الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

بعدة طرق من قوله (١) : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». فإنه شامل للطهارة الحدثية والخبثية ، والطهور ـ كما تقدم تحقيقه في صدر الكتاب ـ هو الطاهر المطهر ، فيجب الحكم هنا بطهارة التراب وان غفل عنه الأصحاب في هذا الباب.

(السادس) ـ نقل العلامة في المختلف عن ابن الجنيد انه يجزئ في الغسلة الأولى التراب أو ما قام مقامه وهو يدل على عدم تحتم التراب عنده بل يجزئ ما قام مقامه في إزالة النجاسة عن المحل وظاهره التخيير بين التراب وغيره مما في معناه ، وجمهور الأصحاب على خلافه وقوفا على النص الوارد في المسألة كما تقدم ، ولعل ذهاب ابن الجنيد الى ذلك مبني على ما نقله الأصحاب عنه من العمل بالقياس ، قال الشيخ في الفهرست في ترجمة ابن الجنيد : وكان جيد التصنيف حسنة إلا انه كان يرى القول بالقياس فترك لذلك كتبه ولم يعول عليها. وقال النجاشي في كتابه : أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب وجه في أصحابنا ثقة جليل القدر صنف فأكثر وانا ذاكرها بحسب الفهرست الذي ذكرت فيه ، ثم ذكرها الى ان قال سمعت شيوخنا الثقات يقولون انه كان يقول بالقياس. وقال العلامة في الخلاصة : انه كان وجها في أصحابنا ثقة جليل القدر ، ثم نقل كلام الشيخ المتقدم. أقول : لا يخفى ما في كلامه وكذا كلام النجاشي قبله من الإشكال لأن وصفه بالجلالة والوثاقة مع نقلهم عنه القول بالقياس مما لا يجتمعان فإن أصحابنا مجمعون على ان ترك العمل بالقياس من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) لاستفاضة الأخبار بالمنع منه فكيف يجامع القول به الوثاقة؟ وظاهر كلام الشيخ الجزم بذلك والنجاشي قد نقل عن شيوخه الثقات ذلك فكيف يصفه مع ذلك بما ذكره في صدر الترجمة؟ وبالجملة فكلامهم هنا لا يخلو من النظر الواضح.

(السابع) ـ نقل المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه قال : إذا لم يوجد التراب اقتصر على الماء وان وجد غيره كالأشنان وما يجري مجراه أجزأ. ثم نقل ذلك

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٧ من التيمم.

٤٨١

عن ابن الجنيد ايضا ، ثم قال : ووجه ما ذكراه ان الأشنان أبلغ في الإنقاء فإذا طهر بالتراب فبالأشنان أولى ، ثم تردد فيه فقال وفيه تردد منشأه اختصاص التعبد بالتراب وعدم العلم بحصول المصلحة المرادة منه بغيره ، على انه لو صح ذلك لجاز مع وجود التراب. انتهى. وهو جيد ، وفيه تأييد لما قدمناه من ان الأمر بالغسل بالتراب انما هو أمر تعبدي لا لما ذكروه من الوجه الاستنباطي ، إلا انه قد نقل عن ابن الجنيد ما ذكره من ان ما عدا التراب من الأجسام المشابهة له انما يصار اليه بعد فقد التراب ، والذي نقله عنه في المختلف كما تقدم ومثله الشهيد في الذكرى ايضا هو القول بالتخيير. وكيف كان فإنه بالنظر الى توجيه المحقق لهذا القول ـ إذ لا وجه له ظاهرا سواه ـ فالأرجح هو قول ابن الجنيد بالتخيير لان أولويته في الإزالة والقلع من التراب لا أقل تقتضي مساواته فيجوز به وان كان التراب موجودا ويرجع الى التخيير بين التراب المذكور في النص وبين غيره بحكم الأولوية إلا ان فيه ما أورده عليه في المعتبر.

واقتفى الشيخ في ما ذكره من هذا الحكم جمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في كثير من كتبه ، وتوقف في النهاية ، وقال في المنتهى ان عدم اجزاء غير التراب هو الأقوى لأن المصلحة الثابتة من التعبد باستعمال التراب لو حصلت بالأشنان وشبهه لصح استعماله مع وجود التراب.

ونقل عن المحقق الشيخ علي انه انتصر لهذا القول فقرب دليله واستوجهه ثم استدرك بان جمعا من الأصحاب ذكروا الاجتزاء بالمشابه مع فقد التراب والخروج عن مقالتهم أشد إشكالا. ولا يخفى ما فيه فان غاية ما شاع بينهم تناكره هو عدم جواز احداث القول في مقام دعوى الإجماع لا في مقام الخلاف واختيار أحد القولين في المسألة والأمر هنا من قبيل الثاني لا الأول.

ثم انه لا يخفى ان ظاهر عبارة الشيخ المنقولة التخيير عند عدم التراب بين الاقتصار على الماء واستعمال ما يشبه التراب ولم نقف على قائل بذلك صريحا في كلامهم نعم نقل

٤٨٢

عن العلامة في التذكرة والنهاية انه ذكر ذلك احتمالا.

(الثامن) ـ يعزى الى الشيخ القول باجزاء الماء وحده عند عدم التراب وشبهه واليه ذهب العلامة في جملة من كتبه والشهيد ، وعبارة الشيخ المتقدمة في سابق هذا المورد لا تدل عليه وانما تدل على ما قدمنا ذكره اللهم إلا ان يكون وصل إليهم من موضع آخر.

