الحدائق الناضرة - ج ٦

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٦

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» (١) ولقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الإسلام يهدم ما قبله» (٢). انتهى.

أقول : لا يخفى أن الأوفق بما ذهبوا اليه بل اتفقوا عليه من ان الكفار مكلفون بالإسلام ومخاطبون به وان الإسلام شرط في الصحة والقبول لا شرط في التكليف هو ما نقله عن البعض المذكور ، وكيف يكون الكفر عذرا شرعيا لهم كالجنون والحيض والحال انهم مخاطبون ومكلفون في حال الكفر؟ ألا ترى ان الحيض والجنون ونحوهما انما صارت أعذارا شرعية من حيث ارتفاع التكليف معها؟

واما الاستدلال بالآية والخبر المذكور فيمكن الجواب عنه بان المراد مغفرة ما كانوا عليه من الكفر وكذلك قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الإسلام يهدم ما قبله» يعني الأحكام المترتبة على الكفر بمعنى ان يكونوا طاهرين بعد ان كانوا نجسين ومحقوني الدم والمال بعد ان لم يكونوا كذلك ونحو ذلك من أحكام الإسلام. واما العبادات فالذي ثبت بالاخبار والأدلة التي قدمناها في بحث غسل الجنابة من كتاب الطهارة أنهم غير مكلفين بها وان الإسلام شرط في التكليف بها فلا يتوجه العقاب عليها والمؤاخذة بتركها لعدم التكليف بها بالكلية. وبالجملة فإن مقتضى قاعدتهم المذكورة هو وجوب القضاء كما لا يخفى.

(العاشر) ـ قال في الذكرى : حكم أثناء الوقت حكم أوله في ذلك فلو أفاق المجنون في أثناء الوقت ثم جن أو أغمي عليه في الوقت اعتبر في قدر الإفاقة إدراك جميع الشرائط والأركان ، وكذا لو كانت مجنونة فأفاقت ثم حاضت. انتهى. وبذلك صرح في المنتهى ايضا. وهو كذلك.

(الحادي عشر) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه إذا بلغ الصبي المتطوع بالصلاة في أثنائها بما لا يبطل الطهارة كالسن والإنبات وكان الوقت باقيا

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية ٣٩.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي ج ١ ص ٣٥٠.

٢٨١

بحيث يسع ركعة فإنه يجب عليه الاستئناف ، ذهب اليه الشيخ في الخلاف وجملة ممن تأخر عنه ، قالوا لانه بعد البلوغ مخاطب بالصلاة والوقت باق فيجب عليه الإتيان بها وما فعله أولا لم يكن واجبا فلا يحصل به الامتثال. وذهب الشيخ في المبسوط إلى انه يتم وظاهره عدم وجوب الإعادة ، واستدل له في المختلف بأنها صلاة شرعية فلا يجوز ابطالها لقوله تعالى «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (١) وإذا وجب إتمامها سقط بها الفرض لان امتثال الأمر يقتضي الاجزاء. وأجاب عنه في المدارك قال : والجواب بعد تسليم دلالة الآية على تحريم إبطال العمل ان الإبطال هنا لم يصدر من المكلف بل من حكم الشارع ، سلمنا وجوب الإتمام لكن لا نسلم سقوط الفرض بها والامتثال انما يقتضي الإجزاء بالنسبة الى الأمر الوارد بالإتمام لا بالنسبة إلى الأوامر الواردة بوجوب الصلاة. انتهى. أقول : ما ذكره في الجواب من ان الإبطال هنا من حكم الشارع لا اعرف له وجها فإنه لا نص في المسألة كما لا يخفى ، وإيجاب الشارع عليه الصلاة بعد البلوغ لا يستلزم إبطال هذه إذ يجوز ان يكتفى فيه بإتمامها كما ذهب إليه في المبسوط. وبالجملة فالمسألة لكونها عارية عن النص لا تخلو من الاشكال.

قال المحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على شرح المدارك : أقول : في المسألة احتمالات أخر : أحدها ـ صحة صلاته إذا دخل عليه وقت الوجوب في أثنائها. وثانيها ـ صحة صلاته إذا أدرك ركعة في وقت الوجوب. وثالثها ـ صحتها إذا أدرك الركعتين الأوليين أو إحداهما في وقت الوجوب. ولا يمكن ان يفتي بأحد الاحتمالات قبل ظهور نص يدل عليه ، نعم يتجه ان يقال قطعنا بشمول العمومات له وجعلنا كفاية ما يعمل وعدم كفايته فيجب العمل بالاحتياط حتى نعلم حكم الله بعينه. وهذه القاعدة من قسم القطعي من القواعد الأصولية ونطقت بها روايات كثيرة لا من القسم الظني من قواعدها المردودة عندي كما حققناه في الفوائد المدنية. انتهى. وهو جيد.

__________________

(١) سورة محمد ، الآية ٣٥.

٢٨٢

ولو بلغ في الوقت بعد فراغه من الصلاة وامكنه الطهارة وأداء ركعة فالظاهر ان حكمه كما لو بلغ في أثنائها وبه صرح في المدارك ايضا ، وقد صرح العلامة في المنتهى هنا بأنه يجب عليه الطهارة والصلاة ولا يجزئه ما فعله أولا. واستحسنه في المدارك ولا ريب انه الأحوط. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ أجمع أهل العلم كافة على انه لا يجوز الصلاة قبل دخول وقتها ، قال في المعتبر وهو إجماع أهل العلم. وقال في المنتهى لا يجوز الصلاة قبل دخول وقتها وهو قول أهل العلم كافة إلا ما روى عن ابن عباس في مسافر صلى الظهر قبل الزوال يجزئه ، وبمثله قال الحسن والشعبي (١) لنا ـ الإجماع على ذلك وخلاف هؤلاء لا اعتداد به وقد انقرض ايضا فلا تعويل عليه. انتهى.

