الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر أيصلح ان يكون فيه ماء؟ قال إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. الحديث». وقد تقدم تمامه قريبا.

وموثقته الأخرى المتقدمة أيضا في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ وانه يغسله سبع مرات.

وما رواه في الكافي عن حفص الأعور (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني آخذ الزكاة فيقال انه إذا جعل فيها الخمر وغسلت ثم جعل فيها البختج كان أطيب لها فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبه ونجعل فيها البختج؟ قال لا بأس به». قال في الوافي : الزكاة بضم المعجمة زق الشراب. أقول الذي في كلام أهل اللغة بالراء المهملة زق يتخذ للخمر والخل وفي القاموس زق صغير. هذا ما وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد استدل للقول المشهور بأمرين : (أحدهما) ان الواجب إزالة النجاسة المعلومة والاستظهار بالغسل وتحصيل هذا القدر ممكن وما لا يعلم من النجاسة لا يجب تتبعه واللازم من ذلك حصول الطهارة حينئذ ، وبأنه بعد ازالة عين النجاسة يرتفع المانع من الاستعمال فيكون سائغا ، اما المقدمة الأولى فظاهرة لأن البحث على تقدير ارتفاع العين عن المحل وكون المقتضى للمنع ليس إلا تلك العين. واما الثانية فلان المنع لو بقي بعد ارتفاع سببه لزم بقاء المعلول بعد العلة وذلك يخرجها عن العلية. و (ثانيهما) رواية عمار المتقدمة والتقريب فيها انها دالة بإطلاقها على قبول أواني الخمر التطهير مغضورة أو غيره مغضورة صلبة أو غير صلبة ونحوها روايته الثانية ولو كان غير المغضور لا يطهر لوجب الاستفصال في الجواب.

واحتج للقول الآخر بوجهين (أحدهما) صحيحة محمد بن مسلم ورواية أبي الربيع الشامي المتقدمتان. و (الثاني) ان للخمر حدة ونفوذا في الأجسام الملاقية له فإذا لم تكن

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من الأشربة المحرمة.

٥٠١

الآنية مغضورة دخلت اجزاء الخمر في باطنها فلا ينالها الماء.

وأجيب عن الأول بأن النهي للكراهة. وأجاب في المدارك عن ذلك بان النهي عن ذلك لا يتعين كونه للنجاسة إذ من الجائز ان يكون لاحتمال بقاء شي‌ء من اجزاء الخمر في ذلك الإناء فيتصل بما يحصل فيه المأكول والمشروب انتهى. وعن الثاني بأن نفوذ الماء أشد من نفوذ غيره فان ما يشرب الخمر يشرب الماء فيصل الماء الى ما يصل اليه الخمر. وأجاب في المدارك عن ذلك بأنه مع تسليم ما ذكر فإنه لا ينافي طهارة الظاهر وجواز استعماله الى ان يعلم ترشح اجزاء من الخمر المستكن في الباطن إليه.

أقول : لا يخفى على المتأمل في هاتين الروايتين ان النهي عن استعمال هذه الظروف المعدودة في الانتباذ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها فيصير مسكرا ويشير الى ذلك ما تقدم في كلام صاحب النهاية ، ولو كان النهي عنها انما هو من حيث نفوذ الخمر فيها وعدم قبولها للتطهير كما فهمه المستدل والمجيب لم يكن لذكر المزفت وهو المطلي بالزفت الذي هو القير معنى لانه لا نفوذ فيه وكذلك الحنتم وهي الجرار الخضر المغضورة ، ويشير الى ما ذكرنا قوله في رواية جراح المدائني «انه منع نبيذ الدباء» يعني ما ينبذ فيه ، وبالجملة فالظاهر من الأخبار المذكورة انما هو النهى عن النبيذ فيها خوفا من التغيير والانقلاب الى المحرم لا عن الاستعمال بقول مطلق كما ظنوه وحينئذ فلا تكون الأخبار المذكورة من محل البحث في شي‌ء ويبقى إطلاق الاخبار الأولة سالما عن المعارض. واما الوجه الاعتباري الذي أضافوه الى هاتين الروايتين فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بعد بطلان دلالة الخبرين المذكورين مع ما عرفت من الجواب عنه بالوجهين المتقدمين ، وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور.

بقي الكلام هنا في شي‌ء آخر وهو ان ظاهر صحيحة محمد بن مسلم لا يخلو من حزازة حيث انه في آخر الخبر نفى البأس عن الجرار الخضر مع انه في صدر الخبر قال بعد ذكر ما نهى (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عنه «وزدتم أنتم الحنتم» وقد عرفت ان المراد

٥٠٢

به الجرار الخضر المدهونة. ويمكن الجمع بحمل الجرار الخضر التي نفى البأس عنها على ما لا تكون مدهونة ويمكن ايضا الفرق باعتبار المعنى الثاني للنهي من حيث العمل من الطين المعجون بالدم والشعر بان يحمل نفي البأس أخيرا من حيث عدم العمل من ذلك الطين واما الجمع ـ بأن النهي عن الحنتم في صدر الخبر لم يسنده له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانما قال : «وزدتم أنتم» فلا ينافيه نفي البأس في آخر الخبر ـ فيضعف بحصول النهي عنه في حديث ابي الربيع الشامي كما عرفت. والله العالم.

(الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان أواني المشركين طاهرة حتى تعلم النجاسة ، قال في المعتبر : أواني المشركين طاهرة ما لم يعلم نجاستها بمباشرتهم لها أو ملاقاة نجاسة ، والضابط أن الآنية في الأصل على الطهارة فلا يحكم بالنجاسة إلا مع اليقين بورود النجس وحينئذ اما ان يكون ذلك معلوم الحصول فتكون نجسة أو معلوم الانتفاء فتكون طاهرة أو مشكوكا فيه فيكون استعمالها مكروها ، ويستوي في ذلك المجوسي ومن ليس من أهل الكتاب ، وفي الذمي روايتان أشهرهما النجاسة نجاسة عينية ونجاسة ما يلاقيه بالمائع ، ثم نقل خلاف العامة واختلاف أقوالهم. أقول : وبذلك صرح الشيخ في المبسوط وغيره إلا انه قال في الخلاف لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم ، وقال الشافعي لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة وبه قال أبو حنيفة ومالك ، وقال احمد ابن حنبل وإسحاق لا يجوز استعمالها (١) ثم استدل على المنع بقوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (٢) وبإجماع الفرقة ورواية محمد بن مسلم (٣) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر». ولم أقف في كتب أصحابنا على من نقل

__________________

(١) كما في الأم ج ١ ص ٧ والمغني ج ١ ص ٨٢ وبدائع الصنائع ج ١ ص ٦٣.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٢٨.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ١٤ من النجاسات.

٥٠٣

خلافه في هذه المسألة مع ان كلامه صريح في ذلك ، وأغرب منه دعواه الإجماع عليه مع انه لم يقل بذلك غيره فيما اعلم ، واستند الأصحاب هنا الى التمسك بأصالة الطهارة حتى يعلم وجود الرافع وهو قوى منصوص في غير خبر كما تقدم في مقدمات الكتاب. وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة زيادة على ما أشرنا إليه في المقدمات في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من مسائل المقصد الثاني في الأحكام من هذا الباب. ثم ان غاية ما تدل عليه الآية التي ذكرها مع الإغماض عن المناقشات التي أوردت عليها هو نجاسة المشركين وهو مما لا نزاع فيه هنا ومن القواعد المقررة المتفق عليها ان عين النجاسة لا يحكم بتعدي نجاستها إلا مع العلم واليقين بذلك. واما الخبر فهو محمول على الاستحباب كما حققناه في المسألة المشار إليها.

(المطلب الثاني) ـ في ما يجوز استعماله من الأواني والآلات وما لا يجوز ، لا خلاف بين الأصحاب في تحريم الأكل والشرب وكذا سائر الاستعمالات كالتطيب وغيره في أواني الذهب والفضة ، وادعى عليه العلامة في التذكرة وغيره الإجماع ، ونقل عن الشيخ في الخلاف انه قال يكره استعمال الذهب والفضة. وصرح جملة ممن تأخر عنه بحمل العبارة المذكورة على التحريم ، وهو جيد.

والاخبار بذلك مستفيضة من طرق الخاصة والعامة ، فروى الجمهور عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) انه قال : «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وعن علي (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «الذي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب الأكل في إناء مفضض الا ان فيه «ولنا في الآخرة» بدل «ولكم في الآخرة» ورواه أبو داود في السنن ج ٣ ص ٣٣٧ هكذا : «ان رسول الله (ص) نهى عن الحرير والديباج وعن الشرب في آنية الذهب والفضة وقال هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة».

(٢) رواه ابن ماجة في السنن ج ٢ ص ٣٣٥ عن النبي (ص) ولم نجد روايته عن علي (ع).

٥٠٤

يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».

ومن طريق الأصحاب ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما فقلت قد روى بعض أصحابنا انه كان لأبي الحسن مرآة ملبسة فضة؟ فقال لا والحمد لله انما كانت لها حلقة من فضة وهي عندي ، ثم قال ان العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضته نحوا من عشرة دراهم فأمر به أبو الحسن فكسر». أقول العذر بالعين المهملة ثم الذال المعجمة بمعنى الاختتان وعذر الغلام اختتانه. وعن الحلبي في الحسن أو الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا تأكل في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة». وعن داود بن سرحان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا تأكل في آنية الذهب والفضة». وعن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) «انه نهى عن آنية الذهب والفضة». وعن موسى بن بكر عن ابي الحسن موسى (عليه‌السلام) (٥) قال : «آنية الذهب والفضة متاع (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)». ورواه في الفقيه مرسلا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٦) وفي الفقيه بطريقه الى ابان عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٧) قال : «لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة». وفي الكافي عن سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٨) قال : «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضة». وعن يونس بن يعقوب عن أخيه يوسف (٩) قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليه‌السلام) في الحجر فاستسقى ماء فاتى بقدح من صفر فقال رجل ان عباد بن كثير يكره الشرب في الصفر فقال لا بأس. وقال (عليه‌السلام) للرجل ألا سألته أذهب هو أم فضة؟». ورواه الصدوق ايضا. وفي حديث المناهي من الفقيه (١٠) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الشرب في آنية الذهب

__________________

(١ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠) رواه في الوسائل في الباب ٦٥ من النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٦٦ من النجاسات.

٥٠٥

والفضة». وفي قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهاهم عن سبع : منها ـ الشرب في آنية الذهب والفضة». وروى في الكافي عن بريد في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «انه كره الشرب في الفضة وفي القدح المفضض وكذلك ان يدهن في مدهن مفضض والمشطة كذلك». ورواه الصدوق بإسناده عن ثعلبة عن بريد مثله (٣) وزاد «فان لم يجد بدا من الشرب في القدح المفضض عدل بفمه عن موضع الفضة». وهذه الزيادة محتملة لأن تكون من كلامه أو من أصل الخبر. وروى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب (٤) قال «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الشرب في القدح فيه ضبة من فضة؟ قال لا بأس إلا ان تكره الفضة فتنزعها». وعن عبد الله بن سنان في الحسن بالوشاء عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «لا بأس ان يشرب الرجل في القدح المفضض واعزل فمك عن موضع الفضة». وهذه الرواية وصفها في المدارك بالصحة وهو كما ترى. وروى في المحاسن بسنده عن عمرو بن ابي المقدام (٦) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) قد اتى بقدح من ماء فيه ضبة من فضة فرأيته ينزعها بأسنانه». ورواه الكليني عن جعفر بن بشير عن عمرو بن ابي المقدام. وروى في الكافي عن الفضيل بن يسار عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن السرير فيه الذهب أيصلح إمساكه في البيت؟ فقال ان كان ذهبا فلا وان كان ماء الذهب فلا بأس». وفي الصحيح عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه‌السلام) (٨) قال : «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض فقال نعم إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد». وعن صفوان بن يحيى (٩) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦٥ من النجاسات.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٦٦ من النجاسات.

