الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

أم من حيث اعتضادها بالأصول الشرعية والقواعد المرعية؟ ما هذه إلا مجازفة محضة ، ولا اعرف لهذه المقبولية وجها إلا مجرد قول الشيخ بها في هذا الكتاب. وفيه ما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب.

وبالجملة فإن الطهارة والنجاسة أحكام شرعية يتوقف ثبوتها على الدليل الشرعي الواضح وثبوت النجاسة في موضع البحث مما لا خلاف فيه فالحكم برفعها وزوالها يتوقف على الدليل الشرعي الواضح وأمثال هذه التخريجات لا تصلح لإثبات الأحكام الشرعية.

واما ما ذكره في المعالم ـ حيث قال : وقد روى عبد الله بن سنان في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس؟ فقال رش وصل». وروى أبو بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في بيوت المجوس فقال رش وصل». وفي هذين الخبرين نوع اشعار بالاكتفاء في زوال النجاسة عن الأرض بصب الماء عليها وإلا لم يكن للرش في المواضع المذكورة فائدة كما لا يخفى ـ أقول : فيه انه من الجائز ـ بل هو الظاهر ـ ان الأمر بالرش في هذا المقام وكذا في أمثاله من ملاقاة الكلب بيبوسة ونحوه من المواضع الآتية انما هو تعبد شرعي وجوبا أو استحبابا ، ويمكن حمل ذلك على طهارة الغسالة كما هو أحد الأقوال في المسألة وقد تقدم في محله ، إذ من الظاهر انه على تقدير القول بنجاسة الغسالة انما يحصل بالرش زيادة النجاسة وتضاعفها ، وقد ورد الأمر بالرش في مشكوك النجاسة من الثوب والبدن ايضا كما سيأتي ان شاء الله تعالى في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة الحلبي (٣) ولو لم يحمل النضح على أحد الأمرين الذين ذكرناهما للزم

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من مكان المصلى.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من مكان المصلى.

(٣) في المسألة الخامسة في الثوب والبدن الذي شك في نجاسته.

٣٨١

البتة ما ذكرناه من زيادة النجاسة وتضاعفها لا زوالها بالنضح. ولا يبعد ايضا ان الوجه في الأمر بالنضح في هذه المواضع انما هو زوال النفرة ولا تعلق له بنجاسة ولا طهارة كما ورد في جملة من المواضع الظاهرة في ذلك ايضا كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ثم قال في المعالم ايضا على اثر الكلام المتقدم : وكذا صحيح هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب؟ قال لا بأس به ما اصابه من الماء أكثر منه». ووجه الاشعار فيه تعليل نفي البأس بكون الماء الذي أصاب المحل أكثر من البول فإنه ليس بالبعيد كون اداة التعريف في الماء للعهد الذهني لا الخارجي فتأمل. انتهى.

أقول : لا يخفى ان صحة التطهير بالماء القليل بناء على المشهور من نجاسة الغسالة مشروطة بأمرين (أحدهما) غلبة المطهر وكونه قاهرا للنجاسة وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال واليه يشير جملة من الأخبار : منها ـ هذا الخبر وخبر الاستنجاء المتقدم في باب الاستنجاء نقله من العلل (٢) حيث قال فيه : «ان الماء أكثر من القذر». و (ثانيهما) انفصال الغسالة عن المحل بعصر ونحوه كما هو المشهور أو بغير ذلك ، والجريان في المطر على السطح كما اشتمل عليه الخبر أمر معلوم والسؤال لم يتعلق به وانما تعلق بتقاطر المطر على الثوب بعد اصابته السطح النجس ، فأجاب (عليه‌السلام) بان المطر قد طهر السطح لندافعه وتكاثره بالوقوع عليه لأنه في حكم الجاري كما تقدم بيانه في محله فلا بأس حينئذ بما يتقاطر منه فاللام في الماء انما هي للعهد الخارجي وهو ماء المطر لا الذهني بمعنى اي ماء كان.

تذنيب

قال في المعالم : الثوب المصبوغ بالمتنجس المائع يتوقف طهره قبل الجفاف على

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦ من الماء المطلق.

(٢) ج ١ ص ٤٦٨ وفي الوسائل في الباب ١٣ من الماء المستعمل.

٣٨٢

استهلاك الماء للأجزاء المائعة من الصبغ وكذا القول في ليقة الحبر المتنجس ، اما بعد التجفيف فيمكن طهارة الثوب مع بقاء اجزاء الصبغ فيه وذلك إذا علم نفوذ الماء في جميع تلك الاجزاء ، واما طهارة الليقة فموضع نظر من حيث ان الاجتماع الحاصل في اجزائها موجب لعدم نفوذ الماء الى الاجزاء الداخلة إلا بعد المرور على الخارجة والحال يشهد غالبا بان تكرر مرور الماء على اجزاء الحبر يقتضي تغيره وخروجه عن الإطلاق وحصول الطهارة موقوف على نفوذ الماء باقيا على إطلاقه ، ولو فرض تفريق اجزائها بحيث علم النفوذ قبل التغير المخرج عن الإطلاق طهرت كالثوب ، ولو اتفق في الثوب اجتماع اجزائه على وجه يتوقف النفوذ الى باطنها على تكرر المرور باجزاء الصبغ فهو في معنى الليقة المجتمعة. انتهى.

