الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

نشيط بن صالح الدالة على المثلين (١) مع ما في دلالتها من الإجمال في البين ، وايدها بما روى من ان البول إذا أصاب الجسد يصب عليه الماء مرتين ، ولقد كانت هذه الروايات أصرح وأوضح واولى في الاستدلال لو كانت هذه المسألة من قبيل ما اشتملت عليه دون ان تجعل مؤيدة وغيره لم يشر إليها بالكلية ، وقد عرفت مما تقدم في كلام صاحب المعالم ان المسألتين عنده من باب واحد وانه يكتفي بالمرة فيهما. وفيه ما عرفت فإن الأظهر هو وجوب المرة في الاستنجاء والمرتين فيما عداه عملا بالظاهر من اخبار كل من المسألتين.

(الثاني) ـ الظاهر كما صرح به جماعة : منهم ـ الشهيد الثاني اعتبار الفصل بين المرتين ليتحقق العدد وصدق المرتين المأمور بهما في الاخبار ، واكتفى الشهيد في الذكرى باتصال الماء بقدر الغسلتين ، قال في المدارك : وهو مشكل نعم لو كان الاتصال بقدر زمان الغسلتين والقطع أمكن الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه لان اتصال الماء في زمان القطع لا يكون أضعف حكما من عدمه. وفيه ان صدق التعدد في الصورة المذكورة مشكل والظاهر انه لا يصدق إلا مع القطع الحسي لا التقديري.

وقال في المعالم : ذكر جماعة من الأصحاب انه يكفي في المرتين التقدير فلو اتصل الصب على وجه لو انفصل لصدق التعدد حسا أجزأ ، ووجهه البعض بدلالة فحوى الاكتفاء بالحسي عليه. وهو على إطلاقه مشكل لأن دلالة الفحوى موقوفة على العلم بعلة الحكم في المنطوق وكونها في المفهوم أقوى وليست العلة هنا بواضحة. انتهى. أقول : الظاهر ان الإشارة بالبعض المذكور في كلامه الى صاحب المدارك وما نقلناه عنه هنا.

ثم قال في المعالم بعد كلام في البين : والذي يقوى في نفسي اعتبار صدق المرتين عرفا مع التراخي لأن المقتضي للفرق بين التراخي وعدمه ملاحظة تحقق المرتين المأمور بهما

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أحكام الخلوة.

٣٦١

والتراخي بمجرده غير كاف في صدقهما. انتهى. وهو يرجع الى ما قدمناه بعد نقل كلام صاحب المدارك من عدم صدق التعدد في الصورة المفروضة وانما يحصل بالقطع الحسي. نعم لو صحت الرواية التي ذكرها في الذكرى من تعليل المرتين بأن الأولى للإزالة والثانية للإنقاء أمكن ما ذكره في المدارك وسقط ما أورده عليه في المعالم لوجود العلة في المنطوق وحينئذ فإن اكتفى بذلك مع القطع الحسي فمع حصول الغسل بقدر زمان القطع ان لم يكن اولى بالاكتفاء لا أقل ان يكون مساويا لكن الخبر كما عرفت آنفا غير ثابت وانما المعلوم كون ذلك تعبدا شرعا فيقين البراءة لا يحصل إلا به ، ومن ذلك علم ان في المسألة أقوالا ثلاثة.

والشهيد (قدس‌سره) مع تصريحه هنا بالاكتفاء باتصال الماء بقدر الغسلتين صرح في الاستنجاء بأنه لا بد في حصول التعدد من الفصل حسا وبين الكلامين تناقض ظاهر ، وقد تقدم الجواب عنه في مسألة الاستنجاء من البول فليلحظ.

(الثالث) ـ قد صرحت صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة وكذا عبارة كتاب الفقه بالاكتفاء بالمرة في الغسل في الجاري ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب كالشهيدين والعلامة في التذكرة والنهاية والشيخ علي وصاحب المدارك وأضافوا الى الجاري الراكد الكثير ، وهو جيد. ويمكن ان يكون ذكر الجاري في الخبرين المذكورين انما هو من قبيل التمثيل لا من قبيل الحصر. واما قوله في كتاب الفقه «ومن ماء راكد مرتين». فينبغي حمله على الأقل من كر لينطبق على ظواهر الاخبار وكلام الأصحاب ، والصدوق في الفقيه قد عبر بعين عبارة كتاب الفقه. وقال في المنتهى في أحكام الأواني : الجسم النجس إذا وقع في الكثير من الراكد احتسب بوضعه في الماء ومرور الماء على اجزائه غسلة وان خضخضه وحركه بحيث تمر عليه اجزاء غير الأجزاء التي كانت ملاقية له احتسب بذلك غسلة ثانية كما لو مرت عليه جريات من الجاري. ومقتضى هذا الكلام اعتبار التعدد في الجاري والراكد الكثير ، ونقل عن الشيخ نجيب الدين في الجامع

٣٦٢

التعدد في الراكد دون الجاري ، وصرح المحقق في المعتبر في مسألة الولوغ باعتبار التعدد في الكثير مطلقا إلا انه اكتفى في تحقق المرتين في الجاري بتعاقب الجريتين عليه ، وإطلاق عبارته في الشرائع ـ حيث قال : ويغسل الثوب والبدن من البول مرتين ـ يقتضي اعتبار التعدد في قليل كان أو كثير راكد أو جار.

والظاهر هو القول الأول للخبرين المذكورين ولا معارض لهما إلا إطلاق أخبار المرتين المتقدمة ، والظاهر تقييدها بالقليل كما هو الظاهر منها للتصريح بالصب في جملة منها والغسل في المركن في بعض.

بقي الكلام في ان مورد صحيحة محمد بن مسلم وعبارة كتاب الفقه الدالتين على المرة في الجاري انما هو الثوب خاصة وظاهر الأصحاب العموم للبدن ايضا فلو أراد إزالة نجاسة البول عنه في الجاري كفت المرة وكأنه لمفهوم الموافقة فإنه إذا ثبت ذلك في الثوب المتوقف على العصر لو كان الغسل في القليل ثبت في البدن بطريق اولى. وفيه ما فيه فتأمل.