(٧ و ٨ و ٩) رواه في الوسائل في الباب ٦٧ من النجاسات.

٥٠٦

وآله) قال نزل به جبرئيل من السماء وكانت حلقته فضة». وروى نحوه في عيون الأخبار (١) إلا ان فيه عوض «حلقته» «وكانت حليته من فضة» وعن يحيى بن ابي العلاء (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول درع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها وحلقتان من ورق في مؤخرها وقد لبسها علي (عليه‌السلام) يوم الجمل». وروى الصدوق في الصحيح عن محمد بن قيس عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان اسم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى ان قال وكان له درع تسمى ذات الفضول لها ثلاث حلقات فضة حلقة بين يديها وحلقتان خلفها. الحديث». وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضة؟ قال نعم انما يكره استعمال ما يشرب به. قال وسألته عن السرج واللجام فيه الفضة أيركب به؟ قال ان كان مموها لا يقدر على نزعه منه فلا بأس وإلا فلا يركب به». ورواه على بن جعفر في كتابه (٥) ورواه الكليني في أحكام الدواب (٦) وروى ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من جامع البزنطي (٧) قال : «سألته عن السرج واللجام.». وذكر مثل ما تقدم.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار المناسبة للمقام الداخلة في سلك هذا النظام ، وتحقيق البحث فيها يقع في مواضع :

(الأول) ـ المفهوم من كلام جملة من الأصحاب ان النهي عن الأكل في أواني الذهب والفضة انما ينصرف إلى الأخذ والتناول منها فيأثم بذلك دون ما فيها فلا يتعلق به نهي ولا تحريم متى كان مباحا قال في المبسوط : ومن أكل أو شرب في آنية ذهب أو فضة فإنه يكون قد فعل محرما ، ولا يكون قد أكل محرما إذا كان المأكول مباحا

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٧) رواه في الوسائل في الباب ٦٧ من النجاسات.

(٥) البحار ج ٥ ص ١٥٤.

(٦) ج ٢ ص ٢٣٠.

٥٠٧

لأن النهي عن الأكل فيه لا يتعدى الى المأكول. وعلى هذا النحو كلام من تأخر عنه ، ونقل في المدارك عن المفيد (قدس‌سره) تحريم المأكول والمشروب ، قال ولو استدل بقول علي (عليه‌السلام) (١) «انما يجرجر في بطنه نار جهنم» أجيب عنه بأن الحقيقة غير مرادة والمتبادر من المعنى المجازي كون ذلك سببا في دخول النار بطنه وهو لا يستلزم تحريم نفس المأكول والمشروب. انتهى.

أقول : يمكن توجيه كلام المفيد (قدس‌سره) بان يقال ان النهي أولا وبالذات وان كان عن تناول المأكول والمشروب لكن يرجع ثانيا وبالعرض إلى المأكول بأن يقال ان هذا المأكول يكون حراما متى أكل على هذه الكيفية ، وظاهر النصوص يساعده لأنها تضمنت النهي عن الأكل حال كونه في هذه الأواني والأكل حقيقة عبارة عن المضغ في الفم والازدراد في الحلق وحمل الأخبار على مجرد التناول مجاز فهذا الطعام أو الشراب الذي في الآنية وان كان حلالا في حد ذاته يجوز أكله بأي نحو كان إلا انه بوضعه في هذه الآنية واكله فيها عرض له التحريم ، ونظيره تحريم أخذ الحق الشرعي بحكم حاكم الجور وانه سحت كما دلت عليه الأخبار مع جواز التوصل إلى أخذه مقاصة فضلا عن التوصل بحكم حاكم العدل. وبالجملة فإنه إذا قال الشارع لا تأكل في آنية الذهب مثلا والأكل انما هو عبارة عن المعنى الذي قدمناه والنهي حقيقة في التحريم فإنه لا وجه للتحريم إلا من حيث عدم صلاحية المأكول للأكل من هذه الجهة فيرجع التحريم إلى المأكول بالأخرة لا من حيث ذاته بل من هذه الحيثية المخصوصة. والله العالم

(الثاني) ـ قد صرح المحقق في المعتبر وقبله الشيخ في المبسوط بأنه لو تطهر من آنية الذهب والفضة لم يبطل وضوؤه ولا غسله. والشيخ ذكر الحكم ولم يعلله بشي‌ء والمحقق نقل في المعتبر عن بعض الحنابلة المنع (٢) معللا له بأنه استعمله في العبادة فيحرم

__________________

(١) راجع التعليقة ٢ ص ٥٠٤.

(٢) حكاه في المغني ج ١ ص ٧٦ عن ابى بكر وهو من شيوخ الحنابلة.