أقول : ينبغي ان يعلم ان صبغ الثوب انما يقع بنقع الثوب في ماء الصبغ أو غلية به مدة ليدخل الصبغ في اجزاء الثوب. وحينئذ فإذا كان ماء الصبغ نجسا وقد صبغ الثوب فمتى أريد تطهيره قبل جفافه فالظاهر انه لا يمكن ذلك إلا في الماء الكثير على وجه يضمحل ماء الصبغ فيه ، ولو أريد تطهيره بالقليل والحال كذلك فإنه لا ريب في حصول الإضافة في ما يصل الى باطن الثوب وخروجه عن الإطلاق بعين ما فرضه في الليقة ونجاسته أيضا بملاقاة ماء الصبغ فلا يفيد الثوب تطهيرا. وبالجملة فالتطهير بالقليل في هذه الصورة لا يخلو من الاشكال ، واما بعد الجفاف فإنه يذهب الماء النجس من الثوب ولا يبقى إلا نجاسة الثوب خاصة ، وحينئذ فإذا أريد تطهيره بالقليل فان كان ما فيه من الصبغ لا ينفصل عنه في الماء على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق فلا إشكال في حصول الطهارة به وإلا ففي الطهارة إشكال لعين ما تقدم ، فإنه بأول ملاقاته للثوب يتغير به ولا يداخله إلا متغيرا فلا يحصل التطهير به ، وبذلك يظهر ما في قوله (قدس‌سره) : «فيمكن طهارة الثوب مع بقاء اجزاء الصبغ» وبالجملة فإن علم عدم التغير في حال الغسل به فلا إشكال في صحة ما ذكره وإلا فالإشكال ظاهر ، ولعله يشير الى ذلك قوله «ويمكن» فان التعبير

٣٨٣

بهذا اللفظ مشعر بنوع تردد وتوقف كما لا يخفى إذ لا وجه له إلا ما ذكرناه.

(المسألة الرابعة) ـ مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) لا نعلم فيه مخالفا انه يكفي صب الماء في بول الرضيع من غير غسل ونقل عليه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة.

والمستند فيه بعد الإجماع الأصل السالم من المعارض وما رواه الشيخ في الحسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم الصحيح على الاصطلاح الغير الصحيح عندي وعند جملة من المحققين عن الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء فان كان قد أكل فاغسله غسلا ، والغلام والجارية شرع سواء». وأيد بعضهم هذه الرواية برواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٢) «ان عليا (عليه‌السلام) قال : لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم لان لبنها يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين». وفيه اشكال يعلم مما قدمنا من الكلام في هذه الرواية ، وفي الفقه الرضوي (٣) «وان كان بول الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام فاغسله والغلام والجارية سواء».

إلا انه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره». وروى الشيخ في الموثق عن سماعة (٥) قال : «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب؟ فقال اغسله. قلت فان لم أجد مكانه؟ قال اغسل الثوب كله». وظاهر الخبرين المذكورين كما ترى المنافاة لما تقدم.

وقد أجاب الشيخ في الاستبصار عن الخبر الثاني بحمل الغسل على الصب أو على

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٣ من النجاسات.

(٣) ص ٦.

٣٨٤

ان المراد بالصبي من أكل الطعام والثاني منهما لا بأس به في مقام الجمع ، واما الأول فيحتاج الى مزيد تكلف.

واما حسنة الحسين بن ابي العلاء فردها في المدارك (أولا) بعدم توثيق الراوي و (ثانيا) بالحمل على الاستحباب : و (ثالثا) بحمل العصر على ما يتوقف عليه إخراج عين النجاسة من الثوب فان ذلك واجب عند من يرى نجاسة هذا البول. أقول : والثالث منها جيد في مقام الجمع فلا بأس به ، واما الأولان فقد تقدم الكلام عليهما مرارا ، وربما يؤيد الوجه المذكور بقوله في السؤال : «يبول على الثوب» فإنه يشعر بذلك ، وأيضا فإن الحمل على الغسل بقرينة العصر يدافعه قوله : «تصب عليه الماء قليلا» فان ظاهره عدم ارادة الغسل فلا بد من التأويل في جانب العصر بالحمل على ما ذكرناه من إخراج عين النجاسة.

بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ ان ظاهر كلام الأكثر اختصاص الحكم هنا بالصبي واما بول الصبية فيجب فيه الغسل عندهم كالكبير ، ونقل في المعالم عن ظاهر كلام ابن بابويه في رسالته عدم الفرق بين الصبي والصبية حيث فرض الحكم أولا في بول الصبي ثم قال والغلام والجارية فيه سواء. أقول : ونحوه ابنه في الفقيه حيث قال : وان كان بول الغلام الرضيع صب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام غسل ، والغلام والجارية في هذا سواء وهذا عين عبارة الفقه الرضوي التي قدمنا نقلها ومثلها ما في رسالة أبيه ، ومنه يعلم ان مستندهما في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور وان كانت صحيحة الحلبي أو حسنته دالة عليه ايضا.

