الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

التي سردناها لا يخفى عليه انطباقها على ما ذكرناه من عموم الحكم.

(المقام الثاني) ـ فيما ذكره من المناقشة الثانية في حكم جلد الميتة وانه لم يقم على نجاسته عنده دليل معتضدا بما نقله عن الفقيه ، ففيه انه لا ريب ان الروايات هنا مختلفة في جلد الميتة طهارة ونجاسة والقول بطهارته منقول عن ابن الجنيد لكن بشرط الدباغ وانها تطهر بذلك.

فمما يدل على الطهارة ما نقله عن الفقيه ومثله ما رواه الشيخ في الصحيح الى الحسين ابن زرارة ـ وهو وان كان في كتب الرجال مهملا إلا انه يمكن استفادة مدحه من دعاء الصادق (عليه‌السلام) له ولأخيه الحسن ـ عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فاشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم ، وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلى فيه». وظاهر الرواية التي نقلها عن الفقيه وان كان أعم إلا ان الظاهر انه يجب تقييدها بالدباغ ، ولعله إنما أطلق الحكم فيها بناء على ما هو المتعارف من الدباغ وانه لا يستعملونه إلا بعد ذلك ، وحينئذ يكون الجميع مستندا لما ذهب اليه ابن الجنيد في المسألة وأظهر من هذين الخبرين في ذلك ما صرح به (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (٢) حيث قال : «وان كان الصوف والوبر والشعر والريش من الميتة وغير الميتة بعد ان يكون مما أحل الله تعالى اكله فلا بأس به ، وكذلك الجلد فان دباغته طهارته» وقال بعد هذا الكلام بأسطر قليلة : «وذكاة الحيوان ذبحه وذكاة الجلود الميتة الدباغ»

ومما يدل على المشهور ـ وهو المؤيد المنصور ـ من النجاسة ما رواه في الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٣) قال : «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب. الحديث». أقول : «ان ذكي» يحتمل ان يكون قيدا لأكل اللحم بمعنى ان مأكول اللحم مع التذكية ما حكم جلده

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من الأطعمة المحرمة.

(٢) ص ٤١.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من الأطعمة المحرمة.

٦١

بعد الموت؟ ويحتمل ان يكون راجعا الى الجلود بالنظر الى ان دباغته تذكيته كما دل عليه خبر كتاب الفقه.

وما رواه في الكافي في الصحيح عن علي بن أبي المغيرة (١) وهو ثقة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ قال لا. قلت بلغنا ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مر بشاة ميتة فقال ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها ان ينتفعوا بإهابها؟ قال تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها ان ينتفعوا بإهابها أي تذكى». وجه الدلالة (أولا) ـ انه (عليه‌السلام) ذكر ان الميتة لا ينتفع منها بشي‌ء وهو ظاهر الدلالة فيما نحن فيه. و (ثانيا) ـ انه لما سأله عن حديث الشاة الذي هو أحد مستندات العامة فيما ذهبوا اليه من طهارة جلد الميتة حيث انهم رووا الحديث وحملوا كلامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على انه ينبغي ان يسلخوا جلدها بعد الموت وينتفعوا به وان لم ينتفعوا بلحمها لكونها ميتة (٢) فأجاب (عليه‌السلام) بان الوجه في

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦١ من أبواب النجاسات و ٣٤ من الأطعمة المحرمة.

(٢) في المغني ج ١ ص ٦٦ «المشهور في المذهب نجاسة الجلد بعد الدبغ وهو احدى الروايتين عن مالك ، وعن أحمد برواية اخرى انه يطهر جلد ما كان طاهرا حال الحياة. ومذهب الشافعي طهارة الحيوانات كلها الا الكلب والخنزير فيطهر عنده كل جلد الا جلدهما ، وقال أبو حنيفة يطهر كل جلد بالدبغ الا جلد الخنزير ، وحكى عن ابى يوسف انه يطهر كل جلد وهو رواية عن مالك. ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها قوله (ص) «إذا دبغ الإهاب فقد طهر». ولانه (ص) وجد شاة لميمونة فقال : هلا انتفعتم بجلدها؟ فقالوا انها ميتة قال انما حرم أكلها». وفي صحيح مسلم ج ١ ص ١٤٥ عن ابن عباس قال : «تصدق لمولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله (ص) فقال هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ قالوا انها ميتة قال انما حرم أكلها». وفيه عن ابن عباس قال «سمعت رسول الله (ص) يقول إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ..

٦٢

الخبر ليس ما توهموه وظنه السائل بناء على شهرة الخبر بينهم بل المعنى فيه والذي أراده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما هو ان تذكى قبل الموت وينتفعوا بإهابها وان لم ينتفعوا بلحمها لهزالها ، وهو صريح في عدم الانتفاع بجلود الميتة المؤذن بنجاستها ، وينبغي تقييد قوله (عليه‌السلام): «الميتة لا ينتفع منها بشي‌ء». بما كان تحله الحياة ثم عرض له الموت جمعا بين الخبر المذكور والاخبار الدالة على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن ابي مريم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) السخلة التي مر بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهي ميتة فقال : ما ضر أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ قال : فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لم تكن ميتة يا أبا مريم ولكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها». أقول : الظاهر ان مورد هذا الخبر غير سابقه. والتقريب في سؤال السائل هو ما ذكرناه من التقريب في الخبر الأول ولكن الجواب وقع عنها بأن السخلة انما رماها أهلها بعد الذبح فهي مذكاة فمن أجل ذلك قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انها بعد التذكية وان لم ينتفعوا بلحمها لهزاله إلا ان جلدها مما ينتفع به فكيف لم يأخذوه؟

ومنها ـ ما رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة (٢) قال : «سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال إذا رميت وسميت فانتفع بجلده واما الميتة فلا».

