الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

المسجد؟ قال لا بأس». لا ان المعنى فيها ما توهماه (قدس‌سرهما) من نجاسة الجص وانه لا يطهر بالنار لعدم الاستحالة وهو قد حكم بان تطهير النار انما هو بالاستحالة ولا بالماء الممازج له فإنه لا يطهره إجماعا ، وبالجملة فما ذكرناه معنى ظاهر الاستقامة.

والى ما ذكرنا أشار السيد السند في المدارك فقال : ويمكن ان يستدل على الطهارة أيضا بما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسن بن محبوب ثم ساق الرواية ثم قال : وجه الدلالة ان الجص يختلط بالرماد والدخان الحاصل من تلك الأعيان النجسة ولو لا كونه طاهرا لما ساغ تجصيص المسجد به والسجود عليه والماء غير مؤثر في التطهير إجماعا كما نقله في المعتبر فتعين استناده الى النار ، وعلى هذا فيكون اسناد التطهير الى النار حقيقة والى الماء مجازا أو يراد به فيهما المعنى المجازي. وتكون الطهارة الشرعية مستفادة مما علم من الجواب ضمنا من جواز تجصيص المسجد به ولا محذور فيه. انتهى.

أقول : الظاهر انما هو المعنى الأول لأن مطابقة الجواب للسؤال تقتضي حصول الطهارة ولا مطهر هنا حقيقة إلا النار كما عرفت فذكره (عليه‌السلام) في الجواب ولا ينافيه ضم الماء الى ذلك لانه يمكن حمل مدخليته في التطهير هنا على ان يكون من قبيل رش الماء على الثوب أو المكان المظنون النجاسة استحبابا ، وبالجملة فالغرض من الخبر بيان انه قد ورد على ذلك الجص مطهران شرعيان الماء والنار وان كان أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، فلا يبقى توقف في طهارته ولا يرد السؤال بان النار إذا طهرته أولا فلا معنى لتطهيره بالماء إذ لا يلزم من ورود المطهر الثاني تأثيره في الطهارة كما عرفت بل يكفي حصول المعنى المجازي.

هذا ، ولا يخفى عليك ان العلة الحقيقية في الطهارة انما هي الاستحالة سواء كانت بالنار أو بغيرها لأن الأحكام الشرعية تابعة لصدق الاسم فمتى انتقل الشي‌ء عن حالته الاولى وحقيقته السابقة إلى حقيقة أخرى وسمي باسم ما صدق عليه أفراد الحقيقة الثانية انتقل الحكم ايضا عما كان عليه أولا إلى حكم آخر ويخرج الخبر المذكور شاهدا على

٤٦١

ذلك ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب أيضا قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وليست الاستحالة مختصة بالنار بل هي مطهرة بنفسها ومن ثم طهرت النطفة والعلقة بصيرورتهما حيوانا والعذرة والميتة إذا صارا ترابا. وقال سبطه في المدارك في هذه المسألة : والمعتمد الطهارة لأنها الأصل في الأشياء ، ولان الحكم بالنجاسة معلق على الاسم فيزول بزواله. انتهى. وهو جيد. ونحن انما ذكرنا النار في عداد المطهرات مع ما سيأتي ان شاء الله تعالى من عد الاستحالة جريا على كلامهم (رضوان الله عليهم) وبذلك يظهر انه لا فرق بين الرماد والدخان في الحكم المذكور سيما مع دلالة ظاهر الخبر المذكور على ذلك ، لانه لا ريب ان الجص كما اختلط بتراب العذرة والعظام فقد لاقاه دخانها ايضا فلو لم يكن طاهرا لامتنع تجصيص المسجد به وجواز السجود عليه ، هذا خلف ، وبذلك يظهر انه لا وجه لما ذكره الشيخ في المبسوط من حكمه بنجاسة دخان الدهن النجس ولا لتردد المحقق في الرماد والدهن في كتاب الأطعمة.

قال في المعالم بعد البحث في المسألة : إذا عرفت هذا فاعلم ان مورد الحديث كما علمت هو استحالة عين النجاسة وقد وقع في كلام أكثر الأصحاب فرض المسألة كما في النص ، وعمم بعضهم الحكم على وجه يتناول المتنجس ايضا نظرا الى ان ثبوت ذلك في أعيان النجاسات يقتضي ثبوته في المتنجس بها بطريق اولى ، وهو جيد ويؤيده ملاحظة ما قررناه في تطهير الشمس من كون دليل التنجيس في أمثال ذلك غالبا هو الإجماع وانتفاؤه بعد الاستحالة معلوم. انتهى. وظاهره ان ثبوت الطهارة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى عين النجاسة بعد الاستحالة انما هو بالإجماع مضافا الى النص المذكور واما في المتنجس فليس إلا طريق الأولوية المؤيدة بعدم الإجماع كما ذكره. وفيه نظر بل الحق في الموضعين هو ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام للتسمية التابعة للحقيقة التي عليها ذلك الشي‌ء ، وسيأتي في المسألة الآتية ان شاء الله تعالى مزيد إيضاح لذلك.

نعم هنا مواضع قد وقع الخلاف في طهارتها بالنار مع عدم الاستحالة أو الشك فيها

٤٦٢

(الأول) الفحم قال في المعالم : الحق بعض المتأخرين بالرماد الفحم محتجا بزوال الصورة فيه والاسم ، وتوقف والدي (قدس‌سره) في ذلك ، وكلام المتقدمين خال من التعرض له ، والتوقف في محله ان كانت استحالته عن عين نجاسة اما إذا كان مستحيلا عن متنجس كالحطب النجس فليس بالبعيد طهارته نظرا الى ما قلناه في استحالة هذا النوع رمادا. انتهى وهو جيد إلا ان في الفرق بين عين النجاسة والمتنجس خفاء فإنه إن حصلت الاستحالة والخروج عن الحقيقة الاولى والاسم التابع لها إلى حقيقة أخرى يتبعها اسم آخر فالظاهر الطهارة كما قدمناه في الموضعين وإلا فلا.