والعجب من الأصحاب مع اعتمادهم في أصل الحكم على الحسنة المذكورة كيف عدلوا عما تضمنته من التسوية بين الغلام والجارية ، فقال الشيخ في الاستبصار قوله : «الغلام والجارية شرع سواء» معناه بعد أكل الطعام. ولا يخفى ما فيه وقال المحقق في المعتبر بعد الإشارة إلى دلالة حسنة الحلبي على ما ذكره الشيخ علي بن بابويه : والأشبه

٣٨٥

اختصاص التخفيف ببول الصبي والرواية محمولة على التسوية في التنجيس لا في حكم الإزالة مصيرا الى ما افتى به أكثر الأصحاب. انتهى. وقال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو بعيد جدا. أقول : وفيه مع بعده انه قد خالف الأصحاب في غير موضع من كتابه مع وجود الدليل على كلامهم بزعمه ضعفه والطعن فيه فكيف يوافقهم هنا فيما دل الدليل على خلافه؟

واما صاحب المعالم فإنه بعد ان أورد حسنة الحلبي قال : وهذه الرواية نص في الحكم فليت إسنادها كان صحيحا ، ثم قال ولعل انضمام عدم ظهور المخالف إليها يجبر هذا الوهن مضافا الى ان حسنها بواسطة إبراهيم بن هاشم وبعض الأصحاب يرى الاعتماد على روايته لشهادة القرائن بحسن حاله ، الى ان قال بعد ذكر مذهب علي بن بابويه في المساواة بين الصبي والجارية ما لفظه : ولا يخفى عليك ان عبارته المذكورة موجودة بمعناها وأكثر ألفاظها في الخبر الذي هو العمدة في مستند الحكم فكان اللازم من التمسك به عدم الفرق ولكن حيث ان التعلق بها مراعى بضميمة ما يظهر من الوفاق على الحكم وهو مفقود في الصبية فلا جرم كان الاقتصار في الحكم على محل الوفاق هو الأنسب ، ثم نقل كلام المحقق والشيخ المتقدمين.

وأنت خبير بان كلامه هذا جيد بناء على أصله من رد الأخبار الحسنة بل الصحيحة التي ليست جارية على حسب اصطلاحه الذي هو بالضعف اولى وأحرى حيث انه قد زاد على الطنبور نغمة أخرى ، واما من يعمل بالأخبار الحسنة كما هو المشهور بين أصحاب هذا الاصطلاح وغيرهم بل يعد حديث إبراهيم بن هاشم من بين افراد الحسن في الصحيح كما صرح به في الذخيرة والمدارك وغيرهما فإنه لا يحتاج في العمل بالخبر المذكور الى جبر باتفاق الأصحاب ولا غيره لانه دليل صحيح شرعي صريح فلا معنى لاحتياجه الى جابر ، وبذلك يظهر صحة التزامنا لكلام الأصحاب في المسألة بما قدمنا ذكره وبالجملة فإن الخبر المذكور قد اشتمل على حكمين ولا معارض له فيهما في البين فالقول

٣٨٦

بأحدهما دون الآخر تحكم كما لا يخفى. هذا مع قطع النظر عن اعتضاد الخبر المذكور بكلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه.

والعجب من صاحب الذخيرة هنا حيث جرى على ما جرى عليه صاحب المعالم مع مباينته له في اصطلاحه وعده حسنة إبراهيم في الصحاح في شرحه المذكور في غير موضع بل اعتماده على سائر الأخبار الضعيفة بالقرائن المؤيدة للصحة كما لا يخفى على من مارس كتابة.

(الثاني) ـ ان المفهوم من كلام جملة من متأخري الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في الروض ان المراد بالرضيع من لم يغتذ بغير اللبن كثيرا بحيث يزيد على اللبن أو يساويه ولم يتجاوز الحولين. وأنت خبير بان لفظ الرضيع غير موجود في رواياتهم وانما هو موجود في عبارة كتاب الفقه ولهذا انه في المدارك جعل الحكم معلقا بالمولود الذي لم يأكل لا الرضيع. وكيف كان فظاهر الخبرين هو تعليق الحكم على الأكل وعدمه والظاهر من الأكل كما ذكره في المنتهى هو ما استند الى شهوته وإرادته فإن أكل على الوجه المذكور كان الواجب الغسل في بوله وإلا فالصب ، واما كونه يزيد على اللبن أو ينقص عنه أو يساويه فلا إشعار في شي‌ء من الخبرين به.

وابن إدريس هنا قد علق الحكم ببلوغ الحولين فقال في سرائره : بول الصبي الرضيع وحده من لم يبلغ سنتين نجس إذا أصاب الثوب يكفي ان يصب عليه الماء من غير عصر له وقد طهر وبول الصبية لا بد من عصره مرتين مثل البالغين وان كان للصبية دون الحولين ، فإذا تم للصبي حولان وجب عصر الثوب من بوله. ورده جملة من تأخر عنه ، وهو كذلك لعدم وجود دليل على ما ذكره إذ الاخبار الواردة في المسألة كما عرفت لا تعرض في شي‌ء منها لذلك وانما الحكم وقع فيها معلقا على الأكل وعدمه.

قال المحقق في المعتبر : والمعتبر ان يطعم ما يكون غذاء ولا عبرة بما يلعق دواء أو من الغذاء في الندرة ولا تصغ الى من يعلق الحكم بالحولين فإنه مجازف بل لو استقل

٣٨٧

بالغذاء قبل الحولين تعلق ببوله وجوب الغسل. انتهى.

وقال العلامة في المنتهى بعد تحقيق المسألة : وهذا التخفيف متعلق بمن لم يأكل ، وحده ابن إدريس بالحولين وليس شيئا إذ روايتا الحلبي والسكوني دلتا على الأكل والطعم سواء بلغ الحولين أو لم يبلغ ولا اعلم علته في ذلك بل الأقرب تعلق الحكم بطعمه مستندا إلى إرادته وشهوته وإلا لتعلق الغسل بساعة الولادة إذ يستحب تحنيكه بالتمر. انتهى. وهو جيد.