ومنها ـ ما رواه في الكافي وكذا في التهذيب عن قاسم الصيقل (٣) قال : «كتبت الى الرضا (عليه‌السلام) اني اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي أفأصلي فيها؟ فكتب الي اتخذ ثوبا لصلاتك. فكتبت الى ابي جعفر (عليه‌السلام) كنت كتبت الى أبيك بكذا وكذا فصعب ذلك علي فصرت أعملها من جلود الحمر

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من الأطعمة المحرمة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب النجاسات.

٦٣

الوحشية الذكية؟ فكتب الي كل اعمال البر بالصبر يرحمك الله فان كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس».

ومنها ـ ما رواه في التهذيب عن ابي القاسم الصيقل وولده (١) قال : «كتبوا الى الرجل (عليه‌السلام) جعلنا الله فداك انا قوم نعمل أغماد السيوف وليس لنا معيشة ولا تجارة غيرها ونحن مضطرون إليها وانما علاجنا من جلود الميتة من البغال والحمر الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا؟ ونحن محتاجون الى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها ، فكتب (عليه‌السلام) اجعلوا ثوبا للصلاة. الحديث».

هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول المشهور ، ووجه الجمع بينها وبين ما عارضها هو حمل المعارض على التقية لموافقته لمذهب بعض العامة كما أشرنا إليه في ذيل حديث الشاة ، ويدل على ذلك ما رواه في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني ادخل سوق المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام فاشترى منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليست هي ذكية فيقول بلى فهل يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق الميتة وزعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته ثم لم يرضوا ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)». وفي التهذيب بسنده الى ابي بصير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليه‌السلام) رجلا صردا فلا تدفئه فراء الحجاز لان دباغها بالقرظ فكان يبعث الى العراق

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٦١ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٦١ من أبواب لباس المصلي.

٦٤

فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون ان دباغها ذكاتها». وبما أوضحناه وشرحناه يظهر لك انه لا إشكال في صحة القول المشهور كما وقع فيه لعدم التدبر في اخبار المسألة سيدنا المحقق المذكور. ثم ان ما ذكره (قدس‌سره) في تأييد مرسلة الفقيه من قول مصنفه في صدر كتابه ما قاله ـ مع الإغماض عن الطعن في ذلك بمخالفة مصنفه لهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتابه كما لا يخفى على من تتبعه ـ ففيه انه في شرحه قد اضطرب كلامه في هذا المقام ايضا كاضطرابه في غيره فتراه تارة يعمل بمرويات الفقيه الضعيفة ويعتذر بهذا الكلام وتراه يرد رواياته اخرى من غير التفات الى ما ذكره في هذا المقام كما لا يخفى على من تتبع شرحه المشار اليه ، وهي طريقة غير جيدة ناشئة من ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي تمسك به وبالغ في نصرته كما أوضحناه في مواضع من شرحنا على الكتاب.

(الموضع الثاني) ـ ميتة الآدمي ، وقد أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) على ما نقله غير واحد منهم على نجاستها بعد برده وقبل تطهيره بالغسل ، قال في المعتبر : وعلماؤنا مطبقون على نجاسته نجاسة عينية كغيره من ذوات الأنفس السائلة.

ويدل على ذلك مضافا الى الإجماع المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد ابن الحسن الصفار (١) قال : «كتبت اليه : رجل أصاب يديه أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جسده قبل ان يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع (عليه‌السلام) : إذا أصاب يدك جسد الميت قبل ان يغسل فقد يجب عليك الغسل». وحسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ فقال يغسل ما أصاب الثوب». ورواية إبراهيم بن ميمون (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤ من غسل مس الميت.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب النجاسات.

٦٥

السلام) عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميت؟ فقال ان كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه وان كان لم يغسل الميت فاغسل ما أصاب ثوبك منه». وروى الطبرسي في الاحتجاج والشيخ في كتاب الغيبة التوقيع الخارج عن الناحية المقدسة في أجوبة مسائل محمد بن عبد الله الحميري (١) فإنه كتب «روي لنا عن العالم انه سئل عن امام صلى بقوم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ قال يؤخر ويتقدم بعضهم ويتم صلاتهم ويغتسل من مسه؟ التوقيع ليس على من مسه إلا غسل اليد». وعنه (٢) قال : «كتبت اليه وروي عن العالم (عليه‌السلام) ان من مس ميتا بحرارته غسل يده ومن مسه وقد برد فعليه الغسل وهذا الميت في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارته والعمل في ذلك على ما هو ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب عليه؟ التوقيع : إذا مسه في هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده». وفي الفقه الرضوي (٣) «وان مس ثوبك ميتا فاغسل ما أصاب».