(الثاني) ـ الطين النجس إذا طبخ بالنار حتى صار خزفا أو آجرا ، فذهب الشيخ في الخلاف والعلامة في النهاية وموضع من المنتهى والشهيد في البيان والمحقق الشيخ حسن في المعالم الى القول بالطهارة ، وجزم جمع من المتأخرين : منهم ـ الشهيد الثاني بالعدم ، وتوقف المحقق في المعتبر والعلامة في موضع آخر من المنتهى والسيد السند في المدارك

استدل الشيخ في الخلاف بالإجماع وصحيحة الحسن بن محبوب المتقدمة ، واحتج في المعالم على ذلك فقال : لنا ـ أصالة الطهارة بالتقريب السابق في تطهير الشمس وملاحظة كون مدرك الحكم بالتنجيس في مثله بعد ذهاب العين هو الإجماع ولا ريب في التفائه بعد الطبخ ، كيف وقد احتج الشيخ للطهارة بإجماع الفرقة فلا أقل من دلالته على نفي الإجماع على ثبوت التنجيس حينئذ وقد علم ان الاستصحاب في ما مدركه الإجماع مطرح وإذا لم يكن على الحكم بالنجاسة فيما بعد الطبخ دليل فالأصل يقتضي براءة الذمة من التكليف باجتنابه أو تطهيره أو تطهير ما يلاقيه برطوبة لأجل فعل مشروط بالطهارة. انتهى.

أقول : اما ما استدل به الشيخ هنا على الطهارة فإنا لا نعرفه وهو اعرف به ، اما إجماعاته المدعاة في هذا الموضع وغيره فلا يخفى على العارف الخائض في الفن ما فيها ، واما الرواية فلا دليل فيها على ما يدعيه بالكلية كما تقدم بيانه إذ لا اشعار فيها بنجاسة الجص قبل الحرق حتى انه بالحرق صار طاهرا ويصير الحكم في الخزف مثله.

٤٦٣

واما ما ذكره في المدارك بعد نقل احتجاج الشيخ (قدس‌سره) ـ حيث قال : وفيه إشكال منشأه الشك في تحقق الاستحالة وان كان القول بالطهارة محتملا لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة ـ ففيه ان ما ذكره من الاشكال باعتبار الشك في تحقق الاستحالة كما تقدم منه أيضا في باب التيمم في محله ، واما ما ذكره من ان القول بالطهارة محتمل لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة فكلام مزيف لا يخفى ما فيه على المتأمل بعين التحقيق فإنه متى ثبتت النجاسة وحكم بها استمر الحكم بها حتى يثبت الرافع الشرعي والمطهر الشرعي وليس هنا إلا الاستحالة وهو لا يقول بها بل جعلها موضع شك ، ولو كان مجرد خروج الشي‌ء من حال إلى أخرى يوجب الطهارة لوجب بمقتضى ذلك الحكم بطهارة العجين النجس بخبزه وطهارة الأرض بعد الرطوبة باليبوسة بالهواء ونحو ذلك وهو لا يقول به ، وقد صرح به في الفرع الأول من فروع مسألة تطهير الشمس في ما لو جف بغير الشمس فقال : ويدل عليه ان نجاسة المحل بالنص فيقف زوال النجاسة على ما عده الشارع مطهرا. انتهى. وهو آت في ما نحن فيه ، وبالجملة فإن الاستصحاب هنا انما هو من قبيل استصحاب عموم الدليل المتفق على صحته. نعم ما ذكره يأتي في الاستصحاب المصطلح الذي هو محل النزاع بينهم وهو ما دل الدليل فيه على حال مخصوصة وأريد تعدية الحكم الى حالة أخرى خالية من النص لا في ما إذا كان الدليل شاملا للحالين.

واما ما ذكره في المعالم فهو مبني على ما تفرد به في تطهير الشمس مما نقلناه ثمة عنه وبينا ما فيه وهو أصل متزعزع الأركان وقاعدة منهدمة البنيان بما أوضحنا من الأدلة الساطعة البرهان المخالفة لما عليه كافة العلماء الأعيان ، وحينئذ فمتى ثبتت النجاسة وجب استصحاب حكمها الى ان يحصل المطهر الشرعي ، وليس ثبوت أصل الحكم بالإجماع خاصة كما ادعاه حتى انه بعد الطبخ حيث لا إجماع فمقتضى الأصل الطهارة ، وبالجملة فإن المعتبر في الحكم بالنجاسة هو ملاقاتها للشي‌ء مع الرطوبة فإنه يصير بذلك متنجسا بالإجماع نصا وفتوى وهذا الحكم لا يزول عنه إلا بتطهيره بأحد المطهرات المنصوصة ،

٤٦٤

هذا هو مقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية المتفق عليها بين كافة العلماء قديما وحديثا ، وزوال العين لم يجعل مطهرا إلا في حالة مخصوصة متفق عليها نصا وفتوى لا مطلقا كما يدعيه في غير الثلاثة التي قدمها.

احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض على ما ذهب اليه من النجاسة بعدم خروج الخزف عن مسمى الأرض كما لم يخرج الحجر عن مسماها مع انه أقوى تصلبا منه مع تساويهما في العلة وهو عمل الحرارة في أرض أصابتها رطوبة ومن ثم جاز السجود عليهما مع اختصاصه بالأرض ونباتها بشرطية. انتهى.

