الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

تحله الحياة البتة ومتعلقا للروح ، ألا ترى انه يجب في القطعة المشتملة على العظم غسلها وتكفينها وان لم يجب ذلك في العظم وحده فوجوده مؤكد لتعلق الروح فيما نحن فيه.

وبما ذكرنا يظهر لك ما في كلام المحقق الخوانساري في شرح الدروس من المناقشة هنا في دلالة الأخبار المذكورة على الاستثناء والاستناد في طهارة هذه الأشياء الى الأصل والاتفاق على الحكم المذكور ، حيث قال في بيان الدليل على طهارة هذه الأشياء : «واما الثاني فالدليل على طهارتها أصالة الطهارة إذ عموم دلالة نجاسة الميتة بحيث يشمل هذه الاجزاء غير ظاهر كما عرفت ، والاتفاق ظاهرا ، وعدم صدق اسم الميتة عليها لان الموت فرع الحياة. ولا يخفى انه لو كان نص يدل على ان الميتة نجسة فلا يبعد ان يقال ان الظاهر ان جميع أجزائها نجسة كما يقولون ان جميع اجزاء الكلب مثلا نجس باعتبار انه وجد النص بنجاسة الكلب وهو ظاهر في نجاسة جميع اجزائه ، وكون بعض اجزائها مما لا تحله الحياة لا يقدح فيه. فالعمدة عدم وجود النص الدال على تعليق الحكم بالنجاسة على الميتة كما يقولون لا عدم حلول الحياة ، وكيف وظاهر ان زوال الحياة ليس سببا للنجاسة وإلا لزم ان يكون الحيوان الذكي ايضا نجسا بل عدم التذكية يصير سببا لنجاسة الحيوان ، ولا استبعاد في ان يصير سببا لنجاسة جميع اجزائه سواء حلته الحياة أولا» انتهى.

أقول : فيه ما عرفت من وجود الدليل على نجاسة الميتة وانه عام لجميع اجزائها بالتقريب الذي ذكره في الكلب ، وانما خرجت هذه العشرة المذكورة هنا بهذه الأخبار فهي مخصصة لعموم تلك الأخبار ومقيدة لإطلاقها كما هي القاعدة المطردة في مقام اجتماع العام والخاص والمطلق والمقيد. واما قوله ـ انه مع عموم تلك الأخبار فكون بعض اجزائها مما لا تحله الحياة لا يقدح في العموم ـ فمردود بان القادح في العموم انما هو اشتمال جملة من هذه الأخبار على كون هذه الأشياء ذكية وجملة منها على نفي البأس الظاهر كل منهما في الطهارة وان كان الأول أشد ظهورا وان وقع التعبير في بعضها

٨١

بكونه مما لا تحله الحياة إلا أن المنافاة الموجبة لتقييد إطلاق تلك الأخبار انما هو من حيث دلالة هذه الأخبار على الطهارة بهذه الألفاظ الدالة على ذلك ومقتضى القاعدة كما عرفت تقييد إطلاق تلك الاخبار بهذه ، وحينئذ فما ادعاه ـ من انه مع وجود النص الدال على نجاسة الميتة فإنه يشمل جميع هذه الأشياء المذكورة وان هذه الأخبار لا تفيد تخصيصا ولا تقييدا لها لعدم ظهور الدلالة على الطهارة حتى انه انما التجأ إلى أصالة الطهارة والاتفاق ظاهرا وعدم صدق الميتة عليها ـ غلط محض حيث انه غفل عما اشتملت عليه هذه الأخبار من الألفاظ الظاهرة وانما تعلق باشتمال بعضها على عدم حلول الحياة ورتب عليه ما ذكره من المناقشة ، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم الفرق في الحكم بطهارة الصوف والشعر والريش والوبر بين كونها مأخوذة من الميتة بطريق الجز أو القلع إلا انه يحتاج في صورة القلع الى غسل موضع الاتصال من حيث ملاقاة الميتة بالرطوبة. ويدل على ذلك (أولا) ـ إطلاق الأخبار المتقدمة إذ لا تصريح فيها بالجز ولا غيره. و (ثانيا) حسنة حريز المتقدمة في صدر المسألة حيث اشتملت على الأمر بغسل هذه الأشياء بعد أخذها من الميتة ، ومن الظاهر انه لا وجه للأمر بالغسل مع الجز بل الظاهر ان المراد انما هو قلعها والخبر المذكور قد صرح بأنه ذكي في الصورة المذكورة اي طاهر فالخبر ظاهر الدلالة على الطهارة في صورة القلع.

وذهب الشيخ في النهاية إلى اشتراط الجز وخص الطهارة بذلك ، ونقل عنه انه علل ذلك بان أصولها المتصلة باللحم من جملة اجزائه وانما يستكمل استحالتها الى أحد المذكورات بعد تجاوزها عنه. ورد (أولا) بالمنع لانه يصدق على المجموع من المتصل باللحم والمتجاوز عنه اسم هذه الأشياء وهو لا يجامع كون شي‌ء منها جزء من اللحم. و (ثانيا) ـ ما قدمنا من إطلاق الأخبار والتقييد يحتاج الى دليل وليس فليس ، مضافا الى ما عرفت مما دلت عليه حسنة حريز المشار إليها.

٨٢

قال المحقق الخوانساري في شرح الدروس : «ثم ان حكم الأصحاب بالغسل في صورة القلع فبناء على عموم نجاسة الملاقي للنجس بالرطوبة والميتة نجسة وأصول هذه الأشياء ملاقية لها بالرطوبة فيجب غسلها ، ويدل عليه أيضا حسنة حريز المذكورة مع معاضدة الاحتياط. ولا يذهب عليك ان الأحوط عدم الاكتفاء بغسل موضع الاتصال بل غسل جميعها بل على تقدير الجز أيضا لأن الرواية المذكورة المتضمنة للأمر بالغسل مطلقة لا تقييد فيها بموضع الاتصال وحالة القلع» انتهى.