بقي الكلام في أنها هل هي عينية محضة مطلقا فعلى هذا ينجس ما يلاقي الميت برطوبة كان أو بيبوسة وتتعدى نجاسة ذلك الملاقي الى ما لاقاه برطوبة ، أو مع الرطوبة خاصة وإلا فحكمية بمعنى انها مع اليبوسة انما ينجس بها ذلك الملاقي خاصة دون ما لاقاه ولو برطوبة. أو عدم تعديها مطلقا وان وجب غسل الملاقي تعبدا ، أو انها عينية محضة مع الرطوبة خاصة واما مع اليبوسة فلا اثر لها كغيرها من النجاسات ، أقوال أربعة : الأول ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض وقواه شيخنا المحقق الشيخ حسن على تقدير القول بالتعدي مع اليبوسة ، والثاني للعلامة في المنتهى ، والثالث ظاهر كلام ابن إدريس حيث قال على ما نقل عنه في المدارك : إذا لاقى جسد الميت إناء وجب غسله ولو لاقى ذلك الإناء مائعا لم ينجس المائع لأنه لم يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس ، والأصل في الأشياء الطهارة الى ان يقوم دليل. والرابع مختار المحقق الشيخ علي.

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣ من غسل مس الميت.

(٣) ص ١٨.

٦٦

وأنت خبير بان ظاهر إطلاق الأخبار المذكورة الدلالة على القول الأول. وهذا القول ايضا ظاهر الصدوق في الفقيه حيث انه عبر فيه بمضمون حسنة الحلبي فقال : ومن أصاب ثوبه جسد الميت فليغسل ما أصاب الثوب منه. وبذلك يظهر قوة القول المذكور إلا ان قوله (عليه‌السلام) في موثقة عبد الله بن بكير (١) «كل شي‌ء يابس ذكى». المعتضد بجملة من الأخبار الدالة في جملة من المواضع على عدم تعدي النجاسة مع اليبوسة مما يدافع العمل بإطلاق هذه الأخبار ، وايضا ان تقييد المطلق أقرب من تخصيص العام وحينئذ فالأظهر حمل الملاقاة الموجبة للغسل على الملاقاة برطوبة من أحدهما ، ومما يستأنس له بذلك قوله في رواية إبراهيم بن ميمون؟ «ما أصاب ثوبك منه». في الموضعين فإنه ظاهر في ان اصابة الثوب انما هو لرطوبة أو قذر على الميت ، إلا ان هذا الحمل بعيد في التوقيع المذكور. ويمكن حمله على الاستحباب سيما مع اشتماله على ما لا يقول به جمهور الأصحاب من النجاسة قبل البرد ، ومن ذلك يعلم قوة القول الرابع ، ويؤيده أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (٢) «عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت هل تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال ليس عليه غسله وليصل فيه ولا بأس».

واما ما ذهب اليه المحدث الكاشاني ـ من حمل أخبار النجاسة في الميت والكافر ونحوهما مما ذكره على مجرد الخبث الباطني دون المعنى الشرعي الموجب لغسل الملاقي له برطوبة ـ فهو من متفرداته الواهية التي هي لبيت العنكبوت ـ وانه لا وهن البيوت ـ مضاهية وكيف لا والأخبار المتقدمة ظاهرة في وجوب غسل الملاقي له الذي هو مظهر النجاسة ، والظاهر ان منشأ الشبهة عنده هو انه لو كان نجسا كالأعيان النجسة لم يقبل التطهير بالغسل كما يدل عليه كلامه في المفاتيح ، وهذا دليل الشافعي على ما ذهب اليه من عدم نجاسة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أحكام الخلوة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب النجاسات.

٦٧

الإنسان بالموت (١) قال : إذ لو كان نجسا لما قبل التطهير كسائر النجاسات. وعارضه جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المنتهى والشهيدان في الذكرى والروض بأنه لو لم يكن نجسا لما أمر بالغسل. وفيه انه يمكن ان يكون الغسل انما هو للنجاسة الحكمية كنجاسة بدن الجنب بالجنابة والحائض بالحيض لا العينية ، بل هذا هو الظاهر من الأخبار المتقدمة في باب غسل الجنابة الدالة على ان العلة في غسل الميت انما هو خروج النطفة التي خلق منها حال الموت فهو جنب ولذلك أمر بتغسيله غسل الجنابة. والجواب الحق انما هو المنع من كون النجاسات والمطهرات منحصرة في قاعدة كلية بل هي تابعة للدليل الشرعي وليس للعقل فيها مسرح ، فلا منافاة بين كون نجاسة الميت بعد البرد وقبل الغسل كسائر النجاسات العينية وان كان تطهيرها يقع بالغسل وغيرها لا يقبل التطهير إلا بالمطهرات الآتية ، ألا ترى ان العصير يطهر بالنقص دون غيره وآلات النزح وجوانب البئر تطهر عندهم بتمام النزح وآلات الخمر بعد انقلابه ونحو ذلك فالاستبعاد مدفوع بما ذكرناه ، وبالجملة فالظاهر من الأخبار ان نجاسة الميت بعد البرد وقبل التطهير بالغسل حكمية من جهة عينية من اخرى ، فمن الجهة الأولى يجب الغسل على كل من مس الميت في تلك الحال ومن الجهة الثانية يجب غسله وغسل ما لاقاه على الخلاف المتقدم ، ولا منافاة في كون الغسل رافعا للنجاسة العينية والحدثية التي في الجنب ايضا كما دلت عليه الاخبار المشار إليها إذا اقتضته الأدلة الشرعية.

