الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

وعن علي بن جعفر في الصحيح (١) «انه سأل أخاه موسى (عليه‌السلام) عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم يصلي فيه أو يصلي عريانا؟

قال ان وجد ماء غسله وان لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عريانا». وما رواه الصدوق في الصحيح عن ابن أذينة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «انه سأله عن الرجل يرعف وهو في الصلاة وقد صلى بعض صلاته؟ قال ان كان الماء عن يمينه أو عن شماله أو عن خلفه فليغسله. الحديث».

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الآتية ان شاء الله تعالى في المقصد الثاني في أحكام النجاسات. واما ما ورد في جملة من شذوذ الاخبار مما ظاهره الطهارة فالظاهر حمله على التقية وان لم أقف على قائل بذلك من العامة ، لأن الحمل على ذلك لا يتوقف عندي على وجود القائل وان كان المشهور بين أصحابنا ذلك كما عرفت في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ، وتوضيح ذلك انه لما اتفقت الأخبار الصحاح الصراح ـ كما عرفت من بعض ما قدمناه وستعرف مما يأتي قريبا ان شاء الله تعالى وكذا كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) قديما وحديثا ـ على النجاسة إذ خلاف من خالف منهم انما هو في مادة مخصوصة ليست داخلة في هذه الأخبار ، فالواجب البتة طرح ما خالف ذلك والاعراض عنه ، بقي بيان الوجه في صدوره عنهم (عليهم‌السلام) فإنه لا يكون ذلك عبثا بغير فائدة وليس وراء ذلك إلا ما ذكرناه من إيقاعهم الاختلاف بين الشيعة في الأحكام لدفع الشنعة عنهم كما تقدم تحقيقه في المقدمة المشار إليها.

ومن الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار عن جابر عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «سمعته يقول لو رعفت زورقا ما زدت على ان امسح

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٥ من أبواب النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢ من قواطع الصلاة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٧ من نواقض الوضوء.

٤١

مني الدم وأصلي».

وعن الحسن بن علي الوشاء في الحسن (١) قال : «سمعت أبا الحسن (عليه‌السلام) يقول كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) يقول في الرجل يدخل يده في أنفه فيصيب خمس أصابعه الدم ، قال ينقيه ولا يعيد الوضوء». ويمكن هنا حمل الإنقاء على الإنقاء بالغسل لا مطلق الإنقاء فلا منافاة وان الغرض بيان عدم نقض الوضوء بخروج الدم.

وعن عبد الأعلى عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل مكانها لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا صغيرا». والحمل على ان الحجام ينظفه يعني بالغسل بعيد جدا لأن النهي عن الغسل متناول للمحتجم نفسه ولمن يقوم مقامه ، فالحديث ظاهر في طهارة دم الحجامة بمجرد ازالة عينه المشار إليها بالتنظيف.

وعن أبي حمزة (٣) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) ان أدخلت يدك في انفك وأنت تصلي فوجدت دما سائلا ليس برعاف ففته بيدك». ولا يخفى ما في الخبر المذكور من الحزازة زيادة على ما دل عليه من طهارة الدم ، ولعله وقع فيه تحريف من قلم الشيخ أو من النساخ لأن الفت إنما يستعمل في الدم اليابس لا السائل ، ولعل الذي كان في الخبر «غير سائل» ، وأيضا فإن كون الدم السائل ليس برعاف لا معنى له ، ومع احتمال كونه من قرح أو جرح لا يفرق بينه وبين دم الرعاف في تعدي النجاسة إلى اليد وان قلنا بالعفو عن دم القروح والجروح ما لم ترقأ.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٧ من نواقض الوضوء.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٦ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢ من قواطع الصلاة.

٤٢

وما رواه في الكافي في باب «الثوب يصيبه الدم» عن الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ فقال لا وان كثر ، ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله».

وما رواه في الزيادات عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة». واحتمال تخصيص ما يخرج من الدمل بالقيح الخالي من الدم خلاف ما يشهد به الوجدان ، والعفو عن دم القرح لا يتعدى نجاسة اليد به حتى انه يجوز مسه ولا يجب غسله إذ العفو مقصور عليه وعلى ما يتعدى اليه بنفسه كما سيأتي بيانه في المسألة ان شاء الله تعالى.

وما رواه الشيخ عن داود بن سرجان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) : «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما؟ قال يتم». وحمله الشيخ على ما إذا كان أقل من درهم ، ولا بأس به.

ولم نقف على خلاف لأحد من أصحابنا في المسألة إلا على خلاف ابن الجنيد والصدوق في الفقيه ، اما ابن الجنيد فقد تقدم نقل خلافه كما صرح به المحقق في المعتبر وحكاه من عبارته إلا ان عبارته المنقولة من كتابه المختصر كما نقله في المختلف وغيره عامة في نجاسة الدم وغيره ، حيث قال : «كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا ان تكون النجاسة دم حيض أو منيا فان قليلهما وكثيرهما سواء» انتهى. وهو مردود بالأخبار الدالة على نجاسة البول قليله وكثيره والغائط والمني ونحوهما ووجوب