ولا يخلو من غرابة أما (أولا) ـ فلتصريح الأخبار المذكورة بطهارة هذه الأشياء وانها ذكية ، مضافا الى اتفاق الأصحاب وأصالة الطهارة وعدم صدق الميتة عليها كما تقدم في كلامه الذي قدمنا ذكره في سابق هذا الموضع. و (اما ثانيا) ـ فان غسل موضع الملاقاة للميتة وجهه ظاهر واما ما عدا موضع الملاقاة وكذا ما أخذ جزا فما وجه الاحتياط في غسله مع الوجوه المذكورة؟ والرواية التي أشار إليها وان كانت مطلقة لكنها معارضة فيما عدا موضع الملاقاة بالأدلة المذكورة الدالة على الطهارة فلا بد من تخصيصها بموضع الملاقاة كما ذكرناه جميعا بينها وبين تلك الأدلة ، ولو قام مثل هذا الاحتياط في المقام لجرى في جميع الأشياء المحكوم بطهارتها ، وبالجملة فإن ما ذكره (قدس‌سره) لا اعرف له وجها بالكلية.

هذا ، وظاهر حسنة حريز المشار إليها ان حكم القرن والناب والحافر ومثلها الظلف والظفر حكم ما ذكر في الصوف والشعر والريش والوبر من انها متى أخذت بالقلع من الميتة فإنه يغسل موضع الملاقاة منها بالتقريب المتقدم في الشعر وأشباهه وانها لو أخذت بالكسر أو البري بسكين ونحوها فإنه يكون كالجز بالنسبة إلى تلك الأشياء وخلاف الشيخ يجري هنا في القلع ايضا بالتقريب الذي قدمنا نقله عنه إلا اني لم أقف على من ذكر ذلك من الأصحاب ومقتضى ظاهر الحسنة المشار إليها وكذا تعليل الشيخ المتقدم هو ما ذكرناه.

٨٣

(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا فرق في الحكم بطهارة هذه الأشياء من الميتة بين كون الميتة مما يؤكل لحمه لو ذكى ولا غيره ، وقال العلامة في النهاية : أما بيض الجلال وما لا يؤكل لحمه مما له نفس سائلة فالأقوى فيه النجاسة ، ونحوه ذكر في المنتهى ايضا ، نقل ذلك في المعالم وقال بعد نقل الحكم المذكور لا نعرف فيه خلافا إلا من العلامة ثم نقل كلامه في الكتابين المذكورين.

وقال : ولا نرى لكلامه وجها ولا عرفنا له عليه موافقا وقد نص الشهيد في الذكرى على عدم الفرق واما الإنفحة من غير المحلل كالموطوء ففي طهارتها احتمالان منشأهما من كون أكثر الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل أو مسوقة لبيانه ومنه استفيدت الطهارة وذلك مفقود في غير المحلل ، ومن عدم الدليل العام على نجاسة الميتة بحيث يتناول أمثال هذه الاجزاء كما أشرنا اليه ومقتضى الأصل هو الطهارة الى ان يقوم الدليل على خلافها ولا دليل ، ولم أقف لأحد من الأصحاب في ذلك على كلام وربما يكون إطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم التفرقة ، ولا يخفى ان فرق العلامة في حكم البيض يقتضي الفرق هنا ايضا. انتهى.

أقول : فيه ان ما ذكره بالنسبة إلى الانفحة في الاحتمال الثاني من عدم الدليل العام على نجاسة الميتة مردود بما قدمنا ذكره من الاخبار الدالة على ذلك وما ذيلناها به من التقريب الدال على النجاسة ، ومتى ثبت ذلك استلزم القول بنجاسة جميع اجزائها بالتقريب المتقدم في الكلب ونحوه من نجس العين كما سيجي‌ء تحقيقه ايضا ان شاء الله تعالى في المقام والاعتراف بذلك من جملة من علمائنا الاعلام. واما قوله : «وربما يكون إطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم الحكم بالتفرقة» فهو معارض بان اتفاقهم على الحكم بنجاسة الميتة ـ كما اعترف به سابقا من انه لا مستند لهذا الحكم إلا اتفاقهم المستلزم كما عرفت للحكم بنجاسة كل جزء جزء من اجزاء الميتة ـ موجب للحكم بالنجاسة في الانفحة فيبقى الوجه الأول من الاحتمالين المذكورين في كلامه سالما عن

٨٤

المعارض وينتفي ما ادعاه من التمسك بمقتضى الأصل فإنه يجب الخروج عنه بالدليل ، وقد دل على نجاسة الميتة الشامل ذلك للانفحة وغيرها خرج من ذلك ما دلت عليه الاخبار الدالة على طهارتها من حيث الحل كما ذكره وبقي ما كان من غير المحلل على النجاسة ، على ان ما ذكره من كون أكثر الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل أو مسوقة لبيانه محل نظر. فان ظاهر سياقها انما هو بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة لا الحل والحرمة كما ادعاه ، والذي قدمناه من الروايات المشتملة على الإنفحة صحيحة زرارة وفيها نفي البأس إلا ان موردها الجدي الذي هو مأكول اللحم ، ورواية يونس وهي مطلقة بالنسبة إلى الحيوان المأكول وغيره وذكر الانفحة فيها في سياق الصوف والشعر والوبر والحكم فيها بأنها ذكية أظهر ظاهر في ان المراد انما هو الطهارة لا الحل فان ما ذكره معها من الصوف وما بعده ليس من المأكولات ، ونحوها موثقة الحسين بن زرارة حيث ذكر فيها انها ذكية اي طاهرة ، سيما بإضافة الزيادة المنقولة من الكافي عن علي بن عقبة وعلي بن رباط بإضافة الشعر والصوف ، ومرسلة الصدوق في الفقيه المسندة في الخصال المشتملة على عد العشرة كملا بالحكم بكونها من الميتة ذكية فإنه ظاهر في الطهارة لا في الحل ، وكذلك رواية الجرجاني ، فأين أكثر الأخبار الواردة بالحل أو المسوقة لبيانه؟ نعم ذكر الحل وقع في حديث الثمالي إلا ان ظاهر سياقه ان الكلام في الحل والحرمة انما وقع تفريعا على الطهارة والنجاسة ، حيث انه (عليه‌السلام) لما نفى البأس عن الجبن وأحل أكله عارضه السائل بأنه تجعل فيه الانفحة وهي نجسة لأخذها من الميتة فأجاب (عليه‌السلام) بأن الانفحة طاهرة لأنها ليست مما تحله الحياة بالتقريب الذي قدمنا ذكره في الموضع الأول ثم نظر له بالبيضة المأخوذة من الميتة ، فذكر الحل في الخبر انما وقع بطريق العرض والا فاصل الكلام انما هو في الطهارة والنجاسة ، ومثلها تتمة حديث يونس بالتقريب المذكور ، على ان لفظ الحل في الاخبار ربما استعمل في حل الاستعمال وهو شائع سيما في هذا المقام في كلام الفقهاء فإنهم يعبرون في هذا المقام عن