ثم انه على تقدير الاجتزاء بالماء مع فقد التراب وشبهه فهل يجب الغسل ثلاث مرات أو مرتين؟ احتمالان مبنيان على انه مع فوات التراب وشبهه ينتقل الى ما هو أبلغ منه وهو الماء فتجب الثلاث حينئذ أو انه بفقد التراب يسقط التكليف به وقيام غيره مقامه يحتاج الى دليل فيكتفى بالغسلتين لان الحكم ببقاء الإناء على النجاسة والحال هذه تكليف بالمشقة. وقواه العلامة في التحرير والمنتهى على ما نقل عنه ، وفي القواعد اختار الثلاث. وأورد على أصل المسألة المذكورة بأن مقتضى اشتراط حصول الطهارة للإناء بالغسل المعين بالتراب والماء عند عروض هذا النوع من النجاسة هو انتفاء المشروط عند فقدان شرطه كما هو القاعدة في مثله ، ومن البين ان الشرط إذا كان مركبا من أمرين أو أمور كفى في انتفائه انتفاء جزئه ، وادعاء قيام البدل عن الجزء المفقود أو سقوط اشتراطه عند تعذره يحتاج الى الدليل ، ألا ترى ان الجزء الآخر للشرط هنا وهو الماء لا يتفاوت الحال في انتفاء المشروط عند انتفائه بين إمكان وجوده وتعذره؟ وما ذاك إلا لفقد الدليل على سقوط اعتباره في حال التعذر وقيام البدل مقامه. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، ومن ذلك يظهر ضعف ما بنى على أصل المسألة من احتمال المرتين أو الثلاث بل الظاهر هو بقاء الإناء على النجاسة لعدم حصول المطهر الشرعي الذي قرره الشارع لهذه النجاسة المخصوصة ، وبه صرح ايضا جمع من المتأخرين نظرا الى ما تقدم وقد عرفت جودته وقوته.

(التاسع) ـ قد ذكر جملة من المتأخرين ومتأخريهم ما صرح به الصدوقان

٤٨٣

والمفيد من الحكم بالتجفيف. واعترضوه بأنه منفي بالأصل والنص فان ظاهره الاكتفاء بمضمونه. أقول : قد عرفت ان مستندهم في ذلك انما هو كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي ولكن حيث لم يبلغهم ذلك أوردوا عليهم ما أوردوه وبه يجب الخروج عن الأصل المذكور. واما النص المشار إليه في كلام المحقق وهو صحيحة البقباق فغايتها ان تكون مطلقة فيحمل إطلاقها على الخبر المذكور ويقيد به فلا اشكال.

(العاشر) ـ اختلف الأصحاب فيما لو خيف فساد المحل باستعمال التراب ، فقيل بان الحكم فيه كما لو فقد التراب من المرتين أو الثلاث كما تقدم وهو منقول عن العلامة في المنتهى والتذكرة والتحرير إلا انه في التذكرة صرح بالاجتزاء بالماء ولم يتعرض لذكر العدد وفي المنتهى رجح المرتين.

وقيل ببقاء الإناء على النجاسة وبه صرح الشهيد الثاني في الروضة ونقله في المعالم عن بعض مشايخه الذين عاصرهم ، والوجه فيه ظاهر مما تقدم حيث ان الدليل يقتضي توقف حصول الطهارة على التراب والماء وليس على استثناء حال التعذر دليل يعتمد عليه فيبقى على أصالة النجاسة.

وفصل ثالث بان خوف الفساد باستعمال التراب ان كان باعتبار توقف إيصاله إلى الآنية على كسر بعضها كما في الأواني الضيقة وأمكن مزج التراب بالماء وإنزاله إليها وخضخضتها به على وجه يستوعبها وجب وأجزأ ، وان كان باعتبار نفاسة الآنية بحيث يترتب الفساد على أصل الاستعمال اكتفى بالماء قال وكذا إذا امتنع في الصورة الأولى إنزاله ممتزجا على الوجه الذي ذكر ، وفرق بين هذا وبين ما إذا فقد التراب حيث مال ثمة الى بقائه على النجاسة بأن الحكم بذلك هنا يفضى الى التعطيل الدائم وهو غير مناسب لحكمة الشرع وتخفيفه واما هناك فحصول التراب مرجو فلا تعطيل.

أقول : والتحقيق في المقام انه ان قيل باجزاء الممزوج بالماء كما هو أحد الأقوال المتقدمة فما ذكره هذا المفصل في الوجه الأول جيد لان هذا أحد أفراد التطهير بالتراب

٤٨٤

بل لقائل أن يقول انه متى أمكن وضع التراب فيه وان كان ضيق الرأس وتحريكه في مواضع النجاسة فإنه يحصل التطهير به إذ الدلك غير مشترط فلا اشكال ولا ضرورة إلى المزج ، واما ما ذكره في الوجه الثاني من تفصيله من الاكتفاء بالماء فضعيف والفرق بينه وبين فقد التراب الذي اختار فيه البقاء على النجاسة غير ظاهر. وما استند اليه من الفرق بالحكمة مزيف فان الخروج من يقين النجاسة المخصوصة بمطهر مخصوص مع عدم وجود مطهرها بمثل هذه التخريجات الواهية مجازفة ، واي ضرر على المالك في تعطيل إناء من خزف أو غيره لا ينتفع به؟ وكثير من الأشياء غير قابل للتطهير أصلا مع قابليته للانتفاع ، وبالجملة فإن التفات الشارع الى التخفيف في الصورة المذكورة ونحوها غير معلوم من الشرع ، وان قلنا بعدم اجزاء الممزوج كما هو أحد الأقوال فالحق هو القول الثاني كما جزم به شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلا انه يرد على شيخنا المذكور ان ما اختاره في هذه المسألة وصرح به في الروضة لا يلائم ما اختاره في المسالك في مسألة المزج من اجزائه. اللهم إلا ان يقول انه بالمزج على الكيفية التي في كلام هذا المفصل يخرج التراب عن اسمه كما قيد به قوله في المسالك فلا منافاة. والله العالم.