(الرابع) ـ قد عرفت الخلاف في البول بالنسبة الى الثوب والبدن بقي الكلام بالنسبة إليه في غيرهما وغيره في غير الأواني ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ففي الذخيرة عن ظاهر جمع من الأصحاب طرد الحكم بالمرتين من نجاسة البول في غير الثوب والبدن مما يشبههما فتعتبر الغسلتان في ما يمكن إخراج الغسالة منه بالعصر من الأجسام الشبيهة بالثوب والصب مرتين فيما لا مسام له بحيث ينفذ فيه الماء كالخشب والحجر ، قال ولعلهم نظروا في هذه التعدية إلى المشابهة الصرفة أو مع ادعاء الأولوية في الفرع ، والأول قياس غير معتبر وإثبات الثاني مشكل ، فاذن الاقتصار على مورد النص غير بعيد كما نقل التصريح به عن بعض الأصحاب. انتهى. أقول : قد ذهب الشهيد في اللمعة والرسالة والمحقق الشيخ علي الى وجوب المرتين مطلقا من نجاسة البول وغيرها في الثوب والبدن وغيرهما عدا الأواني ، وذهب شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلى وجوب المرتين من نجاسة البول خاصة في الثوب والبدن وغيرهما والمرة الواحدة في غيره والنقل المذكور عن جمع من الأصحاب انما ينطبق على مذهب شيخنا الشهيد الثاني القائل بوجوب التثنية

٣٦٣

من نجاسة البول مطلقا كائنة ما كانت ، إلا ان ما ذكره من التقييد بما يشبههما لم أقف عليه في كلامه بل ظاهره القول بوجوب التثنية من نجاسة البول مطلقا ، وما ذكره في توجيه التعدية فالظاهر بعده بل الظاهر ان الوجه في ذلك انما هو احتمال خروج الثوب والبدن في الاخبار مخرج التمثيل بناء على انه الفرد الغالب في ملاقاة النجاسة فلا يقتضي قصر الحكم عليهما وان خصوص السؤال عنهما لا يخصص. وقيل بوجوب المرة مطلقا وقد تقدم نقله عن الشيخ في المبسوط وبه جزم في البيان ، واعتبر في المعتبر المرة بعد ازالة العين أخذا بالإطلاق ، وأوجب العلامة في التحرير المرتين فيما له قوام وثخن كالمني دون غيره ، وقال في المنتهى النجاسات التي لها قوام وثخن كالمني أولى بالتعدد في الغسلات.

أقول : وتحقيق القول في هذا المقام بما يصل اليه الفهم القاصر من اخبارهم (عليهم‌السلام) هو وجوب المرتين من نجاسة البول في الثوب والبدن كما تقدم للأخبار المتقدمة ووجوب المرة فيما عدا ذلك لإطلاق الأمر بالغسل إذ لا ذكر للتعدد إلا في البول في الموضعين المذكورين والأواني على بعض الوجوه كما يأتي ونحن قد استثنيناها في صدر الكلام ، إذ الأمر بالماهية يصدق بالمرة والأصل يقتضي براءة الذمة من الزائد. نعم يبقى الكلام فيما له قوام وثخن كما ذكره العلامة فإن ظاهر قوله (عليه‌السلام) في حسنة الحسين بن ابي العلاء : «صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء». يدل بمفهومه على ان غير الماء أكثر عددا ويدل على انه أضعف حكما بالنظر الى الإزالة مما له قوام وثخن ، ويؤيده ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول». وهو ظاهر في ثبوت الأولوية في المني

(لا يقال) : ان مقتضى ما ذكرتم هو كون البول أضعف نجاسة من الدم إذ البول ماء كما ذكرتم والدم له ثخن وقوام ، مع ان الأمر بالعكس حيث انه قد عفي عن الدم في مواضع كما تقدم والبول لم يعف عن قليله ولا كثيره بل تجب إزالته كيف كان

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

٣٦٤

(لأنا نقول) الأحكام الشرعية لا مسرح للعقل فيها بالكلية بل هي تابعة للنصوص الشرعية وإثبات القوة والضعف موقوف على الدلالة الشرعية. ولا ريب ان مقتضى الخبرين المذكورين ان البول أضعف حكما بالنسبة إلى الإزالة مما له قوام وثخن وان كان بالنسبة إلى العفو أقوى إذ لا منافاة مع اختلاف الحيثية ، وحينئذ فيتجه المصير الى ما ذكره العلامة من التعدد في ما له قوام وثخن. إلا انه يمكن ان يقال ايضا ان ما ذكر في الخبرين المذكورين من الدلالة على أشدية نجاسة ما له ثخن وقوام لا يستلزم التعدد وانما غاية ما يلزم منه المبالغة في غسله وإزالته ، إذ لا يخفى ان الظاهر من الأخبار الدالة على التطهير من النجاسات ان الغرض من الغسل انما هو إزالة النجاسة من المحل وانه بالإزالة منه وقلعها يطهر المحل ولو بدفعة مشتملة على ماء كثير يقلعها ، والأمر بالتعدد في بعض النجاسات وان حصلت الإزالة قبل تمام العدد انما هو تعبد شرعي إذ لا يظهر له وجه سواه وحينئذ فمتى غسل المني دفعة بماء كثير يقلعه ويزيله وجب الحكم بالطهارة ولا يشترط فيه دفعة اخرى بعد زوال النجاسة لعدم الدليل على ذلك ، وشدته وقوته زيادة على البول انما هو باعتبار احتياجه الى مزيد فرك وزيادة ماء على غيره مما لا قوام له والتعدد في البول كما عرفت انما هو تعبد كغيره فلا يستلزم ان يحمل عليه ما لم يرد فيه تعدد لان الغرض الإزالة وقد حصلت بما ذكرناه. نعم لو صح الخبر الذي ذكره في الذكرى من ان العلة في التعدد ان الاولى للإزالة والثانية للإنقاء يعني الطهارة لربما أمكن الحكم بما ذكره من التعدد ولكن الشأن في ثبوته. وبالجملة فالظاهر ما عليه المشهور من المرة في غير البول في الثوب والبدن. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ المعروف من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف وجوب العصر في الثوب ونحوه مما يرسب فيه الماء فلو غسله ولم يعصره حتى جف بالهواء أو الشمس فهو باق على نجاسته كما صرح به جملة منهم.