٨٥

طهارة الصوف والشعر ونحوهما من القرن والظلف وغيرهما بالحل وانها تحل من الميتة وليس المراد إلا حل استعمالها كما لا يخفى على من راجع عباراتهم. والعجب ايضا من متابعة الفاضل الخراساني في الذخيرة له على ذلك حيث انه جرى على ما جرى عليه وذكر ذلك وان لم يسنده اليه.

(الرابع) ـ قد اختلف كلام أهل اللغة في معنى الانفحة والظاهر انه بسبب ذلك اختلف كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ذلك ، فعن الصحاح ان الإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة كرش الحمل والجدي ما لم يأكل. وقال في القاموس : «الانفحة بكسر الهمزة وتشديد الحاء وقد تكسر الفاء والمنفحة والتنفحة : شي‌ء يستخرج من بطن الجدي الراضع اصفر فيعصر في صوفة فيغلظ كالجبن فإذا أكل الجدي فهو كرش ، وتفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو» وقال الفيومي في المصباح المنير : «والانفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتثقيل الحاء أكثر من تخفيفها قال ابن السكيت وحضرني أعرابيان فصيحان من بني كلاب فسألتهما عن الانفحة فقال أحدهما لا أقول إلا إنفحة يعني إلا بالهمزة وقال الآخر لا أقول إلا منفحة يعني إلا بميم مكسورة ثم افترقا واتفقا على ان يسألا جماعة من بني كلاب فاتفقت جماعة على قول هذا وجماعة على قول هذا فهما لغتان ، والجمع انافح ومنافح ، قال الجوهري الإنفحة هي الكرش ، وفي التهذيب لا تكون الانفحة إلا لكل ذي كرش ، وهو شي‌ء يستخرج من بطنه اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يسمى إنفحة إلا وهو رضيع فإذا رعى قيل استكرش اي صارت انفحته كرشا. ونقل ابن الصلاح ما يوافقه فقال الانفحة ما يؤخذ من الجدي قبل ان يطعم غير اللبن فان طعم غيره قبل مجبنة. وقال بعض الفقهاء ويشترط في طهارة الإنفحة ان لا تطعم السخلة غير اللبن وإلا فهي نجسة وأهل الخبرة بذلك يقولون إذا رعت السخلة وان كان قبل الفطام استحالت الى البعر» انتهى كلام صاحب المصباح. وقال في مجمع البحرين : والانفحة بكسر

٨٦

الهمزة وفتح الفاء مخففة وهي كرش الحمل والجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش حكاه الجوهري عن ابي زيد ، وفي المغرب إنفحة الجدي بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف الحاء وتشديدها وقد يقال منفحة أيضا وهو شي‌ء يخرج من بطن الجدي اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يكون إلا لكل ذي كرش ، ويقال انها كرشه إلا انه ما دام رضيعا سمي ذلك الشي‌ء إنفحة فإذا فطم ورعى العشب قيل استكرش انتهى. وقال ابن إدريس في السرائر : والانفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء كرش الحمل والجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش وفسرها العلامة على ما نقله في المعالم في جملة من كتبه بما يوافق كلام القاموس فقال انها لبن مستحيل في جوف السخلة.

وأنت خبير بأنه قد علم من ذلك الاختلاف في الانفحة بين كونها عبارة عن الكرش أو عن ذلك الشي‌ء الأصفر الذي يعصر في صوفة مبتلة فيغلظ ، ويمكن ترجيح الثاني بقوله (عليه‌السلام) في رواية الثمالي «إنما تخرج من بين فرث ودم». فان الظاهر انه اشارة إلى قوله عزوجل : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ» (١) قال في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس قال : «إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقي الفرث كما هو» انتهى. ومقتضى ذلك ان اللبن الذي تشربه السخلة يصير بعد وصوله الى الكرش الى هذه الأقسام الثلاثة ثالثها هو هذا الشي‌ء الأصفر الذي ذكره أهل اللغة وان كان بعد رعيه العلف يضمحل ذلك ولا يصير كذلك وانما يبقى الفرث وهو التفل والدم خاصة. ويمكن ايضا ان يقال ـ وهو الأنسب بكلام أهل اللغة القائلين بأن الانفحة عبارة عن ذلك الشي‌ء الأصفر ما دام يغتذي باللبن وإذا اغتذى بالعلف صار كرشا ـ انه في حال الاغتذاء باللبن ليس له كرش وانما الذي يتحول إليه لبنه الذي يشربه هذا الشي‌ء الأصفر مع التفل والدم وبعد رعيه يصير هذا الشي‌ء الأصفر

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٦٨.

٨٧

كرشا ، وبه ينطبق الخبر المذكور على كلام أهل اللغة انطباقا ظاهرا.