__________________

(١) في المغني ج ١ ص ٤٥ «الآدمي في صحيح المذهب طاهر حيا وميتا لقوله (ص) «المؤمن لا ينجس». متفق عليه ، وعن أحمد في بئر مات فيها انسان ينزح ماؤها حتى يغلبهم ، وهو مذهب أبي حنيفة قال انه ينجس بالموت ويطهر بالغسل ، وللشافعي قولان كالروايتين» واخرج الشافعية ـ كالشيرازي في المهذب ج ١ ص ٤٦ والغزالي في الوجيز ج ١ ص ٤ والنووي في المنهاج ص ٥ ـ الميت الآدمي من عداد النجاسات ، ويظهر ذلك من الام ج ١ ص ٢٣٥ قال : أحب لمن غسل ميتا ان يغتسل وليس بالواجب عندي وجاءت أحاديث في ترك الغسل : منها ـ «لا تنجسوا موتاكم».

٦٨

(الموضع الثالث) ـ ميتة ما لا نفس له سائلة ، وقد نقل الإجماع في المعتبر والمنتهى على طهارتها ، قال في المنتهى اتفق علماؤنا على ان ما لا نفس سائلة له من الحيوانات لا ينجس بالموت ولا يؤثر في نجاسة ما يلاقيه. وذكر في المعتبر ان عدم نجاسة ما هذا شأنه وانتفاء التنجيس به مذهب علمائنا اجمع. وقال الشيخ في النهاية : كل ما ليس له نفس سائلة من الأموات فإنه لا ينجس الثوب ولا البدن ولا الشراب إذا وقع فيه سوى الوزغ والعقرب. وفي المختلف عن ابن البراج انه قال إذا أصاب شيئا وزغ أو عقرب فهو نجس وأوجب أبو الصلاح النزح لها من البئر ثلاث دلاء. وما ذكره الشيخ (قدس‌سره) هنا من استثناء الوزغ الظاهر انه مبني على ما سيأتي ان شاء الله تعالى من حكمه بنجاسة الوزغ عينا وانه عنده كالكلب ، واما العقرب فلا نعلم لاستثنائه وجها. ونقل في المختلف عنه الاستدلال عليه برواية أبي بصير عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الخنفساء تقع في الماء أيتوضأ منه؟ قال نعم لا بأس به. قلت فالعقرب؟ قال ارقه». وأجاب عنها بأنها غير دالة على ذلك لجواز استناد الإراقة إلى وجود السم في الماء لا إلى نجاسة العقرب. وهو جيد ، وبمثل ذلك ايضا يجاب عما رواه سماعة في الموثق (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن جرة وجد فيها خنفساء قد ماتت؟ قال ألقه وتوضأ منه وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من غيره».

وكيف كان فالمعتمد هو القول المشهور للأصل والاخبار الكثيرة ، ومنها موثقة عمار ورواية حفص المتقدمتان في الموضع الأول وموثقة أبي بصير أو صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الذباب يقع في الدهن والسمن والطعام؟

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب الأسئار.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٤٦ من الأطعمة المحرمة.

٦٩

فقال لا بأس». ورواية ابن مسكان (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) كل شي‌ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس». ومرفوعة محمد بن يحيى عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا يفسد الماء إلا ما كان له نفس سائلة». وفي قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر (٣) «انه سأل أخاه موسى (عليه‌السلام) عن العقرب والخنفساء وأشباه ذلك يموت في الجرة والدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال لا بأس».

وتنقيح البحث في المقام يتوقف على رسم مسائل (الأولى) قد تقدم نقل المحقق والعلامة الإجماع على نجاسة ميتة ذي النفس السائلة مطلقا من غير استثناء فرد وظاهره أعم من ان يكون الحيوان بريا أو بحريا ، وقال في الخلاف ان مات في الماء القليل ضفدع أو ما لا يؤكل لحمه مما يعيش في الماء لا ينجس الماء وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي ان قلنا انه لا يؤكل فإنه ينجسه (٤) دليلنا ان الماء على أصل الطهارة والحكم بنجاسته يحتاج الى دليل ، وروي عنهم (عليهم‌السلام) انهم قالوا : «إذا مات فيما فيه حياته لا ينجسه». وهو يتناول هذا الموضع. وقد حكى المحقق في المعتبر صدر هذه العبارة عن الخلاف ولم يتعرض لما فيه الاحتجاج منها واختار التنجيس بما له نفس من الحيوان المائي كالتمساح ، واحتج له بأنه حيوان له نفس سائلة فكان موته منجسا ثم قال : ولا حجة لهم في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٥) في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». لان التحليل مختص بالسموك.