إلا انهم اختلفوا هنا في موضعين (الأول) في مدرك وجوب العصر حيث لم

٣٦٥

يقفوا على دليل يدل عليه من الاخبار كما ذكره بعض الأصحاب. فبين من علل ذلك بأنه لا يتيقن خروج النجاسة إلا به وبين من علله بأنه مأخوذ في حقيقة الغسل وبين من علله بأن الغسالة نجسة فيجب إخراجها. واحتج المحقق في المعتبر بأن النجاسة ترسخ في الثوب فلا تزول إلا بالعصر ، وبان الغسل انما يتحقق في الثوب ونحوه بالعصر وبدونه يكون صبا لا غسلا. واستدل عليه في التذكرة والنهاية يكون الغسالة نجسة فلا تحصل الطهارة مع بقائها. وجمع في المنتهى بين ما ذكره المحقق وما ذكره هو في الكتابين المذكورين. وعلله الشهيد في الذكرى بوجوب إخراج النجاسة وتبعه جمع من المتأخرين ، وربما أضاف إليه بعضهم الوجه المذكور في التذكرة والنهاية.

وكيف كان فلا يخفى ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة من المجازفة سيما مع ما هي عليه من تطرق الإيراد وعدم الاطراد : (اما الأول) فإنه أخص من المدعى لاختصاصه بصورة العلم بتوقف خروج النجاسة عليه والمدعى أعم من ذلك. و (اما الثاني) فلتطرق المنع إليه لغة وعرفا إذ الظاهر ان الغسل لغة وعرفا انما هو عبارة عما يحصل به الجريان والتقاطر في ثوب كان أو بدن أو غيرهما ، ويقابله الصب الذي هو عبارة عن وصول الماء خاصة من غير جريان ولا انفصال ويسمى بالرش ايضا كما وقع التعبير بهما معا في ملاقاة الكلب بيبوسة ، ومقتضى هذا الوجه وجوب العصر سواء قلنا بنجاسة الغسالة أو طهارتها وان القدر المعتبر منه ما يصدق معه مسمى الغسل في العرف حتى لو بقيت فيه اجزاء يمكن إخراجها بغير مشقة لم تضر إذا كان مفهوم الغسل قد تحقق بدون خروجها. و (اما الثالث) فلتطرق المنع إلى نجاسة الغسالة ، ومع تسليم ذلك فنمنع انحصار طريق الإزالة في العصر فإنه يحصل بالجفاف ايضا ، على ان العصر لا يشترط فيه إخراج جميع الرطوبة التي في الثوب ، وقد اعترف الأصحاب بطهارة المتخلف بعد العصر وان أمكن إخراجه بعصر أشد من الأول.

والتحقيق عندي في المقام وان لم يهتد إليه أولئك الاعلام ان أكثر الأخبار

٣٦٦

المتقدمة وان خلا من ذكر العصر إلا ان كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (١) قد اشتمل عليه وبه يخص إطلاق تلك الاخبار ، وبه يظهر ان العلة انما هو النص دون ما ذكروه من هذه التخريجات ، والظاهر ان من ذكر العصر من المتقدمين ولا سيما الصدوقين الذين عبارتهما عين عبارة الكتاب في هذا المقام كما بيناه في شرحنا على كتاب الفقيه انما اعتمدوا على هذا الكتاب والمتأخرون قد أخذوا الحكم بذلك من كلام المتقدمين ولما خفي عليهم الدليل رجعوا الى هذه التعليلات العليلة فكل منهم علله بما ادى اليه نظره في المقام وبذلك يزول الإشكال في هذا المجال ، وقد تقدم نظير ذلك في غير مقام ويأتي مثله وأمثاله من الأحكام الجارية على هذا المنوال.

(الموضع الثاني) ـ انهم اختلفوا في تعدد العصر وعدمه فأوجب المحقق في المعتبر العصر مرتين فيما يجب غسله كذلك ، واكتفى بعضهم بعصر بين الغسلتين وبه صرح الشهيد في اللمعة ، وصرح الصدوق في الفقيه وكذا أبوه في الرسالة على ما نقله في المعالم بالعصر بعد المرتين وهو المذكور في الفقه الرضوي كما عرفت من عبارته المتقدمة والصدوقان انما أخذاه منها كما أشرنا إليه من ان عبارتيهما هنا عين عبارة كتاب الفقه بتغيير يسير ، ومتأخرو المتأخرين بناء على خفاء النص عليهم في المسألة قد أطالوا في تفريع هذا الخلاف على الخلاف المتقدم في الموضع الأول وتطبيقه عليه ، قال في المدارك بعد نقل هذه الأقوال الثلاثة : ويمكن بناء الأقوال الثلاثة على الوجه المقتضى لاعتبار العصر فان قلنا انه دخوله في مسمى الغسل وعدم تحققه بدونه كما ذكره المصنف في المعتبر وجب تعدده بتعدد الغسل قطعا ، وان قلنا انه زوال أجزاء النجاسة الراسخة في الثوب به اتجه اعتباره في الغسل الأول خاصة إذا حصلت به الإزالة ، وان قلنا انه نجاسة الماء بملاقاة الثوب كما ذكره في المنتهى اتجه الاكتفاء بعصر بعد الغسلتين لحصول الغرض منه وانتفاء الفائدة في فعله قبل الغسلة الثانية لبقاء النجاسة مع العصر وبدونه. ولا ريب

__________________

(١) ص ٦.

٣٦٧

ان ما ذهب اليه المصنف من التعدد أحوط وان كان الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين أقوى. انتهى. وما اختاره أخيرا من قوة الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين جيد لا لما ذكره بل لما ذكرناه من النص ، وما ذكره ايضا من الاحوطية لا بأس به وان كان للنظر فيه مجال.

