الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

له». وظاهرها عدم الإعادة في الوقت وخارجه بتقريب التعليل المذكور فيها المشعر بكونها بعد الفراغ منها قد كتبت له لكونها على ظاهر الصحة.

ويظهر من المحقق في المعتبر الميل الى العمل بمضمونها حيث قال : وعندي ان هذه الرواية حسنة والأصول تطابقها لانه صلى صلاة مشروعة مأمورا بها فيسقط الفرض بها. ومراده بالحسن هنا يعني بالنسبة إلى متنها وما تضمنته من الحكم لا الحسن باعتبار السند لان هذا الاصطلاح في التقسيم للأقسام المشهورة انما وقع بعده وان كان وقع التحدث به في زمانه كما يشعر به طعنه في الاخبار في المعتبر بضعف الإسناد إلا ان استقرار الاصطلاح المذكور انما وقع من تلميذه العلامة فلا يتوهم المنافاة في كلامه.

بقي الكلام في اختياره العمل بهذه الرواية مع ان بإزائها من الأخبار ما عرفت والترجيح في جانب تلك الأخبار لكثرتها وتعددها واعتضادها بالشهرة بين المتقدمين كما عرفت والمخالف مجهول القائل كما تقدم ، والشيخ وان خالف في الاستبصار الى ما ذكره من التفصيل بين الوقت وخارجه إلا انه في جميع كتبه قد وافق الأصحاب كما نقله ابن إدريس في السرائر حيث انه كما عرفت ادعى الإجماع إلا من الشيخ في الاستبصار ، وبالجملة فإني لا اعرف لاختياره العمل بهذه الرواية وعدم الجواب عن ما بإزائها وجها.

والشيخ في الاستبصار قد جمع بين الاخبار بحمل روايات الإعادة على ما إذا ذكر في الوقت ورواية العلاء على ما إذا ذكر خارج الوقت ، واستدل على هذا الجمع بصحيحة علي بن مهزيار (١) قال : «كتب اليه سليمان بن رشيد يخبره انه بال في ظلمة الليل وانه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه اصابه ولم يره وانه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله وتمسح بدهن ومسح به كفيه ووجهه ورأسه ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى؟ فأجابه بجوابه قرأته بخطه : اما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشي‌ء إلا

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤٢ من النجاسات.

٤٢١

ما تحقق فان حققت ذلك كنت حقيقا ان تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها ، وما فات وقتها فلا اعادة عليك لها من قبل ان الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت وإذا كان جنبا أو صلى على غير وضوء فعليه اعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته لان الثوب خلاف الجسد فاعمل على ذلك ان شاء الله تعالى». وجل المتأخرين قد تبعوه في ذلك.

واعترض هذه الرواية في المدارك فقال وهي مع تطرق الضعف إليها من حيث السند بجهالة الكاتب مجملة المتن ايضا ، بل ربما أفادت بظاهرها عدم اعتبار طهارة محل الوضوء وهو مشكل إلا ان يحمل قوله : «فان تحققت ذلك» على ان المراد ان تحققت وصول البول الى بدنك على وجه لا يكون في أعضاء الوضوء. انتهى.

أقول وفي ما ذكروه من الجمع المذكور عندي نظر من وجهين : (أحدهما) ان من جملة أخبار وجوب الإعادة حسنة محمد بن مسلم المتقدمة وقوله فيها «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه» وظاهرها كما ترى انه صلى في النجاسة صلوات كثيرة ، ومن المعلوم ان هذه الصلوات بلفظ الجمع ووصف الكثرة فأكثرها انما يقع خارج الوقت فالإعادة تقع خارج الوقت البتة فلا يتم ما ذكروه ، ونحوها صحيحة علي بن جعفر المتقدم نقلها من الكتابين المشار إليهما ثمة ، فإن ظاهرها عموم الحكم للعامد والناسي في الوقت وخارجه لان فرضه (عليه‌السلام) رؤيته وعدم غسله أعم من ان يكون سابقا أو حال الصلاة ووقوع الأمر بلفظ القضاء والتعبير عن المقضي بقوله : «جميع ما فاته» يعطي ان ذلك في خارج الوقت وان الفائت صلوات متعددة ، ويؤكده ان فرض الرؤية للنجاسة انما وقع من الغد بعد مضي تلك الصلوات في اليوم السابق ، وما عدا هذين الخبرين وان كان مطلقا يقبل التقييد بما ذكروه إلا ان هذين الخبرين لا يقبلان ذلك ، وحينئذ فلا تنطبق أخبار المسألة على ما ذكروه وبه يظهر بطلانه وإبقاء الأخبار المطلقة على إطلاقها كما هو المشهور المأثور

٤٢٢

و (ثانيهما) ـ ان ما استندوا إليه في حمل تلك الأخبار على وجوب الإعادة في الوقت من صحيحة علي بن مهزيار المذكورة فإنه على غاية من الاشكال المانع من الاستناد إليها في الاستدلال ، فإنه لا يخفى على من تأمل في الرواية المذكورة بعين التحقيق ما فيها من الإشكالات العديدة والاحتمالات البعيدة بل الغير السديدة وبذلك صرح جملة من الأصحاب في الباب (الأول) ـ أنها تقتضي عدم اشتراط طهارة أعضاء الوضوء قبل ورود مائه عليها وهو موجب لتنجسه حينئذ فكيف يصح رفع الحدث به؟ (الثاني) ـ ان ذلك الوضوء الذي قد توضأه اما ان يكون صحيحا أم لا وعلى كلا التقديرين فالمنافاة حاصلة في البين ، اما على الأول فإن ظاهر امره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء بعينه مشعر بأن منشأ الإعادة فساد الوضوء ، واما على الثاني فلان آخر الخبر دل على ان فساد الوضوء يقتضي قضاء الفوائت مع انه حكم فيه بان ما فات وقتها فلا اعادة عليه. وقد حمل بعضهم الوضوء في قوله (عليه‌السلام) «بذلك الوضوء بعينه» على التمسح والتدهن قال فإنه معنى لغوي. ولا يخفى ما فيه من البعد التام (الثالث) ـ ان اليد الماسحة للرأس لا ريب في تنجسها بملامسة الرأس لنجاسته فتنجس الرطوبة التي عليها (الرابع) ـ قوله : «كنت حقيقا ان تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك الوضوء» يعطي انه لو أحدث عقيب ذلك الوضوء وتوضأ وضوء آخر وصلى صلوات فإنه لا يعيدها مع ان العلة مشتركة.