هذا ، وقد اضطرب كلام جملة من أفاضل المتأخرين في هذا المقام في الحمل على اي المعنيين المذكورين ، من جهة انهم حكموا في الصوف والشعر ونحوهما مما يؤخذ قلعا من الميتة بوجوب الغسل كما تقدم من حيث ملاقاة الميتة برطوبة بناء على القاعدة المقررة بينهم من ان ملاقي النجس مع الرطوبة ينجس ، وحينئذ فبعضهم رجح تفسير الانفحة بالكرش دون ذلك الشي‌ء الأصفر لأن ذلك الشي‌ء الأصفر وان كان طاهرا بمقتضى ظاهر الاخبار على تقدير تفسير الانفحة به إلا انه ينجس بملاقاة الجلد الذي يحويه فيمنع من الانتفاع به ويحكم بنجاسته ، واما الكرش فإنه مع تفسير الانفحة به يكون طاهرا بمقتضى الأخبار المذكورة. وهل يحتاج ظاهره الى تطهير من حيث الملاقاة لباطن الميتة وان كانت ذاته طاهرة؟ احتمالان نقل في المعالم عن والده في بعض فوائده انه اختار الأول ثم نقل عنه انه توقف في الروضة. قال ولا نعلم من الأصحاب مصرحا بالثاني وربما كان في إطلاقهم الحكم بالطهارة إشعار به. وقال في الذكرى الاولى تطهير ظاهرها من الميتة للملاقاة. انتهى. وقال في المدارك : في وجوب غسل الظاهر من الانفحة والبيضة وجهان أظهرهما العدم للأصل وإطلاق النص ، وظاهر كلام المنتهى يعطي الوجوب وهو أحوط. انتهى. وقال الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بعد نقل الخلاف في المسألة : «والظاهر تفسير العلامة لأنه يظهر من الروايات المذكورة ان الإنفحة شي‌ء يصنع به الجبن ، والظاهر ان الجبن انما يعمل من الشي‌ء الذي في جوف السخلة مثل اللبن لا من كرشها الذي هو للحيوان بمنزلة المعدة للإنسان ، وما في رواية الثمالي من انها تخرج من بين فرث ودم يشعر أيضا بأنه مثل اللبن ، وعلى هذا فالظاهر ان الكرش محلها» انتهى. وفيه انه متى فسر الانفحة بذلك الشي‌ء الأصفر فهب أنها طاهرة للنصوص إلا ان هذا الكرش الذي جعله محلها نجس البتة فيعود الاشكال كما تقدم ذكره وبالجملة فإنه لا يخفى ان مقتضى تصريحهم بتعدي النجاسة للصوف المقلوع ونحوه

٨٨

مضافا الى القاعدة المتقدمة هو النجاسة ووجوب التطهير من حيث الملاقاة وان كانت طاهرة في حد ذاتها بأي المعنيين اعتبرت ، إلا ان يقال بان مقتضى الوقوف على ظواهر النصوص المذكورة هو التطهير بالنسبة إلى الصوف ونحوه حيث دلت على ذلك حسنة حريز المتقدمة ، ولا منافاة في الحكم بطهارة الانفحة بأي المعنيين المذكورين اعتبرت واستثناء ذلك من حكم ملاقاة النجاسة كما سيأتي مثله في اللبن في ضرع الميتة ، ولعل وجه الاستثناء هو حكم الضرورة بالحاجة إلى الانفحة كما يشعر به خبر يونس (١) من قوله (عليه‌السلام): «خمسة أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر». وحينئذ فيزول الاشكال من هذا المجال.

بقي الكلام هنا في بعض ما يتعلق بالمقام وهو أمران : (الأول) ـ ان ظاهر كلام أهل اللغة الذي قدمناه هو ان الإنفحة مخصوصة بما إذا لم يرع وإلا فلو رعى لم يسم إنفحة وانما يقال كرش مع ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : والانفحة طاهرة من الميتة والمذبوحة وان أكلت السخلة غير اللبن. ولا ريب في ضعفه حيث ان كلامهم متفق على تخصيص ذلك بما إذا كان اعتياده على اللبن ومع أكل غيره انما يقال كرش لا إنفحة

(الثاني) ـ قال في المدارك بعد ذكر الانفحة : «واختلف كلام أهل اللغة في معناها فقيل انها كرش السخلة قبل ان تأكل ، وقيل انها شي‌ء اصفر يستخرج من بطن الجدي ، ولعل الثاني أولى اقتصارا على موضع الوفاق وان كان استثناء نفس الكرش ايضا غير بعيد تمسكا بمقتضى الأصل» انتهى.

وأنت خبير (أولا) ـ بان ما علل به أولوية الثاني من الاقتصار على موضع الوفاق لا اعرف له وجها ظاهرا مع ما عرفت من الخلاف في المسألة وتقابل القولين فيها نعم لو كان القائل بأن الانفحة عبارة عن الكرش يعنى الكرش وما فيه ومن جملته ذلك الشي‌ء الأصفر فيكون القول بالكرش أعم مطلقا فإنه يتم ما ذكره لكن لم أقف

__________________

(١) ص ٧٨.

٨٩

على من صرح بذلك من الأصحاب ولا من أهل اللغة بل ظاهر الجميع تباين القولين.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره من التمسك بالأصل مردود بما عرفت من عموم نجاسة الميتة الموجب لتنجيس ما لاقاها برطوبة ، والكرش وان كان طاهرا بالذات من حيث استثناء الروايات إلا انه نجس بالعرض ، إلا انه نجس بالعرض ، إلا ان يجاب عن الاشكال المذكور بما ذكرناه

(الخامس) ـ ان جملة من الأخبار المتقدمة قد دلت على استثناء البيضة كجملة ما ذكر من العشرة. وظاهر إطلاقها الحكم بالطهارة وان لاقت الميتة بالرطوبة مع مخالفة ذلك لما عرفت في الصوف ونحوه من انه متى أخذ بالقلع فإنه يجب تطهير موضع الملاقاة كما قال به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ودلت عليه حسنة حريز ، ومن أجل ذلك اختلفت كلمة الأصحاب في البيضة أيضا ، فظاهر بعض الحكم بالطهارة نظرا إلى إطلاق النصوص والظاهر انه قول الأكثر كما نقله في المعالم ، حيث انهم أطلقوا الحكم بطهارة البيضة ولم يتعرضوا لحكم ظاهرها مع معلومية ملاقاتها بالرطوبة للميتة النجسة ، والمفهوم من كلام العلامة النجاسة كما صرح به في النهاية حيث قال : البيضة من الدجاجة الميتة طاهرة ان اكتست الجلد الفوقاني الصلب لأنها صلبة القشر لاقت نجاسة فلم تكن نجسة في نفسها بل بالملاقاة ، ونحوه في المنتهى ايضا.