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

٤٣

غسلها وانما استثناء الدرهم أو الأقل منه في الدم خاصة ، واما الصدوق فإنه قال في الفقيه «وان كان الدم دون حمصة فلا بأس بان لا يغسل إلا ان يكون دم الحيض فإنه يجب غسل الثوب منه ومن البول والمني قليلا كان أو كثيرا وتعاد منه الصلاة علم به أو لم يعلم» انتهى. وهذه العبارة مأخوذة من الفقه الرضوي بتغيير ما وكذا ما قبلها ، حيث قال (عليه‌السلام) (١) : «وان كان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلا ان يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قل أو كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم». انتهى. والظاهر ان لفظ «دون» سقط من النسخة حيث ان الكتاب لا يخلو من الغلط إلا ان الموجود في البحار حيث انه ينقل فيه عبائر الكتاب المذكور كما هنا ، وحينئذ فيكون الصدوق بعد أخذه العبارة من أولها إلى آخرها من الكتاب عدل في هذا الموضع الى العمل برواية مثنى بن عبد السلام الواردة في المسألة وهي ما رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له اني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال ان اجتمع قدر الحمصة فاغسله وإلا فلا». وسيأتي تمام الكلام ان شاء الله تعالى في ذلك في المقصد الثاني.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الدم اما ان يكون دم حيوان ذي نفس سائلة أو غير ذي نفس سائلة والأول اما مسفوح أو غير مسفوح وغير المسفوح اما ما يتخلف في اللحم بعد الذبح الشرعي أو غيره والمتخلف في اللحم بعد الذبح اما من حيوان مأكول اللحم أو غيره ، وغير ذي النفس السائلة اما ان يكون من السمك أو غيره ، فهذه ستة أقسام يحتاج الى التحقيق فيها والكلام على وجه يرفع غشاوة الإبهام :

(الأول) ـ المسفوح وهو لغة المصبوب أي الذي انصب من العرق بكثرة يقال سفح الرجل الدمع والدم من باب منع : صبه ، وسفحت دمه إذا سفكته ، والظاهر انه لا خلاف بين علمائنا في نجاسته سوى ما ينقل من الخلاف في دم رسول الله (صلى الله

__________________

(١) ص ٦.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

٤٤

عليه وآله) حيث استشكل فيه العلامة في المنتهى ، فقال : في نجاسة دم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إشكال ينشأ من انه دم مسفوح ومن ان أبا طيبة الحجام شربه ولم ينكر عليه (١) وكذا في بوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث انه بول ومن ان أم أيمن شربته (٢). وهذا الخلاف مما لا ثمرة له الآن ، ويدل على نجاسة الدم المسفوح إطلاق جملة من الأخبار المتقدمة زيادة على الإجماع المدعى في المقام كما في المعتبر والمنتهى وغيرهما.

(الثاني) ـ ما يتخلف في اللحم بعد الذبح من حيوان مأكول اللحم ، وهو طاهر حلال من غير خلاف يعرف ، ولم أقف على نص يدل على طهارته بخصوصه أو حله إلا ان اتفاق الأصحاب على كلا الحكمين من غير خلاف ينقل ـ مضافا الى حصر المحرمات في الآيات المستلزم للطهارة لأنه متى كان حلالا كان طاهرا ، والروايات الدالة على عد محرمات الذبيحة ولم تذكره منها وان كانت الدلالة لا تخلو من ضعف ، مع اعتضاد ذلك بأصالة الطهارة ـ الظاهر انه كاف في المقام. واستثني من المتخلف ما يجذبه الحيوان بنفسه الى باطن الذبيحة فإنه نجس حرام لا يدخل فيما نحن فيه. وهو كذلك لعدم شمول الأدلة له.

(الثالث) ـ المتخلف في الحيوان الغير المأكول اللحم مما يقع عليه الذكاة ، والظاهر من الأصحاب نجاسته لحصرهم الدم الطاهر في افراد ولم يعدوا هذا منها ، قال في المعالم : وتردد في حكمه بعض من عاصرناه من مشايخنا ، ومنشأ التردد من إطلاق الأصحاب الحكم بنجاسة الدم مما له نفس مدعين الاتفاق عليه وهذا بعض افراده ،

__________________

(١) كما في شرح الزرقانى على المواهب اللدنية لابن حجر ج ٤ ص ٢٣٣.

(٢) في الإصابة لابن حجر ج ٤ ص ٤٣٢ ترجمة أم أيمن «قالت كانت للنبي (ص) فخارة يبول فيها بالليل فكنت إذا أصبحت صببتها فنمت ليلة وانا عطشانة فغلطت فشربتها فذكرت ذلك للنبي (ص) قال انك لا تشتكي بطنك بعد يومك هذا».