وأنت خبير بما في كلام المحقق والعلامة هنا من المنافاة لما قدمنا نقله عن الجماعة المشار إليهم حيث ان كلامهما ظاهر في ان الضابط هو صدق الاغتذاء لا على سبيل الندرة وهذا هو الأوفق بأخبار المسألة ولم يعتبرا زيادة الأكل على اللبن ومساواته له كما وقع في كلامهم. واما قوله في المعتبر في آخر كلامه : «بل لو استقل بالغذاء. إلخ» فلا ينافي ما في صدر كلامه من ان الغسل يترتب على ان يطعم ما يكون غذاء وان لم يستقل به ، لان كلامه الأخير انما وقع مبالغة في توجيه المجازفة التي عزاها الى ابن إدريس بمعنى ان إطلاق ابن إدريس تعلق الحكم بالحولين يتناول صورة الاستقلال بالغذاء وترك الرضاع رأسا قبل مضيهما مع ان تسميته في تلك الحال رضيعا مجازفة واضحة. وبالجملة فإن كلام هذين الفاضلين هو المرتبط بالدليل دون ما ذكره الجماعة.

(الثالث) ـ ان لفظ الخبر المذكور قد ورد بالصب وجملة من الأصحاب قد فرقوا بينه وبين الغسل في الثوب ونحوه بأخذ العصر في حقيقة الغسل دون الصب ، والذي قدمنا تحقيقه ان الفرق بينهما انما هو باعتبار الانفصال والتقاطر وعدمه ، والصب بهذا المعنى مرادف للرش والنضح الوارد في الاخبار في جملة من المواضع كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى ، وربما ظهر من العلامة في التذكرة في هذه المسألة مغايرة الرش للصب ، ومما يدل على ترادف النضح والصب الأخبار الواردة في ملاقاة الكلب مع

٣٨٨

اليبوسة ، فإن أكثر الأخبار قد عبر فيها بالنضح وصحيحة أبي العباس (١) قد تضمنت الصب.

قال في المدارك في هذه المسألة : ويعتبر في الصب الاستيعاب لما اصابه البول لا الانفصال على ما قطع به الأصحاب ودل عليه إطلاق النص إلا ان يتوقف عليه زوال عين النجاسة ، مع احتمال الاكتفاء به مطلقا لإطلاق النص ، وحكى العلامة في التذكرة قولا بالاكتفاء فيه بالرش قال فيجب فيه التعميم ولا يكفي إصابة الرش بعض موارد النجاسة وبه قطع في النهاية إلا انه اعتبر في حقيقة الرش الاستيعاب وجعله أخص من النضح وفرق بينه وبين الغسل باعتبار السيلان والتقاطر في الغسل دون الرش وهو بعيد لنص أهل اللغة على ان المنضح والرش بمعنى وصدقهما لغة وعرفا بدون الاستيعاب. انتهى.

أقول : ما يظهر منه من ان الصب لا بد فيه من الاستيعاب وان النضح والرش يصدقان عرفا بدون الاستيعاب لا يخفى ما فيه بل الظاهر هو ترادف الثلاثة على معنى واحد من الاستيعاب بدون الانفصال والتقاطر فإنه يكون بذلك غسلا ، ويدل على ما ذكرناه ما أشرنا إليه من اخبار ملاقاة الكلب باليبوسة وورود الأخبار بالنضح تارة وبالصب أخرى.

بقي الكلام في ان المفهوم من كلام أهل اللغة هو ترادف الرش والنضح حيث قال في الصحاح : النضح الرش وقال في القاموس نضح البيت رشه واما الصب لغة فهو بمعنى الإراقة والسكب وهو بعيد من معنى الرش والنضح قال الله تعالى : «أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا» (٢) اي سكبناه سكبا إشارة إلى ماء المطر ، ويقال دم صبيب اي كثير ، وحينئذ فالحكم بالمرادفة له مع الفردين المذكورين لا يخلو من اشكال إلا ان يستعان بالأخبار الواردة في الكلب والتعبير في بعضها بالصب وفي آخر بالنضح ، ويؤيدها خبر بول

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأسآر.

(٢) سورة عبس ، الآية ٢٥.

٣٨٩

الصبي المعلوم منه مغايرة الصب للغسل ، فيكون الحكم بالمرادفة من حيث الشرع لا من جهة اللغة.

واما ما ذكره في النهاية مما يؤذن بالفرق بين النضح والرش ـ حيث قال : مراتب إيراد الماء ثلاثة النضح المجرد ومع الغلبة ومع الجريان ، قال ولا حاجة في الرش إلى الدرجة الثالثة قطعا وهل يحتاج إلى الثانية؟ الأقرب ذلك ثم قال ويفترق الرش والغسل بالسيلان والتقاطر ـ ففيه ما ذكره في المعالم حيث قال ـ ونعم ما قال في جعل الرش مغايرا للنضح ـ ان المستفاد من كلام أهل اللغة ترادفهما والعرف ان لم يوافقهم فليس بمخالف لهم ولا نعلم الفرق الذي استقربه من أين أخذه؟ مع انه في غير النهاية كثيرا ما يستدل على الرش بما ورد بلفظ النضح وبالعكس ، والظاهر من كلامهم وكلامه في غيره ترادف الصب والرش والنضح. انتهى. وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك من الفرق بين الصب وبين الفردين الآخرين.

