الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

منه نشأ الحكم بالتنجيس فليس في الدليل ما يقتضي المنع من استعماله فيه بالنظر الى إزالة ذلك الحكم عنه. انتهى. واما عدوله بعد ذلك عن هذا الكلام الى ما نقله عن العلامة من تخصيصه حصول النجاسة بما بعد الانفصال وما تكلفه من استثناء ذلك للضرورة فيحتاج الى بيان القدح فيه وبيان إبطاله بدليل شاف وإلا فلا وجه للعدول عنه الى ما ذكره لظهور صحته واستقامته كما حققناه فيما تقدم. والله العالم.

(المسألة السابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه إذا علم موضع النجاسة في ثوب ونحوه غسل ذلك الموضع خاصة وان اشتبه غسل ما وقع فيه الاشتباه من الثوب كله أو بعض نواحيه وبالجملة كل موضع يحتمل كون النجاسة فيه. قال في المعتبر انه مذهب علمائنا وفي المنتهى انه مذهب علمائنا اجمع وانما خالف فيه جماعة من العامة. وإذا حصل الاشتباه في ثوبين بحيث لا يدرى أيهما النجس وجب تطهيرهما معا ولو تعذر صلى الصلاة الواحدة فيهما مرتين.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين

(الأول) فيما إذا حصل الاشتباه في الثوب الواحد ، ويدل على الحكم المذكور عدة روايات :

منها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال في المني يصيب الثوب : «ان عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك مكانه فاغسله كله».

وصحيحة زرارة الطويلة (٢) وفيها قال : «قلت فاني قد علمت أنه اصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك».

واعترض هذا الخبر العلامة في المنتهى بأن زرارة لم يسنده الى الامام (عليه‌السلام) فلا حجة فيه. وفيه ان الشيخ وان رواه في الصحيح كما ذكره إلا ان الصدوق قد

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من النجاسات.

(٢) التهذيب ج ١ ص ١١٩ وفي الوسائل في الباب ٣٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ من النجاسات.

٤٠١

رواه في العلل (١) في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) على انه من الظاهر البين الظهور ان مثل زرارة لا يعتمد في أحكام دينه على غير امام سيما مع ما اشتمل عليه الخبر من الأسئلة العديدة والمراجعة مرة بعد أخرى فإن صدور مثل هذا من غير الامام لا يقبله الفهم السليم.

ومنها ـ حسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وان استيقن انه قد أصابه مني ولم ير مكانه فليغسل الثوب كله فإنه أحسن».

وفي الحسن أو الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن أبوال البغال والدواب والحمير فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله».

وعن سماعة (٤) قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله ان خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا».

قال في المدارك ـ بعد ان نقل عن المحقق في المعتبر انه استدل على هذا الحكم بأن النجاسة موجودة على اليقين ولا يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه ـ ما هذا لفظه : ويشكل بان يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وان لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه. انتهى.

أقول : ما ذكره من الاشكال هنا مبني على ما قدمنا نقله عنه في مسألة الإناءين من حكمه بالطهارة في أحدهما ، وقد أوضحنا ثمة بطلانه وبطلان ما توهمه من الاشكال وانه مجرد وهم نشأ من عدم التأمل في أدلة المسألة وتتبعها من جملة مواردها ، وبالجملة فإنه لو كان ما ادعاه حقا بناء على قاعدته التي بنى عليها في أمثال هذا المقام والاخبار التي توهم

__________________

(١) ص ١٢٧.

(٢ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٩ من النجاسات.

٤٠٢

دلالتها على ما صار اليه لكان الحكم في هذا الموضع ما ذكره من الاكتفاء بغسل جزء مما يظن فيه الاشتباه لأنه أحد جزئيات المسألة مع ان الاخبار كما ترى متفقة على وجوب غسل الجميع وانه لا يطهر إلا بذلك وهو أظهر ظاهر في بطلان ما بنى عليه ، ومثل هذا الموضع غيره من المواضع التي نبهنا عليها ثمة في دلالة أخبارها على خلاف ما بنى عليه مع موافقته على العمل بما دلت عليه كما اعترف به هنا.

ثم قال ايضا (قدس‌سره) في المقام المذكور بعد إيراد أخبار المسألة : ولا يخفى ان الحكم بوجوب غسل الجميع لتوقف الواجب عليه أو للنص لا يقتضي الحكم بنجاسة كل جزء من اجزائه فلو لاقى بعض المحل المشتبه جسم طاهر برطوبة فالأظهر بقاؤه على الطهارة استصحابا للحكم قبل الملاقاة الى ان يحصل اليقين بملاقاته للنجاسة ، وفي خبر زرارة المتقدم (١) «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». انتهى.