(الحادي عشر) ـ قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ كلبان أو كلاب في إناء واحد لم يجب أكثر من غسل الإناء ثلاث مرات ، ثم ذكر ان جميع الفقهاء لم يفرقوا بين الواحد والمتعدد إلا من شذ من العامة فأوجب لكل واحد العدد بكماله ، واحتج الشيخ على ما ذكره بان النص خل من التعرض للفرق بين الواحد والأكثر والكلب جنس يقع على القليل والكثير. وهذا الحكم قد ذكره أيضا أكثر الأصحاب وزادوا فيه ايضا تكرر الولوغ من الواحد ، واحتج عليه الفاضلان في المعتبر والمنتهى بأن النجاسة واحدة فقليلها ككثيرها لأنها لا تتضمن زيادة عن حكم الاولى. وهو جيد إلا ان تعليل الشيخ (قدس‌سره) أجود وأقوى لأن سوق الخبر يساعده حيث انه صريح في

٤٨٥

كون السؤال عن الجنس حيث قال فيه (١) : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم اترك شيئا إلا سألته عنه؟ فقال لا بأس به ، حتى انتهيت الى الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ بفضله. الحديث». هذا كله فيما لو كان قبل التطهير اما لو وقع في الأثناء فقد صرح جملة منهم بالاستئناف وعدم التداخل ، قال في الروض ولو تكرر الولوغ قبل التطهير تداخل وفي الأثناء يستأنف. ونحوه في الذكرى ايضا.

(الثاني عشر) ـ قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء نجس الماء الذي فيه فان وقع ذلك الماء على بدن الإنسان أو ثوبه وجب غسله ولا يراعى فيه العدد ثم حكى عن بعض العامة إيجاب غسل الموضع الذي يصيبه ذلك الماء بقدر العدد المعتبر في الإناء ، ثم قال بعد ذلك دليلنا ان وجوب غسله معلوم بالاتفاق لنجاسة الماء واعتبار العدد يحتاج الى دليل وحمله على الولوغ قياس لا نقول به. وذكر نحو ذلك المحقق ايضا وزاد على ما ذكره الشيخ من البدن والثوب الإناء أيضا ، والظاهر ان كلام الشيخ (قدس‌سره) انما خرج مخرج التمثيل فيكون ما ذكره عاما ، وقال الشهيد في الذكرى : ولا يعتبر التراب في ما ينجس بماء الولوغ. ونقل عن العلامة في النهاية انه استقرب إلحاق هذا الماء بالولوغ وعلله بوجود الرطوبة اللعابية. ورده جملة ممن تأخر عنه بالضعف وهو كذلك.

(الثالث عشر) ـ المعروف من كلام أكثر الأصحاب ان الحكم في غسالة الإناء كسائر النجاسات فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه ، قال العلامة في المنتهى : ليس حكم الماء الذي يغسل به إناء الولوغ حكم الولوغ في انه متى لاقى جسما يجب غسله بالتراب لأنها نجاسة فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه ، ثم حكى عن بعض الجمهور انه يجب غسله بالتراب وان كان المحل الذي انفصل عنه غسل بالتراب وعن بعض آخر

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأسآر.

٤٨٦

منهم انه أوجب غسله من الغسلة الأولى ستا بناء على قولهم بوجوب السبع في الولوغ ومن الثانية خمسا ومن الثالثة أربعا ، وكذا لو كانت قد انفصلت عن محل غسل بالتراب غسل محلها بغير تراب وان كانت الاولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب (١) ثم قال وهذا كله ضعيف والوجه أنه يساوي غيره من النجاسات لاختصاص النص بالولوغ. انتهى. وهو جيد.

وللمحقق الشيخ علي (قدس‌سره) هنا كلام في بعض كتبه لا يخلو من غفلة في مقام ونظر في آخر حيث انه نقل عن العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى انه لا يعتبر التراب فيما نجس بماء الولوغ ثم ناقش في ذلك بان عدم اعتبار التراب في هذه الصورة ان كان منوطا بتقديم تعفير إناء الولوغ على غسله بالماء الذي فرضت الملاقاة به فهو حق وكذا ان كان الجسم الملاقي به غير إناء وإلا فالظاهر اعتباره لأنها نجاسة الولوغ ، ثم ذكر ان قوله : «والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات» مشكل لان حكم النجاسة يخف شرعا بزيادة الغسل ويشتد بنقصانه فلا تتجه التسوية. انتهى كلامه.

أقول : اما وجه الغفلة في هذا الكلام فإن العبارة التي أسندها إلى العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى انما هي في حكم ماء الولوغ نفسه والشهيد انما ذكرها كما قدمناها عنه في سابق هذا المورد في بيان ذلك وكلام العلامة الذي ذكر من جملته قوله : «والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات» انما هو في ما يغسل به إناء الولوغ الذي صرح به الشهيد في الذكرى وهو الذي ولغ فيه الكلب في الإناء ، فالمسألتان مفترقتان كما أشرنا إليه في مورد كل منهما ، والعلامة لم يتعرض في المنتهى لحكم ماء الولوغ الذي نقله عنه بهذه العبارة وانما هذه العبارة التي نقلها عنهما هي عبارة الشهيد في الذكرى خاصة.

واما وجه النظر في كلامه فمن وجهين (أحدهما) ـ قوله في المناقشة الأولى

__________________

(١) كما في المغني ج ١ ص ٥٦.