ويمكن تأييد ما ذهب إليه العلامة بأن حسنة حريز التي استدل بها على غسل موضع القلع من الصوف ونحوه قد تضمنت البيضة في جملة تلك الأفراد المعدودة فيها والأمر بغسل تلك الأشياء المعدودة إذا أخذت بعد الموت فتدخل البيضة في ذلك ، غاية الأمر انها قد اشتملت ايضا على اللبن واللبأ وهذان الفردان يجب إخراجهما من حيث عدم إمكان الغسل فيهما فلا ينصرف الأمر المذكور إليهما ، واشتملت بعد الأمر بالغسل على الأمر بالصلاة وهذا ربما يشعر بظاهره خروج البيضة أيضا حيث انه لا يصلى فيها. ويمكن ان يقال ان الأمر بالغسل لا يستلزم الأمر بالصلاة فيحمل الأمر بالصلاة على ما يصلى فيه من تلك الافراد كالصوف والشعر ، إذ لا يخفى ان الرواية قد اشتملت في جملة

٩٠

المعدودات ايضا على القرن والحافر والناب ومن الظاهر ان هذه لا يصلى فيها ، وتمحل الحمل على بعض الأفراد النادرة الشاذة إن اتفق إلا انه لا يعمل عليه ولا ينبغي ان يصغى إليه إذ إطلاق الأخبار انما ينصرف الى الافراد المتكثرة كما سمعته غير مرة ، وبالجملة فإن الرواية المذكورة صرحت بعد تعداد تلك الأفراد المذكورة فيها بان كل شي‌ء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه ، وحينئذ فكما استثني اللبن واللبأ من حيث عدم صلاحيتهما للغسل ينبغي ان يستثني من الصلاة ما لا تقع الصلاة فيه ولا يكون مما يصلى فيه ويبقى الغسل عاما للجميع عدا اللبن واللبأ ، فكأنه قيل : وكل شي‌ء من هذه الأشياء متى أخذ من الميتة فاغسله من حيث ملاقاة الميتة وصل فيه ان كان مما يصلى فيه. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه. وعلى هذا فيحمل إطلاق باقي الروايات على هذه الرواية فيجب حينئذ غسل البيضة ، ويؤيد ذلك بموافقة القاعدة الكلية في ملاقاة النجاسة برطوبة وغسل أصل الصوف ونحوه وأوفقيته بالاحتياط في الدين.

بقي الكلام أيضا في موضعين آخرين : (أحدهما) ـ ان أكثر الأخبار التي قدمناها خالية من التعرض لاشتراط اكتساء البيضة القشر الأعلى نعم ذلك في رواية غياث خاصة ، وظاهر الأصحاب الاتفاق على هذا الشرط وكأنهم حملوا إطلاق الاخبار المذكورة على هذه الرواية وطعن فيها في المدارك بضعف السند وظاهره العمل بإطلاق الأخبار المذكورة حيث ان فيها الصحيح مثل صحيحة زرارة ، وظاهر صاحب المعالم ايضا العمل بالإطلاق المذكور لضعف الخبر مع طعنه في الأخبار الأخر أيضا بناء على اصطلاحه الذي تفرد به من توقف الوصف بالصحة على اخبار اثنين من علماء الرجال ، إلا انه عضدها بموافقة الأصل وكثرتها وان الصدوق في المقنع لم يتعرض لهذا الشرط بل أطلق القول كما في أكثر الاخبار ، وجمهور الأصحاب على خلاف ما ذهب اليه وضعف الخبر المذكور مجبور عندهم بالشهرة وعمل الأصحاب على ما تضمنه ، وهو الظاهر الذي عليه

٩١

العمل حيث انا لا نرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث.

و (ثانيهما) ـ ان كلام الأصحاب قد اختلف في التعبير عن هذا الشرط الذي ذكر لطهارة البيضة ، فبعض المتقدمين اقتصر على نقل الحديث فعبر بالجلد الغليظ واقتفاه الشيخ في النهاية كما هي عادته غالبا من التعبير بمتون الاخبار ، وبعض عبر بالجلد ولكن بدلوا لفظ الغليظ بالفوقاني ، وعبر جماعة : منهم ـ المحقق والشهيد بالقشر الأعلى وفي كلام العلامة في جملة من كتبه الصلب كما تقدم في عبارة النهاية ومثله في المنتهى ، وتبعه على التقييد بالصلابة بعض المتأخرين ، والظاهر ان مرجع الجميع إلى أمر واحد والاختلاف انما هو بحسب اللفظ ، اما فيما عدا عبارة العلامة بالصلب فظاهر ، واما في التعبير بالصلب فيمكن ان يكون خرج مخرج الغالب ، وبيان ذلك ان هذا القشر الذي يجمع البياض والصفرة أول ما يكون رقيقا ثم يغلظ حتى يصير صلبا ، والمراد بالقشر الأعلى والجلد الغليظ والقوقاني في عباراتهم هو هذا الغشاء الرقيق الذي يصلب بعد ذلك إذا آن رمي الدجاجة للبيضة وإخراجها ، فالاعتبار في طهارة البيضة بحصوله وان لم يصلب على الوجه الذي تخرج عليه البيضة عادة ، وتقييد العلامة بالصلابة ربما ينافي ذلك الا ان يحمل على الخروج مخرج الغالب كما ذكرنا ، نعم حكى العلامة في بعض كتبه عن بعض الجمهور انه ذهب الى طهارة البيضة وان لم تكتس القشر الأعلى محتجا بان عليها غاشية رقيقة تحول بينها وبين النجاسة ، ثم قال : والأقرب عندي انها ان كانت قد اكتست الجلد الأعلى وان لم يكن صلبا فهي طاهرة لعدم الملاقاة والا فلا ، وربما أشعر هذا الكلام بمنافاة ما ذكرناه الا انه يمكن إرجاعه إليه بأن يحمل كلامه على ان المراد انه ان كانت هذه الغاشية الرقيقة هي الجلد الأعلى الذي يجمع البياض والصفرة وهو الذي يصلب بعد ذلك فإنه يصلب عليه الجلد الأعلى الذي هو المناط في الطهارة وان لم يكن صلبا والا فلا ، وهذا يرجع الى ما قدمنا ذكره.