أقول : ويدل على ذلك ايضا ما رواه الشيخ في الموثق عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «من صلى في غير وقت فلا صلاة له».

وعن محمد بن الحسن العطار عن أبيه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال «لأن أصلي الظهر في وقت العصر أحب الي من ان أصلي قبل ان تزول الشمس فإني إذا صليت قبل ان تزول الشمس لم تحسب لي وإذا صليت في وقت العصر حسبت لي». وعن عبد الله ابن سليمان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) مثله (٤).

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٥) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لأن أصلي بعد ما مضى الوقت أحب الي من ان أصلي وانا في شك من الوقت وقبل الوقت».

وروى الشيخ في التهذيب عن سماعة في الموثق (٦) قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) إياك ان تصلي قبل ان تزول فإنك تصلي في وقت العصر خير لك من ان تصلي قبل ان تزول».

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٣٩٦.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من المواقيت.

٢٨٣

وعن زرارة في الصحيح عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) «في رجل صلى الغداة بليل غره من ذلك القمر ونام حتى طلعت الشمس فأخبر انه صلى بليل؟ قال يعيد صلاته».

وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) في حديث قال : «ليس لأحد ان يصلي صلاة إلا لوقتها وكذلك الزكاة ، الى ان قال : وكل فريضة إنما تؤدى إذا حلت».

وعن زرارة في الصحيح أو الحسن (٣) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) أيزكى الرجل ماله إذا مضى ثلث السنة؟ قال لا أيصلى الاولى قبل الزوال؟».

وعن زرارة (٤) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) وقت المغرب إذا غاب القرص فإن رأيته بعد ذلك وقد صليت أعدت الصلاة» وبالجملة فالحكم اتفاقي نصا وفتوى

واما ما رواه الشيخ ـ في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «إذا صليت في السفر شيئا من الصلوات في غير وقتها فلا يضرك». وروى الصدوق بإسناده عن الحلبي مثله (٦) ـ فقد حمله الشيخ على خروج الوقت فيكون قضاء ، والأظهر الحمل على وقت الاختيار والتأخير عنه الى وقت الاضطرار وذوي الأعذار لما حققناه سابقا من ان السفر من جملة الأعذار المسوغة للتأخير إلى الوقت الثاني ، وقد تقدم شيوع إطلاق الوقت على الوقت الأول وتبادره من الأخبار بما لا يعتريه شبهة الإنكار ، فلا منافاة في هذا الخبر لما قدمناه من الأخبار.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لو صلى قبل الوقت فلا يخلو اما ان يكون عامدا أو جاهلا أو ناسيا أو ظانا ، فههنا مقامات أربعة :

(الأول) ـ ان يكون عامدا والأشهر الأظهر بطلان صلاته للنهي المتقدم في الأخبار السابقة المقتضي لذلك ، وقال الشيخ في النهاية : ومن صلى الفرض قبل دخول الوقت عامدا أو ناسيا ثم علم بعد ذلك وجب عليه إعادة الصلاة : فإن كان في الصلاة لم يفرغ

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من المواقيت.

٢٨٤

منها بعد ثم دخل وقتها فقد أجزأت عنه ، ولا يجوز لأحد ان يدخل في الصلاة إلا بعد حصول العلم بدخول وقتها أو يغلب على ظنه ذلك. انتهى. ولا يخفى ما فيه من التدافع بين طرفي كلامه ، لأن قضية قوله «ولا يجوز لأحد ان يدخل في الصلاة إلا بعد حصول العلم بدخول وقتها. إلخ» بطلان صلاة العامد وان دخل عليه الوقت في أثنائها وهذا هو المطابق لعموم النهي المتقدم فإن النهي في تلك الأخبار أعم من ان يدخل عليه الوقت في أثنائها أم لا فكيف تجزئ عنه كما يدل عليه صدر كلامه؟ ولذا حمله في الذكرى على ان مراده بالمتعمد الظان لانه يسمى متعمدا للصلاة ، قال في المدارك : ولا بأس به جمعا بين الكلامين ، وحمله العلامة في المختلف على رجوع تفصيله إلى الناسي دون المتعمد. ولا بأس به ايضا صونا لكلامه (قدس‌سره) من التناقض.

(المقام الثاني) ـ ان يكون ناسيا والمراد به ناسي مراعاة الوقت ، وفي الذكرى جعله أعم منه وممن جرت منه الصلاة حال عدم خطور الوقت بالبال ، والظاهر انه لا خلاف في البطلان لو وقعت الصلاة كملا في خارج الوقت ، اما لو وقع بعضها في الوقت فقد اختلف الأصحاب فيه ، وظاهر عبارة النهاية المتقدمة الصحة ونقل في المختلف انه منصوص ابي الصلاح وظاهر كلام ابن البراج. وقال السيد المرتضى لا تصح صلاته ، وفي المختلف انه منصوص ابن ابي عقيل وظاهر كلام ابن الجنيد ، واليه ذهب العلامة ، وهو المشهور بين المتأخرين.

احتج العلامة في المختلف على ما ذهب اليه من البطلان برواية أبي بصير المتقدمة الدالة على ان من صلى في غير وقت فلا صلاة له ، ولانه فعل العبادة قبل حضور وقتها فلا تكون مجزئة عنه كما لو وقعت بأجمعها في غير الوقت ، ولان النسيان غير عذر في الفوات فلا يكون عذرا في التقديم ، ولانه ليس بعذر في الجميع فلا يكون عذرا في البعض. ثم نقل عن الشيخ انه احتج بأن الناسي معذور ومخاطب كالظان ، قال والجواب المنع من المقدمتين.