فوائد : (الأولى) ـ قال في التذكرة : لو جف الثوب من غير عصر ففي الطهارة إشكال ينشأ من زوال النجاسة بالجفاف والعدم لأنا نظن انفصال أجزاء النجاسة في صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف. وقال الشهيد في البيان : لو أخل بالعصر في موضعه فالأقرب عدم الطهارة لأنا نتخيل خروج أجزاء النجاسة به. وفي الذكرى الأولى الشرطية يعني في العصر لظن انفصال النجاسة مع الماء بخلاف الجفاف المجرد. وقال في المعالم بعد نقل ذلك عنهم : وأنت إذا أحطت خبرا بما قلناه في المسألة يتضح لك الحال في هذا الفرع لان العصر ان أخذ قيدا في ماهية الغسل أو توقف عليه خروج النجاسة لم يغن عنه الجفاف وان اعتبر لإخراج الغسالة فلا ريب في كون الجفاف مخرجا لها وما ذكراه من الظن والتخيل ليس بشي‌ء كيف وهذا الظن في أكثر الصور لا يأتي والنخيل في الأحكام الشرعية لا يجدي. انتهى.

أقول : لا يخفى ان الظاهر ان هذا الإشكال الذي ذكره في التذكرة ونحوه ما ذكره في البيان والذكرى انما نشأ من التردد في الدليل على وجوب العصر وتردده بين الوجوه المتقدمة ، وإيراده في المعالم عليهم انما يتم مع اختيار دليل بخصوصه وكلامهم ليس مبنيا عليه فلا وجه لا يراد ما أورده. وكيف كان فقد ظهر لك مما أوضحناه سابقا سقوط هذا البحث من أصله فلا وجه للتفريع عليه لان النص قد دل على وجوب العصر فلا تحصل الطهارة إلا به.

(الثانية) ـ قال في المدارك في شرح قول المصنف : ويعصر الثوب من النجاسات كلها : «إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في اعتبار العصر مرتين بين القليل

٣٦٨

والكثير وربما كان الوجه فيه ما ادعاه المصنف (قدس‌سره) من عدم تحقق الغسل بدونه وهو ضعيف جدا. وجزم العلامة في التذكرة والنهاية ومن تأخر عنه باختصاص الحكم بالقليل وسقوطه في الكثير ووجهه معلوم مما قررناه» انتهى.

أقول : لا ريب ان الحكم بالعصر مرتين في الكثير يترتب على أمرين : (أحدهما) وجوب تعدد الغسل في الكثير ليكون العصر بعد كل غسلة و (ثانيهما) كون العلة في العصر هو انه مأخوذ في معنى الغسل ، وكل من الأصلين المذكورين لهذا الفرع قد صرح بهما المحقق المذكور ، وحينئذ فالحكم بالضعف في هذا الحكم يرجع الى ضعف ما بنى عليه من الحكمين المذكورين. وكيف كان فالحق ما ذكره من اختصاص العصر بالقليل لا لما أشار إليه بقوله : «ووجهه معلوم مما قررناه» بل لما دل عليه كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (١) من انه ان غسل في ماء جار كفت المرة من غير عصر وان غسل في ماء راكد فمرتان بعدهما عصر واحد. وقد أشرنا سابقا الى ان مراده (عليه‌السلام) بالراكد ما كان أقل من الكر.

(الثالثة) ـ اعتبر العلامة في النهاية والتحرير في طهارة الجسد ونحوه من الأجسام الصلبة دلكه ، لما فيه من الاستظهار في إزالة النجاسة ، ولقوله (عليه‌السلام) في رواية عمار (٢) وقد سأله عن القدح الذي يشرب فيه الخمر : «لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». ولا يخفى ما فيه من تطرق القدح فان الاستظهار مع تسليمه انما يصلح دليلا للاستحباب لا للوجوب ، وقياس البول على الخمر في القدح قياس مع الفارق فإنه يمكن ان يكون الأمر بالدلك في الخبر المذكور لخصوصية النجاسة المذكورة كما اختصت بالثلاث أو لخصوصية المحل أو لهما معا ، إذ لا يخفى ان القدح الذي من الخشب مظنة لعلوق بعض اجزاء الخمر به فتحتاج طهارته إلى الزيادة على مجرد الصب وربما كان الخمر أشد لصوقا بمحله من البول كما هو ظاهر ، فمن المحتمل قريبا ـ بل هو الظاهر ـ ان

__________________

(١) ص ٦.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥١ من أبواب النجاسات.

٣٦٩

الأمر بالدلك لعدم العلم بزوال العين بدونه ، وبذلك يظهر ضعف الإلحاق بالخمر في القدح والقياس عليه ، هذا مع ان الرواية المذكورة معارضة بما رواه هذا الراوي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) من الاكتفاء في غسل الإناء من الخمر بالمرة الخالية من الدلك (١) كما سيأتي ذكر ذلك في محله ان شاء الله تعالى. ويظهر من المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى الميل الى الاستحباب. وكلام جماعة من الأصحاب خال من التعرض لذلك بالكلية. وكيف كان فلو توقفت الإزالة على الدلك وجب قطعا.

(الرابعة) ـ قد نص جملة من الأصحاب القائلين بوجوب العصر على ان ما يتعذر فيه العصر يكتفى فيه بالدق والتغميز ، وفي بعض عبارات العلامة التقليب والدق قال في المنتهى : ولو كان المتنجس بساطا أو فراشا يعسر عصره غسل ما ظهر في وجهه ، وان سرت النجاسة في اجزائه غسل الجميع واكتفى بالتقليب والدق عن العصر للضرورة. وظاهره ان العلة فيما ذكره من التقليب والدق هو ضرورة عدم إمكان العصر فجعل ذلك قائما مقامه للضرورة. ووقع في كلام جماعة من المتأخرين تبعا للشهيد في الذكرى تعليل ذلك بالرواية.

والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام روايات ثلاث :

إحداها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود (٢) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما وهو

__________________

(١) ليس في كتب الحديث خبر لعمار يدل على كفاية المرة في غسل الإناء من الخمر ويمكن ان يكون نظره الى موثقة الوارد في كيفية غسل الإناء وانه يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه هكذا ثلاث مرات ، ولم يتعرض في مقام البيان للدلك ، فيكون مراده بالاكتفاء بالمرة الخالية من الدلك الاكتفاء بالغسلة الخالية من الدلك في كل من الغسلات الثلاث وقد رواه في الوسائل في الباب ٥٣ من النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥ من أبواب النجاسات.