٤٨٧

مع كون مورد محل المناقشة غير العبارة التي ذكرها كما عرفت : «فالظاهر اعتباره لأنها نجاسة الولوغ» اي الظاهر اعتبار تعفير ذلك الإناء الذي لاقاه ماء الغسالة التي لم يعفر إناؤها أولا لأنها نجاسة ماء الولوغ ، فإنه منظور فيه بأنه ان أراد بكونها نجاسة ماء الولوغ بمعنى انها مسببة عنه فلا يجدي نفعا وان أراد انه يصدق عليها العنوان المرتب عليه الحكم فمنعه أوضح من ان يخفى ، إذ ماء الولوغ الذي يترتب عليه التعفير والعدد انما هو الماء الذي ولغ فيه الكلب لا ما غسل به اناؤه ، وما أبعد قوله هنا بوجوب التعفير والغسل بعده كما في أصل ماء الولوغ وبين قول الشيخ في الخلاف كما نقله عنه جملة من الأصحاب من طهارة غسالة ماء الولوغ.

و (ثانيهما) ـ ما ذكره من الإشكال فإنه لا وجه له عند التأمل في كلام العلامة وذلك فان غرضه من الحكم بالمساواة المذكورة انما هو الرد على الأقوال التي نقلها عن العامة من التعدد الذي ذكروه في تلك المراتب فإنها موقوفة على الدليل وليس فليس فالمتجه كونها نجاسة كغيرها من النجاسات ، والتعلق بان حكم النجاسة يضعف ويشتد موقوف على الدليل الدال على التعدد في تلك المراتب واما مع عدم الدليل فليس إلا الرجوع الى الأمر الإجمالي من الاتصاف بالتنجيس واعتبار ما يصدق به زوالها. وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه. والله العالم.

(الرابع عشر) ـ قال في المنتهى : لو وقع فيه نجاسة بعد غسله بعض العدد فان كانت ذات عدد مساو للباقي كان كافيا وإلا حصلت المداخلة في الباقي واتى بالزائد وهكذا لو وقع فيه نجاسة قبل الغسل إلا ان التراب لا بد منه للولوغ ثم ان كانت النجاسة تفتقر الى الغسل ثلاثا وجب الثلاث من غير تراب ، وبالجملة إذا تعددت النجاسة فإن تساوت في الحكم تداخلت وان اختلفت فالحكم لا غلظها. انتهى. أقول : ما ذكره من التداخل في ما حصل الاتفاق فيه جيد إلا انه مخالف لمقتضى ما صرحوا به في غير موضع من ان تعدد الأسباب موجب لتعدد المسببات.

٤٨٨

(الخامس عشر) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) سقوط التعدد في الغسل إذا وقع الإناء في الماء الكثير ، وهكذا كل متنجس يحتاج الى العدد إلا انه لا بد من تقديم التعفير في إناء الولوغ.

ونقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط انه قال : إذا ولغ الكلب في الإناء ثم وقع ذلك الإناء في الماء الكثير الذي بلغ كرا فما زاد لا ينجس الماء ويحصل له بذلك غسلة من جملة الغسلات ولا يطهر الإناء بذلك بل إذا تمم غسلاته بعد ذلك طهر. ومقتضاه وجوب التعدد في الكثير.

قال في المعالم : ومستند الشيخ في هذا ان الأمر بالعدد متناول للقليل والكثير فلا بد للتخصيص من دليل ، والجماعة عولوا في التخصيص على ان اللفظ إذا أطلق ينصرف الى المعنى المتعارف المعهود وظاهر الحال ان المتعارف في محال الأمر بالتعدد هو الغسل بالقليل ، قال ويعضد ذلك في الجملة من جهة الاعتبار ان الماء الكثير إذا استولى على عين النجاسة وان كانت مغلظة بحيث اقتضى شيوع اجزائها فيه واستهلاكها سقط حكمها شرعا وصار وجودها فيه كعدمها فإذا وقع المتنجس في الكثير واستولى الماء على آثار النجاسة فبالحري ان يسقط حكمها ويجعل وجودها كعدمها وإلا لكان الأثر أقوى من العين ، ويؤيده من جهة النص ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة». انتهى وهو جيد.

أقول : ومثل صحيحة محمد بن مسلم المذكورة ما صرح به مولانا الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (٢) حيث قال : «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره». وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه كما قدمنا ذكره. وذكرنا ان المراد بالراكد في كلامه (عليه‌السلام) القليل.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من النجاسات.

(٢) ص ٦.

٤٨٩

بقي هنا شي‌ء آخر في كلام الشيخ (قدس‌سره) فان ظاهره حصول غسلة واحدة له وان لم يتقدم التعفير بالتراب ، وهو مشكل بل الظاهر ضعفه لقيام الدليل الصحيح الصريح على وجوبه مطلقا وغاية الكلام انما هو في وجوب تعدد الغسل بالماء في الكثير وعدمه وإلا فالتراب لا بد منه على كل حال.

ويظهر من العلامة في المختلف موافقة الشيخ في هذا المقام وان لم يقل بوجوب التعدد كما هو ظاهر كلام الشيخ حيث قال بعد نقل كلام الشيخ المتقدم : والوجه عندي طهارة الإناء بذلك لانه حال وقوعه في الكثير لا يمكن القول بنجاسته حينئذ لزوال عين النجاسة إذ التقدير ذلك والحكم زال بملاقاة الكر.

وفيه (أولا) ـ ما عرفت من دلالة النص الصحيح الصريح على التعفير مطلقا فيمتنع الحكم بالطهارة بدونه.