وأجاب بعضهم عن الإشكال الأول بالتزام ذلك قال : لانه لم يقم لنا دليل تام على بطلان الوضوء حينئذ فلنا ان نلتزم عدم الاشتراط والاكتفاء في إزالة الخبث ورفع الحدث بورود ماء واحد. انتهى. وفيه مع تسليم صحة ما ادعاه ان المفهوم من الروايات الواردة في تطهير الثوب والبدن من نجاسة البول وجوب المرتين وهذا القائل من جملة القائلين بذلك فكيف يتم ما ذكره هنا؟

واما ما أجاب به في المدارك مما قدمنا نقله عنه وقوله : «إلا ان يحمل قوله فان

٤٢٣

تحققت. إلخ» ففيه ان السؤال قد تضمن انه أصاب كفه لم يشك في انه أصابه إلا ان الامام (عليه‌السلام) في الجواب لأجل بيان شقوق المسألة واستيفاء أحكامها ردد له بين التوهم والتحقيق في اصابة البول اليد فقال ان كان على جهة التوهم فليس بشي‌ء وان حققت ذلك يعني اصابة البول اليد فالتحقيق راجع الى اصابة البول اليد فكيف يتم الحمل على تحقيق اصابة البدن على وجه لا يصيب إمضاء الوضوء كما زعمه (قدس‌سره

وأجيب أيضا عن الاشكال الثالث بأنه ليس في كلام السائل ما هو نص في استيعاب الرأس بمسح الدهن فلعل مقدار ما يقع عليه مسح الوضوء لم ينجس بذلك الدهن وهو (عليه‌السلام) قد اطلع على ذلك ولا يخفى ما فيه من التكلف والخروج عن الظاهر إلى أقصى غايات البعد.

وأجاب شيخنا البهائي في الحبل المتين عن الاشكال الرابع فقال : ولمتكلف ان يقول لعله أراد بذلك الوضوء بعينه الوضوء النوعي الخاص اعني الواقع بعد التدهن وقبل تطهير البدن ، وهذا التفصي وان كان كما ترى إلا انه محمل صحيح في ذاته. انتهى وبالجملة فمعنى الخبر المذكور على غاية من الخفاء وعدم الظهور وارتكاب هذه التمحلات في دفع هذه الإشكالات لا يجدي نفعا في مقام الاستدلال ، ولقد أجاد المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال بعد نقل الرواية المذكورة : معنى هذا الحديث غير واضح وربما يوجه بتكلفات لا فائدة في إيرادها ويشبه ان يكون قد وقع فيه غلط من النساخ. انتهى. وبعض فضلاء المتأخرين جعل بعض هذه الإشكالات المذكورة منشأ الاضطراب الموجب لرد الحديث.

هذا ، واما ما قدمنا نقله عن المدارك في اعتراضه على سند الرواية فهو منظور فيه بان الاعتماد في صحة الخبر المذكور انما هو على كلام الثقة الجليل علي بن مهزيار وقوله : «فأجابه بجواب قرأته بخطه» ويحتمل ان يكون مراده الطعن بجهالة المكتوب اليه كما طعن به جده في الروض على الرواية المذكورة فحرف قلمه فانصرف الى الكاتب ،

٤٢٤

وفيه ايضا ان مثل علي بن مهزيار في جلالة شأنه لا ينسب مثل هذه العبارة الى غير الامام (عليه‌السلام) بل ولا يعتمد على غيره في شي‌ء من الأحكام كما صرحوا به (رضوان الله عليهم) في أمثال هذا المقام.

وصار جماعة من فضلاء متأخري المتأخرين لما رأوا ما في جمع الشيخ من الاختلال الى الجمع بين الأخبار بحمل أخبار الإعادة على الاستحباب والظاهر انهم قد اقتفوا في ذلك المحقق (قدس‌سره) في المعتبر حيث اختار القول بعدم وجوب الإعادة فجعلوا التأويل في جانب أخبار الإعادة بحملها على الاستحباب ، قال في المدارك بعد كلام في المسألة : والأظهر عدم وجوب الإعادة لصحة مستنده ومطابقته لمقتضى الأصل والعمومات وحمل ما تضمن الأمر بالإعادة على الاستحباب. انتهى.

وفيه (أولا) ـ ما قدمنا ذكره في غير موضع من انه لا مستند لهذا الجمع وان تكرر منهم في جميع أبواب الفقه بل ظواهر القواعد الأصولية المبتني عليها عندهم تقتضي رده فان ظواهر الاخبار الوجوب بلا خلاف والحمل على الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز ، ولان الاستحباب حكم شرعي يحتاج ثبوته الى الدليل الواضح ومجرد اختلاف الاخبار لا يوجب ذلك.