وأجاب عن ذلك ولده في المعالم فقال : هذا ، وعندي ان ادعاء عدم الخروج عن الاسم هنا توهم منشأه النظر الى الحجر وملاحظة ما ذكر من اشتراكهما في علة الصلابة وكونها في الحجر أقوى ، والعرف الذي هو المحكم عند فقدان الحقيقة الشرعية وخفاء اللغوية ينادي بالفرق ويعلن بصدق اسم الأرض على الحجر دون الخزف ، وقد تنبه لهذا جماعة : منهم ـ المحقق في المعتبر فقال في بحث التيمم : ان الخزف خرج بالطبخ عن اسم الأرض فلا يصلح التيمم به ، ثم ذكر جوازه في الحجر محتجا بأنه أرض إجماعا (لا يقال) هذا مناف لتوقفه في طهارته (لأنا نقول) ليس نظره في التوقف الى عدم الخروج عن الاسم لانه توقف فيما لا ريب في خروجه وقد عرفت كلامه في الرماد وسترى كلامه في ما يستحيل بغير النار. انتهى ومن هنا يظهر ان توقف من توقف في المسألة للشك في الخروج وعدمه في محله. والله العالم.

(الثالث) ـ العجين المعجون بماء نجس هل يطهر بخبزه أم لا؟ المشهور العدم وقال الشيخ في النهاية في باب المياه : فان استعمل شي‌ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به ويخبز لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز فان النار قد طهرته. وقال في باب الأطعمة من الكتاب المذكور : وإذا نجس الماء بحصول شي‌ء من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز لم يجز أكل ذلك الخبز وقد رويت رخصة في جواز اكله وذلك ان النار قد طهرته

٤٦٥

والأحوط ما قدمناه. واختلف كلامه أيضا في كتابي الحديث فأفتى في الاستبصار بالطهارة وفي التهذيب بعدمها.

واحتج في المعالم بعد اختياره القول المشهور من عدم الطهارة فقال : لنا ـ أصالة النجاسة إذ المفروض كون الماء نجسا والنار لا تخرج من العجين المخبوز جميع الماء وانما تجفف بعض رطوبته فيفتقر الحكم بطهارة باقي الرطوبة إلى الدليل (لا يقال) يلزم على هذا طهر الأجزاء التي تجففها النار من رطوبة الماء رأسا لزوال المقتضى لاستصحاب النجاسة حينئذ (لأنا نقول) مدار غالب أحكام النجاسات على الإجماع ومن البين ان الخلاف هنا منحصر في القول بالبقاء على النجاسة مطلقا والقول بطهارته إذا صار خبزا مطلقا والتمسك باستصحاب النجاسة ينفي القول الثاني ، واما احتمال الطهارة إذا صار خبزا يابسا فإنما ينفيه فرض انحصار الخلاف في القولين إذ لا مساغ لإحداث الثالث على ما يقتضيه أصول الأصحاب ، وقد بينا هذا في مبحث الإجماع من مقدمة الكتاب. انتهى

أقول : لا يخفى ان ما ذكره في صدر كلامه جيد وبه استدل جملة من الأصحاب إلا انه في سؤالاته لنفسه وأجوبته قد ناقض نفسه في ما تقدم نقله عنه في تطهير الشمس فإنه قد قال ثمة ـ بعد ان ذكر انحصار وجوب التطهير بعد زوال العين في الثوب والبدن والآنية دون غيرها ـ ما لفظه : (فان قلت) كأن الاتفاق واقع على ان للنجاسات المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه برطوبة مستمرا الى ان يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع من أنواع المطهرات الى دليل يثبته (قلت) هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز عن استنباط بواطن الأدلة ويلتفت اليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما قررناه أمر وراء ذلك ، وبالجملة فالذي يقتضيه التحقيق انه لا معنى لكون الشي‌ء نجسا إلا دلالة الدليل الشرعي على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة أو ازالة عينه أو أثره لأجله وان ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمة من التكليف فيه بأحدهما. إلى آخر ما تقدم.

٤٦٦

أقول : لا ريب في دخول الخبز اليابس بالنار أو الهواء في ما ذكره من الافراد التي يجب بمقتضى تحقيقه الحكم فيه بالطهارة كالأرض التي تجف بغير الشمس ، وتوقفه هنا على وجود القائل به يدفعه قوله بما ذهب اليه من هذا القول الذي تفرد به فإن عامة الأصحاب قديما وحديثا كما لا يخفى على من راجع كتبهم وكلامهم على ان النجاسات متى أثرت في شي‌ء بملاقاتها له برطوبة وجب استصحاب ذلك الى وجود المطهر الشرعي وهو قد ذهب الى طهارته بمجرد زوال العين في غير الثوب والبدن والآنية ، فاللازم هنا هو طهارة الخبز الذي عجينه نجس باليبس وزوال الماء النجس كيف اتفق كما لا يخفى إذ العلة في الموضعين واحدة والتستر عن ذلك بلزوم احداث قول ثالث في هذا المقام تستر بما هو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت. فان انتشار الخلاف وتكثر الأقوال في المسائل الشرعية بين المتأخرين مما لم يوجد في كلام المتقدمين ولو صحت هذه القاعدة لم يبلغ الأمر الى ذلك ، على ان الأصل الذي بنى عليه كما عرفت انما أحدثه هو خاصة ولم يقل به أحد قبله بل عبائر الأصحاب كلها على خلافه وان سجل عليه بما سجل وأكثر بما طول ، وبالجملة فظهور المنافاة بين كلاميه مما تقدم في مسألة تطهير الشمس وما ذكره هنا أوضح من ان يحتاج الى تطويل وان تستر عنه بما لا اعتماد عليه ولا تعويل.

وكيف كان فالواجب الرجوع الى الروايات الواردة في المقام وبيان ما يفهم منها من الأحكام :

فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه قال وما أحسبه إلا حفص بن البختري (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع ممن يستحل أكل الميتة».

وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «يدفن ولا يباع».

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١١ من أبواب الأسآر.

٤٦٧

وما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن زكريا بن آدم (١) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه». وبمضمون هذه الرواية أفتى في الفقيه من غير إسنادها الى الامام فقال : «وان قطر خمر أو نبيذ في عجين فقد فسد فلا بأس ببيعه من اليهود والنصارى بعد ان يبين لهم».

وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن من رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «في عجين عجن وخبز ثم علم ان الماء كان فيه ميتة؟ قال لا بأس أكلت النار ما فيه».

وعن عبد الله بن الزبير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال إذا أصابته النار فلا بأس بأكله».

أقول : والظاهر ان مستند الشيخ في ما تقدم نقله عنه من الطهارة بالخبز هو الخبران الأخيران ، ورده المتأخرون بعد الطعن بضعف السند بالطعن في الدلالة (اما الأول) فلأن الميتة أعم من الطاهرة والنجسة ولا دلالة في الخبر على كونها من ذوات الأنفس النجسة بالموت. و (اما الثاني) فهو موقوف على القول بنجاسة البئر والأظهر طهارتها وهذا الخبر من جملة الأخبار الدالة على ذلك ، ونفي البأس عن اكله بعد اصابة النار انما هو كناية عن الاستقذار المتوهم مما في الماء كما يشير اليه قوله في الخبر الأول «أكلت النار ما فيه» ومن المحتمل قريبا ان المراد بالماء في رواية ابن ابي عمير الثالثة انما هو ماء البئر ، وحينئذ فلا فرق بين كونها نجسة العين أو طاهرة بناء على عدم نجاسة البئر بالملاقاة ، وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لأصالة بقاء النجاسة حتى يحصل

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من النجاسات.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من الماء المطلق.

٤٦٨

المطهر الشرعي كما عليه جملة الأصحاب في هذا الباب وتخرج الروايات الثلاث المتقدمة شاهدة على ذلك.

بقي الكلام هنا في مسألتين : (إحداهما) أن الرواية الأولى تضمنت انه يباع ممن يستحل الميتة والثانية تضمنت انه يدفن ولا يباع. ويمكن الجمع بينهما بحمل النهي عن البيع على البيع على المسلم من غير اعلام وإلا فبيعه على المسلم مع الاعلام لا إشكال في جوازه بل الظاهر انه لا خلاف فيه كالدهن النجس ونحوه فان له منافع محللة.

و (ثانيتهما) ـ ان الرواية الأولى تضمنت انه يباع من أهل الذمة وبه صرح الشيخ في النهاية وهو ظاهر المشهور بين الأصحاب أيضا ، ومنع ابن إدريس من ذلك وذهب الى انه لا يجوز بيعه مطلقا وقال ان الرواية الواردة بذلك متروكة فلا عمل عليها لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ولان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه» (١). وأجاب العلامة في المختلف بعد اختياره مذهب الشيخ عن كلام ابن إدريس بأن هذا في الحقيقة ليس بيعا وانما هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا. انتهى. وهو مؤذن بتوقفه في الحكم بصحة البيع ، وبذلك صرح في المنتهى فقال : واما ما تضمنته الرواية من البيع ففيه نظر والأقرب انه لا يباع لرواية ابن ابي عمير فان استدل بما رواه ابن ابي عمير وذكر الرواية الاولى ، ثم قال والجواب انها معارضة لما قدمناه ويمكن ان يحمل على البيع على غير أهل الذمة وان لم يكن ذلك بيعا حقيقة.

وعندي في ما ذكره ابن إدريس وكذا ما ذكره العلامة في المنتهى نظر

__________________

(١) لم يرد هذا الحديث بهذا اللفظ في كتب الاخبار لا من طرق الخاصة ولا من طرق العامة نعم ورد في حديث ابن عباس عنه (ص) «ان الله إذا حرم على قوم أكل شي‌ء حرم ثمنه عليهم». وقد رواه أحمد في المسند ج ١ ص ٢٤٧ وص ٢٩٣ والبيهقي في السنن ج ٦ ص ١٣ وأبو داود في السنن ج ٢ ص ٢٨٠ وابن الدنيع في تيسير الوصول ج ١ ص ٥٥ والشوكانى في نيل الأوطار ج ٥ ص ١٢١.

٤٦٩

(اما أولا) فلما قدمنا الإشارة إليه من انه عين مملوكة يجوز الانتفاع بها نفعا محللا في علف الحيوان كالدهن النجس للاستصباح وغيره فلا مانع من بيعه ، نعم إذا باعه على مسلم فظاهر الأصحاب وجوب اعلامه وان لم أقف فيه على دليل واما بيعه على الكافر المستحل لذلك فلا يتوقف على الاعلام.

و (اما ثانيا) ـ فلتظافر الأخبار بذلك ومنها رواية زكريا بن آدم المتقدمة وصحيحة ابن ابي عمير الاولى وحسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «انه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ثم ان الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع؟ قال يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه.». وصحيحته الأخرى أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سمعته يقول إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممن يستحل الميتة.». ومع دلالة هذه الأخبار على الحكم المذكور فلا مجال للتوقف فيه ولا ضرورة الى ما تكلفه العلامة في المختلف من التأويل.

واما ما استند اليه ابن إدريس من الحديث الذي نقله ففيه انه بعد صحته وثبوته فغايته ان يكون مطلقا وهذه الأخبار مع تكاثرها وصحتها خاصة فيجب تقييد إطلاق ذلك الخبر بها كما هو القاعدة المتكررة في كلامهم.

بقي ان رواية زكريا ابن آدم تضمنت الاعلام قبل البيع إلا ان ذلك في كلام السائل فلا يتقيد به الحكم المذكور لكن ظاهر عبارة الصدوق المتقدمة تقييد الحكم بذلك في البيع على أهل الذمة واليه يشير كلام العلامة في المنتهى وقوله : «ويمكن ان يحمل على البيع على غير أهل الذمة» ويمكن توجيه ذلك بأنهم مع القيام بشرائط الذمة يعاملون معاملة المسلمين فلا يباع عليهم الا مع الإعلام. إلا ان فيه ان رواية زكريا المشتملة على ذلك وهي التي أخذ الصدوق عبارته منها تضمنت انهم يستحلون شربه فأي

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من الأطعمة المحرمة.

