخبار السيد المتقدم ذكره في رسالته ايضا. واما الخبر الثالث عن عمار ايضا فظاهره كما ترى النهى عن القضاء في المكتوبة وغيرها حتى يصلي نافلة قبل الفريضة التي حضر وقتها ثم يقضي ، وليس فيه تصريح بتقديم الفريضة التي هي صاحبة الوقت على القضاء وانما تضمن صلاة ركعتين نافلة ثم القضاء ، ومفاده تحريم القضاء أو كراهته على غير هذه الكيفية ، ولا اعرف به قائلا ولا عاملا إلا ان يكون هذا المستدل الذي أورده واعتمده دليلا إذ هو مقتضى استدلاله ولعله يقول به وأمثاله من اخباره المتقدمة وكفى به شناعة.

فانظر أيدك الله تعالى الى هذه الأدلة المخالفة لأصول المذهب وقواعده كما عرفت

٣٦٢

ولا سيما روايات عمار.

ولله در المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال ـ في موضع منه بعد نقل بعض أخباره المخالفة وبعد ان تكلف في تأويله ـ ما صورته : هذا مع ما في روايته من الطعن المشهور وما في رواياتهم من الخلل والقصور. وقال في موضع آخر بعد نقل بعض رواياته التي من هذا القبيل : ولو كان الراوي غير عمار لحكمنا بذلك إلا ان عمارا ممن لا يوثق باخباره. وقال في ثالث ـ بعد ان نقل عنه حديثا دالا على المنع من الصلاة متى أكل اللبن حتى يغسل يديه ويتمضمض ـ ما صورته : هذا مع ما في اخبار عمار من الغرائب. انتهى.

وبالجملة فالواجب أولا في مقام الاستدلال ملاحظة الدليل فان كان ما تضمنه سالما من الطعن فلا بأس من إيراده والاستدلال به وإلا فلا ، ومن الظاهر ان هذا المستدل لا يقول بهذه الأخبار المتهافتة ولا سيما روايات عمار فكيف يحسن منه الاستدلال بها ويروم إلزام الخصم بها؟ واما الروايات الثلاثة الدالة على قضاء صلاة النهار ان شاء بعد المغرب وان شاء بعد العشاء فقد عرفت ان المراد من صلاة النهار انما هو نافلة النهار كما هو المفهوم من كلام الأصحاب في هذا المقام وبه صرح هو وغيره من الأعلام حيث أوردوها دليلا على جواز قضاء النوافل في الأوقات المذكورة كما قدمنا تحقيقه في تلك المسألة ، وعلى تقدير احتمال شمولها للفرائض فهي محمولة على تلك الروايات الدالة على وجوب القضاء وفوريته ومخصصة بها إلا ان الأول هو المعتمد.

واما روايتا الصيقل وعلي بن جعفر فقد تقدم الجواب عنهما واما رواية عيص ابن القاسم المنقولة من كتاب الحسين بن سعيد وما اشتملت عليه من التفصيل ـ وهذه ايضا من روايات السيد المتقدم ذكره ـ فالجواب عنها ما تقدم في الجواب عن خبر الصيقل فان هذا الفرق بين الاولى والعصر انما يتمشى على مذهب العامة وأصولهم ولا أظن هذين الفاضلين المستدلين به يقولان بمضمونه فكيف يرومان الاستدلال به؟ واما ما نقله

٣٦٣

عن كتاب عبيد الله بن علي الحلبي ـ وهو ايضا من روايات السيد المتقدم ـ فهو مضمون ما دلت عليه صحيحة عبد الله بن سنان ورواية أبي بصير فالجواب عنه عين الجواب عنهما وقد تقدم والطعن عليه وارد كالطعن عليهما.

واما ما ذكره من الاخبار الدالة على كراهة الصلاة مطلقا في الأوقات المكروهة فهي غير معمول عليها عندنا ولا قائل بها منا ، فإذا لم يقل هو ولا غيره بمضمونها فكيف يسوغ له الاستدلال بها؟ بل هي محمولة على التقية البتة لمعارضتها بالأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة الدالة على قضاء الفريضة في كل وقت سيما بعد العصر فإنه من سر آل محمد المخزون (١) وكذا سائر تلك المواضع فريضة كانت أو نافلة ، مضافا الى اتفاق الأصحاب على ذلك وانما الكلام في المبتدأة كما تقدم.

واما رواية عمار الدالة على المنع من قضاء صلاة الصبح والأمر بقطعها لو طلعت عليه الشمس ولم يصل منها ركعة فهي مردودة بالأخبار المستفيضة الدالة على خلاف ذلك عموما وخصوصا في الفريضة بل النافلة كما في صحيحة يعقوب بن شعيب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ الشمس أيصلي حين يستيقظ أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟ قال يصلي حين يستيقظ. قلت يوتر أو يصلي الركعتين؟ قال بل يبدأ بالفريضة». وقد ورد في الاخبار (٣) ان القضاء بعد الغداة وبعد العصر من سر آل محمد المخزون. وبالجملة فالرواية لا قائل بها من الأصحاب ولا عاضد لها من سنة ولا كتاب بل الاخبار في ردها ظاهرة لذوي الألباب فليس في إيرادها وأمثالها مما تقدم إلا التطويل والاطناب سيما والراوي عمار الذي عرفت ما في رواياته من العجب العجاب ، والرواية المذكورة محمولة على التقية كما في نظائرها.