٢٨٥

أقول : والظاهر عندي هو القول المشهور لظاهر رواية أبي بصير المذكورة وحملها على خصوص من اتى بالصلاة كملا في غير الوقت وان احتمل الا ان ظاهر الرواية العموم. والأظهر عندي في الاستدلال على ذلك انما هو معلومية التكليف بالضرورة من الدين ، وسقوطه بالصلاة على هذا الوجه يحتاج الى دليل.

واما لو اتفق وقوعها كملا في الوقت فظاهر شيخنا الشهيد في الذكرى البطلان قال في الكتاب المذكور : لو صادف الوقت صلاة الناسي أو الجاهل بدخول الوقت أو بالحكم ففي الإجزاء نظر ، من حيث عدم الدخول الشرعي ، ومن مطابقة العبادة ما في نفس الأمر. والأول أقوى. وفي البيان اختار الصحة لمطابقة العبادة ما في نفس الأمر. والظاهر هو الصحة لما يأتي في المقام الآتي ان شاء الله تعالى من التحقيق الرشيق وبذلك صرح السيد السند في المدارك كما سيأتي نقل عبارته في المقام المشار اليه.

قال الفاضل الخراساني في الذخيرة : ولو وقعت صلاة الناسي بتمامها في الوقت ففيه وجهان أقربهما الصحة ، لأنه اتى بالمأمور به فتكون مجزئة (لا يقال) : كان الواجب عليه مراعاة الوقت ولم تحصل فلم يأت بالمأمور به على وجهه (لأنا نقول) وجب عليه المراعاة من باب المقدمة حال ملاحظة وجوب الإتيان بها في الوقت ليتأتى منه الإتيان بها في الوقت على وجه الامتثال والإطاعة واما عند الذهول عن هذه المقدمة فله الإتيان بها في وقتها متقربا ممتثلا من دون ملاحظة الوقت ومراعاته فلا تكون المراعاة مقدمة للفعل مطلقا. انتهى.

أقول : والتحقيق مضافا الى ما سيأتي ان شاء الله تعالى ان التكليف بمراعاة الوقت انما هو لأجل ان تقع الصلاة في الوقت فالغرض الذاتي والمقصود الكلي هو وقوعها في الوقت فإذا حصل ذلك بأي وجهه اتفق فقد حصل مراد الشارع وان لزم الإخلال بالمراعاة إذ المراعاة ليست واجبا ذاتيا يترتب على تركه الإثم أو البطلان. وما ذكره في الذكرى من ان دخوله غير شرعي على إطلاقه ممنوع إذ الدخول على

٢٨٦

ما ذكرنا شرعي لتبين كونه في الوقت الذي هو مراد الشارع. والى ما ذكرنا يرجع كلام الفاضل المذكور.

(المقام الثالث) ـ ان يكون جاهلا وقد تقدم في عبارة الذكرى ان المراد به جاهل دخول الوقت أو جاهل الحكم اي وجوب المراعاة ، والظاهر انه لا خلاف بينهم في بطلان صلاته لو وقعت كملا في خارج الوقت ، وانما الخلاف فيما إذا وقعت في الوقت كملا أو بعضا ، فالمشهور البطلان في الموضعين ، ونقل في المختلف عن ابي الصلاح صحة صلاته لو دخل عليه الوقت وهو فيها.

والظاهر هنا هو القول المشهور لما ذكرنا في المقام المتقدم بالنسبة الى ما وقع بعضها في الوقت ، واما مع مصادفتها الوقت كملا فقد تقدم في كلام الذكرى التصريح بالبطلان.

وقال السيد السند في المدارك : ولو صادف الوقت صلاة الناسي أو الجاهل بدخول الوقت ففي الإجزاء نظر ، من حيث عدم الدخول الشرعي ، ومن مطابقة العبادة ما في نفس الأمر وصدق الامتثال. والأصح الثاني وبه قطع شيخنا المحقق سلمه الله تعالى ، قال وكذا البحث في كل من اتى بما هو الواجب في نفس الأمر وان لم يكن عالما بحكمه ومثله القول في الاعتقادات الكلامية إذا طابقت نفس الأمر فإنها كافية وان لم تحصل بالأدلة المقررة كما صرح به سلطان المحققين نصير الملة والدين. انتهى كلامه أطال الله بقاءه وهو في غاية الجودة. انتهى كلام السيد السند (قدس‌سره) ومراده من قوله «شيخنا» هو المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد اختياره البطلان كما هو المشهور : ولو اتفقت صلاة الجاهل في الوقت فان قصدنا بالجاهل من علم وجوب رعاية الوقت وعرف المواقيت لكنه جاهل بالوقت لعدم مراعاته الوقت فالظاهر بطلان صلاته على القول باشتراط التقرب وقصد الامتثال في الطاعة لأنه لم يأت بها على وجه الامتثال والإطاعة. نعم ان قيل بعدم اشتراط ذلك في الصحة وسقوط التعبد لم يبعد القول بالصحة هنا. وان قصدنا