٥٠٨

كالصلاة في الدار المغصوبة. ثم قال (قدس‌سره) في الاستدلال لما اختاره : لنا ـ ان انتزاع الماء ليس جزء من الطهارة بل لا يحصل الشروع فيها إلا بعده فلا يكون له أثر في بطلان الطهارة ، وقوله هو استعمال في العبادة قلنا اما انتزاع الماء فهو استعمال لكنه ليس جزء من الطهارة. ونحو ذلك ذكر العلامة في المنتهى إلا انه استوجه بعد ذلك البطلان فقال بعد موافقة المعتبر فيما ذكره في المقام : ولو قيل ان الطهارة لا تتم إلا بانتزاع الماء المنهي عنه فيستحيل الأمر بها لاشتمالها على المفسدة كان وجها وقد سلف نظيره. انتهى.

أقول لا ريب ان النهى في الاخبار المتقدمة ما بين مقيد بالأكل والشرب وما بين مطلق ومقتضى قواعدهم في مثل ذلك حمل المطلق على المقيد ، وحينئذ فلا دليل على حكم الوضوء من آنية الذهب والفضة وان الوضوء هل يكون صحيحا أو باطلا؟ وقضية الأصل الصحة إلا ان ظاهر الأصحاب هو حمل النهي المطلق على النهي عن الاستعمال مطلقا ، وقد نقل في المنتهى الإجماع على تحريم الاستعمال مطلقا. وحينئذ فالنهي عن الاستعمال في الوضوء لا يستلزم بطلان الوضوء كما ذكروه بل غايته حصول الإثم بالاستعمال خاصة وهذا بخلاف النهى عن الأكل والشرب كما حققناه آنفا نعم لو كان ورود النهي عن الوضوء من آنية الذهب لتوجه القول بالبطلان لورود النهي على الوضوء وتوجه النهي إليه موجب لبطلانه بمقتضى القاعدة المقررة من ان توجه النهي إلى العبادات موجب لبطلانها إلا ان الاخبار خالية من ذلك وغاية ما يفهم من مطلقاتها النهي عن الاستعمال ان لم يرتكب فيها التقييد كما قدمنا ذكره ، نعم يأتي ما ذكره العلامة من لزوم اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد ، وقد تقدم نبذة من القول في ذلك ويأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة.

(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب تحريم اتخاذ الأواني المذكورة وان كان للقنية والادخار صرح بذلك المحقق في المعتبر ونقله عن الشيخ (قدس‌سره) ولم ينقل فيه خلافا إلا

٥٠٩

عن الشافعي حيث جوزه (١) واستدل في المعتبر على ذلك بان فيه تعطيلا للمال فيكون سرفا لعدم الانتفاع ، وبرواية محمد بن مسلم المتقدمة (٢) المتضمنة للنهي عن آنية الذهب والفضة ، قال : وهو على إطلاقه. بمعنى ان النهي أعم من الاتخاذ والاستعمال فتكون الرواية دالة بإطلاقها على محل البحث ، ثم أورد رواية موسى بن بكر. أقول : ويدل على ذلك أيضا إطلاق صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنها وان تضمنت الكراهة إلا ان الكراهة هنا بمعنى التحريم اتفاقا كما هو شائع في الاخبار وتحريمها على الإطلاق شامل للقنية والاتخاذ وغيرهما ، ونقل في المدارك عن العلامة في المختلف انه استقرب الجواز استضعافا لأدلة المنع واستحسنه وجعل المنع اولى. والظاهر ضعفه لما عرفت.

(الرابع) ـ قد عرفت اتفاق كلمة الأصحاب على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة وانما الخلاف في المفضضة والمذهبة فعن الخلاف ان حكمها حكم أواني الفضة والذهب ، وذهب في المبسوط الى الجواز لكن أوجب عزل الفم عن موضع الفضة وهو اختيار عامة المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم.

واستدل الشيخ (قدس‌سره) على ما نقل عنه بحسنة الحلبي أو صحيحته المتقدمة المتضمنة للنهي عن الأكل في آنية فضة أو مفضضة. أقول : ويدل عليه أيضا موثقة بريد المتقدم نقلها عن الكافي والفقيه فإنه ساوى فيها بين الفضة والمفضض ، والرواية وان وردت بلفظ الكراهة لكن قد عرفت ان المراد بها هنا هو التحريم اتفاقا ، ونقل الشهيد في الذكرى على اثر هذه الرواية عنه (عليه‌السلام) قال : وقوله «في التور يكون فيه تماثيل أو فضة لا يتوضأ منه ولا فيه» قال والنهي للتحريم. وهذه الرواية لم أقف عليها فيما حضرني الآن من كتب الأخبار.

واستدل على القول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة ، وظاهر المتأخرين القائلين بالجواز حمل الأخبار الأولة على الكراهة جمعا بينها وبين الحسنة المذكورة حتى

__________________

(١) كما في المغني ج ١ ص ٧٧.

(٢) ص ٥٥.

٥١٠

ان صاحب المعتبر استدل على ذلك بموثقة بريد المذكورة حيث تضمنت لفظ الكراهة مع ان القدح المفضض فيها انما عطف على الفضة ولا خلاف عندهم في التحريم فيها ، إلا ان يقول بجواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ان قلنا انه حقيقة في أحدهما أو معنييه ان قلنا بالاشتراك وهم لا يقولون به كما صرحوا به في أصولهم ، ولهذا ان شيخنا الشهيد في الذكرى نظم هذه الرواية في أدلة الشيخ كما أشرنا إليه آنفا وقال في تقريب الاستدلال بها : والعطف على الشرب في الفضة مشعر بإرادة التحريم. إلا انه (قدس‌سره) اختار الجمع بين الأخبار بالكراهة كما أشرنا اليه وقال في التفصي عن هذه الرواية : واستعمال اللفظة فيها في التحريم مجاز يصار إليه بقرينة. ولا يخفى ما فيه فإنه خروج عن قواعدهم المقررة في أصولهم وأي قرينة هنا تدل على الجواز في المفضض؟ ومجرد وجود الخبر النافي ليس من قرائن المجاز.