والعجب من هذا المستدل ان جميع ما أورده إلا النزر القليل لا يقول بمضمونه كما لا يخفى على من راجع كتابه لمخالفته لأصول المذهب وقواعده فكيف يتوهم إلزام

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣٩ و ٤٥ من المواقيت.

(٣) الوسائل الباب ٣٩ و ٤٥ من المواقيت.

٣٦٤

الخصم به في المقام؟ ما هذا إلا عجيب كما لا يخفى على ذوي الألباب والافهام.

واما ما ادعاه من الحرج العظيم في ضبط الأوقات ومعرفة الساعات وضبط انتصاف الليل وطلوع الشمس وغروبها فهل هو إلا رد على الشارع من حيث لا يشعر قائله حيث انه جعل هذه الأوقات حدودا للفرائض والصلوات وجعلها مناطا للأداء والقضاء واختصاص الفريضة الثانية من آخره بمقدارها والاولى من اوله بمقدارها ونحو ذلك والأمر في المقامين واحد ، والحرج ليس دائرا مدار ما تفر منه النفوس البشرية وتستثقله الطبائع الإنسانية وان اقتضته الأدلة الشرعية وإلا لسقطت جملة من التكاليف الشاقة كالجهاد والحج والصوم في الأيام الصائفة ونحو ذلك لنفور النفوس منها. واما ما ذكره من لزوم الحرج بالاقتصار على أقل ما يتعيش به فقد عرفت انه ليس من لوازم هذه المسألة بخصوصها.

وبما ذكرنا يظهر لك ان جميع ما ذكره انما هو كغيم علا فاستعلى ثم فرقته الريح فتفرق وانجلى. والله العالم.

(الموضع الرابع) ـ في بيان ضعف القولين الآخرين وهما ما ذهب اليه صاحب المدارك تبعا للمحقق من وجوب تقديم الفائتة المتحدة دون المتعددة ، وما ذهب إليه في المختلف من وجوب تقديم الفائتة ان ذكرها في يوم الفوات سواء اتحدت أو تعددت ، وان لم يذكرها حتى يمضي ذلك اليوم جاز له فعل الحاضرة في أول وقتها.

فاما القول الأول فيرده (أولا) انه انما استدل على جواز تقديم الحاضرة على الفوائت المتعددة بصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة التي قد عرفت تطرق الطعن إليها بما قدمناه ، ولكن عذره في الاستدلال بها ظاهر حيث انه في باب الأوقات استدل بها على امتداد وقت العشاءين الى قبل الفجر للمضطر ، ونحن قد قدمنا في تلك المسألة بطلان هذا الاستدلال وان هذه الرواية الدالة على ذلك ونحوها انما خرجت مخرج التقية وحينئذ فلا دلالة فيها في الموضعين على ما ادعاه.

٣٦٥

و (ثانيا) ـ انها معارضة بصحيحة زرارة الطويلة (١) لدلالتها على وجوب تقديم الفوائت المتعددة على صاحبة الوقت حيث تضمنت تقديم قضاء المغرب والعشاء على صلاة الصبح بقوله (عليه‌السلام) : «وان كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعا فابدأ بهما قبل ان تصلي الغداة ابدأ بالمغرب ثم العشاء. الحديث» والسيد المذكور قد حمله على الاستحباب جمعا بينه وبين صحيحة ابن سنان. وفيه ما عرفت من ضعف الصحيحة المذكورة بما ذكرنا من الطعن فيما تضمنته ، مع ما عرفت في الحمل على الاستحباب آنفا ، على ان ما تضمنته صحيحة زرارة من الحكم المذكور معتضد بجملة من الأخبار الظاهرة في الوجوب مثل صحيحته الأخرى (٢) حيث «سئل (عليه‌السلام) عن من نسي صلوات لم يصلها أو نام عنها فقال يقضيها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتم ما قد فاته فليقض ما لم يتخوف ان يذهب وقت هذه الحاضرة. الحديث». فإنه صريح في وجوب تقديم الفوائت المتعددة كما ترى ، ومثلها الروايات الدالة على الأمر بالقضاء ما لم يتضيق وقت الحاضرة (٣) فإنها شاملة بإطلاقها للمتحدة والمتعددة بل ظاهرة في المتعددة ، وحينئذ فارتكاب التأويل في هذه الروايات بتلك الرواية المعلولة ـ مع ما عرفت في هذا الحمل من الوجوه التي قدمناها دالة على عدم صحته في نفسه ـ مجازفة محضة في أحكامه سبحانه ، وبذلك يظهر لك ضعف القول المذكور.