قال في المعالم بعد نقل ما ذكرناه عن المحقق : وكأنه أشار بقوله ولا حجة لهم إلى القائلين بالطهارة هنا من العامة وفاقا للشيخ وهم الحنفية. وقد نبه على ذلك الشيخ

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب النجاسات.

(٤) كما في بدائع الصنائع ج ١ ص ٧٩ والام ج ١ ص ٤ والمغني ج ١ ص ٤٥.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب الماء المطلق.

٧٠

في الكلام الذي حكيناه عنه وعزاه إليهم العلامة في المنتهى وحكى عنهم الاحتجاج بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «هو الطهور ماؤه. الحديث» وفساد هذه الحجة عندنا أظهر من ان يبين ، والعجب من المحقق في عدوله عن حكاية الحجة التي تمسك بها الشيخ الى حجة المخالف الواهية مع كونه في مقام البحث مع الشيخ إذ لم يذكر خلاف غيره ، ولولا جمع الضمير في نسبة الاحتجاج لم يختلج في خاطر غير الواقف على كلام الشيخ شك في ان الحجة له ولا يخفى ما فيه ، على ان احتمال مشاركة الشيخ لغيره في الاحتجاج بها ليس بمندفع عن غير العارف بالحال ، ولعل العذر عدم الوقوف على عين كلام الشيخ في نفس الكتاب ، هذا وفي تمسك الشيخ هنا بالأصل قوة إلا ان يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب من الإجماع في أصل المسألة لموضع النزاع. انتهى.

أقول : والكلام هنا يقع في مواضع : (الأول) ـ لا يخفى ما في نقل المحقق والعلامة الإجماع في أصل المسألة على النجاسة ثم نقلهما خلاف الشيخ في المقام من التدافع ، إلا ان يحمل ذلك على عدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما هو أحد قواعدهم ، أو لشهرة القول بالخلاف في الحيوان المائي فيكون الإجماع المدعى انما هو على غير الحيوان المائي ، ولعله الأقرب.

(الثاني) ـ ان ما استند اليه الشيخ من التمسك بالأصل فالجواب عنه ان الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وهو ما قدمناه من الأخبار المتقدمة في المقام الأول من الموضع الأول الدالة على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الإنسان مطلقا ، وحيث ان صاحب المعالم في ما قدمنا نقله عنه لم يقم عنده دليل على ذلك إلا الإجماع قوى تمسك الشيخ بالأصل هنا إلا ان يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب من الإجماع لموضع النزاع. وأنت خبير بعد الإحاطة بما قدمناه من الأخبار انه لا حاجة الى التمسك بهذا الإجماع هنا ، إلا انه يبقى الكلام في دخول الحيوان المائي تحت إطلاق تلك الاخبار أو عمومها حيث ان الذي ينصرف إليه الإطلاق انما هو الأفراد الكثيرة الوقوع مثل تلك الأشياء

٧١

المعدودة في الروايات ، وشمولها لمثل الضفدع والتمساح ونحوهما الظاهر بعده ، وكذلك شمول الإجماع خصوصا على الوجه الثاني مما أجبنا به عن التدافع الواقع في كلامهم ، وحينئذ يقوى تمسك الشيخ بالأصل.

(الثالث) ـ ما نقله الشيخ عنهم (عليهم‌السلام) من الرواية لم نقف عليها في شي‌ء من كتب الاخبار ولا نقلها غيره فيما اعلم ، وقد اعترضه بذلك ايضا بعض أفاضل المحققين من متأخري المتأخرين فقال : واما الرواية فلم نجدها في موضع مسندة حتى ننظر في صحتها وضعفها.

وبالجملة فإن قول الشيخ بالنظر الى ما ذكرنا من عدم شمول الأخبار المتقدمة لمثل هذه الأفراد النادرة لا يخلو من قوة ، والاحتياط لا يخفى.

(المسألة الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان كل ما ينجس بالموت مما له نفس سائلة فما قطع من جسده حيا كان أو ميتا فهو نجس قال في المدارك انه مقطوع به في كلام الأصحاب. وقال في المعالم لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب. قال في المدارك : «واحتج عليه في المنتهى بأن المقتضي لنجاسة الجملة الموت وهذا المقتضى موجود في الاجزاء فيتعلق بها الحكم. وضعفه ظاهر إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت وهو لا يصدق على الاجزاء قطعا. نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحابا لحكمها حال الاتصال. ولا يخفى ما فيه» انتهى.

أقول : الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة عدة روايات فيها الصحيح وغيره. ومنها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابان عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ما أخذت الحبالة فقطعت منه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب الصيد.

٧٢

فهو ميتة وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه». ورواه الشيخ في التهذيب والكليني في الكافي لكن بطريق غير صحيح. ومنها ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن قيس عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه فإنه ميت وكلوا ما أدركتم حيا وذكرتم اسم الله عليه». ومنها ـ ما رواه ايضا عن الوشاء عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه». وليس في التهذيب «ثم كل منه» ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «ما أخذت الحبالة فانقطع منه شي‌ء أو مات فهو ميتة». ومنها ـ ما رواه عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) قال : «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما أدركت من سائر جسده فذكه ثم كل منه». ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن أيوب بن نوح رفعه الى الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة». ومنها ـ ما رواه في الكافي عن الحسن ابن علي الوشاء (٦) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) فقلت جعلت فداك ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال حرام وهي ميتة. فقلت جعلت فداك فنصطبح بها؟ فقال اما علمت انه يصيب اليد والثوب وهو حرام». وعن الكاهلي (٧) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده عن قطع أليات الغنم فقال لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال ان في كتاب علي (عليه‌السلام) ان ما قطع منها ميت لا ينتفع به». وعن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٨) قال :

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب الصيد.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ١ من غسل المس و ٦٢ من أبواب النجاسات.