٤٧٠

فائدة تترتب على الاعلام ، وبالجملة فالإشكال في عبارة الصدوق لا في الرواية لما عرفت. والله العالم.

(المسألة الرابعة) ـ من المطهرات عند الأصحاب الاستحالة إلا انهم قد اتفقوا على مواضع منها واختلفوا في مواضع : فاما ما وقع عليه الاتفاق فالنطفة والعلقة إذا استحالتا حيوانا طاهرا والخمر إذا انقلب خلا والدم إذا صار قيحا ، وقد نقل العلامة في المنتهى الإجماع على الحكم في كل من هذه المذكورات وأضاف إلى القيح الصديد ايضا ، وفيه كلام تقدم في آخر الفصل الرابع في نجاسة الدم وهو ان الصديد قيح يخالطه الدم كما لا يخفى ، ومن ذلك أيضا استحالة الماء النجس بولا لحيوان مأكول اللحم والغذاء النجس روثا لحيوان مأكول اللحم.

واما ما وقع فيه الخلاف من الافراد فمنه ـ ما تقدم في مسألة التطهير بالنار ، ومنه ـ الكلب إذا وقع في المملحة فصار ملحا فذهب المحقق في المعتبر والعلامة في عدة من كتبه الى عدم الطهارة ، قال في المنتهى : إذا وقع الخنزير وشبهه في ملاحة فاستحال ملحا والعذرة في البئر فاستحالت حمأة لم تطهر وهو قول أكثر أهل العلم خلافا لأبي حنيفة (١) وبنحو ذلك صرح المحقق في المعتبر ، واحتجا بأن النجاسة قائمة بالأجزاء لا بالصفات فلا تزول بتغير أوصاف محلها وتلك الأجزاء باقية فتكون النجاسة باقية لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها. والمشهور في كلام المتأخرين عنهما هو القول بالطهارة لما قدمنا ذكره في بحث تطهير النار من ان الأحكام تابعة للاسم الجاري على حقائق الأشياء وجارية على ذلك ، والكلب بعد استحالته ملحا قد صارت حقيقته إلى حقيقة الملح وسمي باسم آخر باعتبار ما صار اليه ، فما ورد من الأخبار الدالة على نجاسة الكلب لا تصدق في محل البحث والاخبار الدالة على طهارة الملح وحله جارية عليه في هذه الحالة بعين ما وافقوا عليه في الافراد المتقدمة ، ولو صحت هذه التعليلات العليلة لجرت ايضا فيما وافقوا على طهارته بالاستحالة.

__________________

(١) كما في البحر الرائق ج ١ ص ٢٢٧.

٤٧١

ولا بأس بالتعرض لنقل كلام جملة من الأصحاب في الباب ليزول عنك الشك فيما ذكرنا والارتياب. قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد ان ذكر عبارة المصنف المؤذنة بالتوقف في الحكم المذكور في بيان وجهي التوقف : من ان اجزاء النجاسة باقية لم تزل وانما تغيرت الصورة وكما ان النجاسة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل كذا حصول الطهارة موقوف على الدليل ولم يثبت ، ومن ان مناط النجاسة هي تلك الصورة مع الاسم لأن أحكام الشرع جارية على المسميات بواسطة الأسماء لأن المخاطب بها كافة الناس فينزل على ما هو المتفاهم بينهم عرفا أو لغة كما يليق بالحكمة ، ولا ريب ان الذي كان من افراد نوع الكلب قبل الاستحالة بحيث يصدق عليه اسمه قد زال عنه ما كان وصار في الفرض من افراد الملح بحيث لا يصدق عليه ذلك الاسم بل يعد إطلاقه غلطا ، وكذا القول في العذرة بعد صيرورتها ترابا فيجب الآن ان تجري عليها الأحكام المترتبة شرعا على التراب والملح ، على ان جميع ما أجمعوا على طهارته من نحو العذرة تصير دودا والمني يصير حيوانا طاهر العين ونحو ذلك لا يزيد على هذا ، فكان التوقف في الطهارة هنا لا وجه له. انتهى كلامه. وهو جيد وجيه وبالجملة فإن المعلوم من الشرع والنصوص الواردة عن أهل الخصوص (عليهم‌السلام) هو دوران الأحكام مدار الأسماء الثابتة لتلك المسميات فإذا حكم الشارع بنجاسة الكلب مثلا أو العذرة بقي الحكم ثابتا ما ثبت هذا الاسم وإذا حكم بطهارة الملح وحله وطهارة التراب ثبت ايضا ما ثبت الاسم كائنا ما كان ، وقد تقدم كلام صاحب المدارك في ذلك في سابق هذه المسألة ونحوه كلام جده ، وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم في هذه المسألة بعد نقل القول بالنجاسة عن الفاضلين والطهارة عن فخر المحققين والمحقق الشيخ علي والشهيد ووالده ـ ما صورته : وهو الأظهر لنا ـ ان الحكم بالنجاسة منوط بالاسم كما هو الشأن في سائر الأحكام الشرعية فيزول بزواله والمفروض في محل النزاع انتفاء صدق الاسم الأول ودخوله تحت اسم آخر فيجب زوال الحكم الأول ولحوق

٤٧٢

أحكام الاسم الثاني له ، ثم نقل حجة الفاضلين المتقدمة وقال : والجواب ان قيام النجاسة بالأجزاء مسلم لكن لا مطلقا بل بشرط الوصف لانه المتبادر من تعليق الحكم بالاسم والمعهود في الأحكام الشرعية ولا ريب في انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه. انتهى.

وهو جيد وجيه.

فرعان

(الأول) ـ قد نبه جملة من الأصحاب في الصورة المفروضة على اشتراط كرية ماء المملحة. والظاهر ان الوجه فيه تنجس الماء والأرض لو كان الماء أقل من كر وكذا الملح الملاقي له في المملحة ، فطهارته بالاستحالة بعد تنجس جميع ذلك لا يجدي في زوال النجاسة العارضة به أولا وكذا استحالة الماء ملحا بعد نجاسة أرضه لا يجدي في زوال النجاسة عنه.