واما القول الثاني من القولين المذكورين فلا اعرف له وجها وجيها من الأخبار وان أطال في المختلف في ذلك من غير طائل بل ظواهر الأخبار تدفعه ، قال في المدارك واعلم ان العلامة في المختلف استدل برواية زرارة المتقدمة على وجوب تقديم فائتة اليوم ثم قال (لا يقال) هذا الحديث يدل على وجوب الابتداء بالقضاء في اليوم الثاني لأنه

__________________

(١) ص ٣٣٩.

(٢) الوسائل الباب ٢ من قضاء الصلوات.

(٣) رواها في الوسائل في الباب ٦٢ من المواقيت و ٢ من قضاء الصلاة.

٣٦٦

(عليه‌السلام) قال : «وان كان المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعا فابدأ بهما قبل ان تصلي الغداة» ان كان الأمر للوجوب وإلا سقط الاستدلال به (لأنا نقول) جاز ان يكون للوجوب في الأول دون الثاني لدليل فإنه لا يجب من كونه للوجوب مطلقا كونه للوجوب في كل شي‌ء. وهو جيد. انتهى. أقول : أشار برواية زرارة المتقدمة إلى روايته الطويلة فإنها هي المشتملة على هذا الكلام كما قدمناه.

ثم أقول ما استجوده من كلام المختلف هنا لا اعرف له وجها يعتمد عليه فإنه متى كان الأمر حقيقة في الوجوب كما هو مقتضى استدلاله بالرواية وبه اعترفوا في الأصول فتخصيص ذلك بموضع دون موضع يحتاج إلى القرينة الصارفة. والى ذلك يشير ايضا كلامه هنا بقوله «لدليل» وكان الواجب عليه بيان هذا الدليل الصارف عن الوجوب في هذا المقام مع انه لم يبين ذلك ولا هذا القائل الذي استجود كلامه لكونه موافقا لغرضه كما تقدم وانما اعتمدوا على مجرد الدعوى التي لا تسمن ولا تغني من جوع كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف ادنى رجوع. وبالجملة فإن قوله : «انه لا يجب من كونه للوجوب مطلقا كونه للوجوب في كل شي‌ء» لا معنى له إلا ان يقوم الصارف عن الوجوب في بعض المواضع فيخرج عن حقيقته الى المجاز وإلا فهو في كل موضع أطلق انما يتبادر منه الوجوب

ومن أظهر الأدلة الدالة على رد هذا القول الآية والأخبار المستفيضة بوجوب القضاء حين الذكر كما قدمناه ، ووجوب تأخير صاحبة الوقت الى آخره مع عدم استيفاء القضاء قبل ذلك ، ووجوب العدول عن الحاضرة مع الذكرى في أثنائها ، فإنها شاملة بإطلاقها وعموماتها لفائتة اليوم وغيره ، وصحيحة زرارة المذكورة صريحة في رده. وما أجاب به عن ذلك غير موجه وان وافقه السيد المذكور عليه لكونه موافقا لاختياره.

وغاية ما استدل به في المختلف لجواز تقديم الحاضرة هو عموم الآيات التي تقدمت في صدر كلام الفاضل الخراساني والاخبار الدالة على المواسعة ، وقد عرفت ما في جميع ذلك ، ومع الإغماض عن ذلك فغاية ما تدل عليه الأدلة المذكورة من آية ورواية هو المواسعة مطلقا وتخصيصها

٣٦٧

بغير يوم الفوات كما ادعاه يحتاج الى دليل.

وبالجملة فالأدلة قد تعارضت آية ورواية في المواسعة مطلقا والمضايقة مطلقا وكل منهما مطلق في فائتة اليوم وغيره متحدة أو متعددة ، واللازم من ذلك اما القول بالمضايقة مطلقا أو المواسعة مطلقا ، واما تفصيل أصحاب هذين القولين فلا دليل عليه في البين ولا اثر له في الاخبار ولا عين بل هي في رده ظاهرة من الطرفين. والله العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

المقدمة الرابعة في القبلة

وفيها بحوث (الأول) في الماهية وما يتبعها ، قيل : القبلة لغة الحالة التي عليها الإنسان حال استقباله الشي‌ء ثم نقلت في العرف الى ما يجب استقبال عينه أو جهته في الصلاة.

والمراد هنا بالقبلة الكعبة المعظمة بالضرورة من الدين وان وقع الخلاف ـ كما سيأتي ـ بالنسبة إلى البعيد عنها في الجهة والمسجد والحرم الا ان ذلك راجع إليها بطريق الآخرة ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة ، فروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته هل كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي الى بيت المقدس؟ قال نعم. فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال اما إذا كان بمكة فلا واما إذا هاجر الى المدينة فنعم حتى حول الى الكعبة».