٣٧٠

ثخين كثير الحشو؟ قال يغسل ما ظهر منه في وجهه».

والثانية ـ ما رواه في الكافي عن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح أو الموثق (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ الى الجانب الآخر وعن الفرو وما فيه من الحشو؟ قال اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فان أصبت مس شي‌ء منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء».

والثالثة ـ ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن علي بن جعفر ورواه علي بن جعفر أيضا في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال يغسل الظاهر ثم يصب عليه الماء في المكان الذي اصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر».

وهذه الروايات ـ كما ترى ـ لا تعرض في شي‌ء منها لما ذكروه من الدق والتغميز والتقليب ، وغاية ما تدل عليه الاولى هو غسل ما ظهر في وجهه من غير تعرض لما بطن منه ، وغاية ما تدل عليه الثانية هو غسل الجانبين مع نفوذ النجاسة ، إلا ان الظاهر ان المراد هو غسل الجانبين وما بينهما في الباطن من الحشو كما تدل عليه رواية علي بن جعفر (عليه‌السلام) وكيف كان فغاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو غسل الجميع ولا تعرض فيها لذكر الدق ولا غيره مما ذكروه بل ظاهرها هو صب الماء عليه بحيث ينفذ منه ويجري مع تعدي النجاسة إلى الطرف الآخر والعلم بوصولها الى الباطن ، وإلا فإنه يكتفى بمجرد الرش على الطرف الآخر إذا لم يصب فيه النجاسة التي وقعت في ذلك الطرف. ولا يخفى ما في هذه الاخبار من الدلالة على السعة في تطهير النجاسات وظهورها في طهارة الغسالة ، وبذلك يظهر ان نسبة الشهيد (قدس‌سره) ومن تبعه المستند في هذا الحكم إلى الرواية ليس في محله ، ولعل السبب في نسبة الشهيد ذلك الى الرواية هو ما ذكره في المنتهى حيث انه بعد ذكر خبر إبراهيم بن ابي محمود أولا قال انه محمول على

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٥ من النجاسات.

٣٧١

ما إذا لم تسر النجاسة في اجزائه واما مع سريانها فيغسل جميعه ويكتفى بالتقليب والدق عن العصر. وجعل الخبر الثاني شاهدا على هذا التفصيل ، هذا حاصل كلامه في المقام ، فكأن الشهيد من هذا الكلام أخذ الاحتجاج بالرواية وإلا فليس في المسألة رواية غير ما ذكرناه. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ اعلم ان ههنا أشياء لا تنفصل عنها الغسالة بنفسها ولا بالعصر ولا الدق ولا الغمز الذي أوجبوه وقد وقع الخلاف والاشكال في تطهيرها ، وذلك مثل الصابون والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى ومثل الصابون أيضا إذا انتقع في الماء النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا ايضا فيه ومثل المائع من الدهن المتنجس ونحوه ومثل التراب ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب اختصاص الطهارة على القول بها بالكثير فلا تقع بالقليل من حيث عدم خروج ماء الغسالة عن المحل وانفصاله عنه فلا تحصل الطهارة إلا بالكثير ونحوه.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامات (الأول) في الصابون والفواكه وما الحق بهما ، نقل في المدارك عن جمع من الأصحاب ان ما لا تنفصل عنه الغسالة كالصابون والورق والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى لا يطهر بالغسل في القليل بل تتوقف طهارته على غسله في الكثير ، ثم قال : وهو مشكل (أما أولا) فللحرج والضرر اللازم من ذلك. و (اما ثانيا) فلان ما يتخلف في هذه المذكورات من الماء ربما كان أقل من المتخلف في الحشايا بعد الدق والتغميز وقد حكموا بطهارتها بذلك. و (اما ثالثا) فلعدم تأثير مثل ذلك في المنع مع إطلاق الأمر بالغسل المتحقق بالقليل والكثير. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ما قدمنا من الروايات الدالة على حكم الفرش والحشايا فإنها بإطلاقها إنما دلت على الغسل الذي هو كما حققناه سابقا عبارة عن كثرة الماء بحيث يجري وينفصل عن محل النجاسة.

واما ما أورده في الذخيرة على الوجه الثالث ـ حيث قال بعد نقل كلامه :

٣٧٢

وفي الأخير نظر لانه ليس في الأدلة فيما اعلم ما دل على الأمر بالغسل في كل مادة بحيث يشمل مورد النزاع لاختصاصها بالبدن والثوب وبعض الموارد الخاصة فتعدية الحكم الى غيرها يحتاج الى دليل. انتهى ـ ففيه ان اللازم مما ذكره أحد أمرين وهو اما بقاء تلك الأشياء على النجاسة وعدم قول التطهير أو طهارتها من غير ماء ، وبطلان الأمرين أظهر من ان يخفى على ذي روية. والتحقيق ان الطهارة بالغسل لا خصوصية لها بهذه الجزئيات التي وردت بها النصوص حتى يحتاج فيها الى طلب الدليل ويقال انه لا بد في طهارة كل جزئي من الأشياء المتنجسة من نص عليه بخصوصه فإنه مجرد سفسطة ظاهرة بل التحقيق ان تلك الجزئيات الواردة في النصوص انما خرجت مخرج التمثيل لا على جهة الاختصاص وحينئذ فيصير الحكم كليا ، وهذا البحث لا يختص بهذا الموضع بل هو جار في جميع الأحكام الشرعية من طهارة ونجاسة وصحة العبادة وبطلانها بالمبطلات ونحو ذلك ولا قائل به البتة. ولا يخفى على المتأمل في الأحكام والمتدبر في القواعد المقررة بين علمائنا الاعلام إن الأحكام الشرعية لم ترد عنهم (عليهم‌السلام) بقواعد كلية إلا نادرا وانما صارت قواعد كلية بينهم بتتبع الجزئيات الواردة عنهم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب كما لا يخفى.