و (ثانيا) ـ ان الأمر بالإعادة قد ورد في اخبار متعددة ونجاسات متفرقة ومقامات متباينة وفيها الصحيح والحسن والموثق وغيرها كما تقدم لك ذكره وما استند اليه رواية واحدة وان صح سندها ، ومن القواعد المقررة في كلام أهل العصمة (عليهم‌السلام) الترجيح بالشهرة يعني في الرواية سيما مع اعتضادها بالشهرة في الفتوى فكيف يصح الحكم بترجيح تلك الرواية على هذه الأخبار والحال كما عرفت؟ ولا يخفى ان ترجيحها على هذه الاخبار والحال ان فيها الصحيح باصطلاحه خلاف قاعدته التي بنى عليها في أكثر المواضع من شرحه ، واعتضاد تلك الرواية بالعمومات ومطابقة مقتضى الأصل غير مجد هنا فإن الأصل يجب الخروج عنه بمقتضى الدليل والعمومات يجب تخصيصها ،

٤٢٥

وبالجملة فإنه لما تعارضت هذه الرواية وباقي أخبار المسألة وكان الترجيح في جانب الأخبار المذكورة لما ذكرناه من الوجوه فإنه لا يبقى للتمسك بهذا الأصل ولا بالعمومات وجه كما لا يخفى.

و (ثالثا) ـ ان موثقة سماعة التي هي من جملة أخبار الإعادة قد دلت بعد الأمر بالإعادة على ان ذلك عقوبة لنسيانه بمعنى تهاونه بالإزالة حتى ادى الى نسيانها والصلاة فيها وإلا فالنسيان من حيث هو لا يترتب عليه عقوبة ، والظاهر ان العقوبة لا تجامع الاستحباب الذي يجوز معه الترك اختيارا.

وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المشهور إلا انه يبقى الإشكال في صحيحة العلاء وما الذي ينبغي ان تحمل عليه ، وكيف كان فالاحتياط في جانب القول المشهور وبه يظهر ترجيحه لو تعارضت الاخبار على وجه لا يمكن ترجيح أحد طرفيها ، وان الاحتياط عندنا في مثل ذلك واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب. والله العالم.

(المقام الرابع) ـ ان يرى النجاسة وهو في الصلاة ، والحال هنا دائرة بين أمرين فاما ان يعلم سبق النجاسة على الدخول في الصلاة بإحدى القرائن والأمارات الدالة على ذلك وان كان حال دخوله في الصلاة جاهلا بها أم لا ، فههنا صورتان :

(الاولى) ـ ان يعلم سبقها ، والمشهور بين الأصحاب ـ وبه قطع الشيخ في النهاية والمبسوط والمحقق وغيرهما ـ انه يجب عليه ازالة النجاسة أو إلقاء الثوب النجس وستر العورة بغيره مع الإمكان وإتمام الصلاة وان لم يمكن إلا بفعل المبطل أبطلها واستقبل الصلاة ، قال في المعتبر : وعلى قول الشيخ الثاني يستأنف. وأشار بالقول الثاني الى ما تقدم نقله عن المبسوط من اعادة الجاهل لو علم في الوقت ، قال في المدارك ويشكل بمنع الملازمة إذ من الجائز ان تكون الإعادة لوقوع الصلاة بأسرها مع النجاسة ولا يلزم مثله في البعض ، وبان الشيخ قطع في المبسوط بوجوب المضي في الصلاة مع التمكن من إلقاء الثوب وستر العورة بغيره مع حكمه فيه بإعادة الجاهل في الوقت. انتهى. وهو جيد.

٤٢٦

(الثانية) ـ ان لا يعلم السبق والحكم فيها عند الأصحاب كما في سابقتها بل هي أولى كما لا يخفى ، ونقل في المدارك هنا ايضا عن المعتبر انه قطع بوجوب الاستئناف هنا بناء على القول بالإعادة على الجاهل في الوقت ، ثم قال في المدارك وهو أشكل من السابق.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على نقل جملة الأخبار المتعلقة بالمسألة وتذييل كل منها بما هو الظاهر من سياقه وبيان ما هو الحق في المسألة :

والذي وقفت عليه من الاخبار روايات : (الأولى) ـ صحيحة زرارة المذكورة (١) حيث قال في آخرها «قلت ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي‌ء أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك».

وظاهر الخبر المذكور التفصيل بعد رؤية النجاسة بأنه ان كان قد حصل له ظن بالنجاسة قبل دخوله في الصلاة وصلى والحال هذه فإنه تجب عليه الإعادة ، وينبغي تقييده بما إذا لم ينظر في الثوب بعد ظنه لانه (عليه‌السلام) قد قدم في الخبر انه مع الظن والنظر في الثوب وعدم رؤية النجاسة ثم يجدها بعد ذلك فلا اعادة عليه ، وان لم يحصل له ظن بالنجاسة بل كان خالي الذهن من ذلك ثم علم في أثناء الصلاة فإن الحكم فيه ما ذكره من إزالة النجاسة والبناء على ما صلى ، وفي حكمه إلقاء الثوب الذي فيه النجاسة والاستتار بغيره إن أمكن ، والحكم في الصورة الأولى مخالف لما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم) من المضي في الصلاة بعد طرح النجاسة أو غسلها إن أمكن إلحاقا لرؤية النجاسة في الأثناء مع الجهل بها سابقا بالرؤية بعد الصلاة مع الجهل كذلك فإنه إذا صحت الصلاة كملا بالنجاسة في الصورة المذكورة فبعضها مع استدراك الباقي أولى إلا

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ١١٩ وفي الوسائل في الباب ٢٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ من النجاسات.

٤٢٧

انه موافق ومعاضد لما قدمناه من التحقيق في المقام الثاني وان حكم بعض الصلاة حكمها كملا في التفصيل المتقدم. وقال (عليه‌السلام) في الرواية المذكورة كما تقدم «وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي‌ء أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك» ومن هذا الكلام يستفاد دليل الصورة الثانية. وغاية ما استدل به في المدارك في هذه الصورة الأصل السالم عما يصلح للمعارضة وغفل عن الصحيحة المذكورة.