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي بإسناده إلى الصادق (عليه‌السلام) (٢) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وبعد هجرته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى بالمدينة سبعة أشهر ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة ، وذلك ان اليهود كانوا يعيرون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويقولون له أنت

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من القبلة.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ٢ من القبلة.

٣٦٨

تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من ذلك غما شديدا وخرج في جوف الليل ينظر إلى أفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك امرا فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وانزل عليه «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (١) فصلى ركعتين الى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة».

وقال الصدوق في الفقيه (٢) : صلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة ثم عيرته اليهود فقالوا له انك تابع قبلتنا فاغتم لذلك غما شديدا فلما كان في بعض الليل خرج (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقلب وجهه في آفاق السماء فلما أصبح صلى الغداة فلما صلى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل فقال له «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... الآية» (٣) ثم أخذ بيد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلى اهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة فكانت أول صلاتهم الى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين ، فقال المسلمون صلاتنا الى بيت المقدس تضييع يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فانزل الله عزوجل «وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» (٤) يعني صلاتكم الى بيت المقدس. قال في الفقيه قد أخرجت الخبر في ذلك على وجهه في كتاب النبوة.

أقول : وربما يتسارع الى الناظر المنافاة بين هذه الأخبار بالنسبة إلى صلاة النبي

__________________

(١ و ٣) سورة البقرة ، الآية ١٣٩.

(٢) الوسائل الباب ٢ من القبلة.

(٤) سورة البقرة ، الآية ١٣٨.

٣٦٩

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مكة فإن الخبر الأول دال انه يستقبل الكعبة والخبران الأخيران على انه يستقبل بيت المقدس (١) ووجه الجمع بينهما ممكن بجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فيصلي إليهما معا فلا منافاة.

وروى الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال «سألته عن قول الله تعالى «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» (٣) امره به؟ قال نعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقلب وجهه في السماء فعلم الله عزوجل ما في نفسه فقال قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» (٤).

وروى الشيخ في التهذيب عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «قلت له متى صرف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى الكعبة؟ قال بعد رجوعه من بدر».

وعن ابي بصير عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٦) في حديث قال : «قلت له الله أمره ان يصلي الى بيت المقدس؟ قال نعم ألا ترى ان الله تعالى يقول «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ... الآية» (٧) ثم قال ان بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا ركعتين الى بيت المقدس فقيل لهم ان نبيكم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء

__________________

(١) فيه انه غفلة واضحة إذ ليس في الخبر الأول انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يستقبل الكعبة بل هو صريح في انه ما كان يستقبلها بل انما يدل على انه ما كان يجعل الكعبة خلفه في مكة وهو غير الصلاة إليها كما لا يخفى فلا تعارض بين الاخبار أصلا. مير سيد على (قدس‌سره).

(٢) الوسائل الباب ١ من القبلة.

(٣ و ٧) سورة البقرة ، الآية ١٣٨.

(٤) سورة البقرة ، الآية ١٣٩.

(٥ و ٦) الوسائل الباب ٢ من القبلة.

٣٧٠

وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين فلذلك سمى مسجدهم مسجد القبلتين». الى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عنها المقام.

واما ما يدل على وجوب التوجه نحوها زيادة على اتفاق المسلمين بل الضرورة من الدين ، فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الفرض في الصلاة؟ فقال الوقت والطهور والقبلة والتوجه والركوع والسجود والدعاء. قلت ما سوى ذلك؟ فقال سنة في فريضة».

وروى في الفقيه مرسلا (٢) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لزرارة : لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود».

وروى الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن قول الله تعالى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» (٤) قال أمره أن يقيم وجهه للقبلة ليس فيه شي‌ء من عبادة الأوثان خالصا مخلصا».

وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح في الكافي والتهذيب عن زرارة عن ابي جعفر ومرسلا في الفقيه عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٥) قال : «إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فان الله تعالى قال لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الفريضة «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (٦) واخشع ببصرك ولا ترفعه الى السماء وليكن حذاء وجهك في موضع سجودك».

وروى الصدوق في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٧) قال : «لا صلاة إلا الى القبلة. قال قلت اين حد القبلة؟ قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله. قال قلت فمن صلى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال يعيد».

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما يجب

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ١ من القبلة.

(٢ و ٥ و ٧) الوسائل الباب ٩ من القبلة.

(٤) سورة الروم ، الآية ٢٩.

(٦) سورة البقرة ، الآية ١٣٩.