و (ثانيا) ـ ان استبعاده البقاء على النجاسة مع كونه في كثير وقد زالت عين النجاسة مسلم لو انحصر التطهير في الماء هنا كما في سائر النجاسات ، واما إذا ضم له الشارع مطهرا آخر فجعل المطهر حينئذ مركبا من أمرين ولم يحصل أحدهما فلا مجال هنا للاستبعاد المذكور ، ونظيره في هذا المقام وضع كر من ماء في جلد ميتة فإن الماء يكون طاهرا مع نجاسة الجلد فلا منافاة حينئذ بين بقائه على النجاسة وكونه في ماء كثير (فان قيل) انه يأتي على قول من جعل الغسل بالتراب تعبدا شرعيا كما اخترتموه آنفا دون ان يكون مطهرا ما قررتم منه هنا (قلنا) ان أحدا لم يقل بان التراب غير مطهر وانه لا دخل له في التطهير وانما معنى قولنا تعبدا هو ان الشارع تعبد المكلفين بالتطهير به هنا ردا على من قال ان الغرض منه انما هو قلع النجاسة وانه أبلغ من الماء في ذلك حتى رتبوا على هذا جملة من الأحكام المتقدمة التي قد عرفت ما فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ظاهر كلام المحقق في المعتبر موافقة الشيخ في ما ذكره من وجوب التعدد في الكثير إلا ان ظاهره الاكتفاء في حصول التعدد في الجاري

٤٩٠

بتعاقب الجريتين ، ومقتضاه انه لو كان التطهير في الكثير الواقف الذي لا جريان فيه فالواجب التعدد حقيقة كما ذكره الشيخ وبه صرح أيضا في الكتاب المذكور ، قال لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شي‌ء ولو وقع في كثير لم ينجس ويحصل له غسلة واحدة ان لم يشترط تقديم التراب ، ولو وقع في جار ومر عليه جريات قال في المبسوط لم يحكم له بالثلاث. وفي قوله اشكال وربما كان ما ذكره حقا ان لم يتقدم غسله بالتراب لكن لو غسل مرة بالتراب وتعاقب عليه جريات كانت الطهارة أشبه. انتهى.

ونقل عن الفاضل الشيخ نجيب الدين في الجامع اعتبار التعدد في الراكد دون الجاري ولعله التفاتا الى ما ذكره المحقق من انه في الجاري تتعاقب عليه الجريات فيحصل التعدد دون الكثير الواقف.

وظاهر العلامة في المنتهى ايضا اقتفاء المحقق في ذلك إلا انه في آخره قد ناقض اوله. ولا بأس بنقل كلامه وبيان ما فيه ، قال (قدس‌سره) : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يحتسب بغسلة ، ولو وقع في كثير لم ينجس وهل تحصل له غسلة أم لا؟ الأقرب انه لا تحصل لوجوب تقديم التراب ، هذا على قولنا اما على قول المفيد فان الوجه الاحتساب بغسلة ، ولو وقع في ماء جار ومرت عليه جريات متعددة احتسب كل جرية بغسلة خلافا للشيخ إذ القصد غير معتبر فجرى مجرى ما لو وضعه تحت المطر ولو خضخضه في الماء وحركه بحيث تخرج تلك الأجزاء الملاقية عن حكم الملاقاة ويلاقيه غيرها احتسب بذلك غسلة ثانية كالجريات ، ولو طرح فيه ماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغ منه سواء كان كثيرا بحيث يسع الكر أو لم يكن خلافا لبعض الجمهور فإنه قال في الكثير إذا وسع قلتين لو طرح فيه ماء وخضخض احتسب له غسلة ثانية ، والوجه انه لا يكون غسلة إلا بتفريغه منه مراعاة للعرف ، ثم قال : والأقرب عندي بعد ذلك كله ان العدد انما يعتبر لو صب الماء فيه اما لو وقع الإناء في ماء كثير أو جار وزالت

٤٩١

النجاسة طهر. انتهى. ولا يخفى ما في آخر كلامه من المدافعة لما قدمه ، وظاهر آخر كلامه الرجوع الى ما ذهب إليه في المختلف وقد عرفت ما فيه. وقد ذكر بعض محققي أصحابنا من متأخري المتأخرين انه كانت عنده من المنتهى نسختان وان العبارة الأخيرة غير موجودة فيهما ونسخة اخرى عبارتها كما ذكرناه وذكر ان بينهما تفاوتا بالزيادة والنقصان في مواضع ووجهه بأنه خرجت منه نسخة الكتاب أولا كما كتبه ثم حصل له عدول في مواضع في النسخة الأخيرة وما هنا من جملة ذلك وهو قريب. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ في بيان باقي ما يجب فيه التعدد وذلك في مواضع :

(منها) ـ الخنزير وقد اختلف الأصحاب في عدد ما يجب من ولوغه فالمشهور بين المتأخرين وجوب السبع ذهب إليه العلامة ومن تأخر عنه ، وقال الشيخ في الخلاف ان حكمه حكم الكلب ، ونفى ذلك المحقق وجعل حكمه حكم غيره من النجاسات مع انه كما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة الآتية يختار المرة فيها.

ويدل على المشهور وهو المؤيد المنصور ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال يغسل سبع مرات».

احتج الشيخ ـ على ما نقل عنه ـ على ما ذهب اليه بوجهين : (أحدهما) ان الخنزير يسمى كلبا في اللغة فتتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب. و (الثاني) ان الإناء يغسل ثلاث مرات من سائر النجاسات والخنزير من جملتها.

وأجيب عن الأول بمنع الصدوق حقيقة. وعن الثاني بأن غاية دليله الذي ادعاه مع تسليمه هو عموم ما دل على الثلاث للخنزير والصحيحة المذكورة خاصة فيجب تقييد العموم بها كما هو القاعدة ، مع ان فيه ايضا ان ملاحظة هذا الوجه تقتضي الاكتفاء بالماء

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من النجاسات.

٤٩٢

وحده وملاحظة الأول تقتضي وجوب التراب معه فعلى كل تقدير لا ينتظم أحد وجهي الدليل على ما ادعاه.

والمحقق في المعتبر قد حمل صحيحة علي بن جعفر على الاستحباب مع انه لا معارض لها في الباب ، قيل ولعل المانع له من العمل بالرواية عدم وجود القائل بها من المتقدمين قبله وهو كثيرا ما يراعي ذلك ونحوه في العمل بالاخبار ، والقرينة على هذا انه لم يذكره قولا مع حكايته الخلاف في المسألة ، ولهذا ان العلامة في المنتهى قال لو قيل بوجوب غسل الإناء منه سبع مرات كان قويا لما رواه علي بن جعفر ، وذكر الحديث ثم قال وحمله على الاستحباب ضعيف إذ لا دليل عليه مع ثبوت ان الأمر للوجوب.