الثانية ـ حسنة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (١) انه قال له : «الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ فقال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره ، وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم فان كان أقل من درهم فليس بشي‌ء رأيته أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه ، وليس ذلك بمنزلة المني والبول ، ثم ذكر المني فشدد فيه وجعله أشد من البول ، ثم قال (عليه‌السلام) ان رأيت المني قبل أو بعد فعليك إعادة الصلاة ، وان أنت نظرت ثوبك فلم تصبه وصليت فيه فلا اعادة عليك وكذلك البول» هكذا رواه الصدوق في الفقيه (٢). ورواه ثقة الإسلام في الكافي (٣) أيضا كذلك الى قوله : «فأعد ما صليت فيه». ورواه الشيخ في التهذيب (٤) إلا ان فيه هكذا «ولا اعادة عليك وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء». بزيادة الواو وحذف جملة «فإن كان أقل من درهم» وفي الاستبصار (٥) حذف الجملة المذكورة ولم يزد الواو ، وكيف كان فالاعتماد على رواية الشيخين المذكورين بل أحدهما لو لم يكن إلا هو إذ لا يخفى على من لاحظ التهذيب وما وقع للشيخ فيه من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في متون

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من النجاسات.

(٢) ج ١ ص ١٦١.

(٣) ج ١ ص ١٨.

(٤) ج ١ ص ٧٢.

(٥) ج ١ ص ١٧٥.

٤٢٨

الاخبار وأسانيدها ترجيح ما ذكره غيره من المحدثين ولا ريب ان هذا من جملة ذلك.

ثم انه قد دل صدر الخبر المذكور على انه إذا رأى الدم في ثوبه وهو في الصلاة فإن كان عليه ثوب غيره طرح الثوب النجس وأتم صلاته وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب إلا انهم خيروا فيما إذا لم يكن عليه إلا ذلك الثوب النجس بين إزالة النجاسة وإلقاء الثوب النجس والستر بغيره إن أمكن ، وظاهر الخبر ان الحكم في المسألة ما ذكرنا وان علم سبق النجاسة ببعض القرائن المفيدة لذلك ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما تقدم ، وان لم يكن عليه ثوب غيره ولم يمكنه إزالة النجاسة كما ذكره الأصحاب ودلت عليه صحيحة زرارة ولا الاستبدال مضى في صلاته بذلك الدم الذي في الثوب إذا كان الدم مما يعفى عنه بان لم يزد على مقدار الدرهم ومفهومه انه إذا لم يكن مما يعفى عنه فإنه يقطع صلاته ويعيدها من رأس ، وبالجملة فظاهر الخبر هو انه بعد الرؤية ان أمكن إزالة النجاسة بأي الوجوه المتقدمة وإلا قطع الصلاة وإطلاقه يقتضي عموم ذلك لما لو علم بالتقدم أو لم يعلم ، وهو موافق لما افتى به الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه الصورة والصورة الثانية فتكون الرواية دليلا لكل منهما. واما قوله : «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله» فقد تقدم حكمه في المقام الثالث واما قوله : «ان رأيت المني قبل أو بعد. الى آخر الخبر» فالظاهر ان معناه ان رأيت المني قبل الدخول في الصلاة ثم صليت فيه عامدا أو ناسيا فعليك الإعادة ، وهذا مما لا اشكال فيه كما تقدم ذكره في المقام الأول والثالث. بقي الكلام في رؤيته بعد الدخول وهو (عليه‌السلام) قد رتب عليه ايضا وجوب الإعادة كما إذا رآه قبل ويجب تقييده بحصول العلم بتقدمه بل هو الظاهر من المني لأنه ليس من قبيل سائر النجاسات التي يحتمل وقوعها عليه في أثناء الصلاة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد المذكور ، ثم فصل (عليه‌السلام) في الرؤية البعدية بعد حكمه بالإعادة بأنه ان نظر فلم يصبه فلا اعادة عليه ، وهذا التفصيل نظير ما تقدم في صحيحة زرارة المتقدمة وهو مؤيد لما حققناه في المقام الثاني

٤٢٩

وان خالف مقتضى ما عليه كلمة جمهور الأصحاب من عدم الإعادة مطلقا ، وحينئذ فصدر الخبر محمول على الجهل الساذج الذي لا ظن فيه أو عدم العلم بالتقدم.

وبالجملة فالمتلخص من هذين الخبرين هو الحكم بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في غير صورة حصول الظن بالنجاسة وعدم النظر في الثوب فإنهما دلا على وجوب الإعادة في هذه الصورة خاصة ويعضدهما في ذلك الخبر ان المتقدمان في المقام المذكور

الثالثة ـ موثقة أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به؟ قال عليه ان يبتدئ الصلاة». وربما حملت على من علم بالنجاسة ثم صلى فيها ناسيا أو على الاستحباب ، والأظهر حملها على ما دل عليه عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة من الصلاة في الجنابة بعد حصول الظن بها من غير نظر في الثوب فتكون من جملة أخبار المسألة المذكورة.

الرابعة ـ ما رواه الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما قال يتم».

الخامسة ـ ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن علي بن محبوب عن ابن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان رأيت في ثوبك دما وأنت تصلي ولم تكن رأيته قبل ذلك فأتم صلاتك فإذا انصرفت فاغسله ، قال وان كنت رأيته قبل ان تصلي فلم تغسله ثم رأيته بعد وأنت في صلاتك فانصرف واغسله وأعد صلاتك».

والخبر الأول حمله الشيخ على ما إذا كان الدم مما يعفى عنه كالاقل من الدرهم ، وهو جيد في مقام الجمع إلا ان الخبر الثاني لا يقبل هذا التأويل لأمره (عليه‌السلام) بالإعادة متى صلى فيه ناسيا ، والظاهر شذوذ الخبرين المذكورين لمخالفتهما الأخبار المستفيضة عموما وخصوصا لان اخبار هذه المسألة ما بين صريح في الإبطال أو صريح

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من النجاسات.