٤٥

ومن ظاهر قوله تعالى «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» (١) حيث دل على حل غير المسفوح وهو يدل على طهارته ، ثم قال : ويضعف الثاني بأن ظاهرهم الإطباق على تحريم ما سوى الدم المتخلف في الذبيحة ودم السمك على ما فيه ، وقد قلنا ان المتبادر من الذبيحة ما يكون من مأكول اللحم فدم ما لا يؤكل لحمه حرام عندهم مطلقا ، وعموم ما دل على تحريم الحيوان الذي هو دمه يتناوله أيضا إذ أكثر الأدلة غير مقيدة باللحم وانما علق التحريم فيها بالحيوان فيتناول جميع اجزائه ، ولا يرد مثله في المحلل لقيام الدليل هناك على تخصيص التحليل باللحم واجزاء أخر معينة ، وبالجملة فحل الدم مع حرمة اللحم أمر مستبعد جدا لا سيما بعد ما قررناه من ظهور الاتفاق بينهم فيه وتناول الأدلة بظاهرها له ، وإذا ثبت التحريم هنا لم يبق للآية دلالة على طهارته كما لا يخفى. انتهى. وهو جيد. وبالجملة فالآية مخصصة وظواهر الأدلة الدالة على تحريم ما لا يؤكل لحمه شاملة للدم وغيره ، مضافا جميع ذلك الى إطلاق جملة من اخبار نجاسة الدم المتقدمة ونحوها ، فلم يبق للتوقف في النجاسة وجه.

(الرابع) ـ ما عدا المذكورات من الدماء التي لا تخرج بقوة من عرق ولا لها كثرة وانصباب وليس مما تخلف بعد الذبح كدم الشوكة والعثرة ونحو ذلك من ذي النفس مطلقا ، وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على نجاسته ، ويدل عليه أخبار نجاسة دم الرعاف والأمر بغسله كما تقدم بعض منها وإطلاق الأخبار المتقدمة ونحوها ، وربما أوهم كلام العلامة في جملة من كتبه الطهارة في هذا القسم وسابقه حيث انه قيد في المنتهى وجملة من كتبه الدم المحكوم بنجاسته بالمسفوح وظاهره حصر النجس في المسفوح. وكذا كلامه في المختلف حيث قال فيه محتجا على طهارة المتخلف في الذبيحة : هو طاهر إجماعا لانتفاء المقتضى للتنجيس وهو السفح. ولصاحب المعالم (قدس‌سره) في هذا المقام كلام طويل على عبارة العلامة (قدس‌سره) في المنتهى أورده في الكتاب

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٤٦.

٤٦

المذكور ومناقشات فيه للفاضل الخوانساري في شرح الدروس ليس للتعرض لها كثير فائدة مع الاتفاق على الحكم المذكور. والظاهر ـ كما استظهر جملة من الأصحاب ـ ان الحامل للعلامة على التقييد بالمسفوح في عباراته انما هو الاحتراز عن الدم المتخلف في الذبيحة حيث انه طاهر إجماعا وكذا غيره مما حكموا بطهارته ، فإنه لا ريب ولا شك في نجاسة هذا القسم المذكور الذي نحن في صدد الكلام عليه ، لا ان قصده إخراج شي‌ء من أصناف دم ذي النفس على الإطلاق.

(الخامس) ـ دم السمك ، ولا ريب في طهارته تمسكا بالأصل السالم من المعارض ويعضده فقد شرط التنجيس عند الأصحاب وهو وجود النفس السائلة ، وقد نقل الإجماع على الطهارة جمع من محققي الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية وابن إدريس في السرائر والمحقق في المعتبر والعلامة في المختلف والشهيد في الذكرى ، وقد ذكر في المختلف ان ظاهر تقسيم الشيخ للدم في المبسوط والجمل يعطي حكمه بنجاسة دم السمك والبق والبراغيث مع انه لا يجب إزالة قليله ولا كثيره ، وتخطى المتأخرون عن العلامة فتسبوا الى الشيخ في الكتابين القول بنجاسة الدماء المذكورة جزما مع ان العلامة إنما نسب ذلك الى ظاهر كلامه بمعنى ان اللازم منه ذلك لا انه قائل به حقيقة. أقول : والسر في ذلك انه قال في الجمل : النجاسات على ضربين دم وغيره ، والدم على ثلاثة أضرب : ضرب يجب إزالة قليله وكثيره وهي كذا وكذا ، فعد أنواعه ، وضرب لا يجب إزالة قليله ولا كثيره وهي خمس أجناس : دم البق والبراغيث والسمك والجراح اللازمة والقروح الدامية. وهكذا عبارة المبسوط ، وأجاب في المعالم بان ذلك انما نشأ من سوء تعبير الشيخ في هذا المقام وإلا فإنه غير مراد له قطعا ، وينبه على ذلك انه في الخلاف ذكر نظير هذا الكلام المنقول عن الجمل والمبسوط بعد ما نقل الإجماع على الطهارة بسطر واحد ، وذلك فإنه بعد ان حكى خلاف الشافعي في هذه الدماء قال دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا فإن النجاسة حكم شرعي ولا دلالة في الشرع على نجاسة هذه الدماء ، ثم