وقال العلامة في المنتهى بعد اختيار الجواز : احتج الشيخ على القول الثاني برواية الحلبي (١) قال : «لا تأكلوا في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة». والعطف يقتضي التساوي في الحكم وقد ثبت التحريم في آنية الفضة فيثبت في المعطوف ، وبرواية بريد عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «انه كره الشرب في الفضة وفي القداح المفضضة». والمراد بالكراهة في الأول التحريم فيكون في الثاني كذلك تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولانه لولا ذلك للزم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو اللفظ الواحد في معنى الحقيقة والمجاز وذلك باطل ، ثم قال والجواب عن الحديث الأول ان المعطوف والمعطوف عليه قد اشتركا في مطلق النهي وذلك يكفي في المساواة ويجوز الافتراق بعد ذلك بكون أحدهما نهى تحريم والآخر نهى كراهة ، وكذا الجواب عن الرواية الثانية إذ استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو في الحقيقة والمجاز غير لازم إذ

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٦٦ من النجاسات.

٥١١

المراد بالكراهة مطلق رجحان العدم غير مقيد بالمنع من النقيض وعدمه فكان من قبيل المتواطئ. انتهى.

أقول : فيه (أولا) ـ ما عرفت مما أسلفنا ذكره في غير مقام من ان الجمع بين الاخبار بالكراهة والاستحباب مما لا دليل عليه من سنة ولا كتاب ولا عقل يصفو عن شوب الارتياب. و (ثانيا) ـ ان ما أجاب به عن الخبر الأول لا يخلو من غرابة فإنه قد صرح في كتبه الأصولية وكذا غيره من المحققين بأن النهي من حيث هو حقيقة في التحريم كما ان الأمر حقيقة في الوجوب ، ومقتضاه ان الحمل على الكراهة والاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة ، وبذلك يظهر لك ما في كلامه هنا من قوله «ان المعطوف والمعطوف عليه قد اشتركا في مطلق النهي. إلخ» فإن فيه زيادة على ما عرفت انهما متى اشتركا في مطلق النهي والنهي حقيقة في التحريم فقد ثبت التحريم في الجميع فلا معنى لهذا الافتراق ولا دليل عليه سوى مجرد التحكم ، وكذا ما أجاب به عن الرواية الثانية فإنه أغرب وأعجب فإن حمل الكراهة على مطلق رجحان العدم الشامل للتحريم والكراهة الاصطلاحية مجرد دعوى ألجأت إليها ضرورة الوقوع في شباك الإلزام وإلا فمعنى الكراهة لا يخرج عن التحريم أو الكراهة الاصطلاحية ولو قامت هذه الاحتمالات البعيدة والتمحلات الغير السديدة في دفع الأدلة وصرفها عن ظاهرها لا نسد باب الاستدلال إذ لا قول إلا وهو قابل للاحتمال.

والأظهر عندي هو القول المشهور من الجواز على كراهية والاستدلال بالأخبار المذكورة ، والتقريب فيها مبني على جواز استعمال المشترك في معنييه أو اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو وان منعوه في الأصول كما عرفت إلا ان ظواهر كثير من الاخبار وقوعه كما أشرنا إليه في غير مقام ومنه هذه الأخبار ، والاشكال في الاستدلال بها انما يتجه على من يعمل بهذه القواعد الأصولية ومنها هذه القاعدة ، وما استندوا إليه في الخروج عن الاشكال بعد التزامهم بالقاعدة المذكورة قد عرفت ما فيه. نعم هنا احتمالات أخر أيضا في الجمع بين أخبار

٥١٢

المسألة إلا ان الظاهر هو ما ذكرناه.

بقي الكلام في انه على تقدير القول بالجواز كما هو المشهور هل يجب العزل عن موضع الفضة أم لا وان استحب؟ الظاهر الأول كما اختاره الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى لحسنة عبد الله بن سنان (١) وقوله (عليه‌السلام) فيها «واعزل فمك عن موضع الفضة». واختار المحقق في المعتبر الاستحباب وتبعه في المدارك واستند في المعتبر إلى رواية معاوية بن وهب المتقدمة. قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو حسن فان ترك الاستفصال في جواب السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم. وفيه ان غاية ما يدل عليه الخبر المذكور هو جواز استعمال المفضض لا موضع الفضة وأحدهما غير الآخر ، وما استند اليه من العموم الناشئ من ترك الاستفصال مخصوص برواية عبد الله بن سنان الدالة على الأمر بعزل الفم عن موضع الفضة كما لا يخفى.

(الخامس) ـ مورد الأخبار تحريما أو كراهة الإناء المفضض وهل يكون الإناء المذهب ايضا كذلك؟ الظاهر نعم ان لم يكن اولى لاشتراكهما في أصل الحكم. وقال العلامة في المنتهى : الأحاديث وردت في المفضض وهو مشتق من الفضة ففي دخول الآنية المضببة بالذهب نظر ولم أقف للأصحاب فيه على قول ، والأقوى عندي جواز اتخاذه عملا بالأصل والنهي انما يتناول استعمال آنية الذهب والفضة ، نعم هو مكروه إذ لا ينزل عن درجة الفضة. انتهى. واختياره الجواز في المذهب جرى على اختياره الجواز في المفضض كما سلف نقله عنه. وقال الشهيد في الذكرى : هل ضبة الذهب كالفضة؟ يمكن ذلك كأصل الإناء والمنع لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) في الذهب والحرير : «هذان محرمان على ذكور أمتي». والظاهر ضعفه والحديث المذكور ان ثبت فالظاهر منه ارادة اللبس كما يشير اليه ذكر الحرير.

__________________

(١) ص ٥٠٦.

(٢) رواه ابن ماجة في السنن ج ٢ ص ٣٣٥ والنسائي في السنن ج ٢ ص ٢٨٥.