(المقام الثاني) ـ في ما انتقع في الماء النجس ، قال العلامة في المنتهى : الصابون إذا انتقع في الماء النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا كان حكمها حكم العجين ، ثم نقل عن بعض العامة انه قال : الحنطة والسمسم إذا تنجسا بالماء واللحم إذا كان مرقه نجسا يطهر بان يغسل ثلاثا ويترك حتى يجف في كل مرة فيكون ذلك كالعصر ، ثم قال وهو الأقوى عندي لأنه قد ثبت ذلك في اللحم مع سريان اجزاء الماء النجسة فيه فكذا ما ذكرناه. انتهى. والظاهر من قوله : كان حكمها حكم العجين يعني في عدم قبول التطهير بالماء فان ذلك مذهبه في العجين كما هو المشهور.

بقي الكلام في تقويته لما نقله عن بعض العامة من الغسل ثلاثا والتجفيف بعد كل

٣٧٣

غسلة لقيامه مقام العصر ، فإنه محل اشكال حيث انه لم يعهد ذلك من مذهبه في كل من الموضعين ، وتأول كلامه بعض محققي متأخري المتأخرين بأنه ليس مراده إلا إثبات القبول للتطهير واما اعتبار التعدد والجفاف فغير منظور اليه. وأيده بتعليل الحكم بحال اللحم مع ان الحكم فيه كما ذكره هو وغيره انما هو طهارته بالغسل إذا وقع في مرقه ما يقتضي تنجيسه فلو أراد تقوية ما زاد على الغسل لم يكن التعليل وافيا بإثبات المدعى ، وأيده أيضا بأنه اقتصر في النهاية على الحكم بقبولها التطهير فقال بعد ان حكم بعدم طهارة الصابون والعجين بالغسل : اما السمسم والحنطة إذا انتقعا في النجس فالأقوى قبولهما للطهارة وكذا اللحم إذا تنجست مرقته. أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من التأويل وان كان لا يخلو من قوة إلا انه لا يخفى على من له انس باختلاف أقوال العلامة في المسألة الواحدة في كتبه بل في كتاب واحد انه لا يبعد حمل كلامه هنا على ظاهره.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي دل على حكم اللحم المذكور هنا روايتان إحداهما رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل». والأخرى رواية زكريا بن آدم (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلاب واللحم اغسله وكله». وظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف القول بمضمونهما وعندي في ذلك على إطلاقه إشكال وذلك فإنه ان كانت النجاسة قد رفعت بعد وقوعها بحيث لم تسر النجاسة إلا الى المرق وظاهر اللحم فلا اشكال وان كانت قد بقيت في القدر مدة بحيث على بها القدر وسرت نجاسة المرق الى باطن اللحم كما هو ظاهر عبارة العلامة المتقدمة فكيف يطهر بمجرد غسل ظاهره والنجاسة قد سرت إلى

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥ من الماء المضاف و ٤٤ من الأطعمة المحرمة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٨ من النجاسات و ٢٦ من الأشربة المحرمة.

٣٧٤

باطنه كما هو المفروض؟ نعم لو علم وصول الماء المطهر الى الباطن وكان في ماء كثير فالقول بالطهارة متجه ، ولا فرق حينئذ بين اللحم ولا غيره مما انتقع في ماء نجس وسرت النجاسة إلى باطنه. والى ما ذكرنا يشير كلام الشهيد في الذكرى حيث قال : والظاهر طهارة الحنطة واللحم وشبهه مما طبخ بالماء النجس بالكثير إذا علم التخلل. وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة الأخير الدال على التطهير مطلقا.

واما العجين الذي عجن بالماء النجس فظاهر كلامه الأول عدم قبوله التطهير ومثله كلامه في النهاية ، وذلك لانه قد عجن بالماء النجس وقد سرت النجاسة الى جميع اجزائه فطهره لا يكون إلا باستيلاء الماء الطاهر عليه ووصوله الى كل جزء والظاهر انه لا يحصل ذلك إلا بذهاب عين العجين ، الا انه في التذكرة قد صرح بقبوله التطهير فقال : العجين النجس إذا مزج بالماء الكثير حتى صار رقيقا وتخلل الماء جميع اجزائه طهر. وظاهر الذكرى اختيار ذلك واستحسنه أيضا في المعالم ، وهو جيد ان علم استيعاب المطهر لجميع الاجزاء إلا ان في العلم بذلك اشكالا ومجرد صيرورته رقيقا لا يدل على ذلك وكيف كان فطهره بصيرورته رقيقا كما ذكروه لا يتم إلا في الجاري أو الكثير كما لا يخفى. وقال في الذكرى : وفي صحاح ابن ابي عمير المرسلة عن الصادق (عليه‌السلام) «طهره بالخبز والبيع والدفن» (١). وهي مشعرة بسد باب طهارته بالماء إلا ان يقيد بالمعهود من القليل. واعترضه في المعالم فقال : ولا ارى لهذا الكلام وجها فان ما دل من الاخبار على طهره بالنار خال من الاشعار قطعا ، وما دل على بيعه أو دفنه فالسر فيه توقف تطهيره بالماء على الممازجة والنفوذ في اجزائه بحيث يستوعب كل ما اصابه الماء النجس ، إذ المفروض في الاخبار عجنه بماء نجس وفي ذلك من المشقة والعسر ما لا يخفى

__________________

(١) اما ما تضمن الطهر بالخبز فقد رواه في الوسائل في الباب ١٤ من الماء المطلق برقم ١٨ واما روايتا البيع والدفن فهما مرسلتاه المرويتان في الوسائل في الباب ١١ من الأسآر.