٤٧

قال بعد سطر واحد : جميع النجاسات يجب إزالتها عن الثياب والبدن قليلا كان أو كثيرا إلا الدم فان له ثلاثة أحوال دم البق والبراغيث ودم السمك وما لا نفس له سائلة ودم الجروح اللازمة لا بأس بقليله وكثيره. وهذا الكلام الأخير يرجع في المعنى الى ما نقلنا عن الجمل والمبسوط في الدلالة على نجاسة الدماء الثلاثة المذكورة مع انه جمع بينه وبين الإجماع على الطهارة في مقام واحد وعبارة واحدة ، ولا ريب انه بناء على التوسع في التعبير لظهور طهارة هذه الدماء اتفاقا أو انه أراد بالنجاسة التي جعلها مقسما معنى خلاف الظاهر اعتمادا على القرينة الحالية وهي معلومية الطهارة فعلى هذا يحمل كلامه أيضا في ذينك الكتابين ، وقد جرى مثل ذلك لسلار وابن حمزة أيضا حيث ذكرا مثل هذا التقسيم الذي نقلناه عن الشيخ في الجمل ولم يظهر منهما ما يوجب الخروج عن ظاهرها كما اتفق للشيخ بنقل الإجماع في الخلاف إلا ان الظاهر الحمل على ما ذكرناه في عبارة الشيخ من التجوز ، هذا مع ان السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان والمعصوم من عصمه الله تعالى.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان العلامة في المنتهى قد استدل على طهارة دم السمك بوجوه : منها ـ قوله تعالى : «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» (١) وقوله سبحانه : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» (٢) ووجه الدلالة في الأولى بأن التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه وذلك يستلزم الطهارة ، وفي الثانية بأن دم السمك ليس بمسفوح فلا يكون نجسا. واعترض عليه بعض أفاضل المتأخرين بأن الاستدلال بالآية محل تأمل. أقول : الظاهر ان وجه التأمل هو ان المتبادر من الحل هو حل ما يعهد اكله منه كاللحم ونحوه لا الدم ، اما الآية الثانية فهي ظاهرة في الحل الموجب للطهارة ، ومنه يظهر قوة القول يحل دم السمك ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب بل الظاهر انه المشهور هو التحريم واختصاص التحليل في افراد

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٩٧.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٤٦.

٤٨

الدماء بالمتخلف في الذبيحة ، والظاهر انه لا دليل لهم أزيد من دعوى الاستخباث مع ان الظاهر هنا من جملة من الأصحاب الذين استدلوا بهاتين الآيتين على الطهارة في هذا المقام هو الحل ، ومنهم ابن زهرة في الغنية وابن إدريس.

وفي المعتبر استدل على طهارة دم السمك بان دم السمك لو كان نجسا لتوقفت إباحة أكله على سفح دمه بالذبح كحيوان البر لكن الإجماع على خلاف ذلك وانه يجوز اكله بدمه. وهو ـ كما ترى ـ صريح في قوله بالحل.

قال في المعالم بعد كلام في المقام : وبالجملة فعباراتهم ظاهرة في تخصيص التحليل في دم الذبيحة وتعميم التحريم في غيره من الدماء ، ووقع التصريح بذلك أيضا في كلام بعضهم والتنصيص على تحريم دم السمك بالخصوص ، وليس لهم عليه حجة غير الاستخباث وهو موضع نظر ، وإذا لم يثبت تحريمه تكون الآية دليلا قويا على طهارته. انتهى.

أقول : لا يخفى ان ظواهر الأخبار دالة على حل السمك بإخراجه من الماء حيا الذي هو عبارة عن ذكاته والشارع لم يعتبر فيه الذبح والتذكية كما في الحيوانات البرية بل ذكاته إخراجه من الماء حيا ، ومقتضى ذلك جواز أكله حينئذ حيا أو ميتا بغير ذبح ثانيا بغير طبخ أو مطبوخا ، إلا انه يمكن ان يقال انه لا ريب في ذلك ما لم يخرج منه دم في تلك الحال لأنا غير مخاطبين بما تحت جلده من الدم المخالط للحمه بل عموم تحليله في تلك الحال شامل للجميع اما لو خرج منه دم في تلك الحال فلا مانع من القول بحرمته للأدلة الدالة على تحريم الدماء من غيره حيث لم يستثن منها إلا المتخلف في الذبيحة ، وبالجملة فالحكم يكون تابعا للاسم فمع وجود الدم يتعلق به حكم الدماء ومع عدم وجوده فانا غير مخاطبين به ، والاحتياط يقتضي الوقوف على هذا الوجه الى ان يقوم دليل واضح على أحد الحكمين.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «ان عليا (عليه‌السلام) كان لا يرى بأسا

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب النجاسات.

٤٩

بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل يعني دم السمك». أقول : قوله «ما لم يذك» اي ما لم يدخله التذكية وهو مما لا نفس له ففيه دلالة على طهارة ما لا نفس سائلة له ، إلا ان قوله أخيرا «يعني دم السمك» ان كان من كلامه (عليه‌السلام) فيحتمل ان يكون تقييدا لعموم «ما لم يذك» ويحتمل ان يكون تمثيلا يعني دم السمك وأمثاله ، والأول انسب بسياق الخبر والثاني أنسب بالقواعد المقررة ، وكيف كان فهو ظاهر في طهارة دم السمك