ثم لا يخفى ان الظاهر ان المراد بقوله في النهاية النضح المجرد ومع الغلبة انما هو غلبة الماء المنضوح به زيادة على البلل اليسير الذي يحصل به النضح عنده لا باعتبار استيعاب المحل وعدمه كما ذكره في المدارك وفسر به كلامه في النهاية ليتم له الاعتضاد به في ما ذهب اليه من الفرق.

(المسألة الخامسة) ـ قد تفرد الصدوق فيما اعلم بعدم وجوب الغسل في ملاقاة كلب الصيد برطوبة واكتفى فيها بالرش ونفاه مع اليبوسة ، فقال في الفقيه : ومن أصاب ثوبه كلب جاف ولم يكن بكلب صيد فعليه ان يرشه بالماء وان كان رطبا فعليه ان يغسله وان كان كلب صيد وكان جافا فليس عليه شي‌ء وان كان رطبا فعليه ان يرشه بالماء. ولم أقف له على موافق ولا على دليل بل الاخبار وكلام الأصحاب متفقة على وجوب الغسل بملاقاة الكلب برطوبة والرش مع اليبوسة من غير فرق بين كلب الصيد وغيره وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في الفصل الثامن والتاسع في نجاسة

٣٩٠

الكلب والخنزير وهي حجة عليه فيما صار اليه هنا في كل من الغسل والرش.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ههنا جملة من المواضع قد وردت الأخبار بالأمر بالنضح فيها وجملة منها قد وقع الخلاف فيه بكونه على جهة الوجوب أو الاستحباب.

(فمنها) ـ مس الكلب جافا فإن الأخبار المشار إليها آنفا قد دلت على الأمر بالنضح وقد اختلف الأصحاب في كونه على جهة الوجوب أو الاستحباب ، والمشهور الثاني ، وظاهر الشيخ في المبسوط الحكم بالاستحباب في جميع النجاسات إذا لاقاها بيبوسة حيث قال : كل نجاسة أصابت الثوب وكانت يابسة لا يجب غسلها وانما يستحب نضح الثوب. وفي استفادة هذا العموم من الأخبار نظر كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ونقل عن ابن حمزة القول بالوجوب هنا استنادا إلى الأوامر الواردة به فإنها حقيقة في الوجوب. ورده العلامة في المختلف بأن النجاسة لا تتعدى مع اليبوسة إجماعا وإلا لوجب غسل المحل فيتعين حمل الأمر على الاستحباب. وفيه (أولا) ان الحمل على الوجوب لا ينحصر بالنجاسة لجواز كونه تعبدا شرعيا. و (ثانيا) ان ما ذكره من ان تعدي النجاسة موجب للغسل ليس كليا ليتم ما ذكره بل هو أكثري وكيف لا وقد اكتفى في بول الرضيع كما تقدم مع الاتفاق على نجاسته بالرش فلا مجال هنا للاستبعاد.

هذا ، والظاهر من كلام جملة من الأصحاب هنا ايضا هو الوجوب مثل عبارة الصدوق المتقدمة وقوله «فعليه ان يرشه بالماء» في الموضعين منها ، وقال الشيخ في النهاية : إذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وكان يابسا وجب ان يرش الموضع بعينه فان لم يتعين رش الثوب كله. وقال المفيد في المقنعة : وإذا مس ثوب الإنسان كلب أو خنزير وكانا يابسين فليرش موضع مسهما منه بالماء وكذا الحكم في الفأرة والوزغة. ونقل عن سلار انه صرح في رسالته بوجوب الرش من مماسة الكلب والخنزير والفأرة والوزغة وجسد الكافر باليبوسة.

والقول بالوجوب تعبدا لا يخلو من قوة لاتفاق الاخبار عليه من غير معارض

٣٩١

واتفاق كلمة هؤلاء الفضلاء الذين هم أساطين المذهب ويرجحه اعتضاده بالاحتياط ، وأكثر الأصحاب انما عبروا هنا بالرش والموجود في الاخبار كما أشرنا إليه آنفا التعبير بالنضح في بعض والصب في آخر وكأنه بناء منهم على فهم ترادف الألفاظ الثلاثة ، وقد عرفت في آخر المسألة المتقدمة ما في كلام النهاية وصاحب المدارك من المخالفة في ذلك وبينا ما فيه.

و (منها) ملاقاة الخنزير جافا والمشهور هنا ايضا بين المتأخرين الاستحباب وقد تقدم نقل القول بالوجوب عن الجماعة المتقدم ذكرهم ، ويدل على الحكم هنا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله». والرواية المذكورة قد اشتملت على النضح وقد تقدم الكلام في مرادفته للرش وعدمها وان الأظهر المرادفة ، واحتمال الوجوب أو الاستحباب هنا في الأمر جار على ما تقدم إلا ان الظاهر هنا ان الأمر على تقدير الوجوب لا يكون مستندا إلى النجاسة وانما هو تعبد كما ذكرنا آنفا ، وذلك لانه قد أمره بالمضي في الصلاة إذا كان دخل فيها وهذا لا يجامع النجاسة ، ولا ينافي ذلك الأمر بالغسل إذا كان فيه أثر لأن سياق الرواية انما هو الإصابة بقول مطلق ولم يعلم كونها برطوبة أو عدمها وقد دخل في الصلاة والحال كذلك. فأمر (عليه‌السلام) بالمضي في الصلاة استصحابا لأصالة الطهارة ، لأن الإصابة بيبوسة غير موجبة للتنجيس والرطوبة غير معلومة فيتم البناء على أصالة الطهارة ويتم الأمر بالمضي فيها وان كان ذلك قبل دخوله في الصلاة فلينضحه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله ، وظاهر الخبر الدلالة على عدم وجوب الفحص بعد دخوله في الصلاة وانه يكفي البناء على أصالة الطهارة عند الشك كما يدل عليه صحيح زرارة الطويل

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من النجاسات.