٢٨٧

بالجاهل من علم وجوب رعاية الوقت لكنه غير عارف بالوقت ايضا فالظاهر البطلان ايضا على القول المذكور بالتقريب السابق. وان قصدنا به الجاهل بوجوب رعاية الوقت ففيه اشكال. ورجح بعض أفاضل المتأخرين الصحة لصدق الامتثال. وقال ايضا وبالجملة كل من فعل ما هو في نفس الأمر وان لم يعرف كونه كذلك ما لم يكن عالما بنهيه وقت الفعل حتى لو أخذ المسائل من غير اهله بل لو لم يأخذ من أحد وظنها كذلك فإنه يصح ما فعله ، وكذا في الاعتقادات وان لم يأخذها عن أدلتها فإنه يكفي ما أعتقده دليلا وأوصله الى المطلوب ولو كان تقليدا ، قال كذا يفهم من كلام منسوب الى المحقق نصير الملة والدين. قال وفي كلام الشارع اشارة اليه ، وذكر أشياء يطول الكلام بنقلها. وعندي ان ما ذكره منظور فيه مخالف للقواعد المقررة العدلية وليس المقام مقام تفصيله لكن أقول إجمالا ان أحد الجاهلين إذا صلى في الوقت والآخر في غير الوقت فلا يخلو اما ان يستحقا العقاب أو لا يستحقا أصلا أو يستحق أحدهما دون الآخر ، وعلى الأول ثبت المطلوب لان استحقاق العقاب انما يكون لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه ، وعلى الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، ولو انفتح هذا الباب لجرى الكلام في كل واحد واحد من أفعال الصلاة ويفضي الأمر إلى ارتفاع جل التكاليف ، وهذا مفسدة واضحة لا يسوغ لأحد الاجتراء عليه ومعلوم فساده بالضرورة ، وعلى الثالث يلزم خلاف العدل لاستوائهما في الحركات الاختيارية الموجبة للمدح والذم وانما حصل مصادفة الوقت وعدمه بضرب من الاتفاق من غير ان يكون لأحد منهما فيه ضرب من التعمد أو السعي ، وتجويز مدخلية الاتفاق الخارج عن القدرة في استحقاق المدح والذم مما هدم بنيانه البرهان وعليه إطباق العدلية في كل زمان. واما الإشارات التي ذكرها فكل منها قابل للتأويل فيشكل الاعتماد عليها والتعويل وليس المقام مقام التفصيل هذا ظاهر التحقيق وان كان الاشكال فيه وفي نظائره ثابتا. انتهى كلام الفاضل المشار إليه

أقول ـ وبالله سبحانه التوفيق لبلوغ كل مأمول ـ لا يخفى ان ما تكلفه هذا

٢٨٨

الفاضل في المقام من النقض والإبرام وزعم به إبطال ما ذكره المحقق الامام غير خال من الوهن الظاهر لمن أعطى التأمل حقه من ذوي الأفهام :

(أما أولا) ـ فإن من جملة الأخبار الدالة على ما ذكره شيخنا المحقق المتقدم ـ من الاكتفاء بمطابقة الحكم واقعا وان لم يكن عن علم ومعرفة ـ رواية عبد الصمد بن بشير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «جاء رجل يلبى حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي وعليه قميصه فوثب اليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا شق قميصك وأخرجه من رجليك فان عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجك فاسد. فطلع أبو عبد الله (عليه‌السلام) فقام على باب المسجد فكبر واستقبل الكعبة فدنا الرجل من ابي عبد الله (عليه‌السلام) وهو ينتف شعره ويضرب وجهه فقال له أبو عبد الله (عليه‌السلام) اسكن يا عبد الله فلما كلمه وكان الرجل أعجميا فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول؟ قال كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج ولم أسأل أحدا عن شي‌ء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وانزعه من قبل رجلي وان حجي فاسد وان علي بدنة. فقال له متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال قبل ان ألبي ، قال فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل ، اي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شي‌ء عليه ، طف بالبيت أسبوعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم واسع بين الصفا والمروة وقصر من شعرك فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع كما يصنع الناس». والتقريب فيه انه مع تصريحه بمعذورية الجاهل بوجه كلي وقاعدة مطردة تضمن صحة ما فعله قبل لقاء الامام (عليه‌السلام) من الاغتسال والإحرام والتلبية ونحوها مع إخباره بأنه لم يسأل أحدا عن شي‌ء من الأحكام التي اتى بها ولهذا وقع فيما وقع فيه ، وامره (عليه‌السلام) ان يصنع كما يصنع الناس من واجب أو مستحب مع عدم المعرفة بشي‌ء من ذلك ، ويعضد ذلك أخبار معذورية الجاهل وصحة عباداته على التفصيل الذي

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام.

٢٨٩

تقدم في مقدمات الكتاب من الجلد الأول.

و (اما ثانيا) ـ فان ما أطال به ـ من تقسيم الجاهل الى ما ذكره من الأقسام وتخصيص كلام المحقق الأردبيلي بالجاهل بوجوب رعاية الوقت ـ تطويل بغير طائل وترديد لا يرجع الى حاصل ، فإنه على القول بالبطلان فلا فرق في شي‌ء من هذه الأقسام وكذا على القول بالصحة الذي صرح به المحقق المذكور كما لا يخفى على من راجع كلامه فإنه بعد ان فصل أجمل بقوله : «وبالجملة كل من فعل ما هو في نفس الأمر. الى آخره» وهو ظاهر بل صريح في العموم وان أمكن إرجاع ما ذكره من الأقسام عدا الأخير إلى الخروج عن محل البحث.

و (اما ثالثا) ـ فانا نقول بعد اختيار الشق الثالث من ترديده الذي هو محل النزاع في المسألة : (أولا) انه متى قام الدليل من خارج على معذورية الجاهل وصحة عباداته إذا طابقت الواقع فهذا الاستبعاد العقلي غير مسموع وان اشتهر بينهم ترجيح الدليل العقلي على النقلي إلا ان ما نحن فيه ليس منه. و (ثانيا) ان المدح والذم على هذه الحركات الاختيارية ان كان من الله سبحانه فاستواؤهما فيه ممنوع إذ إيجاب الحركات للذم والمدح ليس لذاتها وانما هو لموافقة الأمر وعدمها تعمدا أو اتفاقا ، وحينئذ فمقتضى ما قلناه من قيام الدليل على صحة عبادة الجاهل إذا صادفت الوقت فإنه تصح عبادة من صادفت صلاته الوقت فتكون حركاته موجبة للمدح بخلاف من لم تصادف فإنها تكون موجبة للذم لعدم المصادفة الموجبة للصحة. و (ثالثا) ان الغرض من التكليف بالمراعاة كما تقدم آنفا واعترف هو به (قدس‌سره) الإتيان بما كلف به حسب الأمر ، ومن صادفت صلاته الوقت يصدق عليه انه اتى بالمأمور به وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء ، وعين ما ذكره في الناسي مما تقدم نقله في المقام الثاني من قوله في جواب السؤال الذي أورده «لأنا نقول. الى آخره» جار فيما نحن فيه كما لا يخفى.