(السادس) ـ دم غير السمك مما لا نفس له ، وقد نقل الإجماع على طهارته جملة من الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف فإنه بعد ان ذكر طهارة الدم من كل حيوان لا نفس له احتج لذلك بإجماع الفرقة وعدم الدلالة في الشرع على النجاسة وهي حكم شرعي لا يثبت بدون الدليل. وممن ادعى الإجماع على ذلك الشهيد في الذكرى والعلامة في المنتهى والتذكرة ، ويظهر من المحقق في المعتبر حيث ذكر ان طهارة دم السمك مذهب علمائنا اجمع وقال بعده : وكذا كل دم ليس لحيوانه نفس سائلة كالبق والبراغيث. أقول ويعضد ذلك الأصل ، واما ما يوهم خلافه من ظاهر التقسيم المتقدم نقله عن الجمل والمبسوط وسلار فقد عرفت الوجه فيه ، ويزيد ذلك تأكيدا صحيحة عبد الله ابن ابي يعفور (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قلت انه يكثر ويتفاحش؟ قال وان كثر». ورواية الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال لا وان كثر». ورواية محمد بن الريان (٣) قال : «كتبت الى الرجل (عليه‌السلام) هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث وهل يجوز لأحد ان يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه وان يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (عليه‌السلام) يجوز الصلاة والطهر منه أفضل». وقد تقدم في حديث غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) قال : «لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب النجاسات.

٥٠

فروع : (الأول) ـ قال في الخلاف العلقة نجسة ، واحتج على ذلك بإجماع الفرقة وبان ما دل على نجاسة الدم دل على نجاسة العلقة. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وفي هذا نظر لا يخفى وجهه بعد الإحاطة بما حققناه في دليل نجاسة الدم. انتهى. وقال في المعتبر : العلقة التي تستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة لأنها دم حيوان له نفس سائلة وكذا العلقة التي توجد في بيض الدجاج وشبهه وقال في الذكرى بعد نقل ذلك عن المحقق : وفي الدليل منع وتكونها في الحيوان لا يدل على انها منه. مع انه قال في الدروس في تعداد النجاسات : والدم من ذي نفس سائلة وان كان بحريا كالتمساح أو كان علقة في البيضة وغيرها. قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى : وهو متجه لا سيما بالنظر الى ما يوجد في البيضة مع ان كونه علقة ليس بمعلوم ايضا فالإجماع الذي ادعاه الشيخ لو ثبت على وجه يكون حجة لكان في تناوله نظر ومقتضى الأصل طهارته ، ويعضده ظاهر قوله تعالى : «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» حيث انه دال على حل غير المسفوح مطلقا خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه فيبقى الباقي ، وإثبات الحل مقتض لثبوت الطهارة كما مر غير مرة. وكتب في الحاشية قال بعض الأصحاب ما يوجد في البيضة أحيانا من الدم لا يعلم كونه من دم ذلك الحيوان فالعلم بكونه علقة له أشد بعدا. والأمر كما قال. انتهى

أقول : لقائل أن يقول ان ما دل على نجاسة الدم كالاخبار التي قدمناها ونحوها لا تخصيص فيها بما كان من حيوان بل هي مطلقة في نجاسة الدم أعم من ان يكون من حيوان أو من استحالة شي‌ء إليه كالمني مثلا وما في البيضة فإنه يكون علقة فيكون داخلا تحت عموم ما دل على نجاسة الدم بقول مطلق. الا ان فيه ان الظاهر ان العموم المدعى من الاخبار لا يشمل مثل هذا الفرد لما قررناه في غير مقام مما تقدم من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة وهي هنا دم الإنسان وكل ذي نفس سائلة أو غير سائلة دون الفروض النادرة مثل دم العلقة. واما إجماع الأصحاب على نجاسة الدم فهو ايضا مخصوص بدم ذي النفس السائلة فلا يدخل هذا الدم تحت الإجماع

٥١

ولا الروايات ، نعم الشيخ ادعى في الخلاف الإجماع على نجاسة العلقة والعلقة لغة هي القطعة من الدم ، والمراد منها هنا ما ذكره في المعتبر وهو المشار إليه في الآية وهي القطعة من الدم التي يستحيل إليها المني ثم تصير هي مضغة. فتكون نجاسة العلقة أنما تستند الى هذا الإجماع المدعى من الشيخ في الخلاف وفي شمول العلقة للدم الموجود في البيضة إشكال كما ذكره في المعالم ، وحينئذ فلا يدخل تحت الإجماع المدعى من الشيخ ولم يبق إلا صدق الدم عليه ، وقد عرفت انه لا دليل على نجاسة الدم بحيث يشمل هذا الفرد سواء تمسك بالإجماع أو الروايات. وبالجملة فقد ظهر مما ذكرنا ان الأقوى هو الطهارة ولا سيما في ما في البيضة. ومن ذلك يظهر ان الأقرب حله لعدم دليل الحرمة كما يظهر من كلام صاحب المعالم أيضا في تمسكه بالآية على تخصيص الدم المحرم بالمسفوح الدال على حل غير المسفوح خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه فيبقى الباقي ، والاحتياط في الموضعين لا يخفى.

(الثاني) ـ لو اشتبه الدم المرئي في الثوب أو البدن فلم يعلم كونه من الدماء الطاهرة أو النجسة فمقتضى الدليل طهارته لقوله (عليه‌السلام) في موثقة عمار (١) «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر». وقول علي (عليه‌السلام) (٢) فيما رواه عنه في الفقيه «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم». ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وهكذا الكلام في كل شي‌ء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس فإنه بمقتضى الدليل المذكور يحكم بالطهارة حتى يعلم ان ذلك الفرد من الافراد النجسة حتى الجلود كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محله وان كان المشهور بينهم خلافه في الأخير. وكذا يجري الحكم المذكور فيما لو اشتبه دم معفو عنه كدم الحجامة الأقل من

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات واللفظ «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر».