٣٩٢

الوارد في المني وقد تقدم (١) وروى الشيخ في الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي ابن محمد (٢) وهو مشترك قال : «سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف هل تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه.». وفي قرب الاسناد (٣) عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف أتصلح الصلاة فيه قبل ان يغسل؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلى فيه».

و (منها) ـ بول الرضيع وقد تقدم الكلام فيه مستوفى.

و (منها) ـ الفأرة ففي صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلى فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء».

ومورد الخبر ـ كما ترى ـ هو نضح ما لا يرى من أثر الفأرة الرطبة في الثوب واما ما يرى منه فحكم فيه بالغسل وجوبا أو استحبابا كما تقدم من الخلاف في الفأرة نجاسة وطهارة ، وحينئذ فما وقع في عبارة جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) من إطلاق القول بالنضح في الفأرة الرطبة ليس بجيد ، والمشهور بين الأصحاب حمل النضح في الخبر المذكور على الاستحباب وقد تقدم كلام الأصحاب الظاهر في الوجوب ، وأنت خبير بان الكلام في ذلك يتفرع على الخلاف في طهارة الفأرة ونجاستها فان حكمنا بطهارتها كما هو الأشهر الأظهر تعين الحكم بحمل النضح على الاستحباب وان حكمنا بالنجاسة كما هو أحد القولين في المسألة جرى الكلام فيها كما في الكلب والخنزير من احتمال الوجوب تعبدا.

و (منها) ـ ثوب المجوسي ففي صحيحة الحلبي (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال يرش بالماء». وينبغي حملها على عدم

__________________

(١) ص ٢٥٦.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب النجاسات.

(٣) ص ٨٩.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب النجاسات.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٧٣ من أبواب النجاسات.

٣٩٣

معلومية ملاقاة المجوسي له برطوبة وإلا لكان نجسا يجب غسله ، وبذلك يعلم ان إطلاق القول بالنضح في ثوب المجوسي ليس بجيد ، ويجب حمل الأمر في الخبر بالنضح بناء على ما ذكرنا على الاستحباب لصحيحة معاوية بن عمار عنه (عليه‌السلام) (١) «في الثياب السابرية يعملها المجوس. ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. الحديث». وقد تقدمت في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من المقصد الثاني في الأحكام ، ولم أقف على من ذهب الى الوجوب في هذا المقام.

و (منها) ـ الثوب والبدن الذي حصل الشك في نجاسته ، ففي صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الرجل يبول بالليل فيحسب ان البول اصابه فلا يستيقن فهل يجزيه ان يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه اصابه وينضح ما يشك فيه من جسده وثيابه ويتنشف قبل ان يتوضأ».

وفي حسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء.».

وفي حسنة عبد الله بن سنان (٤) في ثوب أصابه جنابة أو دم وفيها «وان كان يرى أنه اصابه شي‌ء فنظر فلم ير شيئا أجزأه ان ينضحه بالماء».

وفي حسنة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٧٣ من النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٧ من النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٤٠ من النجاسات.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

٣٩٤

أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله فان شككت فانضحه».

ومن هذا الباب رواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة في تطهير الفرش ونحوها من الحشايا (١) حيث قال : «اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فان أصبت مس شي‌ء منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء».

ومورد هذه الاخبار وان كان نجاسات مخصوصة لكن ظاهر الأصحاب العموم قال الشيخ في النهاية : ومتى حصل في الثوب شي‌ء من النجاسات التي يجب إزالتها وجب غسل الموضع ، الى ان قال وان كان حصولها مشكوكا فيه فإنه يستحب ان يرش الثوب. وقال المفيد في المقنعة : وإذا ظن الإنسان انه قد أصاب ثوبه نجاسة ولم يتيقن ذلك رشه بالماء. وصريح عبارة النهاية الحكم باستحباب الرش وبذلك صرح العلامة في المنتهى والنهاية لكنه عبر عن الحكم بالنضح كما هو مورد الأخبار المتقدمة وقد عرفت الترادف فيهما فلا مشاحة حينئذ في التعبير خلافا لنهاية العلامة كما تقدم ذكره ، وظاهر عبارة المفيد المذكورة احتمال كل من الاستحباب والوجوب لإطلاقها ، ونقل عن سلار انه أوجب الرش إذا حصل الظن بنجاسة الثوب ولم يستيقن ، والمفهوم من الاخبار النضح في الثوب والبدن في مقام الشك أو الظن كما عرفت ، وحينئذ فما ذكره من إيجاب الرش مع الظن ان استند فيه الى ظاهر لفظ الأمر ففيه ان مثل ذلك ايضا قد ورد في مقام الشك كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة وحسنة محمد بن مسلم فلا وجه لتخصيصه بصورة الظن وان استند الى دليل آخر فلم نقف عليه ، والظاهر ان الأصحاب انما حكموا هنا بالاستحباب لمعارضة أصالة الطهارة ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا من احتمال كونه وجوبا وان وجهه التعبد بذلك لا النجاسة.