٥١٣

(السادس) ـ الظاهر دخول مثل المكحلة وظرف الغالية في الإناء وبذلك صرح الشهيد في الذكرى فقال : الأقرب تحريم المكحلة منهما وظرف الغالية وان كانت بقدر الضبة لصدق الإناء أما الميل فلا. وبنحو ذلك صرح العلامة في جملة من كتبه وتردد في المدارك للشك في إطلاق اسم الإناء حقيقة على ذلك. أقول : ومما يؤيد صدق الإناء على ما نحن فيه ما ذكره الفيومي في المصباح المنير حيث قال : الإناء والآنية الوعاء والأوعية وزنا ومعنى. وهو صريح في المراد لأنها وعاء لما يوضع فيها. واما الميل فالظاهر انه من قبيل الآلات فلا يتعلق به حكم الأواني وبه جزم الشهيد في الذكرى كما تقدم. والله العالم.

(السابع) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهم بجواز نحو الحلقة للقصعة وقبضة السيف والسلسلة واتخاذ الأنف من الذهب وربط الأسنان به. وظاهر كلامهم جواز ذلك بلا كراهة ، واستندوا في ذلك الى انه كان للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قصعة فيها حلقة من فضة ولموسى بن جعفر (عليه‌السلام) مرآة كذلك وان قبضة سيف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كانت من فضة ولدرعه حلق من فضة.

أقول : لا ريب في صحة ما ذكروه ووجود الاخبار به كما تقدم (١) إلا انه قد ورد ايضا ما ظاهره المنافاة مثل حديث الفضيل بن يسار الوارد في السرير فيه الذهب حيث منع (عليه‌السلام) عن إمساك السرير في البيت ان كان فيه ذهب وانما جوز المموه بماء الذهب ، وصحيحة علي بن جعفر الواردة في اللجام والسرج فيه الفضة حيث منع من الركوب به ان كان فضة وجوزه ان كان مموها لا يقدر على نزعه ، وصحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة المشتملة على القضيب الملبس فضة وأمر الكاظم (عليه‌السلام) بكسره وحديث بريد المشتمل على المشط ، ويؤيد ذلك

ما روى عن

__________________

(١) ص ٥٠٥ و ٥٠٦ و ٥٠٧.

٥١٤

الصادق (عليه‌السلام) (١) في القرآن المعشر بالذهب وفي آخره سورة مكتوبة بالذهب فلم يعب سوى كتابة القرآن بالذهب وقال : «لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد كما كتب أول مرة». وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في الكراهة ان تنزلنا عن التحريم وسؤال الفرق بينها وبين ما ورد في تلك الأخبار متجه ، وبالجملة فالظاهر هو الجواز في الآلات على كراهة وان تفاوتت شدة وضعفا في مواردها ، هذا في المذهب والمفضض منها واما المموه فالظاهر جوازه من غير كراهة إلا ان في صحيحة علي بن جعفر ما يشعر ايضا بكون الحكم فيه كذلك من قوله : «ان كان مموها لا يقدر على نزعه» والاحتياط لا يخفى.

(الثامن) ـ قد صرح جملة من الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز استعمال الأواني من غير هذين المعدنين من سائر الجواهر وان علا ثمنه. وهو جيد للأصل وعدم ما يوجب الخروج عنه.

(التاسع) ـ قد عرفت آنفا الخلاف في جواز الاتخاذ للقنية وعدم الاستعمال وعدمه ، ويتفرع على ذلك فروع : منها ـ عدم جواز كسر الآنية المذكورة وضمان الأرش لو كسرها على الأول دون الثاني لأنه لا حرمة لها من حيث التحريم ، ومنها ـ جواز بيعها على الأول دون الثاني إلا ان يكون المطلوب كسرها ووثق من المشتري بذلك.

(العاشر) ـ قال العلامة في المنتهى : تحريم الاستعمال مشترك بين الرجال والنساء لعموم الأدلة ، واباحة التحلي للنساء بالذهب لا يقتضي إباحة استعمالهن للآنية منه إذ الحاجة وهي التزيين ماسة في التحلي وهو مختص به فتختص به الإباحة. انتهى. وادعى في التذكرة الإجماع على الاشتراك المذكور. وهو جيد. والله العالم.

تذنيب

في أحكام الجلود والبحث فيها يقع في مواضع (الأول) المشهور بين الأصحاب

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٢ من أبواب ما يكتسب به.

٥١٥

(رضوان الله عليهم) بل ادعى عليه الإجماع ان جلد الميتة مما هو طاهر في حال الحياة لا يطهر بالدباغ وادعى العلامة في المنتهى والمختلف الإجماع عليه من غير ابن الجنيد ، والشهيد في الذكرى ادعى الإجماع من غير استثناء ، وهو اما بناء على ان معلوم النسب خروجه غير قادح في الإجماع أو لعدم الاعتداد بخلافه لشذوذه وموافقة قوله لأقوال العامة ، ولم ينقلوا الخلاف هنا إلا عن ابن الجنيد خاصة حيث ذهب الى طهارته بالدباغ مما هو طاهر في حال الحياة لكن لا يجوز الصلاة فيه ، وعزى الشهيد في الذكرى الى ابي جعفر الشلمغاني من قدماء أصحابنا إلا انه تغير وظهرت منه مقالات منكرة ـ موافقة ابن الجنيد ، مع ان ظاهر الصدوق في الفقيه ذلك ايضا حيث روى في صدر الكتاب مرسلا عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «انه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال لا بأس». وهو ظاهر في الطهارة كما ترى وليس بين هذا الكلام وبين صدر الكتاب الذي قرر فيه انه لا يورد في كتابه إلا ما يعتقد صحته ويفتي به إلا أوراق يسيرة.