٣٧١

استقباله فذهب المرتضى وابن الجنيد وأبو الصلاح وابن إدريس والمحقق في المعتبر والنافع والعلامة وأكثر المتأخرين إلى انه عين الكعبة لمن تمكن من العلم بها من غير مشقة شديدة عادة كالمصلي في بيوت مكة وجهتها لغيره من البعيد ونحوه ، واختاره في المدارك. وذهب الشيخان وجمع من الأصحاب : منهم ـ سلار وابن البراج وابن حمزة والمحقق في الشرائع إلى ان الكعبة قبلة لمن كان في المسجد والمسجد قبلة لمن كان في الحرم والحرم قبلة لأهل الدنيا ممن بعد ، ورواه الصدوق في الفقيه (١) ونسبه في الذكرى الى أكثر الأصحاب ، ونسبه في المختلف الى ابن زهرة أيضا ولعله في غير كتابه الغنية فإن بعض الأصحاب نقل عنه في الكتاب المذكور انه قال : القبلة هي الكعبة فمن كان مشاهدا لها وجب عليه التوجه إليها ومن شاهد المسجد الحرام ولم يشاهد الكعبة وجب عليه التوجه اليه ومن لم يشاهده توجه نحوه بلا خلاف. انتهى. وهذه العبارة كما ترى عارية عن ذكر الحرم وانه قبلة لمن نأى عنه كما صرح به أصحاب القول الثاني.

قيل : والظاهر انه لا خلاف بين الفريقين في وجوب التوجه إلى الكعبة للمشاهد ومن هو بحكمه وان كان خارج المسجد فقد صرح به من أصحاب القول الثاني الشيخ في المبسوط وابن حمزة في الوسيلة وابن زهرة في الغنية ونقل المحقق الإجماع عليه لكن ظاهر كلام الشيخ في النهاية والخلاف يخالف ذلك.

أقول : غاية ما يمكن القطع به هنا في اجتماع القولين بالنسبة إلى المشاهد خاصة وإلا فمن بحكمه كالمصلي في بيوت مكة وفي الحرم مع عدم المشاهدة فإن ظاهر أصحاب القول الأول ان القبلة في حقه هي الكعبة وظاهر أصحاب القول الثاني انما هو المسجد.

واستدل في المعتبر على وجوب استقبال العين للقريب بإجماع العلماء كافة على ذلك. وقال في المدارك بعد نقل ذلك : فان تم فهو الحجة وإلا أمكن المناقشة في ذلك إذ الآية الشريفة انما تدل على استقبال شطر المسجد الحرام والروايات خالية من هذا

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣ من القبلة.

٣٧٢

التفصيل. انتهى. وهو جيد إذ لم نقف في شي‌ء من الاخبار المستدل بها على القول الأول كما سيأتيك ان شاء الله تعالى على التفصيل بين القريب والبعيد بالعين والجهة كما ذكروا ، بل ظاهر الآية هو استقبال شطر المسجد الحرام يعني جهته مطلقا. وهذا أحد الوجوه التي يمكن تطرق الضعف بها الى القول الأول.

واستدل في المدارك للقول الأول بالنسبة إلى البعيد بما رواه زرارة في الصحيح عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) انه قال : «لا صلاة إلا الى القبلة. قلت له اين حد القبلة؟ قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله».

أقول : ويقرب من هذه الرواية ما رواه معاوية بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «في الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟ قال قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة».

أقول : لا يخفى ما في الاستدلال بهاتين الروايتين من الإشكال فإن القول باتساع الجهة بهذا المقدار مما لم يذهب إليه أحد في ما اعلم. نعم صرحوا بذلك بالنسبة الى من أخطأ ظنه في القبلة أو جهل القبلة فظهرت صلاته بعد الفراغ في ما بين المشرق والمغرب فإنه لا اعادة عليه.

واستدل في الذخيرة لذلك أيضا بالأخبار المتقدمة في صدر المبحث كخبر علي ابن إبراهيم وما ذكره في الفقيه وصحيحة الحلبي أو حسنته ونحوها مما دل على انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى إلى الكعبة وليس المراد العين البتة فيحمل على جهتها كما هو المدعى وفيه ان الآية التي أوردوها دليلا على الحكم المذكور في أكثر هذه الاخبار انما تضمنت الأمر بالصلاة شطر المسجد الحرام اي جهته وناحيته ووجه الجمع يقتضي حمل الكعبة على جهة المسجد الحرام تجوزا لأن الآية إنما دلت على جهة المسجد لا جهة الكعبة وأحدهما غير الآخر ، وحينئذ فلا دلالة في الاخبار المذكورة على ما ادعوه.

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من القبلة.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من القبلة.

٣٧٣

اللهم الا ان يقال ان هذه الإطلاقات إنما خرجت بناء على اتساع جهة القبلة كما سيظهر ان شاء الله تعالى. واحتمل بعض الأصحاب حمل المسجد على الكعبة التي هي أشرف اجزائه. واحتمل بعض آخر خروج هذه الاخبار مخرج المسامحة في التأدية من حيث كون الكعبة قبلة عند جمهور العامة (١) قال فلعله (عليه‌السلام) سامح في التأدية لئلا يخالف ظاهر الكلام مذهب جمهور العامة فإنه أقرب الى الاحتياط والتقية. والظاهر ـ كما ذكره بعض محققي متأخري المتأخرين ـ ان الآية لا دلالة لها على شي‌ء من القولين المذكورين.