٣٧٥

فلذا وقع العدول عنه الى الوجهين المذكورين. انتهى. أقول : لا يخفى ان مراد شيخنا الشهيد (قدس‌سره) بما ذكره انما هو انه لما كان العجين المذكور من المأكولات المتعارفة وحيث عجن بالماء النجس لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) ما يدل على قبوله التطهير بالماء وانما ورد ما يدل على قبوله التطهير بالخبز وورد ما يشعر بعدم قبوله التطهير مطلقا من بيعه على مستحل الميتة أو دفنه ، ولا ريب في اشعار الجميع بعدم قبوله التطهير بالماء كما ذكره شيخنا المشار اليه ، ولو كان ثمة صورة يمكن فيها تطهيره بالماء من ترقيقه كما ذكروه لم يكن للإضراب عنها مع الحاجة إليه الى هذه الصورة المذكورة في الاخبار وجه وهو كلام جيد كما لا يخفى. والتحقيق ان الخبر الوارد بالخبز لا دلالة فيه على النجاسة كما لا يخفى فايراده ليس في محله والخبران الباقيان ظاهران في الاشعار بما ذكرناه ، واما ما ذكره من السر في العدول الى بيعه ودفنه وهو المشقة في تطهيره فهو ممنوع وأي مشقة تلزم من ذلك حتى توجب رفع اليد عنه بالكلية؟ فإن وضعه في الكثير جاريا أو راكدا على وجه يصير به رقيقا كما يدعونه أمر سهل لا مشقة فيه توجب رفع اليد عنه وإلا لاستلزم حصول المشقة ورفع اليد عن كل ما توقف تطهيره على الكثير ولا أراه يقول به. وبالجملة فكلام شيخنا المذكور عندي جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ومن تأمل فيما ذكرناه من التوجيه.

(المقام الثالث) ـ في المائع من مثل الدهن ونحوه فقال جماعة ان غير الماء من المائعات مطلقا لا يقبل التطهير ما دام باقيا على حقيقته ، وظاهر كلام العلامة في التذكرة قبولها الطهارة حيث قال : انما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه دون ما لا يمكن كالمائعات والكاغذ والطين وان أمكن إيصال الماء إلى أجزائها بالضرب ما لم تطرح في كر فما زاد أو في جار بحيث يسري الى جميع اجزائها قبل إخراجها منه ، فلو طرح الدهن في ماء كثير وحركه حتى تخلل جميع الماء اجزاء الدهن بأسرها طهر. وقال في المنتهى : الدهن النجس لا يطهر بالغسل نعم لو صب في كر ماء ومازجت

٣٧٦

اجزاء الماء اجزاءه واستظهر على ذلك بالتصويل بحيث يعلم وصول الماء الى جميع اجزائه طهر

قال في المدارك بعد نقل ذلك : قلت لا ريب في الطهارة بعد العلم بوصول الماء الى كل جزء من اجزاء المائع إلا ان ذلك لا يكاد يتحقق في الدهن لشدة اتصال اجزائه ولا في غيره من المائعات إلا مع خروجه عن تلك الحقيقة وصيرورته ماء مطلقا. انتهى. وهو جيد. وقال الشهيد في الذكرى : ولا تطهر المائعات والقرطاس والطين ولو ضربت بالماء إلا في الكثير ، وفي طهارة الدهن في الكثير وجه اختاره الفاضل في تذكرته. انتهى وظاهره الموافقة للتذكرة فيما ذكره من المائعات غير الدهن والكاغد والطين وتوقفه في الدهن ، ولا وجه لاقتصاره في نسبة الحكم بذلك إلى التذكرة خاصة بل هو اختياره أيضا في المنتهى كما عرفت وكذا في النهاية حيث قال : لو صب الدهن النجس في كر فما زاد ومازجت أجزاؤه اجزاء الماء بالتصويل فالأقرب الطهارة.

وربما توهم بعض الأصحاب من اقتصاره في النهاية والمنتهى على ذكر الدهن وعدم التعرض فيهما لغيره مغايرة ذلك لما ذكره في التذكرة من العموم ، وليس بشي‌ء لأنه لا يخفى انه متى ثبت ذلك في الدهن ثبت في غيره بطريق أولى فإن شهادة الوجدان ظاهرة في ان الدهن أبعد المائعات عن قبول الطهارة من حيث الدهنية واللزوجة وشدة اتصال اجزائه بعضها ببعض المانع جميع ذلك من نفوذ الماء في اجزائه ، فالقول بإمكان الطهارة فيه يقتضي القول بذلك في سائر المائعات.

إلا ان الحق هو ما ذكره في المدارك من الفرق بين الدهن وغيره بعدم قبول الدهن للتطهير بالكلية وقبول ما عداه من المائعات لكن على وجه لا يبقى لها اثر ، وتسمية ذلك تطهيرا ليس في محله.

ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به في المعالم حيث قال ما ملخصه : ان غير الدهن من المائعات إذا خالطها الماء على الوجه المشترط في الممازجة تخرج عن الصلاحية للانتفاع بها

٣٧٧

في الغالب بخلاف الدهن فإن مخالطة الماء له غير مستقرة إذ يسرع انفصاله منه فتبقى الصلاحية للانتفاع بحالها وهو ظاهر ، ثم قال وقد ناقشه ـ يعني العلامة ـ جماعة بأن العلم بوصول الماء الى جميع اجزاء الدهن غير ممكن بل قد يعلم خلافه لأن الدهن يبقى في الماء مودعا فيه غير مختلط به وانما يصيب سطحه الظاهر. وهذا الكلام جيد بل التحقيق ان العيان شاهد باستحالة مداخلة الماء لجميع اجزاء الدهن وانه مع الاختلاط لا يحصل له إلا ملاقاة سطوح الأجزاء المنقطعة بالضرب ولا سبيل الى نفوذ الماء في بواطنها ، ولهذه العلة يبقى على الصلاحية للانتفاع إذ اختلاطه بالماء انما حصل على جهة التفرق في خلاله فإذا ترك ضربه سارع الى الانفصال واستقر لخفته على وجه الماء وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج الى كثير تأمل. واما غير الدهن من سائر المائعات فإنما يعقل حصول الطهارة لها مع اصابة الماء لجميع اجزائها وذلك انما يتحقق بشيوعها في الماء واستهلاكها فيه بحيث لا يبقى شي‌ء من اجزائها ممتازا إذ مع الامتياز يعلم عدم نفوذ الماء في ذلك الجزء الممتاز ، وإذا حصل الاستهلاك على الوجه المذكور يخرج المائع عن الحقيقة التي كان عليها كما تخرج عين النجاسة بشيوعها في الماء الكثير عن حكمها ومثل هذا لا يسمى تطهيرا في الاصطلاح. انتهى. وهو جيد متين ، والمراد بقوله في الدهن انه يبقى على الصلاحية للانتفاع يعني في الجملة لا ان المراد الانتفاع فيما يشترط فيه الطهارة فإنه قد صرح بعدم قبوله التطهير وعدم قبوله انما هو لما ذكره من بقاء تلك الأجزاء التي يحصل بها الانتفاع وعدم دخول الماء فيها كما لا يخفى. والله العالم.