أقول : وقد قدمنا تحقيق القول في هذه المسألة في الفصل الخامس في الميتة من المقصد الأول واستوفينا الأخبار الواردة في المسألة وبينا الوجه فيها وفي الجمع بينها إلا انه قد وقع للمحقق الشيخ حسن في هذا المقام كلام لا بأس بنقله وبيان ما فيه من نقض وإبرام وقد سبقه الى ذلك ايضا صاحب المدارك إلا أنا نكتفي بالكلام على ما ذكره في المعالم حيث انه ابسط ومنه يعلم الجواب عما ذكره في المدارك.

قال في المعالم بعد نقل الخلاف في المسألة : إذا عرفت هذا فاعلم ان العمدة في الاحتجاج هنا لكل من القولين حسب ما ذكره المتأخرون هو الاخبار إلا ان الشيخ والفاضلين أضافوا إليها في الاحتجاج لعدم الطهارة عموم قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» (٢) تعويلا على تناوله لجميع أنواع الانتفاع ، واستصحاب النجاسة لثبوتها قبل

__________________

(١) ج ١ ص ٩.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٤.

٥١٦

الدبغ فكذا بعده ، ويلوح من الشهيد التمسك بالإجماع كما حكيناه عنه وهو صريح كلام الشيخ في الخلاف. وهذه الوجوه كلها ضعيفة ، اما التمسك بالآية فلأن المتبادر منها بحسب العرف تحريم الأكل كما سبق تحقيقه في بحث المجمل من مقدمة الكتاب ، واما الاستصحاب فلان التمسك به موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما في الأزمان كما سلف القول فيه محررا وقد تقدم في البحث عن نجاسة الميتة ان العمدة فيه على الإجماع وحينئذ فلا استصحاب ، واما الإجماع فلعدم ثبوته على وجه يصلح للحجية ولهذا لم يتعرض له المحقق ، وحال الشيخ والشهيد في الإجماع معلوم إذ قد أشرنا في غير موضع إلى أنهما داخلان في عداد من ظهر منه في أمر الإجماع ما أوجب حمله على غير معناه المصطلح الذي هو الحجة عندنا أو أفاد قلة الضبط في نقلهم. ثم ان الاخبار التي احتجوا بها لعدم الطهارة كثيرة : منها ـ ما رواه علي بن المغيرة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) جعلت فداك الميتة ينتفع بشي‌ء منها؟ قال لا. قلت بلغنا. الحديث». وقد قدمناه في الموضع المشار اليه آنفا عن علي بن أبي المغيرة (١) ثم ذكر بعده رواية الفتح ابن يزيد الجرجاني وقد تقدمت ايضا (٢) ثم روايات لا دلالة فيها في الحقيقة ، ثم قال فاما ما يدل من الاخبار على الطهارة فحديث واحد رواه الشيخ بإسناده ثم نقل رواية الحسين بن زرارة وقد تقدمت أيضا في الموضع المشار اليه (٣) ثم قال : وأنت إذا تأملت هذه الاخبار كلها وجدت ما عدا الأولين منها والأخير ليس من محل النزاع في شي‌ء ، ثم ساق الكلام في بيان ذلك الى ان قال : فالتعارض واقع بينهما وبينه ـ يعني الخبرين الأولين وخبر الحسين ـ والترجيح من جهة الاسناد منتف لأن رواية الفتح ضعيفة والخبران الآخران مشتركان في جهالة حال راوييهما ، وحينئذ فيمكن ان يجعل وجه الجمع حمل الروايتين الأوليين على الكراهة أو حمل رواية الطهارة على التقية ويرجح الثاني رعاية الموافقة لما عليه اتفاق أكثر الأصحاب ، ويؤيد

__________________

(١) ص ٦٢.

(٢ و ٣) ص ٦١.

٥١٧

الأول موافقته لمقتضى الأصل من براءة الذمة بملاحظة ما قدمناه من عدم استقامة اعتبار الاستصحاب في مثله. انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على المتأمل النبيه (أما أولا) فإن ما ذكره من ان التمسك بالاستصحاب موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما فجيد ، واما قوله ـ ان العمدة في نجاسة الميتة انما هو الإجماع ـ فمردود بما قدمنا تحقيقه في الفصل المتقدم ذكره ونقلناه من الأخبار المستفيضة الدالة على الحكم المذكور وما ذيلنا به من التحقيق الظاهر في ذلك تمام الظهور ، وعلى هذا فالاستدلال بالاستصحاب في محله لأن الأخبار المذكورة قد دلت على نجاسة الميتة ومنها الجلد وهي مطلقة عامة شاملة لجميع الأزمان حتى يقوم الرافع فالاستصحاب هنا راجع الى الاستصحاب بعموم الدليل كما هو المدعى.

و (اما ثانيا) ـ فان ما ذكره من الطعن في الإجماع فهو حق على رأينا الواجب الاتباع وان كان قليل الاتباع من الاقتصار في الاستدلال على الكتاب والسنة لا على رأي من يعتمد على القواعد الأصولية كهذا القائل ونحوه. وذلك فإنه لا يخفى ان من قواعدهم العمل بالإجماع المنقول بالخبر الواحد ، ومنها ان خلاف معلوم النسب غير قادح في الإجماع والأمر هنا كذلك فيكون حجة ، وقد ادعاه هنا العلامة في المنتهى والمختلف وان استثنى ابن الجنيد منه ، وادعاه الشيخ في الخلاف والشهيد في الذكرى من غير استثناء بناء على القاعدة الثانية ، وبذلك اعترف هذا القائل في صدر كلامه فقال بعد نقل الإجماع عن العلامة كما حكيناه : وقال الشهيد في الذكرى لا يطهر جلد الميتة بالدباغ إجماعا فلم يحتفل باستثناء المخالف نظرا الى عدم اعتبار مخالفة معلوم الأصل في تحقق الإجماع انتهى. وحينئذ فالإجماع المدعى هنا بمقتضى قواعدهم حجة في المقام فلا معنى لقدحه فيه ، ووقوع التساهل من الشيخ والشهيد في دعوى الإجماع في غير هذا الموضع لا يقتضي رد ما نقلاه هنا من الإجماع المشتمل على شروط الإجماع المقبولة وإلا لأدى ذلك الى