والذي يدل على ما ذهب اليه الشيخان وأتباعهما جملة من الاخبار :

منها ـ ما رواه الشيخ عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض رجاله عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) والصدوق في الفقيه مرسلا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «ان الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا». ورواه الصدوق في كتاب العلل عن أبيه عن محمد بن يحيى عن محمد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين عن الحجال. الى آخره (٣).

وعن بشر بن جعفر الجعفي أبي الوليد (٤) قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) يقول البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للناس جميعا». ورواه الصدوق أيضا في كتاب العلل بالسند المتقدم.

وما رواه الصدوق في كتاب العلل عن محمد بن الحسين عن الصفار عن العباس ابن معروف عن علي بن مهزيار عن الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن ابي البلاد عن ابي غرة (٥) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الدنيا».

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٤٣٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٣ من القبلة.

٣٧٤

ومما يؤيد هذه الاخبار بأوضح تأييد الأخبار الدالة على الأمر بالتياسر فان ذلك مبني على التوجه الى الحرم وستأتي ان شاء الله تعالى في موضعها.

واما ما أوردوه على هذا القول ـ من ان التكليف بإصابة الحرم يستلزم بطلان صلاة أهل البلاد المتسعة بعلامة واحدة للقطع بخروج بعضهم عن الحرم واللازم باطل فالملزوم مثله والملازمة ظاهرة ، مع ان المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى صرحا بان قبلة أهل العراق وخراسان واحدة ومعلوم زيادة التفاوت ـ فالجواب عنه ما افاده شيخنا الشهيد في هذا المقام وتلقاه بالقبول جملة من الاعلام من ان ذكر المسجد والحرم إشارة إلى الجهة ، قال وذكره على سبيل التقريب الى افهام المكلفين وإظهارا لسعة الجهة وان لم يكن ملتزما. انتهى. وهو جيد وجيه ، كما ان ذكر الكعبة في تلك الأخبار التي قدمنا نقلها عنهم في وجوب الاستقبال إلى الكعبة لا بد من حملها على الجهة كما قدمنا ذكره وإلا لبطلت صلاة الصف الطويل الذي يخرج عن سمت الكعبة.

واما ما طعن به في المعتبر والمدارك من ضعف الاخبار فقد رده شيخنا الشهيد في الذكرى بناء على اصطلاحهم المعمول عندهم بأنه إذا اشتهرت بين الأصحاب لا سبيل الى ردها. هذا على تقدير صحة اصطلاحهم وإلا فالأمر مفروغ منه عندنا كما عرفت. في غير موضع.

وكيف كان فإنه ينبغي ان يعلم ان النزاع بالنسبة إلى البعيد ـ بان يكون قبلته جهة الكعبة كما هو أحد القولين أو الحرم أو جهته بناء على التأويل المذكور ـ قليل الجدوى لاتفاقهم جميعا على رجوع البعيد إلى الأمارات الآتي ذكرها ووجوب عمله عليها ، وحينئذ فلا ثمرة في هذا الاختلاف كما لا يخفى.

ثم انهم اختلفوا في تعريف الجهة على أقوال عديدة قد أطال فيها الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام شيخنا الشهيد الثاني في روض الجنان وجعل أقربها ما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى حيث عرفها بأنها السمت التي يظن كون الكعبة فيه لا مطلق

٣٧٥

الجهة كما قال بعض العامة ان الجنوب قبلة لأهل الشمال وبالعكس والمغرب قبلة لأهل المشرق وبالعكس لأنا نتيقن الخروج هنا عن القبلة وهو ممتنع. أقول وهذا الاختلاف ايضا هنا قليل الجدوى لما عرفت من انهم قد أوجبوا على البعيد الرجوع الى العلامات التي ذكرها علماء أهل الهيئة والتوجه الى السمت الذي تدل عليه فكان الاولى تعريف الجهة بها.

وينبغي التنبيه هنا على أمور بها يتم البحث عن تحقيق المسألة كما هو حقها :

(الأول) قد صرح غير واحد من الأصحاب بل ظاهر كلام المعتبر المتقدم الإجماع على ذلك بأنه يجب على المكي لتمكنه من مشاهدة عين الكعبة الصلاة إليها ولو بالصعود على سطح لقدرته على العلم فلا يجوز له البناء على الظن ، ولو نصب محرابا بعد المعاينة جازت صلاته إليه دائما لتيقنه الصواب ، وكذا الذي نشأ بمكة وتيقن الإصابة ، ولا يكفى الاجتهاد بالعلامات هنا لانه رجوع الى الظن مع إمكان العلم وهو غير جائز. نعم لو كان محبوسا لا قدرة له على استعلام العين جاز له التعويل على الاجتهاد وكذا من هو في نواحي الحرم ، وهل يكلف الصعود الى الجبل لاستعلام العين؟ قولان نقل عن الشيخ والعلامة في بعض كتبهما ذلك. قال في المدارك بعد اختيار القول الآخر : وهو بعيد.