أقول : قد حققنا سابقا في مسألة الإناءين ان المستفاد من اخبار المسألة هو إعطاء المشتبه بالنجس في المحصور حكم النجس والمشتبه بالحرام كذلك حكم الحرام واحد لم يقل بنجاسة المشتبه ويجزم بالحكم عليه بالنجاسة وانما يدعى انه في حكم النجس في إجراء أحكامه ، ولا ريب انه هو المستفاد من الاخبار كاخبار هذا الموضع فان الظاهر من الأمر فيها بتطهير الثوب كملا هو ترتب حكم النجس عليه قبل التطهير من عدم جواز الصلاة فيه ومن تعدى النجاسة منه برطوبة ونحو ذلك من أحكام النجس المتيقن النجاسة واما خبر زرارة الذي ذكره هنا هو وغيره فقد تقدم القول فيه ثمة وبينا انه ليس من محل المسألة في شي‌ء فلا نعيده.

تذنيب

قال الشيخ في الخلاف : إذا أصاب الثوب نجاسة فغسل نصفه وبقي نصفه فان

__________________

(١) تقدم ص ٢٥٦.

٤٠٣

المغسول يكون طاهرا ولا تتعدى نجاسة النصف الآخر اليه ، ثم حكى عن بعض العامة انه قال لا يطهر النصف المغسول لانه مجاور لا جزاء نجسة فتسري إليه النجاسة فينجس (١) قال الشيخ وهذا باطل لان ما يجاوره أجزاء جافة لا تتعدى نجاستها اليه ، قال ولو تعدت لكان يجب ان يكون إذا نجس جسم ان ينجس العالم كله لأن الأجسام كلها متجاورة وهذا تجاهل ، ثم قال وروى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعن أئمتنا (عليهم‌السلام) (٢) انه إذا وقع الفأر في سمن جامد أو في زيت القى وما حوله واستعمل الباقي ، ولو كانت النجاسة تسري لوجب ان ينجس الجميع. وهذا خلاف النص. وما ذكره (قدس‌سره) هنا جيد ، وقد اقتفاه في هذه المقالة جمع ممن تأخر : منهم ـ الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى فأوردوا محصول كلامه ودليله ، واستجوده في المعالم ثم قال : ولا يخفى ان ما ذكره من لزوم نجاسة العالم بنجاسة جسم فيه يحتاج الى التقييد بحال كونه بأجمعه رطبا ولظهور ذلك لم يتعرض له وكذا الجماعة بعده.

(المقام الثاني) ـ فيما إذا حصل الاشتباه في الثوبين والأشهر الأظهر هو ما قدمناه من وجوب تطهيرهما معا ووجوب الصلاة الواحدة في كل منهما ، ونقل في الخلاف عن بعض الأصحاب انه يطرحهما ويصلي عاريا وجعله في المبسوط رواية واختاره ابن إدريس بعد نقله عن بعض الأصحاب.

والذي يدل على وجوب الصلاة فيهما

__________________

(١) في المهذب ج ١ ص ٥٠ «قال أبو العباس بن القاص إذا كان ثوبه كله نجسا فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة لأنه إذا صب على بعضه ماء ورد جزء من البعض الآخر على الماء نجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب».

(٢) في سنن البيهقي ج ٩ ص ٣٥٤ «ان رسول الله (ص) سئل عن فأرة سقطت في سمن فماتت فقال النبي (ص) خذوها وما حولها وكلوا سمنكم». والأحاديث المروية عن أئمتنا (ع) في ذلك تقدمت ص ٥٦.

٤٠٤

ما رواه الصدوق في الصحيح أو الحسن عن صفوان عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (١) : «انه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال يصلي فيهما جميعا». قال الصدوق يعني على الانفراد.

واستدل على ذلك في المدارك أيضا بأنه متمكن من الصلاة في ثوب طاهر من غير مشقة فيتعين عليه ، وبان الصلاة في الثوب المتيقن النجاسة سائغة بل ربما كانت متعينة على ما سيجي‌ء بيانه ان شاء الله تعالى فالمشكوك فيه اولى ، ومتى امتنعت الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة في أحدهما أو في كل منهما إذ المفروض انتفاء غيرهما والأول منتف إذ لا قائل به فيثبت الثاني ، ويدل عليه ما رواه صفوان ثم أورد الرواية المذكورة.

أقول : ما ذكره ـ من ان الأول منتف إذ لا قائل به ـ فيه انه وان كان لا قائل به كما ذكره إلا ان مقتضى قاعدته التي بنى عليها النزاع في مسألة الإناءين ونحوها هو صحة الصلاة في واحد منهما كما ذكره في مسألة الإناءين حيث قال ان اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه لا مع الشك ، وما ذكره أيضا في مسألة حصول النجاسة في المكان المحصور من انه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة ، وحينئذ فاللازم من ذلك في هذا الموضع لو كان ما ذكره صحيحا هو وجوب الصلاة في أحدهما فنفيه له هنا مناقض لما اختاره في تلك المسائل مع ان الجميع من باب واحد ، ومن الظاهر ان النص الوارد في هذه المسألة كالنصوص الواردة في سابقتها أظهر ظاهر في رد كلامه وإبطاله من أصله لأن هذه من جزئيات المسألة المذكورة.

وقال ابن إدريس في السرائر : وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ولم يتميز له الطاهر ولا يتمكن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا يصلى في كل واحد منهما على الانفراد وجوبا ، وقال بعض منهم ينزعهما ويصلي عريانا ، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه افتى لأن المسألة بين أصحابنا خلافية ودليل الإجماع فيه منفي

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦٤ من النجاسات.

٤٠٥

فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه ، فان قال قائل بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد لأنه إذا صلى فيهما جميعا تبين وتيقن بعد فراغه من الصلاتين معا انه قد صلى في ثوب طاهر ، قلنا المؤثرات في وجوه الأفعال يجب ان تكون مقارنة لها لا متأخرة عنها والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ان يقطع على ثوبه بالطهارة وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين انه نجس ولا يعلم انه طاهر عند افتتاح كل صلاة فلا يجوز ان يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ولا يجوز ان تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وايضا كون الصلاة واجبة وجه يقع عليه الصلاة فكيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعده ومن شأن المؤثر في وجوه الأفعال ان يكون مقارنا لها لا يتأخر عنها على ما بيناه. انتهى.

وفيه انه ـ مع كونه محض اجتهاد صريح في مقابلة النص الصحيح ـ مردود بما ذكره جملة ممن تأخر عنه ، اما ما ذكره من وجوب اقتران ما يؤثر في وجوه الأفعال فبالمع لانتفاء ما يدل عليه. ثم لو سلم ذلك فنقول انه مقيد بحال التمكن لا مطلقا. ثم مع تسليم هذا ايضا فيمكن ان يقال بحصول ذلك فإنه يقصد وجوب كل واحدة من الصلاتين فان ستر العورة بالساتر الطاهر لما كان واجبا وكان تحصيله موقوفا على الإتيان بالصلاتين تعين فتكون الصلاتان واجبتين من باب المقدمة ، قال في المختلف بعد حكمه بوجوب الصلاتين من باب المقدمة : وهو ـ يعني ابن إدريس ـ لم يتفطن لذلك وحسب ان احدى الصلاتين واجبة دون الأخرى ثم يعلم المكلف بعد فعلهما انه قد فعل الواجب في الجملة ، وليس كذلك. واما ما ذكره من ان الواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ان يقطع بطهارة ثوبه فبالمنع من ذلك فإنه شرط مع القدرة لا مع الاشتباه ، وانما أوردنا لك كلامه بطوله وما ينبه على ضعف محصوله لتطلع على مزيد ضعف ما ذهب اليه وإلا فذكر جميع ذلك بعد ما عرفت من النص الواضح تطويل بغير طائل وتحصيل لغير حاصل.

٤٠٦

فروع

(الأول) ـ ما ذكر من الحكم المذكور لا يختص بالثوبين بل لو وقع الاشتباه في ثلاثة وقد علم كون واحد منها نجسا يقينا فإنه يصلي الفريضة الواحدة في اثنين منها خاصة ، اما لو تعدد النجس كما لو كان ثوبان نجسان اشتبها بثوب طاهر فإنه يصلي الفريضة الواحدة فيما زاد عن النجس بواحد لتصادف الصلاة الزائدة الطاهر ، فان كان النجس واحدا صلى الفريضة مرتين في ثوبين وان كان اثنين صلاها ثلاثا وهكذا مراعيا للترتيب ، فيصلي من وجبت عليه الظهر والعصر مثلا الظهر أولا في كل منهما ثم العصر في كل منهما لو كان الاشتباه بواحد نجس ، ولو صلى الظهر والعصر في أحدهما ثم نزعه وصلى الفرضين أيضا في الآخر فقد صرح الأصحاب بالصحة لتحقق الترتيب واستشكل ذلك بعض للنهي عن الشروع في الثانية حتى تتحقق البراءة من الاولى. وهو جيد. ولو صلى الظهر في أحدهما ثم صلى العصر في الآخر ثم صلى الظهر فيما صلى فيه العصر ثم صلى العصر فيما صلى فيه الظهر صحت الظهر لا غير ووجب اعادة العصر فيما صلى فيه العصر أولا لجواز ان يكون الظاهر هو ما وقعت فيه العصر الأولى.

(الثاني) ـ لو تعددت الثياب وضاق الوقت عن التكرار مطلقا فقيل بالصلاة عاريا لتعذر العلم بالصلاة في الطاهر بيقين. وقيل بتعين الصلاة في أحدها ، لإمكان كونه الطاهر ، ولاغتفار النجاسة عند تعذر إزالتها ، ولان فقد وصف الساتر أسهل من فقده نفسه. ولما ورد من النصوص الدالة على الصلاة في الثوب النجس يقينا فالمشتبه اولى ، وهو الأقرب.

(الثالث) ـ قال في المنتهى : لو كان معه ثوب متيقن الطهارة تعين الصلاة فيه ولم يجز له ان يصلي في الثوبين لا متعددة ولا منفردة. قال في المدارك بعد نقله : وهو حسن إلا ان وجهه لا يبلغ حد الوجوب وهو جيد.