و (اما رابعا) فان ما ذكره منقوض بما وقع الاتفاق عليه نصا وفتوى من صحة

٢٩٠

صلاة الجاهل بوجوب التقصير تماما مع كونها غير مطابقة للواقع ، فإذا كان الجهل عذرا مع عدم المطابقة فبالأولى ان يكون عذرا مع المطابقة. ومثله ما لو قصر بعد نية الإتمام الموجبة لتمام جاهلا فإنه وان كان المشهور الإعادة إلا ان صحيحة منصور بن حازم (١) تدل على انه لو تركه جاهلا فليس عليه الإعادة وبها قال بعض الأصحاب ، وعلى هذه الرواية يتجه ايضا ما قلناه من صحة عبادة الجاهل وان خالفت الواقع.

و (اما خامسا) ـ فإنه معارض ايضا بما صرح به الأصحاب ـ كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة ـ من ان من صلى بالنجاسة جاهلا بها وان صحت صلاته ظاهرا إلا انها غير صحيحة ولا مقبولة واقعا لفقد شرطها واقعا ، فإنه يلزم بمقتضى ما ذكره ايضا خلاف العدل لاستواء حركات هذا المصلى مع حركات من اتفق كون صلاته في طاهر واقعا في المدح والذم فكيف تقبل إحداهما دون الأخرى؟ إذ كل منهما قد بنى على ظاهر الطهارة في نظره وانما حصلت الطهارة الواقعية في إحداهما بضرب من الاتفاق ، والفرض ان الاتفاق الخارج لا مدخل له. ومثل ذلك في من توضأ بماء نجس واقعا مع كونه طاهرا في الظاهر فان بطلان طهارته وعبادته دون من توضأ بماء طاهر ظاهرا وواقعا مع اشتراكهما فيما ذكر من الحركات والسكنات وكون الطهارة والنجاسة واقعا بنوع من الاتفاق خلاف العدل والأصحاب لا يقولون به.

و (اما سادسا) ـ فإنه لو كان الاتفاق الخارج لا مدخل له في الصحة في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه لما أجزأ صوم آخر يوم من شعبان من أول يوم من شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك ، ولسقط القضاء عن من أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية ثم ظهرت الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقا على الخلاف في ذلك ، ولوجب الحد على من زنى بامرأة ثم ظهر كونها زوجته ، ولصح شراء من اشترى شيئا من يد أحد من المسلمين ثم ظهر كونه غصبا ، ولوجب القضاء والكفارة على من أفطر

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٧ من صلاة المسافر.

٢٩١

يوم الثلاثين من شهر رمضان ثم ظهر كونه من شوال ، ولوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدوانا ثم ظهر كونه ممن له قتله قودا ، ولوجب العوض على من غصب مالا وتصرف فيه ثم ظهر كونه له ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، واللوازم كلها باطلة اتفاقا (فان قيل) ان هذه الأحكام المعترض بها انما صير إليها لقيام الدليل عليها (قلنا) قيام الدليل عليها دليل على ان الاتفاق واقعا مما له دخل في المدح والذم والصحة والفساد كما هو المدعى ، ولا يخفى ان الأحكام الشرعية لا تنطبق على الأدلة العقلية بل قد توافقها تارة وتخالفها اخرى.

وبالجملة فإن ما تكلفه هذا الفاضل في المقام مما لا اعرف له وجه صحة كما كشفنا عنه نقاب الإبهام. والله العالم.

(المقام الرابع) ـ ان يكون ظانا والظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه لو دخل في الصلاة ظانا دخول الوقت ثم تبين فساد ظنه بوقوع الصلاة كملا قبل الوقت فإنه يجب عليه الإعادة ، ويدل عليه صحيحة زرارة المتقدمة (١) «في من صلى الغداة بليل غره من ذلك القمر ونام حتى طلعت الشمس فأخبر انه صلى بليل؟ قال يعيد صلاته». ورواية أبي بصير المتقدمة (٢) الدالة ايضا على ان من صلى في غير وقت فلا صلاة له. وصحيحة زرارة (٣) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) وقت المغرب إذا غاب القرص فإن رأيته بعد ذلك وقد صليت أعدت الصلاة ومضى صومك».

انما الخلاف في من دخل عليه الوقت في أثنائها ولو قبل التسليم ، فالمشهور الصحة لأنه متعبد بظنه خرج منه ما إذا لم يدرك من الوقت شيئا بالنص والإجماع المتقدمين وبقي الباقي ، ويدل عليه أيضا رواية إسماعيل بن رياح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤)

__________________

(١) ص ٢٨٤.

(٢) ص ٢٨٣.

(٣) الوسائل الباب ١٦ من المواقيت.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٥ من المواقيت.

٢٩٢

قال : «إذا صليت وأنت ترى أنك في وقت ولم يدخل الوقت فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنك». ونقل عن السيد المرتضى وابن ابي عقيل وابن الجنيد البطلان كما لو وقعت بأسرها قبل الوقت ، واختاره العلامة في المختلف والسيد السند في المدارك ، وظاهر المحقق في المعتبر التوقف في المسألة حيث قال : ان ما اختاره الشيخ أوجه بتقدير تسلم صحة الرواية وما ذكره المرتضى أوجه بتقدير اطراحها. قال في المدارك بعد نقله عنه : هذا كلامه لكن الإطراح متعين لضعف السند. انتهى.