(المقام الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان الأرض متى تنجست بالبول ونحوه فإنه يحصل تطهيرها بإلقاء الكثير عليها أو الجاري أو المطر أو الشمس إذا جففت النجاسة على المشهور ، واما بالماء القليل فعلى تقدير القول بطهارة الغسالة فلا إشكال أيضا وانما محل الكلام والاشكال على تقدير القول بالنجاسة.

والشيخ مع قوله بنجاسة الغسالة قد صرح في الخلاف بالطهارة فقال فيه : إذا

٣٧٨

بال على موضع من الأرض فتطهيره ان يصب الماء عليه حتى يكاثره ويغمره ويقهره ويزيل لونه وطعمه وريحه ، فإذا زال حكما بطهارة المحل وطهارة الماء الوارد عليه ولا يحتاج الى نقل التراب ولا قلع المكان وبه قال الشافعي (١) وقال أبو حنيفة ان كانت الأرض رخوة فصب عليها الماء فنزل الماء عن وجهها الى باطنها طهرت الجلدة العليا دون السفلى التي وصل الماء والبول إليها وان كانت الأرض صلبة فصب الماء على المكان فجرى عليه الى مكان آخر طهر مكان البول لكن نجس المكان الذي انتهى الماء اليه فلا يطهر حتى يحفر التراب ويلقى عن المكان (٢) ثم ان الشيخ احتج لما صار إليه بان في التكليف بما زاد على ذلك حرجا منفيا بقوله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٣) وبالرواية العامية المشهورة المتضمنة أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بإهراق الذنوب من الماء على بول الأعرابي لما بال في المسجد وقوله لهم بعد ذلك «علموا ويسروا ولا تعسروا» (٤) وابن إدريس قد وافق الشيخ في هذا المقام على جميع هذه الأحكام ، وهو جيد على أصله من اختياره طهارة الغسالة.

والمحقق في المعتبر بعد ان أورد كلام الشيخ المذكور قال : وما ذكره الشيخ مشكل لأن الرواية المذكورة عندنا ضعيفة الطريق ومنافية للأصل لأنا قد بينا ان الماء المنفصل عن محل النجاسة نجس تغير أو لم يتغير لانه ماء قليل لاقى نجاسة ، ثم عارض الرواية برواية عامية مثلها الى ان قال : الوجه ان طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك النجاسة أو يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليها الشمس حتى تجف بها أو تغسل بما يغمرها ثم يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى اليه نجسا. انتهى.

أقول : ينبغي حمل كلامه الأخير أعني قوله : «أو تغسل بما يغمرها ثم يجري. الى آخره» على ما إذا كانت الأرض صلبة كما تقدم في كلام أبي حنيفة وإلا عاد

__________________

(١) كما في الأم ج ١ ص ٨٠ وتابعه أبو إسحاق في المهذب ج ١ ص ٤٩.

(٢) كما في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ١ ص ٨٩ والبحر الرائق ج ١ ص ٢٢٦.

(٣) سورة الحج ، الآية ٧٨.

(٤) راجع التعليقة ١ ص ٣٠٩ ج ١.

٣٧٩

الإشكال لأنه مع كون الأرض رخوة تنفذ الغسالة فيها ولو بعضها ، والقول باغتفاره رجوع الى مذهب الشيخ وهو قد رده إذ لا فرق بين البعض والجميع فاعتذار البعض عنه بذلك لا يجدي في المقام نفعا. وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره في المعتبر من رد هذا الخبر والبناء على مقتضى الأصول المقررة في إزالة النجاسات.

وقال الشهيد في الذكرى : تطهر الأرض بما لا ينفعل من الماء بالملاقاة ، وفي الذنوب قول لنفي الحرج ولأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) به في الحديث المقبول.

أقول : لا يخفى ما فيه فإنهم ما بين ان يردوا الأخبار الصحيحة المستفيضة في الأصول بهذا الاصطلاح المتأخر وان يعتمدوا في حكم مخالف للأصول على هذه الرواية العامية ، وليت شعري بأي وجه دخلت هذه الرواية في حيز القبول أمن جهة راويها أبي هريرة الذي قد اعترف أبو حنيفة بكذبه ورد رواياته؟ ونقل بعضهم انهم لا يقبلون رواياته في معالم الحلال والحرام وانما يقبلونها في مثل أخبار الجنة والنار ونحو ذلك (١)

__________________

(١) في نوادر الآثار للعلامة المقرم عن شرح النهج لابن ابى الحديد ج ١ ص ٣٦٠ طبعة مصر «كان أبو جعفر الإسكافي يقول : أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية ضربه عمر بالدرة ، وروى سفيان الثوري عن إبراهيم التيمي انهم لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر الجنة والنار. وكان أبو حنيفة يقول الصحابة عدول إلا رجال : منهم أبو هريرة وانس بن مالك» وفي مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٢٧ «قال النظام كذب أبا هريرة عمر وعثمان وعلى وعائشة» وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي الحنفي ج ٨ ص ٢٣ «قال أبو حنيفة : النصوص والأصول تأبى حديث أبي هريرة في المصراة وأبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب أشياء» وفي شرح السير الكبير للسرخسى ج ٣ ص ٧٣ طبعة حيدرآباد «استعمل عمر أبا هريرة على البحرين فجاء بمال فقال يا عدو الله سرقت وأخذه منه» وفي تاريخ آداب العرب للرافعى ج ١ ص ٢٨٢ «كان عمر وعثمان وعلى وعائشة ينكرون على ابى هريرة أحاديثه ويتهمونه وهو أول رواية انهم في الإسلام».

٣٨٠