أقول : لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما تقدم انه لا دليل في أصل هذه المسألة إلا ما يدعونه من الإجماع وإلا فالآية إنما دلت على شطر المسجد مطلقا كما تقدم ، والاخبار لا تعرض فيها لذلك بوجه وان كان الاحتياط في ما ذكروه (رضوان الله عليهم) إلا ان في سقوط صعود الجبل كما هو أحد القولين في المسألة كما عرفت نظرا واستبعاد صاحب المدارك لا يخلو من بعد لما اتفقوا عليه من عدم جواز البناء على الظن إلا مع تعذر العلم والعلم بذلك ممكن بصعود الجبل ، فكيف يجوز له ان يصير الى الظن والحال ما ذكرنا؟ الا ان يدعى استلزام المشقة بذلك لكن إطلاق كلامهم يقتضي العموم ، وهو غير جيد.

٣٧٦

(الثاني) ـ ينبغي ان يعلم ان القبلة ليس نفس البنية الشريفة بل محلها من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فلو زالت البنية ـ والعياذ بالله ـ صلى الى جهتها التي تشتمل على العين كما يصلي من هو أعلى من الكعبة إلى الجهة المسامتة للبنية وكذا من هو اخفض من موضعها بان يكون في سراداب ، والظاهر انه لا خلاف فيه ، ويدل عليه مضافا الى الاتفاق ما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سأله رجل قال صليت فوق جبل ابي قبيس العصر فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي؟ قال نعم انها قبلة من موضعها الى السماء». وعن خالد بن أبي إسماعيل أو ابن إسماعيل (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل يصلي على ابي قبيس مستقبل القبلة؟ قال لا بأس».

(الثالث) ـ لو صلى على سطح الكعبة فهل يصلي قائما ويبرز بين يديه منها شيئا يصلي اليه أو يستلقي على قفاه ويصلي؟ قولان المشهور الأول وبه قال الشيخ في المبسوط وقال في الخلاف والنهاية وابن بابويه وابن البراج بالثاني لكن قيده ابن البراج بعدم التمكن من النزول. واستند الأولون في وجوب الصلاة قياما إلى الأدلة الدالة على وجوب القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة كما يصلى داخلها. واحتج الشيخ في الخلاف على ما ذهب إليه بالإجماع وبما رواه عن علي بن محمد عن إسحاق بن محمد عن عبد السلام عن الرضا (عليه‌السلام) (٣) قال : «في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة؟ قال ان قام لم يكن له قبلة ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه الى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ويقرأ فإذا أراد ان يركع غمض عينيه وإذا أراد ان يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه والسجود على نحو ذلك».

أقول : لا ريب ان من يعمل على هذا الاصطلاح المحدث فإنه يتحتم عنده القول بالأول لضعف الخبر المذكور واما من لا يعمل عليه فيبقى عنده التعارض بين تلك الأخبار

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٨ من القبلة.

(٣) الوسائل الباب ١٩ من القبلة.

٣٧٧

المشار إليها في الإتيان بواجبات الصلاة كما هي وبين هذا الخبر والترجيح لتلك الاخبار لكثرتها وشهرتها ، والظاهر انه لما ذكرنا ذهب الأكثر حتى من المتقدمين الى القول الأول. إلا انه يمكن ان يقال ان تلك مطلقة عامة وهذا الخبر خاص ومن القاعدة تقديم العمل به وتخصيص عموم تلك الاخبار به. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال إلا أن الأمر في ذلك هين لعدم اتفاق هذا الحكم وحصوله.

(الرابع) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز صلاة النافلة في جوف الكعبة وكذا الفريضة حال الاضطرار وادعى عليه في المعتبر والمنتهى اتفاق أهل العلم.

وانما الخلاف في الفريضة مع الاختيار فذهب الأكثر ومنهم الشيخ في النهاية والاستبصار إلى الجواز على كراهة ، وذهب في الخلاف الى التحريم وتبعه ابن البراج.

احتج المجوزون بأن القبلة ليس مجموع البنية بل نفس العرصة وكل جزء من أجزائها إذ لا يمكن محاذاة المصلي بإزائها منه إلا قدر بدنة والباقي خارج عن مقابلته ، وهذا المعنى يتحقق مع الصلاة فيها كما يتحقق مع الصلاة في خارجها.

وما رواه يونس بن يعقوب في الموثق (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إذا حضرت الصلاة المكتوبة وانا في الكعبة أفأصلي فيها؟ قال صل».

ويعضده قوله سبحانه «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (٢) فان الظاهر منها تعميم الاذن والترخيص في اجزاء البيت بأسرها.