٥١٨

عدم قبول الإجماع بين المتأخرين مطلقا ولا جعله دليلا شرعيا عندهم لان عمدة الإجماعات الأصل فيها هو الشيخ والمرتضى اللذان هما في الصدر الأول فإذا لم يعول على نقلهم الإجماع مع عدم ظهور فساده ولا مانع منه فبالطريق الأولى إجماعات المتأخرين الذين هم أبعد طبقة من معرفة أقوال المتقدمين ، غاية الأمر انه في مقام ظهور خلافه سيما إذا لم يعلم القائل به سوى المدعى أو مخالفة المدعى نفسه فيه في موضع آخر أو مخالفة غيره له فيه لا يعمل عليه ، وما لم يظهر فيه شي‌ء من ذلك ونحوه فإنه لا معنى لرده بمجرد التشهي كما لا يخفى.

و (اما ثالثا) ـ فان ما ذكره ـ من انه لا تعارض في الاخبار التي نقلها إلا بين روايتي علي بن المغيرة والفتح بن يزيد الجرجاني وبين رواية الحسين بن زرارة ـ فحق لا ريب فيه إلا ان قوله : «والترجيح من جهة الاسناد منتف» غفلة ظاهرة قد سبقه إليها صاحب المدارك ايضا ، وذلك فإن الرواية التي نقلاها عن علي بن المغيرة انما نقلاها من التهذيب وهي فيه كذلك وعلي بن المغيرة المذكور مجهول ذكره ولم يتعرضوا له بمدح ولا قدح واما في الكافي فإنما رواها عن ابن أبي المغيرة وهو ثقة كما في كتب الرجال والتحريف قد وقع من الشيخ كما لا يخفى على من له انس بطريقته وقد نبهنا على ذلك مرارا ، ويدل على ذلك انه انما نقل الحديث عن ابن يعقوب بالسند المذكور في الكافي ولكن حرف قلمه فسقط منه لفظ «ابي» والمحدثان الفاضلان محسن الكاشاني والشيخ الحر في الوافي والوسائل إنما نقلا الخبر بسند صاحب الكافي كما ذكرنا ولكن المحققين المذكورين لم يراجعا الكافي واعتمدا على التهذيب والحال كما ترى ، وحينئذ فالرواية المذكورة صحيحة صريحة في النجاسة ورواية الحسين بن زرارة قاصرة عن معارضتها ، واقصر منها وأضعف باصطلاحهم مرسلة الصدوق التي نوه بها في المدارك واعتمد عليها ، على ان أدلة القول بالنجاسة غير منحصرة في هاتين الروايتين بل هي عدة روايات قدمنا ذكرها في الموضع المشار اليه آنفا.

٥١٩

و (اما رابعا) فان ما ذكره ـ من وجهي الجمع بحمل رواية الطهارة على التقية أو حمل روايتي النجاسة على الكراهة وأيد الحمل الأول برعاية اتفاق أكثر الأصحاب والثاني بموافقة الأصل ـ ففيه ان وجه الجمع الموافق لقواعد أهل العصمة (عليهم‌السلام) التي وضعوها انما هو الأول لما استفاض عنهم من الأخبار في مقام اختلاف الروايات الواردة عنهم في الأحكام من العرض على الكتاب العزيز والأخذ بما وافقه والعرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه والأخذ بالجمع عليه والأخذ بالأعدل ونحو ذلك ، واما الحمل على الكراهة والاستحباب والترجيح بالأصل كما اتخذوه قاعدة كلية في جميع الأبواب فهو اجتهاد صرف وتخريج بحت ورد لنصوص أهل الخصوص ، وليت شعري أرأيت حين خرجت عنهم (عليهم‌السلام) هذه القواعد في ترجيح الاخبار في مقام الاختلاف لم يعلموا بهذا الأصل وانه مما ترجح به الاخبار حتى أغفلوه وأهملوه أو علموا به ولم يذكروه والأول كفر محض فتعين الثاني وليس إلا لعدم صلاحيته للترجيح وإلا لعدوه في جملة هذه المرجحات.

وبهذا يظهر لك ايضا ما في كلام صاحب المدارك حيث قال بعد الكلام في المسألة : وبالجملة فالمسألة محل تردد لما بيناه فيما سبق من انه ليس على نجاسة الميتة دليل يعتد به سوى الإجماع وهو انما انعقد على النجاسة قبل الدبغ لا بعده ، وعلى هذا فيمكن القول بالطهارة تمسكا بمقتضى الأصل وتخرج الروايتان شاهدا. انتهى.

أقول : لا تردد بحمد الله تعالى في ذلك بعد وضوح المدارك فيها والمسالك من الأخبار المستفيضة بنجاسة الميتة على العموم والجلد على الخصوص المعلوم وحمل المخالف في الثاني على التقية كما استفاضت به الاخبار عن سادات البرية. والله الهادي لمن يشاء

(الثاني) ـ اشترط ابن الجنيد في حصول الطهارة بالدباغ ان يكون ما يدبغ به طاهرا ، قال في المختصر على ما نقل عنه : وليس يكون دباغها المحلل لها إلا بمحلل طاهر كالقرظ والشث والملح والتراب فإذا دبغت بشي‌ء من النجس لم تطهر كالدارش فإنها

٥٢٠