واحتج في المختلف على ما ذهب اليه من البطلان برواية أبي بصير المتقدمة ، وبأنه مأمور بإيقاع الصلاة في وقتها ولم يحصل الامتثال. قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو جيد ولا ينافيه توجه الأمر بالصلاة بحسب الظاهر لاختلاف الأمرين كما لا يخفى. انتهى.

ثم نقل في المختلف عن الشيخ انه احتج بما رواه إسماعيل بن رياح ثم ساق الرواية وبأنه مأمور بالدخول في الصلاة عند الظن إذ مع الاشتباه لا يصح التكليف بالعلم لاستحالة التكليف بما لا يطاق فيتحقق الاجزاء. ثم أجاب عن ذلك اما عن الرواية فبالمنع من صحة السند واما عن الثاني فبان الاجزاء انما يتحقق مع استمرار سببه وهو الظن فإذا ظهر كذبه انتفى ويبقى في عهدة الأمر كما لو فرغ من العبادة قبل الدخول.

ثم قال واعلم ان الرواية التي ذكرها الشيخ (قدس‌سره) في طريقها إسماعيل بن رياح ولا يحضرني الآن حاله فان كان ثقة فهي صحيحة وتعين العمل بمضمونها وإلا فلا. انتهى أقول : أنت خبير بان كلامهم في هذه المسألة صحة وبطلانا دائر مدار خبر إسماعيل المذكور قبولا وردا فمن قبله وعمل به اما لكونه ممن لا يرى العمل بهذا الاصطلاح أو يراه ولكن يجبر ضعف الخبر بالشهرة فإنه يحكم بالصحة ومن رده فإنه يحكم بالبطلان وحيث كان الخبر عندنا مقبولا لا وجه لرده لعدم عملنا على هذا الاصطلاح المحدث فالقول بالصحة ظاهر. واما ما احتج به في المختلف كما نقله عنه في المدارك ـ من قوله

٢٩٣

ولأنه مأمور بإيقاع الصلاة في وقتها ولم يحصل الامتثال ـ ففيه وان استجوده السيد المذكور انه ان أريد بهذا الوقت الذي هو مأمور بإيقاع الصلاة فيه بمعنى الوقت الواقعي النفس الأمري كما هو ظاهر كلاميهما فهو ممنوع لان الشارع لم يجعل الواقع ونفس الأمر مناطا للأحكام الشرعية لا في هذا الموضع ولا في غيره ، وان أريد به ما هو وقت في نظر المكلف كما هو المناط في جميع التكاليف فهو صادق على ما نحن فيه كما هو المفروض غاية الأمر انه وقت ظني ، وسيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة الاتية بيان قوة القول بالبناء على الظن مع الاشتباه ، وحينئذ فالتحقيق ان يقال انه مكلف بإيقاع الصلاة في وقتها المعلوم أو المظنون فمتى صلاها في أحدهما فقد امتثل وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ، غاية ما في الباب انه قام الدليل على البطلان أو وقعت كملا قبل الوقت وبقي الباقي على الصحة بمقتضى الأمر ودلالة الرواية المذكورة ، ويؤيده رواية الأصبغ بن نباتة وموثقة عمار المتقدمتان في من أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس. واما ما ذكره في المدارك ـ بعد حكمه بكونه جيدا بقوله : «ولا ينافيه توجه الأمر بالصلاة بحسب الظاهر لاختلاف الأمرين» ـ فلا وجه له بعد ما عرفت لان الاختلاف بين الأمرين كما ادعاه انما يتم لو كان الوقت الذي ادعى انه مأمور بإيقاع الصلاة فيه هو الوقت الواقعي النفس الأمري وقد عرفت فساده ، ومتى أريد به الوقت الذي في نظر المكلف فهو يرجع الى ما ذكره ثانيا من الأمر بالصلاة بحسب الظاهر فلا اختلاف بين الأمرين كما لا يخفى. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان من كان له طريق الى العلم بالوقت فلا يجوز له الصلاة إلا بعد العلم بذلك فان لم يكن له طريق الى ذلك فهل يجوز له الاجتهاد في الوقت بمعنى التعويل على الأمارات المفيدة للظن أو يجب عليه الصبر حتى يتيقن الوقت؟ قولان المشهور الأول. فالكلام هنا يقع في موضعين

الأول) فيما إذا كان له طريق الى العلم وقد عرفت ان مذهب الأصحاب انه لا يجوز له الصلاة إلا بعد العلم ولا يجوز له التعويل

٢٩٤

على الظن ، قال في المدارك بعد ذكر الحكم المذكور : وهو مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا. واستدل عليه في المنتهى بان العلم يؤمن معه الخطأ والظن لا يؤمن معه ذلك وترك ما يؤمن معه الخطأ قبيح عقلا. واعترضه في المدارك بأنه ضعيف جدا قال والعقل لا يقضي بقبح التعويل على الظن هنا بل لا يأباه لو قام عليه الدليل. والأجود الاستدلال عليه بانتفاء ما يدل على ثبوت التكليف مع الظن للتمكن من العلم ، ويؤيده عموم النهي عن اتباع الظن. انتهى.

أقول : لا يخفى ان الأحكام الشرعية كما قدمناه في غير موضع توقيفية لا مسرح للعقل فيها بوجه وانما هي منوطة بالنصوص والأدلة الواردة عن صاحب الشريعة وجودا وعدما وصحة وبطلانا ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) حيث اشتهر بينهم ترجيح الأدلة العقلية على السمعية فتراهم في كل حكم يقدمون دليلا عقليا بزعمهم ثم يردفونه بالأدلة العقلية على السمعية فتراهم في كل حكم يقدمون دليلا عقليا بزعمهم ثم يردفونه بالأدلة السمعية وان كانت أدلتهم فيها ما هو أوهن من بيت العنكبوت وانه لا وهن البيوت. والتحقيق هو الرجوع الى الاخبار الواردة عن الأئمة (عليهم‌السلام) في هذا المقام وغيره.