(السادس) ـ اختلف أصحابنا في طهارة اللبن في ضرع الشاة الميتة ونجاسته ،

٩٢

فعن الصدوق في المقنع والشيخ في الخلاف والنهاية وكتابي الحديث وكثير من الأصحاب الطهارة حتى نقل عن الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية دعوى الإجماع على ذلك ، وقال ابن إدريس في السرائر : اللبن نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا لأنه مائع في ميتة ملامس لها ، وما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب لا يعضدها كتاب الله ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع وتبعه على القول بذلك جماعة من الأصحاب : منهم ـ الفاضلان ، قال في المنتهى المشهور عند علمائنا ان اللبن من الميتة المأكولة للحم بالذكاة نجس وقال بعضهم هو طاهر ، ثم قال في الاستدلال على النجاسة : لنا على التنجيس ـ أنه مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو احتلب في وعاء نجس ، ولانه لو أصاب الميتة بعد حلبه تنجس فكذا لو انفصل قبله لأن الملاقاة ثابتة في البابين.

والى القول بالطهارة مال من المتأخرين ومتأخريهم الشهيد في الذكرى والسيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم والفاضل الخوانساري في شرح الدروس والفاضل الخراساني في الذخيرة ، وهو المختار لما تقدم من الاخبار وهي صحيحة زرارة وحسنة حريز وموثقة الحسين بن زرارة أو حسنته ومرسلة الفقيه المسندة في الخصال.

ولا يخفى ان ما استندوا إليه في الحكم بالنجاسة ـ من حيث كونه مائعا ملامسا للميتة وكل ما كان كذلك فهو نجس ـ فهو لا يخلو من مصادرة ، والعموم الدال على نجاسة الملاقي للنجاسة برطوبة ـ وهو دليل الكبرى ـ مخصوص بالأخبار المذكورة فإنها صالحة للتخصيص فلا مانع من القول بها واستثناء هذا الفرد من العموم المذكور. واما ما احتجوا به زيادة على الدليل المتقدم من رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «ان عليا (عليه‌السلام) سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن فقال علي (عليه‌السلام) ذلك الحرام محضا». فهي لا تقوم بمعارضة الأخبار المذكورة ، وقد أجاب عنها الشيخ في التهذيب بأنها رواية شاذة لم يروها غير وهب بن وهب وهو ضعيف جدا

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٣ من الأطعمة المحرمة.

٩٣

عند أصحاب الحديث (١) ولو كان صحيحا لجاز ان يكون الوجه فيه ضربا من التقية لأنها موافقة لمذهب العامة لأنهم يحرمون كل شي‌ء من الميتة ولا يجيزون استعماله على حال (٢) انتهى.

واما ما أجاب به في المختلف عن صحيحة زرارة وحسنة حريز ـ بأنهما محمولان على ما إذا قاربت الشاة الموت ـ فلا يخفى ما فيه من التمحل البعيد ولو كان كذلك لم تصلح الروايتان دليلا على طهارة الأشياء المعدودة مع اللبن من الميتة مع انه وغيره يستدلون بهما على ذلك ، وتخصيص هذا القيد باللبن مع عده في قرن تلك الأشياء باطل على ان ارتكاب التأويل ولا سيما مثل هذا التكلف السحيق بالنظر الى قواعدهم انما يسوغ مع حصول التعارض بين الدليلين ، واي منصف يدعى صلاحية معارضة هذه الرواية الضعيفة لتلك الأخبار الصحيحة الكثيرة؟ قال في المعالم ـ ونعم ما قال ـ والعجب من العلامة بعد تفسيره الانفحة باللبن المستحيل وحكمه بطهارتها للأخبار الدالة على ذلك مع تحقق وصف المائعية فيها كيف يجعل اعتبار الملاقاة مع المائعية هنا معارضا للخبر. انتهى. واما ما أجاب به الفاضل الخوانساري في شرح الدروس ـ حيث قال بعد نقل هذا الكلام : «وكأنه لا عجب على ما ذكرناه سابقا من ان الإنفحة كأنها ليست مائعة على الإطلاق بل هي لبن منجمد» ـ ففيه ان ما قدمنا نقله عن أهل اللغة من ان الإنفحة شي‌ء يستخرج من بطنه اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ظاهر في كونه في بطن السخلة مائعا وانه بعد أخذه من بطن السخلة يعصر على الوجه المذكور فيعرض له الجمود بعد ذلك فلا يتم ما ذكره على كلام المحقق المشار إليه.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان عبارة العلامة التي قدمناها عن المنتهى تدل على ان محل النزاع لبن الميتة المأكولة اللحم بالذكاة ولم يتعرض لغير المأكولة ، وظاهر كلام غيره وكذا ظاهر الأخبار هو العموم وعدم الفرق ، وصاحب المعالم مع تعرضه في الانفحة لكونها من المأكول وغيره وتردده في غير المأكول كما تقدم الكلام فيه لم يتعرض هنا

__________________

(١) راجع التعليقة ١ ج ٢ ص ٨١.

(٢) تأتى تعليقة المورد في الاستدراكات.

٩٤

للفرق ولا لعدمه ، وبالجملة فالاحتياط في أمثال ذلك مما ينبغي المحافظة عليه.