و (منها) ـ الخمر وقد اختلف كلام الأصحاب في ذلك فقيل بالسبع ايضا ذهب اليه جمع من الأصحاب : منهم ـ المفيد وسلار والشهيد في أكثر كتبه والمحقق الشيخ علي والشيخ في المبسوط والجمل وجمع من المتأخرين. وقيل بالثلاث ذهب اليه المحقق في غير المعتبر والعلامة في بعض كتبه واليه ذهب الشيخ في النهاية والتهذيب كذا نقله عنه في المدارك ، والذي وجدته في النهاية انما هو سبع لا ثلاث كما نقله حيث قال بعد ذكر الأواني. فإن أصابها خمر أو شي‌ء من الشراب المسكر وجب غسلها سبع مرات ، واما ما نقله عن التهذيب فلم أقف عليه لانه بعد ان ذكر عبارة المفيد الدالة على غسل الأواني من الخمر والأشربة المسكرة أورد جملة من الأخبار الدالة على نجاسة أواني الخمر ومنها موثقة عمار الآتية الدالة على غسل الإناء منه ثلاثا ولم يستدل لما ذكره في المقنعة من السبع بشي‌ء من الأخبار ، وبمجرد نقل الرواية بذلك لا يعد ذلك مذهبا له كما لا يخفى ، واحتمال كونه ذكر ذلك في غير موضع المسألة ممكن إلا ان الأمر كما ترى فينبغي التأمل والمراجعة في هذه البقول وان كانت من الفحول ، والى القول بالثلاث ذهب الشيخ في الخلاف ايضا لكن لا من حيث الخصوصية كما ذهب اليه الفاضلان بل من حيث وجوب الثلاث عنده في سائر النجاسات كما يأتي نقله. وقيل بالمرة اختاره المحقق في

٤٩٣

المعتبر والعلامة في أكثر كتبه كغيره من النجاسات عدا الولوغ ، وهو اختيار الشهيد الثاني في الروض أيضا إلا انه أطلق الاجتزاء بالمرة ، والفاضلان في المعتبر والمختلف قيداه بكونه بعد ازالة العين ، واختار هذا القول السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم. وقيل بالمرتين وهو مذهب الشهيد في اللمعة حيث انه أوجب المرتين في غسل الإناء من جميع النجاسات بل في غير الإناء أيضا وان وجب تقديم التعفير في إناء ولوغ الكلب ، هذا ما وقفت عليه من الأقوال في المسألة.

والذي وقفت عليه من اخبارها منها ـ موثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال تغسله سبع مرات». والى هذه الرواية استند أصحاب القول الأول.

ومنها ـ موثقة عمار الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٢) «انه سئل عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. سئل أيجزيه ان يصب فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». وبهذا الخبر أخذ من قال بالقول الثاني.

واما من اكتفى بالمرة فإنه رد الخبرين بضعف السند واعتمد على ما دل على الأمر بالغسل الحاصل بالمرة المزيلة للعين ، قال المحقق في المعتبر ـ بعد ان ذكر عبارة النافع المطابقة لعبارته في الشرائع بإيجاب الثلاث ـ ما صورته : هذا مذهب الشيخ ثم نقل قوله بالسبع ثم احتج للثلاث بموثقة عمار المتقدمة ، ثم قال : مسألة ـ ويغسل الإناء من سائر النجاسات مرة والثلاث أحوط ، الى ان قال بعد كلام في البين : والذي يقوى عندي الاقتصار في اعتبار العدد على الولوغ وفيما عدا ذلك على إزالة النجاسة وغسل الإناء بعد ذلك مرة واحدة لحصول الغرض من الإزالة ولضعف ما ينفرد به عمار

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٠ من الأشربة المحرمة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٥١ من النجاسات و ٣٠ من الأشربة المحرمة.

٤٩٤

وأشباهه وانما اعتبرنا في الخمر والفأرة الثلاث ملاحظة لاختيار الشيخ والتحقيق ما ذكرناه. انتهى أقول : كم قد عمل في غير موضع من كتابه بموثقة عمار وان تفرد بها كما قدمنا ذكره ولكنهم لا قاعدة لهم يقفون عليها.

ثم ان ما ذكره ومثله العلامة كما قدمنا نقله عنهما من اعتبار ازالة عين النجاسة أولا ثم الاكتفاء بالمرة قد اعترضهما فيه الشهيد الثاني في الروض حيث اكتفى بالمرة التي يحصل بها الإنقاء فقال ويحتمل اعتبار المرة بعد زوال العين ان كانت موجودة وهو خيرة المعتبر إذ لا اثر للماء الوارد مع وجود سبب التنجيس. ويضعف بأن الباقي من البلل وغيره في المحل عين نجاسة فيأتي الكلام فيه.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام اما على تقدير ما ذكره هؤلاء من اطراح هذين الخبرين وان قبلوا أمثالهما في غير موضع فالاكتفاء بالمرة ظاهر ، واما من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح أو يراه ويتستر ببعض الاعذار كالجبر بالشهرة ونحوه فإنه لا خروج عما دل عليه الخبران المذكوران وانما يبقى الكلام في الجمع بينهما فظاهر من قال بخبر الثلاث حمل خبر السبع على الاستحباب جمعا واما من قال بالسبع فلا اعرف لاطراحه رواية الثلاث وجها مع الاشتراك في السند وعدم إمكان الترجيح ، وربما دل كلام بعضهم على ترجيحها بالشهرة وفيه ما فيه. ويقرب عندي في وجه الجمع بين الخبرين المذكورين الحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة المذكورة منها فمنه ما يحصل بالثلاث ومنه ما يتوقف على السبع ، وهو وان كان ايضا لا يخلو من تأمل إلا انه في مقام الجمع لا بأس به وكيف كان فالاحتياط لا يخفى. واما القول بالمرتين فلا اعرف له وجها.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان بعض من صرح بالسبع كالشيخين في المقنعة والنهاية والمبسوط جعلوا حكم سائر المسكرات كالخمر في ذلك وبعض اقتصر على ذكر الخمر خاصة ومورد الرواية انما هو النبيذ ومقتضاها تخصيص الحكم بما يصدق عليه هذا اللفظ ، والذي يظهر لي كما مر تحقيقه من صدق الخمر على الجميع انه لا منافاة بين التعبير بالخمر وحده