٤٣٠

في وجوب إزالة النجاسة أو طرح الثوب النجس والاستبدال والاخبار العامة دالة على بطلان الصلاة في النجاسة عامدا فكيف يجوز الإتمام في النجاسة كما يدل عليه ظاهر الخبرين ومخالفتهما لما عليه علماء الطائفة المحقة قديما وحديثا؟ فهما مرجئان الى قائلهما.

السادسة ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلا يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه أثره فيغسله».

وهذا الخبر وان كان لا يخلو من نوع إجمال إلا ان الظاهر بعد التأمل فيه ان الأمر بالمضي مبني على كون الملاقاة إنما وقعت مع اليبوسة وهو موجب للنضح خاصة ولما كان في الصلاة امره بالمضي فيها للطهارة بقرينة قوله : «وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه» فحاصل الكلام انه ان ذكر في الصلاة فليمض وان لم يدخل فلينضح غاية الأمر انه (عليه‌السلام) في صورة عدم الدخول في الصلاة بين له حكما آخر وهو انه في حال النضح ان رأى فيه أثرا بسبب الملاقاة غسله ، وبالجملة فهذا الاستثناء انما هو قيد للأخير خاصة كما لا يخفى على العارف بأسلوب الكلام.

هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة وخلاصة البحث فيها ، ولصاحب المدارك هنا كلام لا بأس بإيراده وبيان ما فيه فإنه قال بعد الكلام في المسألة : وقد اختلفت الروايات في ذلك فروى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من مني ، والحديث طويل قال في آخره : قلت فإن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة». وروى محمد بن مسلم في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) انه قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من النجاسات.

(٢) ص ٤٢٧.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٦ من النجاسات.

٤٣١

في الصلاة فعليك إعادة الصلاة». ومقتضى هاتين الروايتين تعين القطع مطلقا سواء تمكن من إلقاء الثوب وستر العورة بغيره أم لا ، وروى محمد بن مسلم في الحسن (١) قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك». وروى علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير. ، ثم ساق الرواية المتقدمة (٢) ثم قال ومقتضى هاتين الروايتين وجوب المضي في الصلاة إذا لم يكن عليه غيره أو كان وطرح الثوب النجس ، والجمع بين الروايات يتحقق بحمل ما تضمن الأمر بالاستيناف على الاستحباب وان جاز المضي في الصلاة مع طرح الثوب النجس إذا كان عليه غيره وإلا مضى مطلقا ، ولا بأس بالمصير الى ذلك وان كان الاستئناف مطلقا اولى. انتهى.

وفيه (أولا) ـ ان ما ذكره من ان مقتضى صحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم تعين القطع مطلقا وان أوهمه ما نقله من الروايتين حيث اقتصر منهما على هاتين العبارتين إلا أنك بالتأمل في سياقهما كما قدمناهما يظهر لك بطلان ما ذكره ، وهذا أحد العيوب في الاستدلال بالاخبار حيث يقتطع منها ما يظن دلالته ويترك باقي الخبر ، اما صحيحة زرارة فإنه قال فيها بعد هذه العبارة «وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك. الى آخره». فقيد (عليه‌السلام) نقض الصلاة والإعادة بصورة ظن النجاسة كما أسلفنا تحقيقه ومع عدم الظن امره (عليه‌السلام) بإزالة النجاسة والبناء واين هذا مما يدعيه من القطع مطلقا؟ واما صحيحة محمد بن مسلم فإنه قال فيها بعد ما نقله منها «وان نظرت في ثوبك. الى آخره» وظاهرها كما قدمنا إيضاحه ان الإعادة مع الرؤية بعد الصلاة انما هو مع عدم النظر في الثوب لا مطلقا ، ولكن العذر له واضح

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٠ من النجاسات.

(٢) ص ٤٣١.

٤٣٢

حيث انه وغيره لم يحوموا حول هذا المعنى ولم يتوجهوا اليه وان كانت الروايات ظاهرة الدلالة عليه.

و (ثانيا) ـ ان ما ادعاه ـ من ان مقتضى روايتي محمد بن مسلم وعلي بن جعفر وجوب المضي في الصلاة والصلاة في النجاسة إذا لم يكن عليه غيره ـ ليس في محله اما حسنة محمد بن مسلم فإنه بنى فيها على نقل الشيخ في التهذيب بل غيره من أصحاب كتب الاستدلال انما نقلوها برواية التهذيب وعليه بنى استدلاله هنا ، وقد عرفت آنفا صورة رواية الشيخين المتقدمين لها فإنه على تقدير ما روياه ـ وهو الأصح ـ لا يتم ما ذكره لانه (عليه‌السلام) قيد الحكم بعدم الإعادة بما إذا لم يزد على مقدار الدرهم ، وحاصله ان عدم الإعادة من حيث العفو عن ذلك الدم ومفهومه وجوب الإعادة مع الزيادة ، فأين ما ذكره من الدلالة على وجوب المضي في الصلاة مع النجاسة؟ وعذره هنا ايضا واضح لعدم اطلاعه على الرواية المذكورة بنقل الشيخين إلا ان ذلك من مثله من المحققين لا يخلو من مجازفة فان الواجب مراجعة كتب الاخبار كملا سيما مع اعترافه في شرحه بما وقع للشيخ (قدس‌سره) من التساهل والخبط في الروايات متونا وأسانيد واما صحيحة علي بن جعفر فقد عرفت المعنى فيها وهو الأوفق بمقتضى الأصول الشرعية والضوابط المرعية ، فان إتمام الصلاة في النجاسة عمدا من غير عذر شرعي بعد العلم بها مما منعت منه الأدلة الصحيحة الصريحة عموما وخصوصا. وكان الاولى له الاستناد في هذا القول إلى موثقة أبي بصير ورواية السرائر المتقدمتين الدالتين على المضي في النجاسة وإتمام الصلاة بها. وممن ساعدنا على ما ذكرناه في معنى صحيحة علي بن جعفر المحقق الشيخ حسن في المعالم حيث قال بعد نقل الخبر : قوله في هذا الحديث «ان كان دخل في صلاته الى قوله فلينضح» أراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله : «إلا ان يكون فيه اثر فيغسله» انتهى. و (ثالثا) ـ ان ما ذكره من الجمع بالاستحباب الذي اتخذوه قاعدة كلية في

٤٣٣

جميع الأبواب قد عرفت ما فيه مما قدمناه في غير موضع من الكتاب.