(السابع) ـ قال في المنتهى : فأرة المسك إذا انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة وان انفصلت بعد موتها فالأقرب النجاسة. وقال في الذكرى المسك طاهر إجماعا وفأرته وان أخذت من غير المذكى. وبهذا القول صرح العلامة في النهاية أيضا فقال : فأرة المسك ان انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة وان انفصلت بعد موتها فالأقرب ذلك أيضا للأصل. وفي التذكرة أيضا حكم بالطهارة مطلقا سواء انفصلت من الظبي حال حياته أو بعد موته وهو خلاف ما ذكره في المنتهى.

قال في المدارك : والأصح طهارتها مطلقا كما اختاره في التذكرة للأصل وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن فأرة المسك تكون مع الرجل وهو يصلي وهي معه في جيبه أو ثيابه؟ فقال لا بأس بذلك». ثم قال : ولا ينافي ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر في الصحيح (٢) قال : «كتبت إليه ـ يعني أبا محمد (عليه‌السلام) ـ هل يجوز للرجل ان يصلي ومعه فأرة مسك؟ قال لا بأس بذلك إذا كان ذكيا». لجواز ان يكون المراد بالذكي الطاهر مع ان المنع من استصحابها في الصلاة لا ينحصر وجهه في النجاسة. انتهى.

أقول : فيه ان ما ذكره من اختيار القول بالطهارة عملا بصحيحة علي بن جعفر وحمل الصحيحة الأخرى على ما ذكره فلقائل أن يقول بما ذهب إليه في المنتهى من القول بالنجاسة عملا بصحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة ، بأن يقال ان المراد من قوله : «إذا كان ذكيا» اما الحمل على رجوع ضمير «كان» الى الظبي المدلول عليه بالفأرة بمعنى ان يكون مذكى لا ميتة والمراد بالمذكى ما هو أعم من حال الحياة أو التذكية بالذبح ، وربما يستأنس لذلك بتذكير الضمير ، واما الرجوع الى الفأرة باعتبار ما ذكرناه أيضا أي إذا كانت ذكية بالأخذ من أحد هذين الفردين ، والظاهر قرب ما ذكرناه على ما ذكره من ان المراد كونها

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٤١ من أبواب لباس المصلى.

٩٥

طاهرة لم تعرض لها نجاسة من الخارج كما احتمله في الذكرى ايضا وأجاب به عن الحديث المذكور إذ لا خصوصية لذلك بالفأرة. واما صحيحة علي بن جعفر فلعل منشأ السؤال فيها عن فأرة المسك انما هو من حيث توهم نجاسة المسك باعتبار أن أصله الدم كما قيل «ان المسك بعض دم الغزال» وحينئذ فنفى البأس يرجع الى طهارته بالاستحالة التي هي من جملة المطهرات الشرعية ، واما من حيث فأرة المسك واحتمال كونها ميتة المستلزم لنجاستها كما هو ظاهر صحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة التي قد عرفت انها مستند العلامة فيما ذهب إليه في المنتهى ، وحينئذ فنفي البأس من حيث وجوب البناء على أصالة الطهارة لقولهم (عليهم‌السلام) (١) «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر». وفأرة المسك لما كان منها ما هو طاهر ونجس كما عرفت دخلت تحت الكلية المذكورة ، ويمكن بناء على الثاني حمل نفي البأس من حيث انها لا تتم فيها الصلاة وقد عفي عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه فهي وان كانت نجسة بالموت إلا انها مما لا تتم الصلاة فيه. لكن يدفع هذا الوجه ظاهر صحيحة عبد الله بن جعفر فإنها قد دلت على النهي عن الصلاة فيها من حيث كونها غير ذكية يعني ميتة وهي ظاهرة في عدم جواز الصلاة في الميتة وان كانت مما لا تتم الصلاة فيه ، وعلى ذلك ايضا تدل جملة من الأخبار فتكون الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه من الميتة الموجب لبطلانها مستثنى من جواز الصلاة في النجس الذي لا تتم الصلاة فيه. وبالجملة فالاحتمالان المذكوران متعارضان ، وربما يرجح الاحتمال الذي صار إليه في المدارك وبه صرح أكثر الأصحاب بمطابقة الأصل ، الا أن المسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.

بقي هنا شي‌ء وهو انه قد تقدم في المسألة الثانية تصريح الأصحاب بان ما تحله

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، واللفظ في موثقة عمار هكذا «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر». وسيأتي منه (قدس‌سره) التصريح بذلك في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.

٩٦

الحياة من الحيوان ذي النفس السائلة نجس متى انفصل عنه في حال الحياة أو الموت ، والأكثر كما عرفت على ما صرح به العلامة في التذكرة والنهاية من القول هنا بطهارة الفأرة مطلقا وان انفصلت من الحية أو الميتة ، وهو مدافع لما ذكروه ثمة ، والجواب عن ذلك هو تخصيص الحكم في تلك المسألة بروايات هذه المسألة الدالة على الطهارة واستثناء هذا الفرد بهذين الخبرين من الحكم المتقدم. والله العالم.

(الثامن) ـ ان ما اشتملت عليه رواية أبي حمزة الثمالي ـ من قوله (عليه‌السلام): «فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلا ان يأتيك من يخبرك عنه». بعد قوله (عليه‌السلام) : ان الإنفحة ليس بها بأس. إلى آخر الكلام المؤذن بأن توهم التحريم في الجبن انما هو من حيث الانفحة لأنها ميتة كما هو اعتقاد السائل المذكور ونفيه (عليه‌السلام) ذلك المقتضى لحل الجبن ـ لا يخلو من اشكال ، والظاهر ان الوجه فيه أحد أمرين : اما حمل الكلام الأخير على ما إذا حصل سبب آخر يوجب التحريم فيكون حكما مستأنفا لا تعلق له بجواب السائل ، واما حمل الكلام على الرجوع عن الجواب الأول حيث انه (عليه‌السلام) فهم من السائل عدم قبوله من حيث حكمه بأن الانفحة ميتة موجبة لتنجيس الجبن إذا لاقته فعدل الى الجواب بالتي هي أحسن من انه مع تسليم ما يدعيه فإن الأصل في الأشياء الطهارة فاشتر من سوق المسلمين وكل حتى تعلم انه خالطه الانفحة ، وبهذا الوجه صرح في الوافي حيث قال : «ولما استفرس (عليه‌السلام) من قتادة عدم قبوله ولا قابليته لمر الحق عدل به عن الحق إلى الجدال بالتي هي أحسن وقال : اشتر الجبن من أسواق المسلمين ولا تسأل عنه» انتهى.