(٢) المروي في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات.

٥٢

درهم بدم الحيض الغير المعفو عن قليله وكثيره فإنه يحكم بالعفو حتى يعلم خلاف ذلك.

(الثالث) ـ قال المحقق في المعتبر بعد ان نقل عن الشيخ الحكم بطهارة الصديد : وعندي في الصديد تردد أشبهه النجاسة لأنه ماء الجرح يخالطه يسير دم ، ولو خلا من ذلك لم يكن نجسا ، وخلافنا مع الشيخ فيه يؤول إلى العبارة لأنه يوافق على هذا التفصيل اما القيح ان مازجه دم نجس بالممازجة وان خلا من الدم كان طاهرا (لا يقال) : هو مستحيل عن الدم (لأنا نقول) : لا نسلم ان كل مستحيل من الدم لا يكون طاهرا كاللحم واللبن وحجتنا في الطهارة وجوابنا كما تقدم. اما ما عدا ذلك كالعرق والبصاق والدموع فقد اتفق الجميع على الطهارة. انتهى.

أقول : ما ذكره في الجواب عن المستحيل من الدم جيد إلا ان قوله هنا بطهارة المستحيل عن الدم ينافي ما قدمه في مسألة أبوال الدواب الثلاث وأرواثها من كلامه في ذرق الدجاج مما يدل على ان المستحيل عن عين النجاسة يكون نجسا على الإطلاق ، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها ان شاء الله تعالى.

(الرابع) ـ قال في المدارك : المسك طاهر إجماعا قاله في التذكرة والمنتهى للأصل ولما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «انه كان يتطيب به وكان أحب الطيب اليه» (١). واما فأرته فسيأتي الكلام فيه قريبا ان شاء الله تعالى في الفصل الآتي.

(الفصل الخامس) ـ في الميتة ، قد أجمع الأصحاب على نجاسة الميتة من ذي النفس السائلة نقله جمع : منهم ـ المحقق في المعتبر حيث قال الميتات مما له نفس سائلة نجس وهو إجماع الناس. وقال في المنتهى : الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة نجسة سواء كان آدميا أو غير آدمي وهو مذهب علمائنا اجمع. ونحو ذلك في كلام الشهيد

__________________

(١) الوسائل في الباب ٩٥ من آداب الحمام عن أبي البختري عن الصادق عن أبيه (ع) قال «ان رسول الله (ص) كان يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفارقه». وفيه ايضا «كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتطيب بذكور الطيب وهو المسك والعنبر» ..

٥٣

وابن زهرة وغيرهم ، قال في المعالم : وقد تكرر في كلام الأصحاب ادعاء الإجماع على هذا الحكم وهو الحجة فيه إذ النصوص لا تنهض بإثباته وجملة ما وقفنا عليه من الروايات في هذا الباب حسنة الحلبي ، ثم ساق الرواية الآتية وأردفها برواية إبراهيم بن ميمون الآتية أيضا ثم قال وقصور هذين الحديثين عن افادة هذا الحكم بكماله ظاهر مع ان الصحة منتفية عن سنديهما ، وورد في عدة روايات معتبرة الإسناد المنع من أكل السمن والزيت إذا ماتت فيه الفأرة وظاهره الحكم بنجاسته ، وهذا الحكم خاص ايضا كما لا يخفى فلا يمكن جعله دليلا على العموم ، وحينئذ فالعمدة في إثبات التعميم هو الإجماع المدعى في كلام الجماعة. انتهى ملخصا ، وفيه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في المقام.

وكيف كان فالميتة اما ان تكون من ذي النفس أو غيره والأول اما آدمي أو غيره فههنا أقسام ثلاثة ، وبيان الكلام فيها يقتضي بسطه في مواضع ثلاثة :

(الأول) ـ ميتة غير الآدمي من ذي النفس السائلة ، وقد عرفت فيما تقدم دعوى الإجماع على النجاسة فيما يشمل هذه المسألة.

ولصاحب المدارك في هذه المسألة مناقشتان : (الاولى) في وجود الدليل الدال على النجاسة في هذه المسألة كما سبق ذكره في كلام المحقق الشيخ حسن وان كان الكلام هنا فيما هو أخص مما ذكره المحقق المشار اليه. و (الثانية) ـ في نجاسة جلد الميتة وهي في الحقيقة راجعة إلى الاولى ، وها أنا أسوق كلامه بطوله وأبين ما يكشف عن فساد محصوله وبه يظهر تحقيق الحال وينجلي عنه غياهب الإشكال ، فأقول :

قال السيد المذكور : «واحتج عليه في المنتهى بان تحريم ما ليس بمحرم بالأصل ولا فيه ضرر كالسم يدل على نجاسته. وفيه منع ظاهر. نعم يمكن الاستدلال عليه بالروايات المتضمنة للنهي عن أكل الزيت ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة لكنه غير صريح في النجاسة وبما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لزرارة