ثم ان ما يظهر من كلام صاحب المدارك من عدم العلم بالمخالف المؤذن بدعوى الإجماع على المسألة المذكورة محل نظر فان ظاهر الشيخين في المقنعة والنهاية يشعر بالخلاف ، قال في المقنعة : من ظن ان الوقت قد دخل فصلى ثم علم بعد ذلك انه صلى قبله أعاد الصلاة إلا ان يكون الوقت دخل وهو في الصلاة لم يفرغ منها فيجزئه ذلك. وقال في النهاية ولا يجوز لأحد ان يدخل في الصلاة إلا بعد حصول العلم بدخول الوقت أو يغلب على ظنه ذلك. وهو ظاهر المبسوط ايضا ، والحمل على ان المراد بالظن في مقام عدم إمكان العلم وان أمكن إلا انه خلاف الظاهر من العبارتين المذكورتين. وبما ذكرنا من ظهور العبارتين المذكورتين في المخالفة للقول المشهور صرح الفاضل الخراساني أيضا في الذخيرة ويمكن الاستدلال على قول الشيخين بظاهر رواية إسماعيل بن رياح عن

٢٩٥

ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) انه قال : «إذا صليت وأنت ترى أنك في وقت ولم يدخل الوقت فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنك». وظاهر الأصحاب حمل هذه الرواية على صورة تعذر العلم حيث أوردوها في تلك المسألة وهي كما ترى مطلقة لا تقييد فيها بذلك لان قوله : «وأنت ترى ـ اي تظن ـ أنك في وقت» أعم من ان يكون العلم ممكنا أو غير ممكن ، على ان ما ذكروه من عدم جواز التعويل على الظن مع إمكان العلم لا يخلو من المناقشة ، فإن المستفاد من الأخبار المستفيضة الاعتماد على أذان المؤذنين وان كانوا من المخالفين ، ومن الظاهر ان غاية ما يفيد هو الظن وان تفاوت شدة وضعفا باعتبار المؤذنين وما هم عليه من زيادة الوثاقة والضبط في معرفة الأوقات وعدمه.

وها أنا أسوق من الأخبار الجارية في هذا المضمار ، فمنها ـ صحيحة ذريح المحاربي (٢) قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) صل الجمعة بأذان هؤلاء فإنهم أشد شي‌ء مواظبة على الوقت».

ورواية محمد بن خالد القسري (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أخاف ان أصلي يوم الجمعة قبل ان تزول الشمس؟ قال انما ذاك على المؤذنين».

وروى العياشي في تفسيره عن سعيد الأعرج (٤) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) وهو مغضب وعنده أناس من أصحابنا وهو يقول تصلون قبل ان تزول الشمس؟ قال وهم سكوت ، قال قلت ما نصلي حتى يؤذن مؤذن مكة قال فلا بأس اما انه إذا أذن فقد زالت الشمس. الخبر». والخبر صحيح كما ترى بالاصطلاح القديم لكون الكتاب من الأصول المعتمدة.

وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن رجل صلى الفجر في

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٥ من المواقيت.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٣ من الأذان.

٢٩٦

يوم غيم أو في بيت واذن المؤذن وقعد فأطال الجلوس حتى شك فلم يدر هل طلع الفجر أم لا فظن ان المؤذن لا يؤذن حتى يطلع الفجر؟ قال أجزأه أذانهم».

وروى الشيخ في التهذيب عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي (عليه‌السلام) (١) قال : «المؤذن مؤتمن والامام ضامن».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) في المؤذنين إنهم الأمناء».

وروى فيه ايضا مرسلا (٣) قال : «كان لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مؤذنان أحدهما بلال والآخر ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم أعمى وكان يؤذن قبل الصبح وكان بلال يؤذن بعد الصبح فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان ابن أم مكتوم يؤذن بليل فإذا سمعتم أذانه فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان بلال».

وروى في الفقيه ايضا مرسلا (٤) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) في حديث المؤذن له من كل من يصلي بصوته حسنة».

وبإسناده عن عبد الله بن علي عن بلال في حديث (٥) قال : «سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول المؤذنون أمناء المؤمنين على صلاتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم. الحديث».

وروى الشيخ المفيد في المقنعة (٦) قال : «روى عن الصادقين (عليهم‌السلام) انهم قالوا قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يغفر للمؤذن مد صوته وبصره ويصدقه ، الى ان قال وله من كل من يصلى بأذانه حسنة».

وروى الصدوق في كتاب عيون اخبار الرضا (عليه‌السلام) بسنده عن الفضل بن الربيع في حكاية حبس الكاظم (عليه‌السلام) عنده (٧) «انه كان يعقب بعد الفجر الى

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٣ من الأذان.

(٣) الوسائل الباب ٨ من الأذان.

(٧) الوسائل الباب ٥٩ من المواقيت.

٢٩٧

ان تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس وقد وكل من يترصد له الزوال فلست ادري متى يقول له الغلام قد زالت الشمس إذ وثب فيبتدئ الصلاة من غير ان يحدث وضوء ، ثم ساق الكلام الى ان قال فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست ادري متى يقول الغلام ان الفجر قد طلع إذ وثب هو لصلاة الفجر. الحديث».

وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة متعاضدة المقالة في جواز الاعتماد على المؤذنين وغيرهم كما يدل عليه الحديث الأخير ، ولا يخفى ان غاية ما يفيد هو الظن ، ويعضد هذه الاخبار رواية إسماعيل بن رياح المتقدمة».