أقول : ويمكن ان يجاب عن ذلك (اما عن الأول) فبما ذكره في الذخيرة من انه يجوز ان يكون المعتبر التوجه إلى جهة القبلة بأن تكون الكعبة في جهة مقابلة للمصلي وان لم تحصل المحاذاة لكل جزء منها لا بد لنفي ذلك من دليل. و (اما عن الموثقة المذكورة)

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من القبلة.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١١٦.

٣٧٨

فبالمعارضة بما هو أصح منها كما سيأتي. و (اما عن الآية) فبتخصيصها بالخبرين الصحيحين الصريحين في المنع.

احتج الشيخ (قدس‌سره) على ما ذهب اليه من التحريم بإجماع الفرقة ، وبان القبلة هي الكعبة لمن شاهدها فتكون القبلة جملتها والمصلي في وسطها غير مستقبل للجملة ، وبما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تصل المكتوبة في جوف الكعبة فإن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يدخلها في حج ولا عمرة ولكن دخلها في فتح مكة فصلى فيها ركعتين بين العمودين ومعه أسامة». وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «لا تصل المكتوبة في الكعبة». ورواه في الكافي في الصحيح ايضا (٣) ثم قال : وقد روى في حديث آخر «يصلى الى أربع جوانبها إذا اضطر الى ذلك». وروى الشيخ هذه الصحيحة في موضع آخر في الموثق عن محمد عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «لا تصلح صلاة المكتوبة جوف الكعبة». وفي موضع ثالث في الصحيح ايضا مثله (٥) وزاد «واما إذا خاف فوت الصلاة فلا بأس ان يصليها في جوف الكعبة».

قال في المدارك بعد نقل هذه الأدلة : وأجيب عن الأول بمنع الإجماع على التحريم كيف وهو في أكثر كتبه قائل بالكراهة. وعن الثاني بعدم تسليم كون القبلة هي الجملة لاستحالة استقبالهما بأجمعها بل المعتبر التوجه الى جزء من اجزاء الكعبة بحيث يكون مستقبلا ببدنه ذلك الجزء. وعن الروايتين بالحمل على الكراهة. ثم قال ويمكن المناقشة في هذا الحمل بقصور الرواية الأولى عن مقاومة هذين الخبرين من حيث السند ، ويشكل الخروج بها عن ظاهرهما وان كان الأقرب ذلك لاعتبار سند الرواية وشيوع استعمال النهي في الكراهة بل ظهور لفظ «لا يصلح» فيه كما لا يخفى. انتهى.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من القبلة.

(٥) التهذيب ج ١ ص ٥١٦ باب دخول الكعبة.

٣٧٩

أقول : فيه (أولا) ان ما أجاب به عن الوجه الثاني ـ من ان المعتبر التوجه الى جزء من اجزاء الكعبة. الى آخره ـ مما لا دليل عليه وانما المعتبر ما دلت عليه ظواهر الأدلة من التوجه إلى جهة الكعبة ، نعم اللازم من ذلك محاذاة البدن لجزء من اجزاء تلك الجملة وأحدهما غير الآخر. وبالجملة فهو يرجع الى ما تقدم ذكره في كلام صاحب الذخيرة.

و (ثانيا) ـ انه من العجب العجاب عدوله هنا عن طريقته التي جرى عليها في هذا الكتاب كما لا يخفى على من له انس بكلامه في جميع الأبواب ، فإن من قاعدته دورانه مدار الأسانيد الصحيحة كما صرحنا به في غير موضع عنه وان كانت متون تلك الأخبار مشتملة على علل عديدة ، ومن قاعدته رد الأخبار الموثقة وعدها في سلك الأخبار الضعيفة ، فكيف خرج عن ذلك هنا متعللا بهذه التعليلات الضعيفة والحجج السخيفة؟

واما قوله في الرجوع عما ذكره من المناقشة «أن سند الرواية المذكورة معتبر» ان أريد بخصوص هذه الرواية فلا وجه له فان في سندها الحسن بن علي بن فضال ويونس ابن يعقوب وهما من ثقات الفطحية ولا خصوصية للعمل برواية هذين دون غيرهما من ثقات الفطحية ، فإن عمل بالأخبار الموثقة فليكن في كل مقام وإلا فلا وجه لهذا الكلام المنحل الزمام.

واما تعلله بشيوع النهي في الكراهة فهو وارد عليه في جميع المقامات التي استدل فيها على الوجوب بلفظ الأمر فلا معنى للطعن به في هذا المقام خاصة ، ومقتضى التحقيق الذي صرح به هو وغيره في الأصول والفروع ان الأمر حقيقة في الوجوب ولا يخرج عنه إلا بقرينة ، على ان شيوع النهي في الكراهة ان كان مع القرائن الحالية أو المقالية الدالة على ذلك فهو لا ينفعه وإلا فهو محل المنع ايضا.

واما ما اعتضد به من ظهور لفظ «لا يصلح» في الكراهة فهو مبني على نقله الرواية بذلك في كتابه كما هو في أحد طرق الخبر المذكور ، ونحن قدمنا لك الخبر بجميع

٣٨٠