٤٩٥

وبه مع ضم سائر الأشربة المسكرة لصدق الخمر على الجميع ، نعم لفظ الخبر ورد بالنبيذ وهو أخص من الخمر ولعلهم فهموا منه ان المراد به مطلق الخمر كما صرحت به الرواية الثانية ، نعم يأتي على قول من خص اسم الخمر بعصير العنب كما قدمنا نقله عن جملة منهم الإشكال في المقام.

ثم ان جملة ممن طعن في الخبرين بالضعف صرح باستحباب السبع خروجا من خلاف من أوجها ، ولا يخفى وهنه لما حققناه في غير موضع مما تقدم من ان الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل فالخبر المذكور ان صلح للحجية والاستدلال فليحمل على ظاهره من الوجوب وان كان لا يصلح فلا معنى للحمل المذكور ، ثم اي مخرج يحصل بالحمل على الاستحباب المؤذن بجواز الترك وعدم الإثم عن الوجوب الموجب تركه للمؤاخذة والعقاب؟ والله العالم.

و (منها) ـ موت الفأرة فيه فأوجب الشيخ فيه سبعا وتبعه على ذلك جملة من الأصحاب ، واكتفى المحقق في الشرائع ومختصره والعلامة في جملة من كتبه والشيخ في الخلاف بالثلاث إلا ان مذهب الشيخ الى ذلك بالاعتبار المتقدم في سابق هذا الموضع ، وقيل بالمرة وهو مذهب المحقق في المعتبر. والعلامة في أكثر كتبه بالاعتبار المتقدم ثمة ، وقيل بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة بالاعتبار المذكور ايضا.

والذي وقفت عليه هنا من الأخبار موثقة عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبعا». وهي ظاهرة الدلالة على مذهب الشيخ ومن تبعه ، وردها المحقق في المعتبر فقال بعد ذكر عبارة المختصر التي اختار فيها القول بالثلاث ونقل القول بالرواية عن الشيخ ـ ما صورته : وحجته رواية عمار ثم ساقها ثم قال والرواية ضعيفة لانفراد الفطحية بها ووجود الخلاف في مضمونها فان الشيخ يقتصر على الثلاث في جميع النجاسات عدا الولوغ ولأن ميتة الفأرة والجرذ لا تكون

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥٣ من النجاسات.

٤٩٦

أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير ، ولان امتثال الغسل يحصل بالثلاث فلا يجب ما زاد ، ولانه يحتمل ان يكون هذا الحكم مختصا بالجرذ فلا يتناول الفأرة. انتهى. ثم انه رجع عن ذلك الى القول بالاكتفاء بالواحدة في كلامه الذي قدمنا نقله ، وكلامه (رحمه‌الله) قوي من حيث الاعتبار إلا ان إطراح النص من غير معارض مما لا وجه له ، وطعنه فيه بالضعف غير مسموع مع عمله بمثله وأمثاله في غير مقام من كتابه.

نعم يبقى الإشكال في ان مورد النص الجرذ وهو ضرب من الفأر كما ذكره في الصحاح فيشكل تعديته الى ما هو أعم منه وقد أشار الى ذلك في المعتبر كما قدمناه عنه ، وللمحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في شرح القواعد هنا كلام لا يخلو من الغفلة. قال بعد قول المصنف (قدس‌سره) : «ومن الجرذ والخمر ثلاث مرات ويستحب السبع» ما صورته : الأصح وجوب السبع فيهما لخبري عمار عن الصادق (عليه‌السلام) الدالين على وجوب السبع فيهما وضعف عمار منجبر بالشهرة ولا تضر المعارضة بخبره الدال على الثلاث لأن الشهرة مرجحة ، وليس الحكم مقصورا على الخمر بل المسكر المائع كله كذلك ولا يبعد إلحاق الفقاع بها. واما الجرذ فهو بضم الجيم وفتح الراء المهملة والذال المعجمة أخيرا ضرب من الفأر والمراد الغسل من نجاسة موته ، وهل يكون الغسل من غير هذا الضرب من الفأر واجبا؟ الظاهر عدم التفاوت نظرا إلى إطلاق اسم الفأر على الجميع وقد صرح به جمع من الأصحاب وان توقف فيه صاحب المعتبر. انتهى. أقول لا يخفى ان كلامه هذا انما يتجه لورود لفظ الفأر في خبر ليتمشى ما ذكره والوارد انما هو أخص منه كما عرفت. غير ان ظاهر كلامه هنا إلحاق الفقاع بالخمر في السبع ايضا ولم أقف على من ذكره سواه ويمكن ان يكون منشأه تكاثر الأخبار بإطلاق اسم الخمر عليه كما تقدم والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ اختلف الأصحاب في غسل الإناء من باقي النجاسات فقيل بالثلاث في ما عدا الولوغ مطلقا وهو مذهب الشيخ في الخلاف وابن الجنيد في مختصره

٤٩٧

على ما نقل عنه واختاره الشهيد في الذكرى والدروس والمحقق الشيخ علي ، وقيل بالمرة وهو قول المحقق في المعتبر وتبعه الشهيدان في البيان والروض ، وقيل بالمرتين.