واما ما ذكره الأصحاب في الصورتين المتقدمتين من انه إذا لم يمكن إزالة النجاسة إلا بما يستلزم بطلان الصلاة فإنه يبطلها ويعيدها من رأس فإنه يدل عليه جملة من اخبار الرعاف كما ستأتي ان شاء الله تعالى في موضعها.

بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) لو علم بالنجاسة المعلوم سبقها في أثناء الصلاة ولكن الوقت يضيق عن الإزالة والاستئناف فهل يجب الاستمرار في الصلاة أو يزيل النجاسة وان لزم القضاء؟ قطع الشهيد في البيان بالأول ومال إليه في الذكرى موجها له باستلزامه القضاء المنفي ، قال في المدارك بعد نقله عنه : ويشكل بانتفاء ما يدل على بطلان اللازم مع إطلاق الأمر بالاستيناف المتناول لهذه الصورة ، ثم قال والحق بناء هذه المسألة على ان ضيق الوقت عن إزالة النجاسة هل يقتضي انتفاء شرطيتها أم لا؟ بمعنى ان المكلف إذا كان على بدنه أو ثوبه نجاسة وهو قادر على الإزالة لكن إذا اشتغل بها خرج الوقت فهل يسقط وجوب الإزالة ويتعين فعل الصلاة بالنجاسة أو يتعين عليه الإزالة والقضاء لو خرج الوقت؟ وهي مسألة مشكلة من حيث إطلاق النصوص المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة المتناول لهذه الصورة ومن ان وجوب الصلوات الخمس في الأوقات المعينة قطعي واشتراطها بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم فلا يترك لأجله المعلوم. وقد سبق نظير هذه المسألة في التيمم إذا ضاق الوقت عن الطهارة المائية والأداء مع وجود الماء عنده. انتهى.

أقول : الظاهر ان ما ذكره من الاشكال لا ورود له في هذا المجال وذلك فإنه لا ريب ان وجوب الصلاة في الأوقات المعينة لها شرعا أمر قطعي كتابا وسنة وإجماعا من كافة الأمة غاية الأمر ان صحتها مشروطة بشروط : منها استقبال القبلة ومنها ستر العورة ومنها طهارة الساتر ، وقد صرحوا من غير خلاف يعرف بان شروط الصحة انما تعتبر مع الإمكان فلو تعذر شي‌ء منها لم يوجب سقوط الصلاة ولا تأخيرها عن وقتها الى ان

٤٣٤

يحصل الشرط ثم يأتي بها قضاء ولا ريب ان ما نحن فيه من هذا القبيل فلو جاز تأخير الصلاة عن وقتها للاشتغال بإزالة النجاسة ثم الصلاة قضاء لجاز لفاقد القبلة أو فاقد الستر أو طهارته تأخير الصلاة عن وقتها الى ان يحصل الشرط المذكور ثم يصلي قضاء ولا قائل به ولا دليل عليه بل الأدلة وإجماعهم على خلافه ، فان فاقد القبلة يصلي الى أربع جهات أو جهة واحدة على الخلاف وفاقد الستر يصلي عريانا وفاقد طهارته يصلي مع النجاسة أو عريانا على الخلاف ، وبالجملة فهذه المسألة من قبيل هذه المسائل المذكورة ولو جاز تقديم مراعاة الشرط فيما نحن فيه لجاز في تلك الصور لان الجميع من باب واحد وليس فليس.

واما ما ذكره ـ من إطلاق الأخبار الذي صار منشأ لاستشكاله في المقام المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة الشامل إطلاقها لهذه الصورة ـ ففيه (أولا) ـ انه حقق جملة من المحققين ان الأحكام المودعة في الأخبار انما تحمل على الافراد المتكررة الشائعة المتكثرة فهي التي ينصرف إليها الإطلاق دون الفروض النادرة الوقوع.

و (ثانيا) ـ انه مع فرض شمول إطلاقها لهذه الصورة فإنه يجب تقييدها بما ذكرناه من القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، وحينئذ فيجب حمل الأخبار المشار إليها على ما لو حصل رؤية النجاسة في أثناء الصلاة في الوقت الذي فيه سعة للإزالة والإعادة دون هذا الفرد النادر الوقوع الذي ربما لا يتفق وان كان ممكنا ، وبذلك يظهر ان الأنسب بالقواعد الشرعية هو وجوب الصلاة بالنجاسة. نعم يأتي على الخلاف في مسألة الصلاة في النجاسة مع تعذر إزالتها من الصلاة فيها أو الصلاة عاريا احتمال الصلاة عاريا هنا ايضا بناء على القول به ثمة ، إلا انه حيث ان المسألة خالية من النصوص فالأحوط فيها مع ذلك القضاء في ساتر طاهر ، هذا.