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٥٤

ومحمد بن مسلم «اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شي‌ء ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه». وجه الدلالة ان الظاهر ان الأمر بغسل ما يؤخذ من الدابة بعد الموت انما هو لنجاسة الأجزاء المصاحبة له من الجلد. ويتوجه عليه ان الأمر بالغسل لا يتعين كونه للنجاسة بل يحتمل ان يكون لإزالة الأجزاء المتعلقة به من الجلد المانعة من الصلاة فيه كما يشعر به قوله «وصل فيه» وبالجملة فالروايات متظافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة بل الانتفاع به مطلقا واما نجاسته فلم أقف فيها على نص يعتد به ، مع ان ابن بابويه روى في أوائل الفقيه مرسلا عن الصادق (عليه‌السلام) «انه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن والماء ما ترى فيه؟ فقال لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتوضأ منه واشرب ولكن لا تصل فيها». وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتد به انه لم يقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ، قال بل انما قصدت إلى إيراد ما افتي به واحكم بصحته واعتقد انه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته ، والمسألة قوية الإشكال» انتهى كلامه.

أقول : والكلام هنا يقع في مقامين (الأول) ـ فيما ذكره من المناقشة الاولى في عدم الدليل على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الإنسان ، وها أنا أورد ما وقفت عليه من الروايات المتعلقة بذلك وان طال به زمام الكلام فإنه من أهم المهام.

وأقول : من ذلك روايات ما يقع في البئر والأمر بالنزح لها مع التغير وعدمه وقد اشتملت تلك الروايات على ميتة الإنسان والدابة والفأرة والطير والحمار والبقرة والجمل والسنور والحمام والدجاجة ونحو ذلك ، ولا ينافي ذلك القول بطهارة البئر فإن ذلك ليس من حيث كون هذه الأشياء غير نجسة بل انما هو من حيث عدم انفعالها بالنجاسة ولهذا لو تغير الماء بها فلا خلاف في النجاسة.

ومنها ـ اخبار الدهن والزيت ونحوهما وهي كثيرة ، ومنها ـ صحيحة زرارة

٥٥

أو حسنته بإبراهيم بن هاشم على المشهور عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه فان كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك». ومنها ـ صحيحة الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه؟ فقال ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا ـ فإنه ربما يكون بعض هذا ـ فان كان الشتاء فانزع ما حوله وكله وان كان الصيف فارفعه حتى تسرج به ، وان كان بردا فاطرح الذي كان عليه ولا تترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه». ومنها ـ صحيحة سعيد الأعرج (٣) قال «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حيا؟ فقال لا بأس بأكله. وعن الفأرة تموت في السمن والعسل؟ فقال قال علي (عليه‌السلام) خذ ما حولها وكل بقيته. وعن الفأرة تموت في الزيت؟ فقال لا تأكله ولكن أسرج به». ومنها ـ رواية معاوية بن وهب عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال «قلت له جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ فقال اما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله ، واما الزيت فيستصبح به. وقال في بيع ذلك تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به». ومنها ـ رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل». ومنها ـ رواية سماعة (٦) قال «سألته عن السمن تقع فيه الميتة؟ فقال ان كان جامدا فالق ما حوله وكل الباقي. فقلت الزيت؟ فقال أسرج به». ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٧) «سألته عن آنية أهل الذمة؟ فقال

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ٤٣ من الأطعمة المحرمة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٤٣ و ٤٥ من الأطعمة المحرمة.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٤٤ من الأطعمة المحرمة.

(٧) المروية في الوسائل في الباب ٥٤ من الأطعمة المحرمة.

٥٦

لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدم ولحم الخنزير». ومنها ـ رواية جابر عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال «أتاه رجل فقال له وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال فقال له أبو جعفر (عليه‌السلام) لا تأكله فقال له الرجل الفأرة أهون علي من ان اترك طعامي من أجلها. قال فقال له أبو جعفر (عليه‌السلام) انك لم تستخف بالفأرة وانما استخففت بدينك ، ان الله تعالى حرم الميتة من كل شي‌ء».

أقول : المراد بلفظ التحريم هنا النجاسة ليصح التعليل المذكور وإلا فالحرمة بمجردها بمعناها المتعارف لا توجب عدم أكل الزيت الذي ماتت فيه الفأرة ، ومما يؤيد ورود هذا اللفظ بمعنى النجاسة لا بالمعنى المتبادر ما رواه في التهذيب والكافي عن الحسن ابن علي (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) فقلت جعلت فداك ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال هي حرام. قلت جعلت فداك فتصطبح بها؟ فقال أما تعلم انه يصيب اليد والثوب وهو حرام؟». إذ لا ريب بمقتضى سياق الخبر ان الحرام هنا انما هو بمعنى النجس.

أقول : ظاهر رواية الحسن بن علي المذكورة عدم جواز الانتفاع بأليات الميتة أو المبانة من حي مطلقا حتى ولو بالإسراج ، وهو المشهور بين الأصحاب وبه صرح جملة : منهم ـ الشهيد الثاني في المسالك ، قال بعد قول المصنف : «ويجوز بيع الادهان النجسة ويحل ثمنها. إلخ» : المراد بها الادهان النجسة بالعرض كما هو المفروض اما النجسة بالذات كأليات الميتة يقطعها من حي أو ميت فلا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها مطلقا إجماعا لإطلاق النهي عنه ، وانما جاز بيع الدهن النجس لبقاء منفعته بالاستصباح. انتهى. ونقل الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء ثم قال : وهو ضعيف.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥ من أبواب الماء المضاف.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من الذبائح و ٣٢ من الأطعمة المحرمة.