أقول : واخبار الجبن جلها أو كلها قد اشتملت على تعليل تحليل الجبن بهذه القاعدة المنصوصة ، والظاهر ان السر فيه هو ما ذكرناه في الوجه الأول أو الثاني ، ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في الجبن؟

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦١ من الأطعمة المباحة.

٩٧

قال : كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة». وهذا الخبر أقرب انطباقا على الوجه الثاني ، ومنها ـ صحيحة ضريس (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم انا كله؟ فقال اما ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكل واما ما لم تعلم فكل حتى تعلم انه حرام». وهي محتملة للوجهين المتقدمين. ورواية عبد الله بن سليمان (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن؟ قال سألتني عن طعام يعجبني ثم اعطى الغلام درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا ودعى بالغداء فتغدينا معه فاتى بالجبن فأكل وأكلنا فلما فرغنا من الغداء ، قلت ما تقول في الجبن؟ فقال أو لم ترني أكلته؟ قلت بلى ولكني أحب ان أسمعه منك. فقال سأخبرك عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه». وهذا الخبر أظهر انطباقا على المعنى الثاني حيث ان ظاهره ان الجبن من الأشياء التي فيها الحلال والحرام كاللحم من المذكى والميتة وليس ذلك إلا باعتبار ما يعمل باللإنفحة وما لا يعمل بها والأول منه حرام لمكان الانفحة لأنها ميتة ، وحينئذ فمخرج هذه الاخبار كلها انما هو على التقية من حيث اشتهار الحكم بنجاسة الانفحة عند العامة كما عرفته من كلام قتادة الذي هو من رؤوسهم (٣) والله العالم.

(الفصل السادس) ـ في الخمر وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسته ، فالمشهور بين أكثر علمائنا بل أكثر أهل العلم هو القول بالنجاسة حتى انه حكي عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) انه قال لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم ، وعن الشيخ انه قال : الخمر نجسة بلا خلاف وكل مسكر عندنا حكمه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٦٤ من الأطعمة المحرمة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٦١ من الأطعمة المباحة.

(٣) في المغني ج ١ ص ٧٤ «لبن الميتة وانفحتها نجسة في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي ، وروي انها طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود».

٩٨

حكم الخمر والحق أصحابنا الفقاع بذلك. وعن ابن زهرة الخمر نجسة بلا خلاف ممن يعتد به ، ونقل ابن إدريس إجماع المسلمين عليه ، وقال الصدوق في الفقيه والمقنع لا بأس بالصلاة في ثوب اصابه خمر لان الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب اصابته. وهو ظاهر كالصريح في القول بالطهارة مع انه حكم بنزح ماء البئر اجمع بانصباب الخمر فيها ، وأصرح منه ما نقل عن ابن ابي عقيل حيث قال : من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما لأن الله تعالى انما حرمهما تعبدا لا لأنهما نجسان. وعزى في الذكرى الى الجعفي وفاق الصدوق وابن ابي عقيل وكذا في الدروس ، قال في المعالم : بعد نقل القول بالطهارة عن هؤلاء الثلاثة ولا يعرف هذا القول لسواهم من الأصحاب.

احتج القائلون بالنجاسة بوجوه : (الأول) ـ الإجماع المتقدم ذكره بناء على ما تقرر عندهم من ان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة.

(الثاني) ـ قوله عزوجل : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (١) فان الرجس هو النجس على ما ذكره بعض أهل اللغة والاجتناب عبارة عن عدم المباشرة ولا معنى للنجس إلا ذلك.

(الثالث) ـ الروايات والذي وقفت عليه من ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن علي بن مهزيار (٢) قال : «قرأت في كتاب عبد الله بن محمد الى ابي الحسن (عليه‌السلام) جعلت فداك روى زرارة عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما‌السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل انهما قالا لا بأس بان يصلي فيه انما حرم شربها. وروى غير زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله وان صليت فيه فأعد صلاتك.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٩٠.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.

٩٩

فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع (عليه‌السلام) وقرأته : خذ بقول ابي عبد الله (عليه‌السلام)».

وما رواه في الكافي عن يونس عن بعض من رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله فان صليت فيه فأعد صلاتك».

وعن خيران الخادم (٢) قال : «كتبت الى الرجل اسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم صل فيه فان الله تعالى انما حرم شربها وقال بعضهم لا تصل فيه. فكتب (عليه‌السلام) لا تصل فيه فإنه رجس».

ورواه في التهذيب ايضا مثله ، وقال في الكافي بعد نقل خبر خيران قال (٣) : «وسألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري أو يشرب الخمر فيرده أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله». ولا يخفى ما في هذا السند من الاشتباه لان الظاهر ان ضمير «قال» يرجع الى خيران وفي رؤيته أبا عبد الله (عليه‌السلام) وسؤاله منه بعد لانه من موالي الرضا (عليه‌السلام) وأصحابه.

وعن أبي جميلة البصري (٤) قال : «كنت مع يونس ببغداد وانا أمشي في السوق ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس فقلت له يا أبا محمد إلا تصلي؟ قال فقال لي ليس أريد أن أصلي حتى ارجع الى البيت فاغسل هذا الخمر من ثوبي. فقلت له هذا رأي رأيته أو شي‌ء ترويه؟ فقال أخبرني هشام بن الحكم انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الفقاع فقال لا تشربه فإنه خمر مجهول وإذا أصاب ثوبك فاغسله».

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

(٤) رواه في الوافي ج ٤ ص ٣٣ وقطعة منه في الوسائل في الباب ٣٧ من الأشربة المحرمة.

١٠٠