٤٠٧

(الرابع) ـ قال في المنتهى : ولو كان أحدهما طاهرا والآخر نجسا معفوا عنه تخير في الصلاة في أيهما كان والأولى الصلاة في الطاهر ، قال وكذا لو كان احدى النجاستين المعفو عنهما في الثوب أقل من الأخرى كان الأولى الصلاة في الأقل. أقول : اما حكمه بالأولوية في الصورة الأولى فجيد وعليه يدل بعض الاخبار بالتقريب المذكور ذيلها ، وقد تقدمت في بعض فروع المسألة الرابعة من البحث الثاني فيما يجب إزالته من النجاسات من المقصد الثاني في الأحكام. واما في الصورة الثانية فمحل توقف لانه مع بقاء النجاسة وصحة الصلاة معها لا يظهر لأولوية نقصانها وجه كما لا يخفى.

(الخامس) ـ قيل لو فقد أحد المشتبهين صلى في الآخر وعاريا ، وقيل بالاكتفاء بالصلاة في الباقي لجواز الصلاة في متيقن النجاسة. أقول : وهو جيد بناء على القول بذلك كما هو الأظهر واما على قول من يوجب الصلاة عاريا فالمتجه هنا هو القول الأول. والله العالم.

(المسألة الثامنة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما لو لم يجد إلا الثوب النجس ولا ضرورة تلجئ الى لبسه من برد ونحوه ولا يقدر على غسله فهل تجوز الصلاة فيه والحال كذلك أو تجب عليه الصلاة عاريا؟ وقد تقدم تحقيق البحث في هذه المسألة في المسألة السادسة من البحث الثاني فليرجع إليها من احتاج إليها.

(المسألة التاسعة) ـ لو صلى في النجاسة فلا يخلو اما ان يكون قد علم بها وصلى فيها عامدا أو لم يعلم بالكلية أو علم ونسي حال الدخول في الصلاة ولم يعلم إلا بعد الفراغ أو رآها في حال الصلاة.

وتحقيق الكلام في ذلك يتوقف على بسطه في مقامات أربعة (الأول) ـ ان يصلي فيه عالما عامدا ، ولا خلاف بين الأصحاب في بطلان صلاته ووجوب الإعادة عليه وقتا وخارجا ، قال في المعتبر وهو إجماع ممن جعل طهارة البدن والثوب شرطا. وإطلاق كلام كثير من الأصحاب وصريح بعضهم انه لا فرق في العالم بالنجاسة بين

٤٠٨

ان يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلا فإنه كالعالم في البطلان ، لان شرط التكليف إمكان العلم فيكون مكلفا بما يشترط في الصلاة وعدم معرفة ذلك تقصير منه مستند الى تفريطه فيكون قد ضم تفريطا الى جهل فلا يكون معذورا ، لانه بعد ان وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد فتركه ذلك إخلال به عمدا ، ونقل في المدارك عن العلامة وغيره انهم صرحوا بان جاهل الحكم عامد لان العلم ليس بشرط للتكليف ، ثم اعترضه بأنه مشكل لقبح تكليف الغافل قال والحق انهم ان أرادوا بكون الجاهل كالعامد انه مثله في وجوب الإعادة في الوقت مع الإخلال بالعبادة فهو حق لعدم حصول الامتثال المقتضى لبقاء التكليف تحت العهدة وان أرادوا انه كالعامد في وجوب القضاء فهو على إطلاقه مشكل لان القضاء فرض مستأنف ويتوقف على الدليل فان ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلا فلا ، وان أرادوا انه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل لان تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق ، نعم هو مكلف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح انتهى كلامه. وعليه جرى جملة ممن تأخر عنه.

والتحقيق عندي في المقام هو التفصيل بالنسبة إلى أفراد المكلفين وان كلام كل من القائلين بعدم المعذورية والقائلين بالمعذورية ليس على إطلاقه ، وذلك لما حققناه في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب من ان الجهل على قسمين : (أحدهما) ـ ان يراد به الغفلة عن الحكم الشرعي بالكلية وهو الجهل الساذج وهذا هو الذي يجب القول بمعذوريته في جميع الأحكام لان تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية والنقلية وعليه يجب ان تحمل الأخبار المستفيضة بمعذورية الجاهل. و (ثانيهما) ـ ان يراد به الغير العالم وان كان شاكا أو ظانا وهذا هو الذي يجب ان يقال بعدم معذوريته وعليه تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل كما تقدمت في المقدمة المذكورة ،

٤٠٩

وقد بينا ثمة ان الحكم في ذلك مختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه وقوة أفهامهم وعقولهم وعدمها ، وبالجملة فتحقيق المسألة كما هو حقه قد تقدم في المقدمة المذكورة موضحا ومبرهنا عليه بالأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) فليرجع اليه من أحب تحقيق الحال وإزاحة الاشكال ، وأوضح منه وابسط ما في كتابنا الدرر النجفية.