و (منها) ـ وقوع الثوب على الكلب الميت يابسا لما رواه علي بن جعفر عن

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥ من أبواب النجاسات.

٣٩٥

أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) في الصحيح قال : «سألته عن رجل وقع ثوبه على كلب ميت؟ قال ينضحه بالماء ويصلي فيه ولا بأس».

و (منها) ـ المذي لصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «سألته عن المذي يصيب الثوب؟ قال ينضحه بالماء ان شاء.». وهي صريحة في الاستحباب.

و (منها) ـ بول البعير والشاة لرواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصيبه أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة.». ولم أقف في هذا الموضع على مصرح بوجوب النضح.

و (منها) ـ عرق الجنب في الثوب لرواية أبي بصير (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟ فقال لا بأس وان أحب ان يرشه بالماء فليفعل». ورواية علي بن أبي حمزة (٥) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال لا ارى به بأسا. قال انه يعرق حتى انه لو شاء ان يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله (عليه‌السلام) في وجه الرجل فقال ان أبيتم فشي‌ء من ماء فانضحه به». والرواية الأولى ظاهرة بل صريحة في الاستحباب والثانية مشعرة بعدم الاستحباب ، والذي يلوح منها الإباحة ونفى البأس بالكلية والأمر بالنضح انما وقع مماشاة للسائل حيث فهم (عليه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٦ من النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

(٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٢٧ من النجاسات.

٣٩٦

السلام) منه الامتناع عن ذلك والميل الى التنزه عن العرق المذكور كما ينادي به تقطيب وجهه وقوله «ان أبيتم».

و (منها) ـ ذو الجرح في مقعدته يجد الصفرة بعد الاستنجاء لصحيحة البزنطي (١) قال : «سأل الرضا (عليه‌السلام) رجل وانا حاضر فقال ان بي جرحا في مقعدتي فأتوضأ واستنجي ثم أجد بعد ذلك الندى والصفرة من المقعدة أفأعيد الوضوء؟ فقال وقد أنقيت؟ فقال نعم. قال لا ولكن رشه بالماء ولا تعد الوضوء». وهذا الموضع قل من ذكره من الأصحاب والظاهر من كلام من ذكره هو استحباب الرش كما هو مورد الخبر وقد تقدم نحوه في ثوب المجوسي وعرق الجنب وبه يتضح ما ذكره الأصحاب من الترادف مع النضح.

و (منها) ـ ما ورد في رواية عبد الرحيم القصير (٢) قال : «كتبت الى ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) اسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة». ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا عنه (عليه‌السلام) (٣) وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه الرواية في فروع المسألة السادسة من البحث الثاني فيما يجب إزالته من النجاسات وما يعفى عنه (٤).

أقول : وسيأتي جملة من المواضع ان شاء الله تعالى في أمكنة الصلاة قد أمر فيها بالنضح والرش نذكرها في محالها.

تذنيب

قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) مسح اليد بالتراب من ملاقاة بعض النجاسات باليبوسة ، قال الشيخ في النهاية وان مس الإنسان بيده كلبا أو خنزيرا أو ثعلبا أو أرنبا أو فأرة أو وزغة أو صافح ذميا أو ناصبا معلنا بعداوة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من نواقض الوضوء.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من نواقض الوضوء.

(٤) ص ٣٥٥.

٣٩٧

آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجب غسل يده ان كان رطبا وان كان يابسا مسحه بالتراب. وقال المفيد : ان مس جسد الإنسان كلب أو خنزير أو فأرة أو وزغة وكان يابسا مسحه بالتراب ، ثم قال وإذا صافح الكافر ولم يكن في يده رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب. وحكى العلامة في المختلف عن ابن حمزة إيجاب مسح البدن بالتراب إذا أصابه الكلب أو الخنزير أو الكافر بغير رطوبة. وحكى المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه قال كل نجاسة أصابت البدن وكانت يابسة لا يجب غسلها وانما يستحب مسح اليد بالتراب. وقد ذكر جمع من الأصحاب انهم لم يعرفوا للمسح المذكور وجوبا أو استحبابا وجها ولا دليلا. وقد ذكر العلامة في المنتهى استحبابه ايضا من ملاقاة البدن للكلب أو الخنزير باليبوسة بعد حكمه بوجوب الغسل مع كون الملاقاة برطوبة ، ثم ذكر الدليل على إيجاب الغسل وقال بعد ذلك اما مسح الجسد فشي‌ء ذكره بعض الأصحاب ولم يثبت.

(المسألة السادسة) ـ قال في المدارك اعتبر المرتضى (رضي‌الله‌عنه) على ما نقل عنه في إزالة النجاسة بالقليل ورود الماء على النجاسة فلو عكس نجس الماء ولم يفد المحل طهارة ، وبه قطع العلامة في جملة من كتبه. انتهى. أقول : قال في المنتهى إذا أراد غسل الثوب بالماء القليل ينبغي ان يورد الماء عليه ، ولو صبه في الإناء ثم غمسه فيه لم يطهر ، قاله السيد وهو جيد ، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء عليها. وبذلك صرح ايضا الشهيد في الدروس فقال ويشترط الورود حيث يمكن. ونحوه في البيان فقال ويشترط ورود الماء على النجاسة فلو عكس نجس الماء القليل ولم يطهره إلا في نحو الإناء فإنه يكفي الملاقاة ثم الانفصال. وقال في الذكرى الظاهر اشتراط ورود الماء على النجاسة لقوته بالعمل إذ الوارد عامل. وللنهي عن إدخال اليد في الإناء ، فلو عكس نجس الماء ولم يطهر ، وهذا ممكن في غير الأواني وشبهها مما لا يمكن فيه الورود إلا ان يكتفى بأول وروده ، ثم قال مع ان عدم اعتباره مطلقا متوجه لان امتزاج الماء بالنجاسة