احتج الشيخ على ما ذهب إليه بطريقة الاحتياط فإنه مع الغسل ثلاثا يحصل العلم بالطهارة ، وبموثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا كيف يغسل وكم مرة يغسل؟ قال يغسل ثلاث مرات : يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه وقد طهر وقال اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرات». ورده المتأخرون أما الاحتياط فإنه ليس بدليل شرعي واما الرواية فبضعف السند.

واما حجة من قال بالمرة فهي ظاهرة من رد الرواية المذكورة ، فإن امتثال الأمر بالغسل يحصل بالمرة ومسمى الإزالة يتحقق معها.

والأظهر القول بما دلت عليه الرواية المذكورة عند من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح أو يراه ولكن يحكم بجبر ضعف الرواية بالشهرة كما صرح به غير واحد في المقام

نعم قال الشيخ في المبسوط : ويغسل الإناء من سائر النجاسات ثلاث مرات ولا يراعى فيها التراب وقد روي غسله مرة واحدة والأول أحوط. إلا انا لم نقف على هذه الرواية فيما وصلنا من كتب الأخبار.

وصرح جمع من الأصحاب بأنه لو ملأ الإناء ماء كفى إفراغه منه عن تحريكه وانه يكفي في التفريغ مطلقا وقوعه بآلة لكن يشترط عدم إعادتها قبل تطهيرها وقيده بعضهم بكون الإناء مثبتا بحيث يشق قلعه. أقول : ما ذكروه من اشتراط عدم الإعادة إلا بعد التطهير متجه على تقدير القول بنجاسة الغسالة ، وما ذكر من التقييد بكونه مثبتا لا وجه له لانه لا فرق في حصول الطهارة بين إخراج ماء الغسالة منه بان يكفئه أو يخرجه بالآلة بالشرط المذكور.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥٣ من أبواب النجاسات.

٤٩٨

واما حجة القول بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة فقد عرفت انها غير مختصة بهذا المقام حيث انه ذهب الى وجوب المرتين في إزالة جميع النجاسات في ثوب أو بدن أو آنية أو غير ذلك ، والظاهر ان الوجه فيه عنده ورود التعدد بالمرتين في إزالة البول عن الثوب والبدن وان اعتباره في البول يدل بمفهوم الموافقة على اعتباره في غيره من النجاسات كما تقدم ذكره في مسألة إزالة نجاسة البول وان غير الثوب والبدن مثلهما في الحكم بالتقريب المتقدم ، ويؤيده ورود الاخبار بالتعدد في خصوص الإناء كما ينبه عليه حكم الولوغين والفأرة والخمر ، ويضاف الى ذلك أصالة البراءة مما زاد على المرتين الذي وردت به الأخبار الصحيحة واستضعاف الأخبار الدالة على الزيادة ، هذا أقصى ما يمكن ان يتكلف لتوجيه الحجة له (قدس‌سره) في المقام. ولا يخفى ما فيه على ذوي الأفهام فان إلحاق ما عدا البول به وما عدا الثوب والبدن بهما لا يخرج عن القياس سواء سمي مفهوم موافقة أو أولوية أو لم يسم سيما مع ورود الاخبار في تطهير الأواني بأعداد مخصوصة تباين ما ذكره. والله العالم.

تتميم يشتمل على مسألتين

(الأولى) ـ المفهوم من كلام أكثر الأصحاب ان أواني الخمر كلها قابلة للتطهير سواء في ذلك الصلب الذي لا يشتف كالصفر والرصاص والحجر والمغضور وغير الصلب كالقرع والخشب والخزف غير المغضور إلا انه يكره استعمال غير الصلب ونسب الفاضلان في المعتبر والمنتهى الى ابن الجنيد القول بعدم طهارة غير الصلب بأنواعه المذكورة ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما : ولم أره في مختصره. والعلامة في المختلف نسب الى ابن البراج القول بعدم جواز استعمال هذا النوع ايضا غسل أو لم يغسل.

وكيف كان فالواجب أولا ذكر الأخبار الواردة في المقام وبيان ما تدل عليه من الأحكام ، ومنها ـ ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم في

٤٩٩

الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن نبيذ سكن غليانه ، الى ان قال : وسألته عن الظروف فقال نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الدباء والمزفت وزدتم أنتم الحتم يعني الغضار والمزفت يعني الزفت الذي يكون في الزق ويصير في الخوابي ليكون أجود للخمر. قال وسألته عن الجرار الخضر والرصاص قال لا بأس بها». وفي التهذيب عوض «الحتم» «الحنتم» وهو الموجود في اللغة. أقول الدباء هو القرع والمزفت هو الإناء الذي يطلى بالزفت بالكسر وهو القير والغضار بالفتح هو الطين اللازب الأخضر الحر ، والحنتم بالحاء المهملة ثم النون ثم التاء المثناة الفوقانية على ما في النهاية : جرار خضر مدهونة كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحدة حنتمة ، وانما نهى عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها ، وقيل انها تعمل من طين يعجن بالدم والشعر فنهى عنها ليمتنع من عملها. انتهى.

وما روياه ايضا عن ابي الربيع الشامي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن كل مسكر فكل مسكر حرام. فقلت له فالظروف التي يصنع فيها منه؟ فقال نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير. فقلت وما ذلك؟ قال الدباء القرع والمزفت الدنان والحنتم جرار خضر والنقير خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها».

وما رواه في الكافي عن جراح المدائني عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «انه منع مما يسكر من الشراب كله ومنع النقير ونبيذ الدباء. الحديث».

وما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الموثق عن عمار (٤) قال : «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون فيه خل أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٢ من النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٥ من الأشربة المحرمة.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٥١ من النجاسات.

٥٠٠