(الثاني) ـ ينبغي ان يعلم ان طهارة العذرة مثلا باستحالتها ترابا والحكم بطهارة التراب في الصورة المذكورة انما هو فيما إذا كانت العذرة التي كانت في الأرض يابسة ثم استحالت اما لو كانت رطبة ثم استحالت فإن الأرض قد تنجست بها في حال الرطوبة فهي وان استحالت إلا ان الأرض باقية على النجاسة بذلك السبب وان كانت عرضية ، وهكذا كل نجاسة رطبة استحالت أرضا.

واما باقي المطهرات العشرة كما عده الأصحاب فمنه ـ الإسلام والأمر فيه ظاهر ، والانقلاب وقد تقدمت الإشارة إليه في الاستحالة بانقلاب الخمر خلا والعصير ، وعليه تدل جملة من الاخبار ومنها ـ موثقة عبيد بن زرارة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يأخذ الخمر فيجعله خلا؟ قال لا بأس». وموثقة أخرى له ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «في رجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتى

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من الأشربة المحرمة.

٤٧٣

صار خمرا فجعله صاحبه خلا؟ فقال إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس». وفي هذا الخبر كما ترى دلالة على ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام الشرعية للاسم طهارة ونجاسة وحلا وحرمة ومنها ـ نقصان العصير وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة عليه في فصل نجاسة الخمر. ومنها ـ الانتقال كالدم المنتقل إلى البعوضة والقمل ونحوهما والحكم فيه ايضا مما لا خلاف فيه ولا اشكال يعتريه والله العالم.

(المقصد الثالث) ـ في الأواني والكلام يقع في حكم تطهيرها وبيان ما يجوز استعماله منها وما لا يجوز فالكلام في هذا المقصد يقع في مطلبين (الأول) في حكم تطهيرها وفيه مسائل :

(الأولى) اختلف الأصحاب في كيفية تطهير الإناء من ولوغ الكلب بالماء القليل ، فالمشهور انه يطهر بغسله ثلاث مرات أولاهن بالتراب. وقال المفيد (قدس‌سره) في المقنعة يغسل ثلاثا وسطاهن بالتراب ثم يجفف. وأطلق جملة من الأصحاب : منهم ـ المرتضى (رضي‌الله‌عنه) والشيخ في الخلاف انه يغسل ثلاثا إحداهن بالتراب وقال الصدوق في الفقيه بعد تقدم ذكر الإناء : «وان وقع فيه كلب أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم يجفف» وكذا نقله عن أبيه في الرسالة أيضا بعين هذه العبارة ، وقال ابن الجنيد في مختصره : «والأواني إذا نجست بولوغ الكلب أو ما جرى مجراه غسل سبع مرات أولاهن بالتراب».

والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة صحيحة أبي الفضل البقباق المروية في التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء». وروى هذه الرواية المحقق في المعتبر وكذا العلامة في المنتهى وزادا لفظ «مرتين» بعد قوله «بالماء».

وما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه‌السلام) (٢) : «ان وقع كلب في الماء أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١ من الأسآر و ١٢ من النجاسات.

(٢) ص ٥.

٤٧٤

يجفف». انتهى. ومن هذه العبارة أخذ الصدوق في الفقيه وكذا في المقنع وأبوه في الرسالة ما ذكراه حسبما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى في جملة من الأحكام الآتية في كتاب الصلاة والكتب التي بعده.

وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ؟ قال تغسله سبع مرات وكذلك الكلب». والظاهر ان هذا الخبر مستند ابن الجنيد في ما نقل عنه من السبع والخبر وان كان خاليا من ذكر التراب إلا انه يمكن أخذه من الخبر المتقدم.

وتحقيق البحث في المسألة يتوقف على بسط الكلام في موارد (الأول) ـ مورد الخبرين المتقدمين شرب الكلب من الإناء والأصحاب عبروا في هذا الموضع بالولوغ وهو لغة ـ على ما نص عليه في الصحاح وغيره ـ شرب الكلب بطرف لسانه ، وزاد في القاموس إدخال لسانه في الإناء وتحريكه.

ونص جماعة من متأخري الأصحاب على ان لطع الكلب بلسانه اي لحسه للإناء في معنى الولوغ ايضا وان لم يصدق عليه اسمه حقيقة نظرا إلى انه اولى بالحكم من الولوغ فيتناوله الدليل بمفهوم الموافقة ، وصرح به في المدارك واستحسنه في المعالم وهو غير بعيد.

ونص العلامة في النهاية على انه لو حصل اللعاب بغير الولوغ فالأقوى إلحاقه به إذ المقصود قلع اللعاب من غير اعتبار السبب ، قال وهل يجري عرقه وسائر رطوباته واجزائه وفضلاته مجرى لعابه؟ إشكال الأقرب ذلك لان فمه أنظف من غيره ولهذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه ، مع انه قال في المنتهى : لا يغسل بالتراب إلا من الولوغ خاصة فلو ادخل الكلب يده أو رجله أو غيرهما كان كغيره من النجاسات ، ثم نقل عن ابن بابويه التسوية بين الوقوع والولوغ ونقل أقوال بعض العامة ثم أجاب عنه بأنه تكليف غير معقول المعنى فيقف على النص وهو انما دل

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من الأشربة المحرمة.

٤٧٥

على الولوغ ، ثم نقل حجة المخالف بان كل جزء من الحيوان يساوي بقية الاجزاء في الحكم ، ثم أجاب بأن التساوي ممنوع والفرق واقع إذ في الولوغ تحصل ملاقاة الرطوبة اللزجة للإناء المفتقرة إلى زيادة في التطهير. وقد اقتفى في هذه الحجة المحقق في المعتبر ومنها يعلم الجواب عما صار إليه في النهاية ، ومن العجب انه قال فيها بعد الكلام المتقدم بسطر واحد تقريبا : ولو ادخل يده أو رجله أو غيرهما من اجزائه كان كغيره من النجاسات وقيل بمساواته للولوغ ، والأصحاب قد نقلوا عن ابني بابويه إلحاق الوقوع بالولوغ وردوه بعدم الدليل.

قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما : والمشهور بين الأصحاب قصر الحكم على الولوغ وما في معناه وهو اللطع ، والوجه فيه ظاهر إذ النص انما ورد في الولوغ وادعاء الأولوية في غيره مطلقا في حيز المنع وبدونها يكون الإلحاق قياسا. انتهى.

أقول : العذر لهم واضح حيث انهم لم يقفوا على هذا الكتاب الذي هو مستندهم في جميع ما يستغربونه من الأحكام التي يقول بها ولم يوجد مستندها في الكتب المشهورة. لكن الاولى بهم في مثل المقام ان يحملوا كلامهما على وصول خبر إليهما ولم يصل الى المتأخرين حيث انهما من أرباب النصوص الذين لا يعولون إلا عليها على الخصوص لا على مفهوم أولوية ولا قياس ولا نحوهما مما لا يخرج عن شبهة الالتباس ، وبالجملة فقد عرفت مستندهما في ما ذكراه فلا ورود لما أورد عليهما.

والعجب ايضا ان ممن صرح بإلحاق الوقوع بالولوغ المفيد (قدس‌سره) والظاهر ان مستنده أيضا في ذلك هو الكتاب المذكور وان كانت عبارته على غير نهج عبارة الكتاب حيث قال : إذا شرب منه كلب أو وقع فيه أو ماسة ببعض أعضائه فإنه يهراق ما فيه من ماء ثم يغسل مرة بالماء ومرة ثانية بالتراب ومرة ثالثة بالماء ويجفف ويستعمل. ومنه يظهر قوة ما ذهب إليه في النهاية بالنسبة الى اجزاء الكلب. نعم ما ذكره زيادة على ذلك من عرقه وسائر رطوباته محل توقف لعدم الدليل.

٤٧٦

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب من غير خلاف يعرف متقدميهم ومتأخريهم هو وجوب المرتين بالماء مع ان الخبر الذي نقله الشيخ خال من ذلك ولفظ المرتين انما وجد في الخبر بنقل المعتبر ومن أجل ذلك اعترضهم في المدارك فقال بعد نقل الخبر عن الشيخ : كذا وجدته في ما وقفت عليه من كتب الأخبار ونقله كذلك الشيخ (قدس‌سره) في مواضع من الخلاف والعلامة في المختلف إلا ان المصنف في المعتبر نقله بزيادة لفظ «مرتين» بعد قوله : «اغسله بالماء» وقلده في ذلك من تأخر عنه ، ولا يبعد ان تكون الزيادة وقعت سهوا من قلم الناسخ ، ومقتضى إطلاق الأمر بالغسل الاكتفاء بالمرة الواحدة بعد التعفير إلا ان ظاهر المنتهى وصريح الذكرى انعقاد الإجماع على تعدد الغسل بالماء فان تم فهو الحجة وإلا أمكن الاجتزاء بالمرة لحصول الامتثال بها. انتهى أقول : ان ذكر المرتين لو اختص بمن تأخر عن المحقق لتم ما ذكره ولكنه موجود في كلام المتقدمين كالشيخين والصدوقين والمرتضى وغيرهم. واما ما ادعاه من توهم السهو في النقل فقد أجاب عنه شيخنا البهائي في الحبل المتين بان عدم اطلاعنا على هذه الزيادة في الأصول المتداولة في هذا الزمان غير قادح وان كلام المحقق في المعتبر يعطي انه نقل بعض الأحاديث المذكورة من كتب ليست في أيدي أهل زماننا إلا أسماؤها ككتب الحسن بن محبوب واحمد بن محمد بن ابي نصر والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان وغيرهم ، ولعله (قدس‌سره) نقل هذه الزيادة من بعض هذه الكتب. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ما عرفت من تصريح أساطين الفرقة الناجية بذلك ووجود ذلك في كتاب الفقه فلا مجال للتوقف فيه.

(الثالث) ـ قد عرفت مما تقدم انه أطلق جملة من الأصحاب الغسل ثلاثا إحداهن بالتراب ، وبعض قيد بتقديم التراب وبعض جعله متوسطا ، وظاهر الجميع الاتفاق على عدم جواز التأخير. بقي الكلام في القولين المذكورين وصحيحة البقباق

٤٧٧

قد صرحت بالتقديم. واما القول بالتوسط كما ذهب اليه شيخنا المفيد فلم نقف له على مستند.

(الرابع) ـ اختلف الأصحاب في الغسلة التي بالتراب هل يجب المزج فيها بالماء أم لا؟ فذهب إلى الأول الراوندي وابن إدريس ومال إليه العلامة في المنتهى خاصة ، والمشهور العدم لكنهم بين ساكت عن حكم المزج وبين مصرح بجوازه واجزائه في التطهير ، وممن صرح بالاجزاء الشهيد في الدروس والبيان وهو ظاهر الشهيد الثاني في المسالك أيضا إلا انه اشترط بان لا يخرج التراب بالمزج عن اسمه.

قال ابن إدريس على ما نقله عنه العلامة في المختلف : كيفية غسله بالتراب ان يمزج الماء بالتراب ثم يغسل به الإناء أول مرة لأن حقيقة الغسل جريان المائع على المحل. وقال في المنتهى قال ابن إدريس الغسل بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه ومن الماء لا يفرد أحدهما عن لآخر إذ الغسل بالتراب لا يسمى غسلا لان حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول والتراب وحده غير جار ، وفي اشتراط الماء نظر وان كان ما قاله قويا. انتهى.