ولا يخفى عليك ما في كلام السيد من التدافع حيث انه ذكر في أول وجهي الاشكال ان إطلاق النصوص المتقدمة المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة متناول لهذه الصورة

٤٣٥

ثم ذكر في الوجه الثاني ان اشتراط الصلاة بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم ، وهو مما يدافع الكلام الأول فإن دخول هذه الصورة تحت إطلاق تلك الأخبار يقتضي المعلومية البتة فان اعادة الصلاة مع النجاسة التي من جملته محل البحث انما هو لاشتراطها بإزالة النجاسة ، نعم معلومية الاشتراط على هذا الوجه لا يبلغ إلى معلومية وجوب الصلوات الخمس في الأوقات المعينة إلا انه غير المراد من عبارته ، وقد تقدم منا في بحث التيمم ما يعضد ما صرنا اليه هنا ايضا. والله العالم.

(الثاني) ـ لو وقعت عليه نجاسة في أثناء الصلاة ثم زالت ولما يعلم ثم علم استمر على صلاته وهو مما لا اشكال فيه لأنه إذا جاز الاستمرار مع العلم بها في الأثناء والإزالة كما في الصورة الثانية بل مع العلم بتقدمها والإزالة كما في الصورة الأولى فبالأولى هذه الصورة.

(الثالث) ـ لو صلى ثم رأى النجاسة وشك هل كانت عليه في الصلاة أم لا؟ فلا ريب في مضي صلاته على الصحة لعدم معارضة هذا الشك لليقين الذي كان عليه ، قال في المنتهى بعد ذكر الفرع المذكور : ولا نعرف فيه خلافا من أهل العلم عملا بالأصلين الصحة وعدم النجاسة.

(المطلب الثاني) ـ في باقي المطهرات وفيه مسائل (الاولى) من المطهرات عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) الشمس الا انه قد اختلف كلامهم هنا في مواضع ثلاثة : (الأول) ان ما تجففه الشمس هل هو طاهر حقيقة كما يطهر بالماء أو يكون مخصوصا بجواز الاستعمال مع اليبوسة فيكون عفوا لا طهارة حقيقة؟ (الثاني) ما الذي يطهر بها من النجاسات هل هو البول بخصوصه أم كل نجاسة ليس لها جرم يبقى بعد اليبوسة؟ (الثالث) ما الذي يطهر بها من المواضع؟

وقد صرح جماعة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه والشهيدان ـ والظاهر انه المشهور بين المتأخرين ـ ان الأرض إذا أصابتها

٤٣٦

نجاسة برطوبة ولم يكن لها عين كفى في طهارتها إشراق الشمس عليها وتجفيفها للرطوبة الحاصلة فيها ، وكذا لو كانت لها عين فازيلت بوجه غير مطهر وبقيت رطوبتها ثم جففتها الشمس ، وألحقوا بالأرض في هذا الحكم كل ما لا ينقل ولا يحول في العادة كالأشجار والابنية والأبواب المثبتة والأوتاد الداخلة والفواكه على الشجر ومن المنقول الحصر والبواري لا غير. وذهب العلامة في المنتهى الى الاختصاص بنجاسة البول مع وقوعها على ما تقدم ذكره في القول المشهور ، ونقل بعض الأصحاب عنه في التحرير ان ظاهره فيه التوقف في تعدية الحكم الى غير البول ، ونقل في المنتهى عن الشيخ في موضع من المبسوط التخصيص بالبول ايضا ، وذهب المحقق في النافع الى العموم في النجاسة مع تخصيص ما وقعت عليه بالأرض والحصر والبواري ، وهو قول الشيخ في الخلاف حيث قال في موضع منه : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس وهبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة طهرت وقال في موضع آخر منه بعد الحكم بطهارة الأرض بتجفيف الشمس لها من نجاسة البول : وكذا الكلام في الحصر والبواري. وذهب الشيخ المفيد (قدس‌سره) في المقنعة ـ ونقل ايضا عن سلار في رسالته ـ الى القول بالاختصاص بالبول مع الثلاثة المذكورة من الأرض والحصر والبواري ، ونقل العلامة في المختلف عن القطب الراوندي انه قال : الأرض والبارية والحصر هذه الثلاثة فحسب إذا أصابها البول فجففتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها ما لم تصر رطبة ولم يكن الجبين رطبا. وقال المحقق في المعتبر ان الراوندي وصاحب الوسيلة ذهبا الى ان الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجففتها الشمس لا تطهر بذلك ولكن يجوز الصلاة عليها ، ثم قال وهو جيد. ونقله عنه في المختلف ايضا فقال بعد نقل قول الراوندي : وكان شيخنا أبو القاسم بن سعيد يختار ذلك. والى القول بالعفو ذهب المحدث الكاشاني ، وظاهر صاحب المدارك التوقف في المسألة وهو في محله كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

٤٣٧

وكيف كان فلا بد من سوق روايات المسألة وتذييل كل منها بما تدل عليه وما يتلخص من الجميع وما يرجع اليه ، والذي وقفت عليه من ذلك روايات : منها ـ ما هو ظاهر في الطهارة ومنها ـ ما هو ظاهر في العدم ومنها ـ ما هو مجمل قابل للدخول تحت كل من الفردين المذكورين ، وها انا اذكر ما وقفت عليه منها مذيلا لكل منها بما ادى اليه فهمي القاصر :

الأولى ـ صحيحة زرارة (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلى فيه؟ فقال إذا جففته الشمس فصل عليه فهو طاهر».