(٦ و ٧ و ٨) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الذبائح.

٧٣

«في أليات الضأن تقطع وهي أحياء؟ إنها ميتة».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما ذكره في المدارك من اعتراضه على كلام المنتهى بان ضعفه ظاهر منظور فيه من وجوه :

(الأول) ـ انه لا يخفى ان ما نقلناه من الأخبار المذكورة صريحة الدلالة واضحة المقالة في نجاسة الاجزاء المقطوعة من الحي وانها ميتة فقوله : «إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت» ليس في محله بل كما يستفاد منها نجاسة جسد الميت بالموت كذلك يستفاد منها نجاسة ما تحله الحياة بالإبانة منه حيا. وبذلك يظهر ما في كلام صاحب المعالم ايضا حيث انه أورد في المقام روايات الاليات الثلاث خاصة وقال : في الأولى اشعار بالنجاسة لكن في طريقها ضعف ، وقال في الأخيرتين انه لو تم سنداهما لاحتاجا في الدلالة على النجاسة إلى وجود دليل عام في نجاسة الميتة ليكون إثبات كون المنقطع ميتة مقتضيا لدخوله في عموم الدليل على نجاسة الميتة ، وقد علم ان العمدة في التعميم الإجماع المدعى في كلام الأصحاب ، وحينئذ فالتمسك به موقوف على كونه متناولا لهذا المنقطع ومعه لا حاجة الى توسيط الاحتجاج بما دل على انه ميتة ، وعلى كل حال فالحكم هنا ليس بموضع خلاف. انتهى فان فيه ان الروايات الدالة على ما ذكرنا هنا ليست منحصرة في الثلاث التي ذكرها بل فيها الصحيح باصطلاحه والحسن الذي لا يقصر عن الصحيح عندهم ولكنه معذور حيث لم يقف على ذلك ، واما المستند في أصل نجاسة الميتة فهو الأخبار التي قدمناها لا الإجماع الذي زعمه حسبما تقدم إيضاحه ، ولكنهم حيث لم يعطوا النظر حقه في التتبع لأدلة المسألة واخبارها خصوصا مع تفرقها في أبواب شتى ووقعوا فيما وقعوا فيه من هذه المناقشات كما لا يخفى.

(الثاني) ـ ان تنظره في القطعة المبانة من الميت ـ وقوله : لا يخفى ما فيه ـ مردود بأن النجاسة إذا تعلقت بجملة تعلقت باجزائها وليس تعلقها بالمجموع من حيث كونه مجموعا وكيف لا وهو (قدس‌سره) قد استدل على نجاسة ما لا تحله الحياة من الكلب والخنزير

٧٤

بأنه داخل في مسماه ولا شك ان الكلب والخنزير اسم للجملة.

(الثالث) ـ لا يخفى ان المستفاد من الاخبار ان الطهارة والنجاسة دائرة مدار حلول الحياة وعدمه ولهذا كما وردت الأخبار المتقدمة بنجاسة القطعة المبانة من الحي وانها ميتة قد وردت الأخبار ايضا باستثناء تلك العشرة التي لا تحلها الحياة وحكم بطهارتها من الميتة من حيث انها لا تحلها الحياة ، وقد صرح بذلك في صحيحة الحلبي الآتية ان شاء الله تعالى (١) فقال : «ان الصوف ليس فيه روح». وقد أومأ هو (قدس‌سره) في تلك المسألة الى ما ذكرناه حيث قال بعد ذكره هذا الكلام من الصحيحة المذكورة : «ومقتضى التعليل طهارة كل ما لا روح فيه» وبما أوضحناه يظهر لك قوة ما ذكره العلامة وضعف ما أورده عليه.

تذنيب

قال العلامة في المنتهى : الأقرب طهارة ما ينفصل من بدن الإنسان من الاجزاء الصغيرة مثل البثور والثالول وغيرهما لعدم إمكان التحرز عنها فكان عفوا دفعا للمشقة. واعترضه في المعالم فقال : «ويظهر من تمسكه بعدم إمكان التحرز انه يرى تناول دليل نجاسة المبان من الحي لها وان المقتضى لاستثنائها من الحكم بالتنجيس والقول بطهارتها هو لزوم الحرج والمشقة من التكليف بالتحرز عنها ، وهذا عجيب فان الدليل على نجاسة المبان من الحي كما علمت اما الإجماع أو الاخبار التي ذكرناها أو الاعتباران اللذان حكيناهما عن بعض الأصحاب اعني مساواة الجزء للكل ووجود معنى الموت فيه والإجماع لو كان متناولا لما نحن فيه لم يعقل الاستثناء منه ، والأخبار على تقدير صحتها ودلالتها وعمومها انما تقتضي نجاسة ما انفصل في حال وجود الحياة فيه لا ما زالت عنه الحياة قبل الانفصال كما في موضع البحث ، والنظر الى ذينك الاعتبارين يقتضي ثبوت

__________________

(١) ص ٧٧.