٣٩٨

حاصل على كل تقدير والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة. انتهى. وأنت خبير بان هذا القول من المرتضى ـ بناء على مذهبه في نجاسة الماء القليل كما تقدم في أبواب المياه من الفرق بين ورود النجاسة على الماء وعكسه وانه انما يكون نجسا في الأول دون الثاني ـ جيد لان الماء عنده في حال وروده على النجاسة باق على الطهارة فيحصل التطهير به قطعا ، واما على مذهب الجماعة من نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا فمشكل إذ الملاقاة حاصلة على كل من الحالين ، واليه أشار في الذكرى في آخر كلامه بقوله مع ان عدم اعتباره مطلقا متوجه. الى آخره ، وبه يشكل الحكم بالطهارة بالماء القليل لانه متى ثبت القول بنجاسة الماء القليل مطلقا وثبت القول بالتطهير بالماء القليل فاللازم من ذلك حصول الطهارة بالماء النجس ، ولا يخرج عن ذلك إلا بأحد وجوه ثلاثة ذهب الى كل منها ذاهب : (أحدها) القول بطهارة الغسالة واستثناؤها من نجاسة الماء القليل بالملاقاة و (ثانيها) ـ تخصيص النجاسة بالانفصال عن المحل المغسول. و (ثالثها) ـ ان النجاسة المانعة من التطهير هي ما ثبتت قبل التطهير لا ما كانت حال التطهير إذ لا مانع من التطهير بما حصلت نجاسته بذلك التطهير. وتحقيق هذه الأقوال وما يتعلق بها من الأبحاث في هذا المجال قد تقدم منقحا في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد من الباب الأول وفي مسألة الغسالة من ختام الباب المذكور.

ثم لا يخفى ان ممن نقل عنه ايضا القول باشتراط الورود في التطهير الشيخ والمحقق حيث قال في الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء ثم وقع في ماء قليل تنجس ولم يجز استعماله ولا يعتد بذلك في غسل الإناء. وقال في المعتبر : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شي‌ء. أقول : يمكن ان يكون عدم الاعتداد بهذه الغسلة انما هو من حيث تقدمها على التعفير لما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة من ان الواجب أولا التعفير ثم الغسل فلو تقدم الغسل لم يحسب من ذلك لا من حيث ورود النجاسة على الماء.

٣٩٩

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما ذكروه من اعتبار الورود لا يتم لهم في الأواني ونحوها ولهذا استثناها في الذكرى وتأول الورود فيها بالحمل على أول الورود ، وقال بعض الأصحاب بعد ان حكى كلام الذكرى وقوله فيها بالاكتفاء في الأواني وشبهها بأول وروده : الحق انه لا يراد بالورود أكثر من هذا وإلا لم يتحقق الورود في شي‌ء مما يحتاج فصل الغسالة عنه إلى معونة شي‌ء آخر.

قال في المعالم : والذي ينبغي تحصيله في هذا المقام ان مبنى اعتبار الورود على ان انتفاءه يقتضي نجاسة الماء ومن المستبعد صلاحية ما حكم بنجاسته لرفع حكم النجاسة عن غيره ، ومن أمعن نظره في دليل انفعال القليل بالملاقاة رأى انه مختص بما إذا وردت النجاسة على الماء ، فيجب حينئذ ان يكون المعتبر هنا هو عدم ورود النجاسة على الماء لا ورود الماء على النجاسة إذ بين الأمرين فرق واضح ، وإذا ثبت ان المعتبر ما ذكرناه لم يحتج الى استثناء نحو الأواني ولا لتكلف حمل الورود على ما يقع أولا فإن ورود النجاسة في جميع ذلك منتف والمحذور إنما يأتي من جهته. انتهى.

أقول : مبنى هذا الاشكال وهذه التكلفات كلها في دفعه انما نشأ مما قدمنا ذكره من لزوم نجاسة الماء مع الورود كما ذكره ونحن قد حققنا سابقا في الموضع المشار اليه آنفا انه لا مانع من النجاسة الحاصلة آن التطهير بذلك الماء وانما قام الدليل على منع التطهير بما تنجس سابقا قبل التطهير ، وبذلك اعترف ايضا صاحب المعالم في هذا المقام بعد هذا الكلام فقال ـ بعد ان ذكر بأنه على رأي القائلين بنجاسة الماء القليل تعويلا على ان الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة بأي وجه فرض وان اعتبار ذلك مشكل إذ نجاسة الماء حاصلة على كل حال ومسمى الغسل المأمور به يصدق وان كان الوارد هو النجاسة ـ ما هذا لفظه : والفرق بينه وبين استعمال ما حكم بنجاسته بغير هذا الوجه من مقتضيات التنجيس قيام الدليل على عدم صلاحية ذلك للاستعمال وانتفاؤه في هذا ، فان دليل نجاسته انما يقتضي المنع من استعماله في مغسول آخر واما نفس المغسول الأول الذي

٤٠٠