أقول : ومورد هذه الرواية هو نجاسة البول خاصة مع خصوص الأرض وهو مما وقع الاتفاق عليه ، وظاهرها الحكم بالطهارة كما هو المشهور ، والمناقشة فيها ـ بالحمل على المعنى اللغوي لعدم ثبوت كون المعنى المصطلح عليه حقيقة عرفية عندهم (عليهم‌السلام) كما صار اليه المحدث المتقدم ذكره حيث اختار القول بالعفو ـ فالظاهر بعدها من سياق الخبر المذكور وان سلم ما ذكره من عدم ثبوت الحقيقة العرفية عندهم (عليهم‌السلام) إلا ان قرينة السياق ظاهرة الدلالة على ان المراد بالطهارة هي الطهارة الشرعية لأنها هي المعتبرة في أحكام الصلاة مكانا أو لباسا سيما مع تعلق السؤال بالنجاسة ، ويؤيده إطلاق الأمر بالصلاة عليه بعد تجفيف الشمس الشامل لكونه بعد التجفيف وحال الصلاة رطبا ويابسا بمعنى انه متى جف بالشمس جازت الصلاة عليه رطبا كان أو يابسا لحصول الطهارة بالتجفيف الحاصل من الشمس ثم أكد ذلك بقوله : «فهو طاهر» وبالجملة فالخبر عندي ظاهر في الطهارة إلا انه سيأتي ما هو ظاهر في المعارضة.

الثانية ـ رواية أبي بكر الحضرمي عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر».

وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في القول المشهور من طهارة الأرض والحصر والبواري

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٩ من النجاسات.

٤٣٨

وما لا ينقل ولا يحول ، وهي وان كانت مطلقة بالنسبة الى ما زاد على ذلك إلا انه لا بد من تقييدها بما ذكروه لان ما لا ينقل ويحول لا بد من غسله بالأدلة الكثيرة ، وكذلك بالنسبة إلى النجاسة فإن إطلاقها شامل لجميع النجاسات ، وبالجملة فإنها ظاهرة الدلالة على القول المشهور وان أمكن تطرق المناقشة إلى الطهارة فيها بالتأويل المتقدم إلا انه خلاف الظاهر. والعلامة في المنتهى حيث خص النجاسة في هذه المسألة بالبول رد هذه الرواية بضعف السند وهو عندنا غير مرضى ولا معتمد مع انه استدل بها في المختلف على العموم. ويعضد هذه الرواية أيضا ما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه‌السلام) (١) «ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شي‌ء من النجاسات مثل البول وغيره طهرتها واما الثياب فإنها لا تطهر إلا بالغسل». وهي ظاهرة تمام الظهور في القول المشهور.

الثالثة ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (٢) قال : «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول أو ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال كيف يطهر من غير ماء».

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على ما ذهب إليه الراوندي ومن حذا حذوه من عدم الطهارة وانما هو عفو ، وقد احتج بها العلامة في المختلف للقائلين بعدم الطهارة بعد ان نقل عنهم الاحتجاج بان الاستصحاب يقتضي الحكم بالنجاسة وتسويغ الصلاة لا يدل على الطهارة لجواز ان يكون معفوا عنه كما في الدم اليسير. ثم أجاب عن الاستصحاب بان الاستصحاب ثابت مع بقاء الأجزاء النجسة اما مع عدمها فلا والتقدير عدمها بالشمس. وعن الرواية بأنها متأولة لجواز حصول اليبوسة من غير الشمس. وفيه ان ما أجاب به عن الاستصحاب هنا لا يوافق مذهبه في الأصول من القول بحجية الاستصحاب كما هو المشهور بينهم ، وبذلك اعترض عليه أيضا في المعالم فقال : وهذا الكلام من العلامة غريب إذ المعروف من مذهبه قبول مثل هذا الاستصحاب والاعتداد به نعم هو

__________________

(١) ص البحار ج ١٨ ص ٣٥.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٩ من النجاسات.

٤٣٩

على ما سلف تحقيقه في المباحث الأصولية واخترناه وفاقا للمرتضى والمحقق من الاستصحاب المردود.

أقول : الظاهر عندي هنا هو صحة الاستدلال بالاستصحاب المذكور فان مرجعه الى عموم الدليل كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب فان مقتضى الأدلة ان النجاسة حكم شرعي يتوقف رفعه على وجود الرافع والنجاسة قد ثبتت بلا خلاف ولا اشكال فرفعها يحتاج الى دليل ظاهر ، واما ما ذكره في المعالم ـ من عد الاستصحاب هنا من الاستصحاب المردود الذي قد أوضحنا في مقدمات الكتاب بطلانه ـ فهو مبني على قول تفرد به في هذا المقام ولم اعرف له موافقا عليه من علمائنا الأعلام إلا الفاضل الخراساني في الذخيرة حيث حذا حذوه في هذا الكلام.

قال في المعالم على اثر العبارة المتقدمة في بيان كونه من الاستصحاب المردود ما صورته : لان ما دل من النصوص على تأثير النجاسات والتأثر بها على وجه يبقى وان لم تبق أعيانها مقصور على البدن والثوب والآنية كما يشهد به الاستقراء والتتبع وانما استفيد الحكم فيما عدا ذلك من الإجماع ، وأكثر ما يكون الاستصحاب المردود فيما مدركه الإجماع لأن الحكم الثابت به في موضع الحاجة الى الاستصحاب يكون لا محالة مخصوصا بحال اولى فيطلب بالاستصحاب انسحابه الى حالة ثانية. وقد مر ان اعتبار الاستصحاب حينئذ إثبات للحكم بغير دليل. ومن هنا يتجه في موضع النزاع ان يقال ان الدليل الدال على تأثر الأرض والحصر والبواري وكل ما لا ينقل في العادة بالنجاسة مختص بالحال التي قبل زوال العين عنها وتجفيف الشمس لها لانتفاء الإجماع فيما بعد ذلك قطعا فمن ادعى ثبوت الحكم في الحال التي بعد فهو مطالب بالبرهان عليه وليس في يده غير الاستصحاب ولا يقبل منه (فان قلت) كأن الاتفاق واقع على ان للنجاسات المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه برطوبة مستمرا الى ان يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع من أنواع المطهرات الى دليل يثبته (قلت) : هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز

٤٤٠