٧٥

التنجيس وان لم تنفصل تلك الاجزاء لتحقق معنى الموت فيها قبله ولا ريب في بطلانه. والتحقيق انه ليس لما يعتمد عليه من أدلة نجاسة الميتة وأبعاضها وما في معناها من الاجزاء المبانة من الحي دلالة على نجاسة نحو هذه الأجزاء التي يزول عنها اثر الحياة في حال اتصالها بالبدن فهي على أصل الطهارة ، وإذا كان للتمسك بالأصل مجال فلا حاجة الى تكلف دعوى لزوم الحرج» انتهى كلامه (قدس‌سره) وهو جيد رشيق.

واستدل في المدارك على الطهارة أيضا مضافا الى أصالة الطهارة السالمة من المعارض بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له ان يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال ان لم يتخوف ان يسيل الدم فلا بأس وان تخوف ان يسيل الدم فلا يفعل». قال : وترك الاستفصال عقيب السؤال يفيد العموم. وأورد على ذلك ان الظاهر من صحيحة علي بن جعفر ان السؤال فيها ليس عن طهارة ما يقطع من الثالول أو نجاسته بل عن كون هذا الفعل في الصلاة من المنافيات لها أم لا فإنه سأله أيضا قبل هذا السؤال فقال : «وسألته عن الرجل يتحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة هل يصلح له ان ينزعه ويطرحه؟ قال ان كان لا يجد دما فلينزعه وليرم به وان كان دمي فلينصرف». ثم قال : «وسألته عن الرجل يكون به الثالول. إلخ» وحينئذ فالغرض من السؤال انما هو استعلام كون هذا الفعل في الصلاة مما ينافيها أم لا؟ فأجاب (عليه‌السلام) بأنه لا ينافيها لانه ليس بفعل كثير تنمحي به الصلاة ، نعم ان استلزم خروج الدم كالضرس في السؤال الأول أبطل من حيث الدم. انتهى.

والجواب ان الأمر وان كان كما ذكره من ان السؤال انما هو عن كون الفعل المذكور قاطعا للصلاة أم لا إلا ان ظاهر إطلاق نفي البأس عن مس هذه الاجزاء في الصلاة ونتفها أعم من كون المس برطوبة أو يبوسة مما يشهد بالطهارة ، إذ المقام مقام

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٧ من قواطع الصلاة.

٧٦

تفصيل كما يدل عليه اشتراط نفي البأس بانتفاء تخوف سيلان الدم ، فلو كان مس تلك الاجزاء مقتضيا للتنجيس ولو على بعض الوجوه لم يحسن هذا الإطلاق بل كان اللائق البيان كما وقع في خوف السيلان ، وحينئذ فظاهر الإطلاق الطهارة في الحالين وبه يتم الاستدلال وبالجملة فالظاهر انه لا خلاف في القول بالطهارة وان اختلفوا في الدليل على ذلك ، والتمسك بأصالة الطهارة ـ سيما مع الاعتضاد بظاهر الصحيحة المذكورة بالتقريب المذكور ـ أقوى متمسك في المقام ، والاحتياط لا يخفى. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ اتفق الأصحاب من غير خلاف يعرف على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة ، وهي عشرة : العظم والظفر والظلف والقرن والحافر والشعر والوبر والصوف والريش والبيض إذا اكتسى القشر الأعلى ، كذا نقله في المدارك بعد ان ذكر انه حصر ذلك في عشرة أشياء ثم عد العشرة المذكورة ، وفي المعالم وكذا في المنتهى ذكر العشرة ولكن ذكر الانفحة مكان الظفر ، وفي المدارك بعد ان عد العشرة المذكورة ونقل بعض أخبار المسألة قال ويستفاد من صحيحة زرارة استثناء الإنفحة أيضا ، وهو مقطوع به في كلام الأصحاب ، وظاهر المنتهى انه مجمع عليه بين الأصحاب. وفيه انه كان الواجب بمقتضى هذا الكلام جعل الانفحة من جملة الأفراد التي عدها أولا وان زادت على العشرة مع انه ادعى في صدر كلامه الحصر في العشرة التي ذكرها وهل هذا إلا تدافع ظاهر؟ وكيف كان فالواجب ذكر أخبار المسألة كملا مما وصل إلينا نقله ثم تذييلها بما تضمنته من الأحكام المتعلقة بذلك :

فأقول : من الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة ، ان الصوف ليس فيه روح». وفي هذا الخبر ما يدل على طهارة ما لا روح فيه مطلقا إذ الظاهر ان قوله (عليه‌السلام) : «ان الصوف ليس فيه روح» وقع تعليلا لنفي البأس عن الصلاة فيه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦٨ من أبواب النجاسات.