٥٧

أقول : قد روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي عن الرضا (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء أيصلح له ان ينتفع بما قطع؟ قال نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها». قال ابن إدريس بعد نقله : لا يلتفت الى هذا الحديث لانه من نوادر الأخبار والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر غير الباغي ولا العادي. وهو جار على ما قدمنا ذكره عنهم ، وروى هذه الرواية أيضا في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) مثله (٢).

وظاهر شيخنا المجلسي في البحار الميل الى العمل بهذه الرواية حيث قال بعد نقل الخلاف في المسألة : والجواز عندي أقوى لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز وضعف حجة المنع إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما حقق في موضعه والإجماع ممنوع. انتهى.

أقول : ما ذكره بالنسبة الى الآية من ان التحريم انما يتبادر إلى الأكل دون سائر الوجوه جيد إلا ان جملة من الأخبار صرحت بأن الميتة لا ينتفع بشي‌ء منها ، ومنه ما رواه في الكافي والفقيه بطريقه إلى الكاهلي في حديث عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «سئل عن أليات الغنم قال ان في كتاب علي (عليه‌السلام) ان ما قطع منها ميتة لا ينتفع به». ونحوه غيره كما سيأتي في المقام ان شاء الله تعالى ، وليس حجة المانع منحصرة فيما ذكره مع إمكان حمل الرواية التي اعتمدها على التقية ، ولتحقيق المسألة موضع آخر ولكن الحديث ذو شجون فلنعد الى ما نحن فيه :

ومنها ـ صحيحة زرارة (٤) قال : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الذبائح.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الماء المطلق.

٥٨

شي‌ء تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلا ان يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء». ومنها ـ موثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في الفأرة التي يجدها في إنائه وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا وغسل ثيابه واغتسل وقد كانت الفأرة متسلخة؟ فقال ان كان رآها في الإناء قبل ان يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه ان يغسل ثيابه ويغسل كل ما اصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة. الحديث».

ومنها ـ صحيحة حريز عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب». ورواية عبد الله بن سنان (٣) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ». وموثقة سماعة عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت؟ قال ان كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضأ ولا تشرب». ورواية أبي خالد القماط عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه. الحديث». وفي الفقه الرضوي (٦) «وان مسست ميتة فاغسل يديك وليس عليك غسل انما يجب عليك ذلك في الإنسان وحده». ومنها ـ موثقة عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) قال : «سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟ قال كل ما ليس له دم فلا بأس به». ورواية حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليه‌السلام) (٨) قال : «لا يفسد الماء إلا ما كان له

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤ أبواب الماء المطلق.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الماء المطلق.

(٦) ص ١٨.

(٧ و ٨) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب النجاسات.

٥٩

نفس سائلة». وموثقة عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) في حديث طويل قال فيه : «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرات». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع وهذا ما حضرني منها.

وأنت خبير بأنه لا مجال للتوقف في الحكم المذكور بعد الوقوف على هذه الاخبار مع تعليق الحكم في كثير منها على مطلق الميتة والجيفة والشي‌ء والدابة ـ والمراد بها ما يدب على وجه الأرض لا ذات القوائم الأربع ـ من غير مخصص ولا مقيد ، ولا يخفى على من اعطى النظر حقه ان أكثر الأحكام الشرعية التي صارت بين الأصحاب قواعد كلية إنما حصلت من تتبع جزئيات الأحكام وضم بعضها الى بعض كالقواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب وإلا فوجود الأحكام بقواعد مسورة بسور الكلية لا تكاد يوجد إلا نادرا. وما ذكره في المدارك مما قدمنا نقله عنه ـ بعد إشارته إلى روايات الزيت الذي ماتت فيه الفأرة انه غير صريح في النجاسة ـ مردود بأنهم إنما حكموا بالنجاسة في جل المواضع بل كلها من حيث النهي عن الصلاة فيها أو الأمر بغسلها أو النهي عن أكل ما وقعت فيه أو النهي عن شربه ونحو ذلك مما هو أعم من المراد حتى انه لو ورد لفظ النجاسة لتأولوه بالحمل على المعنى اللغوي لعدم الحقيقة الشرعية فيه كذلك ، وهو ممن صرح بما ذكرناه أيضا في نجاسة البول فقال بعد كلام في المقام والاحتجاج على النجاسة بالأمر بالغسل : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب والبدن من ملاقاتها» انتهى. والحكم في الغسل والأكل واحد باعتبار النجاسة العارضة للمأكول فكما ان النهي عن الأكل أعم من النجاسة كذلك الأمر بالغسل أعم من ذلك. وبالجملة فإن ما ذكره المحققان المذكوران انما نشأ من الغفلة عن تتبع الروايات في هذا المقام وقصر النظر على ما خطر ببالهما من الاخبار المشار إليها في كلامهما ومن اعطى النظر حقه في هذه الأخبار

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥٣ من أبواب النجاسات.

٦٠