وبذلك يظهر ان الجاهل بالمعنى الأول لا اعادة عليه لا وقتا ولا خارجا لعدم توجه الخطاب إليه بالكلية نعم لو علم في الوقت لزمه الإعادة حيث ان وقت الخطاب باق واما القضاء فلا لنوقفه على أمر جديد ، وهذا هو الذي يتم فيه كلام صاحب المدارك وتفصيله ، واما الجاهل بالمعنى الثاني فتجب عليه الإعادة وقتا وخارجا وذلك لتوجه التكليف اليه وعدم ثبوت المعذورية بالجهل على هذا الوجه لانه عالم في الجملة ويتمكن من الفحص والتحقيق في الأحكام كما يشير اليه قولهم في حجة المشهور : لانه بعد ان وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد. فإنه جيد وجيه في الجاهل بهذا المعنى وعليه تدل الأخبار كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة بريد الكناسي وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في التزويج في العدة كما تقدم جميع ذلك في المقدمة المذكورة (١) ويزيدها تأكيدا ما رواه الكليني عن الفضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه (٢) قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) ما القى من أهل بيتي من استخفافهم بالدين فقال يا إسماعيل لا تنكر ذلك من أهل بيتك فان الله تبارك وتعالى جعل لكل أهل بيت حجة يحتج بها على أهل بيته في القيامة فيقال لهم ألم تروا فلانا فيكم ألم تروا هديه فيكم ألم تروا صلاته فيكم ألم تروا دينه فهلا اقتديتم به؟ فيكون حجة الله عليهم في القيامة». وعن معاوية بن عمار (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله

__________________

(١) ج ١ ص ٧٣ و ٨٢.

(٢) روضة الكافي ص ٨٣ الطبع الحديث.

(٣) روضة الكافي ص ٨٤ الطبع الحديث.

٤١٠

(عليه‌السلام) يقول ان الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله تعالى يوم القيامة على جيرانه به فيقال لهم ألم يكن فلان فيكم ألم تسمعوا كلامه ألم تسمعوا بكاءه في الليل؟ فيكون حجة الله عليهم». والتقريب فيهما هو الدلالة على ان الله عزوجل يحتج على الجهال وما يأتونه لجهلهم من عبادة وغيرها بالصلحاء الذين بين أظهرهم وعباداتهم ونسكهم فينبغي لهم الاقتداء بهم والسؤال والفحص منهم ، ومنه يعلم ان الجهال متى علموا بوجوب الصلاة وان لها شروطا مصححة وأمورا مبطلة في الجملة ورأوا المصلين وما هم عليه من القيام بالشروط المصححة واجتناب الأمور المبطلة فإنه يجب عليهم الفحص والسؤال عن تلك الأحكام والاقتداء بهم كما دلت عليه الاخبار المشار إليها آنفا ، ويعضدها أيضا الأخبار المستفيضة بالأمر بالتثبت والتوقف عند الجهل بالحكم وعدم وجود من يسأل عنه كقول الصادق (عليه‌السلام) في رواية حمزة بن الطيار (١) «لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق. الحديث». واما من لم يصل اليه العلم بهذه الأشياء كمن نشأ في البادية مثلا وأخذ الصلاة من أمثاله من الجهال أو الرساتيق الغالب عليها الجهل وأمثالهم من النساء والبلة فهؤلاء من القسم الأول كما لا يخفى.

أقول : وممن حام حول هذا التفصيل في معنى الجاهل ولكن لم يهتد للدخول فيه الفاضل المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام : وان كان جاهلا بالمسألة فقيل حكمه حكم العامد وفيه تأمل إذ الإجماع غير ظاهر والأخبار ليست صريحة في ذلك ، والنهي الوارد بعدم الصلاة مع النجاسة أو الأمر الوارد بالصلاة مع الطهارة المستلزم له غير واصل اليه فلا يمكن الاستدلال بالنهي المفسد للعبادة لعدم علمه به فكيف يكون منهيا عنه؟ ولما هو المشهور من الخبر «الناس في سعة ما لم يعلموا أو مما لم يعلموا» (٢).

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤ و ٨ و ١٢ من صفات القاضي.

(٢) راجع التعليقة ٢ ج ١ ص ٤٣.

٤١١

وما علم شرطية الطهارة في الثوب والبدن للصلاة مطلقا حتى ينعدم بانعدامه مع ان الإعادة تحتاج الى دليل جديد. إلا ان يقال انه وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور فهو بعقله مكلف بالفحص والتحقيق والصلاة مع الطهارة وقالوا شرط التكليف هو إمكان العلم فهو مقصر ومسقط عن نفسه بأنه لم يعلم فلو كان مثله معذورا للزم فساد عظيم في الدين ، فتأمل فإن هذا ايضا من المشكلات. انتهى كلامه. أقول : لا اشكال بحمد الله الملك المتعال بعد ما أوضحناه من التفصيل في معنى الجاهل في هذا المجال ، واما قوله فهو بعقله ففيه انه مكلف بالاخبار ايضا كما عرفت من الاخبار الدالة على وجوب الفحص والسؤال على الجاهل بالمعنى الثاني وان أيدتها الأدلة العقلية أيضا ، وعليك بالتوثق بهذا التحقيق لتنجو به في جملة من الأحكام من لجج المضيق ، هذا.

واما الاخبار الدالة على بطلان صلاة العالم العامد فهي كثيرة ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة وان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك ، وكذلك البول».