٧٧

وما رواه الشيخ ومثله الصدوق في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت؟ قال لا بأس به. قلت اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال لا بأس به. قلت والصوف والشعر وعظام الفيل والجلد والبيضة تخرج من الدجاجة؟ قال كل هذا لا بأس به». والجلد في الخبر ليس في الفقيه وهو الأصح ، والظاهر انه من سهو قلم الشيخ (قدس‌سره) كما لا يخفى.

وما رواه الشيخ في الحسن عن حريز (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم : اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شي‌ء ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي ، وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه».

وعن إسماعيل بن مرار عن يونس عنهم (عليهم‌السلام) (٣) قال : «خمسة أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر ، ولا بأس بأكل الجبن كله مما عمله مسلم أو غيره وانما يكره ان يؤكل سوى الانفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر».

وعن الحسين بن زرارة في الموثق أو الحسن (٤) قال : «كنت عند ابي عبد الله (عليه‌السلام) وابي يسأله عن السن من الميتة واللبن من الميتة (٥) والبيضة من الميتة وإنفحة الميتة؟ فقال كل هذا ذكي». قال في الكافي : وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط قال : «والشعر والصوف كله ذكي». وقال في الكافي أيضا : وفي رواية صفوان عن الحسين بن زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) قال : «الشعر والصوف والوبر والريش وكل نابت لا يكون ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال تأكلها».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من الأطعمة المحرمة.

(٥) جاء في رواية الكال (اللبن) وفي رواية التهذيب (السن) وجمع بينهما في الوافي.

٧٨

وما رواه في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن الباقر (عليه‌السلام) (١) في حديث طويل قال فيه : «قال قتادة فأخبرني عن الجبن فتبسم أبو جعفر (عليه‌السلام) ثم قال رجعت مسائلك الى هذا؟ قال ضلت عني. فقال لا بأس به. فقال انه ربما جعلت فيه إنفحة الميت؟ قال ليس بها بأس ان الإنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم انما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال وان الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة خرجت منها بيضة فهل تأكل البيضة؟ قال لا ولا آمر بأكلها. فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) ولم؟ قال لأنها من الميتة. قال له فان حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال نعم. قال فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة؟ ثم قال (عليه‌السلام) فكذلك الانفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه الا ان يأتيك من يخبرك عنه».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) قال قال الصادق (عليه‌السلام): «عشرة أشياء من الميتة ذكية : القرن والحافر والعظم والسن والانفحة واللبن والشعر والصوف والريش والبيض».

ورواه في الخصال مسندا عن محمد بن ابي عمير رفعه الى الصادق (عليه‌السلام) مثله (٣) مع مخالفة في الترتيب. وما رواه الشيخ عن غياث بن إبراهيم عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) «في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة؟ قال ان كانت البيضة اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها».

وما رواه في الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٥) قال «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب وكل ما كان من السخال من الصوف ان جز والشعر والوبر والانفحة والقرن ولا يتعدى الى غيرها ان شاء الله تعالى». قال بعض المحدثين من المحققين «هكذا وجد هذا الحديث في نسخ الكافي والتهذيبين وكأنه سقط منه شي‌ء» انتهى. وهو كذلك

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من الأطعمة المحرمة.

٧٩

وما رواه في التهذيب في باب الذبائح والأطعمة في الحسن عن صفوان عن الحسين بن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فاشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم ، وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلى فيه. قال الحسين : وسأله ابي عن الانفحة تكون في بطن العناق أو الجدي وهو ميت؟ فقال لا بأس به. قال الحسين : وسأله ابي وانا حاضر عن الرجل يسقط سنه فيأخذ سن انسان ميت فيجعله مكانه؟ فقال لا بأس. وقال عظام الفيل تجعل شطرنجا؟ فقال لا بأس بمسها. وقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) العظم والشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال لا بأس بأكلها». أقول عجز هذه الرواية هو الذي تقدم نقل صاحب الكافي له بقوله : وفي رواية صفوان عن الحسين بن زرارة. إلخ

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام هنا يقع في مواضع (الأول) ـ انه لا يخفى على من لاحظ الأخبار التي قدمناها في نجاسة الميتة دلالتها على الحكم المذكور الشامل لجميع أجزاء الميتة من هذه العشرة وغيرها ، وان هذه العشرة إنما استثنيت وخرجت عن الحكم المذكور بهذه الأخبار المذكورة هنا الصريحة في طهارتها المعبر عنها في جملة من هذه بأنها ذكية اي طاهرة وفي بعض بأنها لا تحلها الروح كما أشير إليه في صحيحة الحلبي وفي حديث أبي حمزة الثمالي من قوله (عليه‌السلام) في الانفحة «انها ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم» فان الظاهر من سياق هذا الكلام الاستدلال على نفي البأس عن الإنفحة انما هو من حيث ما ذكرناه الموجب لطهارتها ، والوجه فيه ان العرق مما تحله الحياة واما الدم فهو مادة الحياة ولذا يطلق عليه النفس كما صرح به أهل اللغة ووقع التعبير به في كلام الفقهاء من قولهم ذي النفس السائلة أي الدم الجاري من العرق بعد قطعه بقوة ودفع ، واما العظم فإنه وان لم تحله الحياة في حد ذاته لكنه مستلزم لكون ما وقع فيه مما

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ و ٣٣ من الأطعمة المحرمة.

٨٠