إلا انه روى الشيخ عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) «في الرجل يسمع الأذان فيصلي الفجر ولا يدري أطلع الفجر أم لا غير انه يظن لمكان الأذان أنه طلع؟ قال لا يجزئه حتى يعلم انه طلع». وهي ظاهرة في عدم جواز التعويل على الأذان ، وبها استدل في المدارك على القول المشهور.

وأنت خبير بان ما قابلها من الاخبار المتقدمة أكثر عددا وأوضح سندا ، وحينئذ يتعين ارتكاب التأويل في هذه الرواية بأن تحمل على عدم الوثوق بالمؤذن أو على الفضل والاستحباب كما هي القاعدة المطردة عندهم في جميع الأبواب.

وظاهر المحقق في المعتبر الميل الى الاعتماد على أذان الثقة الذي يعرف منه الاستظهار لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «المؤذنون أمناء». ولأن الأذان مشروع للاعلام بالوقت فلو لم يعول عليه لم تحصل الغاية من شرعيته.

واعترضه الشهيد وغيره بأنه يكفي في صدق الامانة تحققها بالنسبة إلى ذوي الاعذار وشرعية الأذان للإعلام لتقليدهم خاصة ولتنبيه المتمكن على الاعتبار.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٨ من المواقيت عن الذكرى وكتاب على بن جعفر.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣ من الأذان.

٢٩٨

وفيه نظر : (أما أولا) فإنه تقييد لإطلاق الأخبار المتقدمة بغير دليل سوى مجرد دعواهم الاتفاق على اشتراط العلم.

و (اما ثانيا) فان الدليل غير منحصر فيما ذكره المحقق من التعليلين المذكورين ليتم ما قالوه بالجواب عنهما بل ظاهر صحيحة ذريح ورواية محمد بن خالد ونحوهما من الروايات المتقدمة هو العموم لذوي الاعذار وغيرهم وهو أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان وبذلك يظهر ما في جمود صاحب المدارك على كلام الشهيد هنا واعتضاده به وتردد الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقله فإنه لا وجه له بعد ما عرفت من الاخبار التي قدمناها وظهورها في العموم ، ولكنهم لعدم إعطاء التتبع والتأمل حقهما في الاخبار جرى لهم ما جرى في أمثال هذا المضمار.

واما ما نقله ابن إدريس في مستطرفات السرائر ـ من كتاب نوادر البزنطي عن عبد الله بن عجلان (١) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) إذا كنت شاكا في الزوال فصل ركعتين فإذا استيقنت انها قد زالت بدأت بالفريضة». ـ فلا منافاة فيه لما ذكرناه إذ غاية ما يدل عليه هو عدم جواز الصلاة مع الشك في الوقت وجوازها مع اليقين ولا دلالة فيه على التخصيص به وعدم جواز الاعتماد على الظن الحاصل بالأذان ونحوه بل هو مطلق بالنسبة الى ذلك فيجب تقييده بما ذكرنا من الاخبار.

واما ما رواه المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في رسالة المحكم والمتشابه ـ عن تفسير النعماني بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) في حديث طويل (٢) قال : «ان الله إذا حجب عن عباده عين الشمس التي جعلها دليلا على أوقات الصلوات فموسع عليهم تأخير الصلاة ليتبين لهم الوقت بظهورها ويستيقنوا انها قد زالت». ـ فمورده صورة الاشتباه وسيأتي الكلام فيها ثمة.

واما ما في حديث علي بن مهزيار (٣) ـ وقول ابي جعفر (عليه‌السلام) فيه

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل الباب ٥٨ من المواقيت.

٢٩٩

«الفجر هو الخيط الأبيض المعترض فلا تصل في سفر ولا حضر حتى تتبينه فان الله سبحانه لم يجعل خلقه في شبهة من هذا فقال : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» (١). ـ فان ظاهر سياق الخبر انه مع الاشتباه وعدم تبين الفجر الصادق من الكاذب لا يجوز له الصلاة حتى يتبين ذلك ، إلا ان تبينه كما يكون برؤيته بنفسه كذلك يكون بسماع الأذان كما ينادي به قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مرسلة الفقيه «فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان بلال» (٢). وهو ظاهر إطلاق باقي الاخبار ، وحاصل المعنى هو الرخصة في الأكل والشرب حتى يتبين الفجر بأحد الأمرين المذكورين.

وقال في المدارك ـ بعد اعتراضه على كلام المعتبر المتقدم بما قدمنا نقله عن الشهيد ـ ما صورته : نعم لو فرض افادته العلم بدخول الوقت كما قد يتفق كثيرا في أذان الثقة الضابط الذي يعلم منه الاستظهار في الوقت إذا لم يكن هناك مانع من العلم جاز التعويل عليه قطعا ويدل عليه صحيحة ذريح ، ثم أورد الصحيحة المذكورة وعقبها برواية محمد ابن خالد القسري.

أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه (أما أولا) فإن ما ذكره من إفادة أذان الثقة الضابط للعلم ينافي ما ذكروه في الأصول بالنسبة إلى الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) بنقل الثقات العدول المجمع على فضلهم وورعهم وعدالتهم من ان غاية ما تفيده رواياتهم هو الظن دون العلم ، وهذه احدى المعارك العظام بين الأصوليين والأخباريين كما حقق في محله.

و (اما ثانيا) فان ما زعمه من دلالة الخبرين المذكورين على افادة العلم لا اعرف له وجها ، نعم يستفاد من الأول حصول الظن الراجح بأذانهم.

وبالجملة فالظاهر عندي من الاخبار الواردة في المقام هو ما ذهب اليه الشيخان

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٣.

(٢) ص ٢٩٧.

٣٠٠