وحسنة عبد الله بن سنان (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال ان كان علم انه أصاب ثوبه جنابة قبل ان يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه ان يعيد ما صلى وان كان يرى أنه اصابه شي‌ء فنظر فلم ير شيئا أجزأه ان ينضحه بالماء».

وصحيحة إسماعيل الجعفي عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «في الدم يكون في الثوب الى ان قال وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٠ من النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من النجاسات.

٤١٢

صلاته وان لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة».

(المقام الثاني) ـ ان يصلي فيها جاهلا بها والأشهر الأظهر صحة صلاته ، وقال الشيخ في المبسوط يعيد في الوقت لا في خارجه ونقل عنه انه اختاره في باب المياه من النهاية أيضا ، وقال في الدروس بعد نقل هذا القول : وحملناه في الذكرى على من لم يستبرئ بدنه وثوبه عند المظنة للرواية. وظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم وجوب القضاء لو لم يعلم حتى خرج الوقت ، ونقل ابن إدريس في السرائر وابن فهد في المهذب الإجماع عليه ، ونسبه في المنتهى الى أكثر علمائنا مؤذنا بالخلاف فيه ، وهو الظاهر ايضا من الخلاف حيث قال فيه : مسألة ـ إذا صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة أو بدنه يتحقق انها كانت عليه حين الصلاة ولم يكن علمها قبل اختلف أصحابنا في ذلك واختلفت رواياتهم ، فمنهم من قال تجب الإعادة على كل حال ، وقال بعد ذلك ومنهم من قال ان علم في الوقت أعاد وان لم يعلم إلا بعد خروج الوقت لم يعد. انتهى. والعجب انه اقتصر على القولين المخالفين في المسألة ولم ينقل القول المشهور وهو عدم الإعادة مطلقا.

وكيف كان فالظاهر هو القول الأول للأخبار الكثيرة ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الجعفي المتقدمتان.

ومنها ـ صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال ان كان لم يعلم فلا يعد».

ورواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم؟ قال قد مضت صلاته ولا شي‌ء عليه».

وصحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) الطويلة (٣) وفيها «قلت فان ظننت

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٠ من النجاسات.

(٣) التهذيب ج ١ ص ١١٩ وفي الوسائل في الباب ٣٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ من النجاسات.

٤١٣

انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة».

ورواية أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ان أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا اعادة عليه. الحديث».

وحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة إلا ان ما تقدم برواية الشيخ واما برواية الكليني (٢) فقل فيها بعد قوله «فعليه ان يعيد ما صلى» «وان كان لم يعلم فليس عليه اعادة. الى آخر ما تقدم».

وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الاسناد عن أخيه (عليه‌السلام) (٣) وستأتي ان شاء الله تعالى في المطلب الآتي وفيها «وان كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة ثم ليغسله».

ويؤيده أيضا صحيحة محمد بن مسلم (٤) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال لا يؤذنه حتى ينصرف».

وصحيحة العيص بن القاسم (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم ان صاحب الثوب أخبره انه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته».

هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة وكلها ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على صحة القول المشهور.

بقي الكلام فيما ذكره في الدروس من الكلام بالنسبة إلى النجاسة المظنونة والفرق بينها وبين المجهولة جهلا ساذجا حيث انه فصل في صورة الظن بين الاجتهاد بالنظر وعدمه فأوجب الإعادة على الثاني دون الأول ، قال في الذكرى بعد نقل صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة المتضمنة لقوله : «وان أنت نظرت في ثوبك. إلخ» ما صورته :

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٤٠ من النجاسات.

(٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٤٧ من النجاسات.

٤١٤

ولو قيل بعدم الإعادة على من اجتهد قبل الصلاة ويعيد غيره أمكن لهذا الخبر ولقول الصادق (عليه‌السلام) (١) في المني تغسله الجارية ثم يوجد : «أعد صلاتك اما انك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء». ان لم يكن احداث قول ثالث. انتهى. واعترضه في ذلك جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك.

أقول : ان ظاهر الشيخين والصدوق القول بذلك وان لم يعثر عليه شيخنا المشار اليه ، ولهم في الاستدلال عليه ما هو أصرح من دليله ، اما الشيخ المفيد (قدس‌سره) فإنه قال ـ بعد ان ذكر وجوب الإعادة على من ظن انه صلى على طهارة ثم انكشف فساد ظنه ـ ما صورته : وكذلك من صلى في الثوب وظن انه طاهر ثم عرف بعد ذلك انه كان نجسا ففرط في صلاته من غير تأمل له أعاد الصلاة. وظاهر الشيخ موافقته حيث استدل له بما رواه عن منصور الصيقل عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل وصلى فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة؟ فقال الحمد لله الذي لم يدع شيئا إلا وقد جعل له حدا ان كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا اعادة عليه وان كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة». واما الصدوق فإنه روى في الفقيه مرسلا (٣) قال : وقد روى في المني «انه ان كان الرجل حين قام نظر وطلب فلم يجد شيئا فلا شي‌ء عليه وان كان لم ينظر ولم يطلب فعليه ان يغسله ويعيد صلاته». ويعضد ما دلت عليه هاتان الروايتان قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : «وان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك». الدال بمفهومه على انك إذا لم تنظر فعليك الإعادة ، ويشير اليه قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة وان كان في كلام الراوي : «قلت فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ١٨ من النجاسات.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٤١ من النجاسات.