أقول : ومن هذا الكلام علم دليل القول المذكور وملخصه ان حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم المغسول والتراب وحده لا يحصل به الجريان فيعتبر مزجه بالماء تحصيلا لحقيقة الغسل.

وأجاب عنه المحقق الشيخ علي بأنه خيال ضعيف فان الغسل حقيقة إجراء الماء فالمجاز لازم على تقدير ذلك مع ان الأمر بغسله بالتراب والممزوج ليس ترابا.

وأجاب عنه الشهيد في الذكرى تبعا للعلامة في المختلف بأنه لا ريب في انتفاء الحقيقة على التقديرين والخبر مطلق فلا ترجيح. وهو يرجع في الحقيقة إلى الأول وتوضيحه ان ادعاء صدق مفهوم الغسل مع المزج ان كان بالنظر الى الحقيقة فالمزج ليس بمحصل لحقيقة الغسل قطعا إذ الغسل حقيقة انما هو بالماء أو نحوه من المائعات المشابهة له ، وان كان باعتبار المجاز فهو صادق بالتراب وحده ، وليس على ترجيح

٤٧٨

أحد المجازين دليل ، والإطلاق الواقع في الخبر يدل بظاهره على الاكتفاء بأقل ما يتحقق معه الاسم فيحتاج إثبات الزائد عليه الى دليل.

ويمكن دفعه بان يقال ان التراب الممتزج وان لم يسم غسلا حقيقة إلا أنه أقرب الى حقيقة الغسل من الدلك بالتراب وحده ومع تعذر الحقيقة يصار إلى أقرب المجازات إلا انه ربما تطرق القدح ايضا الى هذا الوجه بأنه على تقدير المزج يلزم ارتكاب تجوزين (أحدهما) في الغسل كما اعترف به ، و (ثانيهما) في التراب فان الممزوج بالماء على وجه يحصل فيه الجريان لا يسمى ترابا كما تقدم في كلام المحقق الشيخ علي ، واما على الوجه الآخر وهو الغسل بالتراب وحده فإنما يلزم ارتكاب مجاز واحد في لفظ الغسل.

وربما بنى الكلام في المقام على معنى الباء في قوله (عليه‌السلام) «بالتراب» فان حملناها علي الاستعانة كما في قولهم «كتبت بالقلم» والظرف حينئذ لغو ومتعلقة خاص مذكور تعين التجوز في لفظ الغسل بإرادة الدلك منه بنوع من العلاقة وكان الخبر واضح الدلالة على القول المشهور ، وان حملناها على المصاحبة كما في قولهم «دخلت عليه بثياب السفر» فالظرف على هذا التقدير حال من الغسل المدلول عليه بالأمر وهو حينئذ مستقر لكون متعلقة امرا عاما واجب الحذف وهو الكون والاستقرار كما قرر في محله من الكتب النحوية ، وعلى هذا فلا حاجة الى التجوز في الغسل بل يبقى على حقيقته إلا انه يحتاج الكلام الى تقدير متعلق الجار ويصير حاصل الكلام واغسله حال كون الغسل كائنا بمصاحبة التراب ، وليس في هذا الوجه ما ربما يستبعد به إلا تقدير متعلق الجار وهو وان كان خلاف الأصل إلا ان مقتضى القواعد النحوية ذلك ، وبهذا الوجه يكون الخبر حجة لابن إدريس ومن قال بمقالته وربما رجح ايضا بقلة استعمال الغسل في الدلك بالتراب وبعده عن الفهم وليس الإضمار لمتعلق الجار بهذه المثابة بل هو شائع الاستعمال. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال لما عرفت والاحتياط بالتراب وحده والتراب الممزوج مما لا ينبغي تركه.

٤٧٩

تذنيب

قال العلامة في التذكرة. ان قلنا بمزج التراب بالماء فهل يجزئ لو صار مضافا؟ اشكال ، وعلى تقديره هل يجزئ عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ اشكال ، وبنى الحكم في النهاية على ان التعفير هل ثبت تعبدا أو استظهارا في القلع بغير الماء؟ فعلى الأول يتوقف فيه مع ظاهر النقل وعلى الثاني يجزئ عوض الماء غيره من المائعات كالخل وماء الورد ولا يضر خروج الماء عن الإطلاق بالمزج بطريق أولى.

أقول : أنت خبير بان الظاهر ان الأمر بالتعفير انما هو تعبد شرعي والتعليل بإزالة الأجزاء اللعابية علة مستنبطة مع تخلفها في كثير من الموارد كما لا يخفى ، والمعلوم من الشرع عدم مدخلية غير الماء المطلق في التطهير مطلقا ، وصدق التراب مع صيرورة الماء به مضافا لا يخلو من اشكال ، وبالجملة فإن إدخال هذه الفروع في المسألة لا يخلو من الاشكال.

(الخامس) ـ قد نص جمع من الأصحاب على اشتراط طهارة التراب التفاتا الى ان المطلوب منه التطهير والنجس لا يطهر ، واحتمل العلامة في النهاية أجزاء النجس ووجهه بان المقصود من التراب الاستعانة على القلع بشي‌ء آخر وشبهه حينئذ بالدفع بالنجس وأنت خبير بما فيه لان التعليل بما ذكره وان تكرر في كلام جملة منهم إلا انه غير معلوم من النص بل هو علة مستنبطة بأهل القياس انسب. وظاهر كلام صاحبي المعالم والمدارك الجواز بالنجس نظرا إلى إطلاق النص إلا انه قال في المعالم بعد ذلك : ولعل ارادة الطاهر تتبادر الى الفهم عند الإطلاق. وقال في المدارك بعد ان نقل عن العلامة في المنتهى اشتراط طهارة التراب لان المطلوب منه التطهير وهو غير مناسب للنجس : ويشكل بإطلاق النص وحصول الإنقاء بالطاهر والنجس.

أقول : والتحقيق عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه في مسألة تطهير الأرض من ان الأظهر الاستدلال على مثل هذا الحكم بالحديث الوارد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٤٨٠