٤١٥

الصلاة». فإن الجواب بعدم إعادة الصلاة قد ترتب هنا على ظن الإصابة مع النظر وعدم الرؤية فيفهم منه ترتب الإعادة مع الظن المذكور وعدم النظر.

وبالجملة فظاهر الروايات المذكورة ولا سيما الأوليين هو ما ذكره أولئك الأجلاء (رضوان الله عليهم) إلا انه ربما يشكل ذلك باعتبار بناء المصلي على يقين الطهارة فإن الظاهر انه لا يجب عليه الفحص في الثوب ولا طلب النجاسة متى ظنها أو شك فيها لما يفهم من جملة من الاخبار وقد تقدمت من النهي عن السؤال عما يشترى من أسواق المسلمين وان ذلك تضييق للدين (١) وما يستفاد من صحيحة زرارة الطويلة وفيها بعد ما قدمنا نقله هنا منها من قوله : «قلت فان ظننت أنه أصابه. إلخ» «قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا. الى ان قال فهل علي ان شككت في انه أصابه شي‌ء ان انظر فيه؟ قال لا ولكنك انما تريد ان تذهب عنك الشك الذي في نفسك. الحديث». وهي صريحة ـ كما ترى ـ في البناء على يقين الطهارة كما هي القاعدة المطردة المتفق عليها وان النظر في مقام الظن أو الشك انما هو مستحب لا ذهاب وسوسة الشيطان ، والمراد بالشك في الخبر ما يشمل الظن كما حققناه في محل أليق ، والمراد بالشك هنا ما يقابل اليقين الشامل للظن والشك بالمعنى المصطلح ، وحينئذ فيمكن حمل الإعادة في تلك الاخبار على الاستحباب. اللهم إلا ان يقال انه لا منافاة بين عدم وجوب النظر عليه من أول الأمر ووجوب الإعادة لو ظهرت النجاسة في الصورة المذكورة لعدم فحصة عنها وطلبه لها وتظهر الفائدة في صحة صلاته مع استمرار الاشتباه ، ونظيره في الأحكام غير عزيز فان من صلى مع اشتباه الوقت بانيا على ظن دخوله ثم ظهر خلاف ظنه بان كانت صلاته قبل الوقت فإنه يعيد وان كانت صلاته صحيحة مع استمرار الاشتباه ، وظاهر رواية منصور ان هذا التفصيل حد شرعي للنجاسة في هذه الصورة فالمتعدي عنه داخل تحت

__________________

(١) ص ٢٥٧ و ٢٥٨.

٤١٦

قوله تعالى : «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ ...» (١) وتحت قولهم (عليهم‌السلام) (٢) «ان الله عزوجل جعل لكل شي‌ء حدا ولمن تعدى ذلك الحد حدا». وهذه الروايات لا معارض لها بحسب الظاهر إلا إطلاق الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة على الجاهل وقضية الجمع توجب تقييد إطلاقها بهذه الروايات لكونها أخص ، وعلى هذا فتكون الأخبار مخصوصة بالجهل الساذج الخالي من حصول الظن بالكلية ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور ويعضده أنه الأوفق بالاحتياط.

بقي شي‌ء وهو ان مورد الأخبار المذكورة انما هو نجاسة المني إلا ان ظاهر عبارة الشيخ المفيد مطلق النجاسة وكذا كلام الشهيد ، وهو كذلك إذ لا خصوصية للمني بذلك. وظاهر الأخبار المذكورة أيضا الإعادة وقتا وخارجا وهو ظاهر القائلين بذلك ايضا ، هذا.

واما ما ذهب اليه الشيخ من الإعادة في الوقت فنقل عنه انه استدل عليه بأنه لو علم النجاسة في أثناء الصلاة وجب عليه الإعادة فكذا إذا علم في الوقت بعد الفراغ. وأجيب عنه بمنع الملازمة إذ لا دليل عليها. وبالجملة فضعفه أظهر من ان يبين بعد ورود تلك الاخبار الصحاح والحسان. وأضعف منه القول بالإعادة بعد الوقت.

بقي هنا في المقام روايتان إحداهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن وهب بن عبد ربه عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم بها صاحبه فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك؟ قال يعيد إذا لم يكن علم». والثانية ما رواه عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة؟ فقال علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم». وظاهرهما الدلالة على القول بالإعادة مطلقا ، والشيخ قد أجاب عن الاولى في التهذيب بالحمل على انه إذا لم يعلم في حال الصلاة وكان قد سبقه العلم بحصول النجاسة في الثوب. ولا يخفى بعده. وحملها بعض على

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٢٩.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٥٩ الطبع الحديث.

(٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٤٠ من أبواب النجاسات.

٤١٧

الاستحباب وبعض على الاستفهام الإنكاري بحذف الهمزة وبعض على زيادة حرف النفي وتوهم الراوي. والثانية حملها الشيخ على عدم العلم حال الاشتغال بالصلاة وبعض على الاستحباب.

أقول وكيف كان فهما لا يبلغان قوة المعارضة لما سردناه من الاخبار الصحيحة الصريحة المعتضدة بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا فهما من المرجأة إلى قائلها (عليه‌السلام) حسب ما ورد عنهم من الرد إليهم فيما اشتبه علينا. والله العالم.

(المقام الثالث) ـ ان يصلي فيها ناسيا وقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) على أقوال : ثالثها ان يعيد في الوقت لا في خارجه وهو المشهور بين المتأخرين ، ورابعها استحباب الإعادة واليه ذهب جملة من متأخري المتأخرين كصاحب المدارك وغيره.

وينبغي ان يعلم أولا ان ظاهر كلام الأصحاب في هذا المقام الفرق بين نجاسة الاستنجاء وغيرها من افراد النجاسات ، وذلك فإنهم قد صرحوا بأنه لو صلى ناسيا الاستنجاء فالمشهور وجوب الإعادة وقتا وخارجا ، وقال ابن الجنيد : إذا ترك غسل البول ناسيا تجب الإعادة في الوقت وتستحب بعد الوقت. وقال أبو جعفر بن بابويه : ومن صلى وذكر بعد ما صلى انه لم يغسل ذكره فعليه ان يغسل ذكره ويعيد الوضوء والصلاة ومن نسي ان يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة. كذا نقله العلامة في المختلف. واما الصلاة في النجاسة بغير ذلك فالمشهور بين المتقدمين هو وجوب الإعادة وقتا وخارجا حتى ادعى ابن إدريس عليه الإجماع وذكر بأنه لولا الإجماع لما صار اليه كذا نقل عنه في المدارك ، والذي وقفت عليه من كلامه في السرائر في هذا المقام خلاف ذلك حيث انه بعد ذكر المسألة أدمى فيها عدم الخلاف إلا من الشيخ في الاستبصار ، وما ذكره عنه من قوله لولا الإجماع لما صار اليه ليس له أثر في الموضع المذكور واحتمال نقل صاحب المدارك عنه من غير السرائر أو منه في غير موضع المسألة بعيد كما

٤١٨

لا يخفى فينبغي التنبيه لا مثال ذلك. وحكى العلامة في التذكرة عن الشيخ في بعض أقواله عدم الإعادة مطلقا. وفصل الشيخ في الاستبصار بين الوقت وخارجه وتبعه المتأخرون وصار المشهور بينهم هذا القول ، وبذلك يظهر ان ما ذكره في المدارك في باب الاستنجاء وحكم الصلاة مع نسيانه من انها من جزئيات هذه المسألة التي نحن فيها على إطلاقه لا يخلو من نظر ، فإنه ان أراد عند الأصحاب فهو ليس كذلك لما عرفت وان أراد باعتبار الدليل فيمكن ، وقد تقدم الكلام في الاخبار المتعلقة بالاستنجاء وبسط البحث فيها في صدر الباب الثاني من الأبواب التي رتب عليها الكتاب.

بقي الكلام في اخبار هذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عليها وتحقيق البحث فيها :

فنقول ـ وبالله الثقة لكل مأمول ـ من الأخبار الدالة على الإعادة مطلقا فيها حسنة محمد بن مسلم الواردة في الدم (١) حيث قال (عليه‌السلام) «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه».

ورواية أبي بصير في الدم ايضا (٢) قال فيها : «وان هو علم قبل ان يصلي فنسي وصلى فيه فعليه الإعادة».

ورواية سماعة (٣) «عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال يعيد صلاته كي يهتم بالشي‌ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه».

وصحيحة الجعفي في الدم ايضا (٤) قال : «وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه ولم يغسله حتى صلى فليعد صلاته».

ورواية جميل بن دراج في الدم ايضا (٥) قال : «وان كان قد رآه صاحبه قبل

__________________

(١ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٠ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٤٢ من النجاسات.

٤١٩

ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم».

وصحيحة ابن ابي يعفور (١) «في نقط الدم يعلم به ثم ينسى ان يغسله فيصلي فيه ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد صلاته».

وصحيحة زرارة (٢) قال : «قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من مني فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد اصابه فطلبته فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد».

ورواية ابن مسكان (٣) قال : «بعثت بمسألة الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) مع إبراهيم بن ميمون قلت اسأله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلي فيه ثم يذكر انه لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته».

وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الاسناد وكتاب المسائل عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن رجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال ان كان رآه ولم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي ولا ينقص منه شي‌ء ، وان كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة». ومما يدل على عدم الإعادة في هذه الصورة صحيحة العلاء عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي‌ء فينجسه فينسى أن يغسله فيصلي فيه ثم يذكر انه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال لا يعيد قد مضت الصلاة وكتبت

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

(٢) التهذيب ج ١ ص ١١٩ وفي الوسائل في الباب ٣٧ و ٤٠ و ٤٢ و ٤٤ من النجاسات.

(٣ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٤٢ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٤٠ من النجاسات.

٤٢٠